“نريد لأمّتنا أن تتخلّص من عصر الشِّعر والخطابيّة والغنائيّة، وأن تتّجه إلى عصر العلم والبحث والاختراع”، ويُضيف “سعد الله” قائلاً: “فالعقل العربي المعاصر، العقل الشعري إذا صح التَّعبير، قادر على أن يختلف حـتى في معنى النصر أو الهزيمة، وأن يعكس المفاهيم، فيحوِّل الشمس تشرق من المغرب وتغرب من المشرق، كل ذلك تحت تأثير: حضارة الشعر”.
منذ ألقى “سعد الله” كلمته هذه أمام كبار الأدباء العرب في مؤتمرهم الثامن عام 1971، هل اختلف واقع الأمة العربيّة، وهل تحرّرت من “سلبيّتها” واستغراقها في “حضارة الشّعر” و”عصر الشِّعر والخطابيّة والغنائيّة”؟ وهل أرسى المثقّفون، في مختلف ميادين المعرفة، تقاليد “النقد الذاتي” بعد كل نكسة يتعرّضون لها؟ يُمكننا القول: “ما أشبه اليوم بالبارحة”، بل ما أسوأ اليوم من البارحة.. ويبقى تساؤل “سعد الله” يتردّد في مدى الأمّة العربية وأوساطها الثقافية: “هل نظلّ هكذا نصدر التوصيات والقرارات (في المؤتمرات والفعاليات) التي يُنسي بعضها بعضًا وينسخ أحيانًا بعضها بعضًا؟ أليس بإمكان العقل العربي المعاصر أن يتخلّى عن تقاليد (حضارة الشعر) إلى آفاق (حضارة العلم)؟
نُجدّد ما أوردنا في الجزء السابق: ماذا يقول “سعد الله” لو عاد إلى دنيا الناس ورأى أنّ العرب الذين كانوا مجتمعين على قلب واحد ضدّ العدوّ الصهيوني، عندما تعرّضوا إلى نكسة “جوان 1967”.. يتعرّضون اليوم إلى النكسة نفسها ولكن بشكل أفظع وأكثر وحشية، مع الفارق أنّ كثيرًا منهم اليوم هم إلى جانب عدوهم في “جوان 1967″؟ وماذا عساه يقول عن المثقفين وحضارة الشعر وحضارة العلم، والعرب قد صاروا على هامش الزّمن الحضاري، وكادوا أن يفقدوا حتى تلك الرّوح التي سمّاها “الروح الشرقيّة” أو “روح الشعر”؟
سواءٌ اتفقنا مع فكرة “سعد الله” أو اختلفنا معها، ولكنها تبقى فكرة جديرة بالقراءة والتأمّل، لذلك تعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقال الذي نشره الكاتب بمجلّة “الآداب” البيروتيّة”، ومجلة “الفكر” التونسيّة، في التاريخ نفسه: شهر جانفي 1972. ونُشير إلى أنّ المقال نُشر بعد شهر – 11 ديسمبر 1971 – من انعقاد المؤتمر الثامن للأدباء العرب في دمشق ومهرجان “أبي تمّام” في مدينة الموصل في العراق، وكان “سعد الله” من المشاركين فيه بهذا المقال. وفيما يلي نواصل إبحارنا في مقال الدكتور “أبو القاسم سعد الله”..
هل دخلنا عصر “حضارة العلم”؟
تنسحب روح التقليد والرّتابة والاجترار في إنتاجنا الثقافي على إنتاجنا الجامعي أيضًا. فالمفروض أنّنا في عصر البحث العلمي، والدراسات الجامعية المعمَّقة الرّصينة، نكون قد تجاوزنا عهد “حضارة الشعر” إلى عصر “حضارة العلم”، ولكن كل الدلائل تدلُّ على أنَّ أبحاثنا الجامعية ما تزال تتخبَّط في التقليد، وما زلنا ندرس الشعر والنثر الفنّي على طريقة: ابن رشيق والجرجاني، والتاريخ والجغرافية على طريقة: ابن الأثير وياقوت الحموي، والاقتصاد على طريقة: “ليوم خمر وغدًا أمر”، والنحو على طريقة: سيبويه، وهلّم جرّا.. وما زلنا نحكم على جودة العمل الجامعي بما يحتوي عليه من عدد الصفحات لا بما فيه من أفكار جديدة.
ومع ذلك فنحن مُتمذهبون متحمّسون لهذا المذهب أو ذاك، نتراشق من أجله بالكلمات ونتخاصم على أساسه، ونقيم من أجل ذلك أحزابًا وشِيَعًا وطوائف، وقد يزداد الأمر خطورة فنقيم من أجله متاريس على الحدود أو ندخل في حرب ساخنة. إنّ الانتماء الإيديولوجي بالمفهوم الصِّراعي الدولي خطر يهدِّدنا من الداخل. وفي اعتقادنا أنَّ الأمّة العربية لها من إمكانياتها الفكريّة ما يمكِّنها به أن تشقّ طريقها مستقلة عن الانتماءات الإيديولوجية الحادة، ولا سيما في المرحلة الراهنة من تطورها..
جوابٌ بسيط وصعب في الوقت نفسه!
ولكن القارىء قد يتساءل: إذًا ما العمل؟ إنَّ الجواب على ذلك بسيط وصعب في الوقت نفسه. إنّه بسيط لأنَّنا تعوَّدنا أن نتساهل في إصدار القرارات والتّوصيات العامة التي تخرج من الشّفاه لا من القلوب، وتعودنا كذلك أن نعبِّر عن سعادتنا واغتباطا بلقاءاتنا في ذاتها، دون تقدير لعواقبها. كما تعوّدنا أن نُورد عبارة المصير العربي” و”معركة المصير” و”القضايا المصيرية” ونحو ذلك من الألفاظ والتّعابير التي أوشكت أن تفقد قيمتها وتصبح مبتذلة، رغم أنَّها حقًّا خطيرة المدلول لو أُعطيت حقّها من العناية والجديّة، ولكن هذا، على كل حال، هو جزء من مواقفنا السلبية وميزاتنا اللفظية، أي أنّه جزء من “حضارة الشعر”.
والجواب على ذلك صعب أيضًا لأنّه يفرض علينا أن نغيِّر من سلوكنا وأن نفكّر بطريقة جديدة. وهنا نعود إلى أصداء نكسة 1967 في النقد الذاتي والدعوة إلى العلميّة، إنّ ذلك هو صميم الموضوع.. إنّه يُمكن أن نختلف في القيمة النصر أو الهزيمة ولكن لا يمكن أن تختلف في معناهما، ومع ذلك فالعقل العربي المعاصر، العقل الشعري إذا صح التَّعبير، قادر على أن يختلف حــتى في معنى النصر أو الهزيمة، وأن يعكس المفاهيم، فيحوِّل الشمس تشرق من المغرب وتغرب من المشرق، كل ذلك تحت تأثير “حضارة الشعر” و”حداء العيش”.
انتهى زمن الخوارق.. العقل يصنع المعجزات
وإذا كنّا لا نؤمن بالخوارق في أشياء كثيرة، فإنّنا نؤمن أشدّ الإيمان بأنّ العقل الإنساني قادر على صنع المعجزات. وآيات العلم تبهرنا كل يوم بمعجزاتها وخوارقها فنصدّق خاشعين خاضعين مكبِّرين ومحوقلين، فالله الذي شاء أن يكون عبقر وعكاظ، هو الذي شاء أن تكون سفن وصواريخ الفضاء وقنابل الذرة والهيدروجين. (عبقر: إشارة إلى أسطورة وادي الجن الذين كانوا يُلقّنون الشعر للشعراء. وعكاظ: إشارة إلى سوق عكاظ الذي كان يتبارى فيه الشعراء في الجاهلية).
وفي هذا الإطار يمكننا أن نتساءل: ألَا يمكن القيام بثورة ثقافية عربية؟ لماذا لا يكون منطلق هذا المؤتمر تحديد معالم هذه الثورة ورسم أهدافها والشروع في تنفيذها؟ هل نظل هكذا نصدر التوصيات والقرارات التي يُنسي بعضها بعضًا وينسخ أحيانًا بعضها بعضًا؟ أليس بإمكان العقل العربي المعاصر أن يتخلّى عن تقاليد “حضارة الشعر” إلى آفاق “حضارة العلم”؟
بلى، إنّنا نعتقد أنّ ذلك ممكن، بل واجب. كما نعتقد أنّه في إمكان الكُتّاب العرب أن ينفضُّوا على العهد بأن يدخلوا فعلاً في معركة ضدّ التخلّف، واللفظيّة، والأميّة، والإمبريالية والصهيونية والتبعيّة.. وهذه بعينها هي أبجديات الثورة الثقافية والخروج من “حضارة الشِّعر”.
إعلان الحرب على “الاجتراريين” في الثقافة
ويجب أن يكون واضحًا أنَّنا لا نرفع الثورة الثقافية كشعار، إنَّ ذلك أبعد ما يكون عن هدفنا. إنّ الثورة الثقافية عندنا هي قبل كل شيء إيمان بضرورة التحوُّل الجذري في المجتمع العربي، وهي ثانيًا عمل دائب صامت متواضع نراه في نتائجه ولا نسمع ضجيجه وغوغاءه. والثورة الثقافية على هذا الأساس لا يتبنّاها ويتحمّس لإنجازها إلّا مثقفون ثائرون. وقد يقول قائل: إنّك تبني على الرمل وتسبح في الهواء، لأنّه لا وجود لمثقفين ثوريين في الوطن العربي إلّا ما شذَ. والجواب على ذلك أنّني حذّرتُ منذ البداية من الفكرة الطبقية في الثقافة لأنّها خطر لا يقلّ حدّة عن الرجعية في السياسة والردّة في العقائد. وعلى الجيل الصاعد من المثقفين أن يعلنوا الحرب على “الاجتراريين” في الثقافة كما أعلنوا الحرب على المتردّدين في السياسة، و “المنحرفين” في العقائد.
فما الذي يمنع أن يقوم العرب، وعلى رأسهم أدباء الطّليعة، بثورة ثقافية على مستوى الوطن العربي؟ إنّنا نعتقد أن ذلك ممكن ومُحتَّم.
أهداف الثورة الثقافية
ويمكننا أن نلخِّص أهداف هذه الثورة الثقافية فيما يلي:
– 1 خلق أدب جماهري متحرِّر من الارتباطات التقليدية والطبقيّة، ويجب أن يكون واضحًا أنّنا لا ندعو هنا إلى أدب سوقي وضيع… إنّ الجماهيرية في الأدب لا تُعنى أكثر من أن يكون إنتاج الأديب في خدمة أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع.
2 – على أن تكون السِّمة البارزة لهذا الإنتاج هي الروح العلمية المتفتحة.. إنّ على أدباء الثورة الثقافية أن يرفضوا الخرافيّات والقدريّات وأن لا يقبلوا الانغلاق على ثقافة ضيّقة يتقوقعون فيها إصدارًا وإيرادًا. إنّ مستقبلَ الأمّة العربية مستقبل عالمي إنساني، لذلك وجب على أدباء هذه المرحلة أن يبشِّروا بهذا المستقبل الشامل الواعي المنفتح.
3 – ولتحقيق ذلك لا بدّ من تكريس جميع جهود الأمة العربية الفكرية وحشد طاقاتها المعنوية، وهذا يستلزم العمل على استعادة النُّخبة المهاجرة وإفساح المجالات أمامها لكي تنتج على المستوى القومي بدلاً من أن تظل مشرّدة تعمل لحساب أمّة أخرى قد تكون عدوة للأمّة العربية. وإفساح المجالات يعني توفير الحرية الضرورية للإنتاج وتوفير شروط العيش الضرورية.
4 – وعندما يتحقق ذلك يكون باستطاعة الثورة الثقافية أن تشقّ طريقها بأعصاب قوية مدعمة بالعلم. ومن هنا يتحتّم على هذه الثورة أن تنبذ كل ما هو شعري أو إنشائي في التفكير. فالروح العربية الجديدة يجب أن تكون قائمة على الإيمان بالإنسان وعلى الانسان، وأن تتيح المجال لثورة العمل لا العاطفة، ومن هنا كان علينا أن نتخلّى عن الروح الشعريّة إلى الروح العقلية إذا صحّ التعبير.
5 – ولا تستطيع الأمّة العربية أن تشقّ هذا الطريق الصعب إلّا بالقضاء على الأميّة ومحاربتها. ومن المسلَّم به أنّه لا يمكن للأمّة أن تفاخر وتنتصر إذا كان ثمانون أو تسعون بالمائة منها أميين، وعلى هذا الأساس يكون مبدأ الثورة الثقافية – الذي لا يقبل المناقشة – العمل على نشر التعليم على أوسع نطاق، والارتفاع بهذا التعليم إلى مستوى العقل الرياضي لا الروح التقليدية، أي أن يكون تعليمًا جماهيريًّا حيًّا هادفًا وليس مجرد خلق قرّاء أو اتباع يساقون بالكلمات الجوفاء والعبارات الساحرة.
6 – ولا بدّ من سلاح حاد آخر تشقّ به الثورة الثقافية طريقها، وهو البحث العلمي المجرد. إنّ إنتاج الرسائل الجامعية يجب ألّا يقاس بكثرته بل بمفعوله ونوعيّته وجدّته. والرسالة الجامعية ليست غاية في ذاتها بل هي بداية في طريق صعب وهو طريق الاكتشاف والبحث المتواصل. ويجب أن تخرج رسائلنا من طريقة التَّراجم الشخصية وجمع المعلومات العامة وتحقيق ما أنتجه القدماء، وأن تتّجه إلى الإبداع والعمل الذاتي والاكتشاف الذي لا يكون إلّا بعد معاناة وتجربة عميقة مرة. فالبحث العلمي في الحقيقة هو أساس الثورة الثقافية وسلاحها إلى المستقبل.
7- ومن أهم وسائل تحقيق الثورة الثقافية، وفي الوقت نفسه من أهمّ وسائل البحث العلمي إجادة اللغات الأجنبية والاستفادة منها تدعيمًا للغة العربية ودفعًا للعقل العربي. وهذا لا يعني الغضّ من قيمة اللغة القومية. إنّ العمل على أن تكون العربية لغة علم معاصر هو من أوكد واجبات الثورة الثقافية، ولكن هذا لا يعفينا أبدًا من مهمّة الاستفادة من اللغات الأخرى ولا سيما في مجال البحث والدراسة.
متى تتخلّص الأمّة من عصر الخطابيّة والغنائيّة؟
وهذا لا يعني أبدًا أنّنا أتينا على كل ما يجب على الثورة الثقافية أن تقوم عليه وأن تحققه. فما يزال هناك فراغات في الوسائل والأهداف نأمل أن تملأ عن طريق المناقشات الحرة البنّاءة. وهدفنا من إثارة هذه القضية طرح موضوع نعتقد أنّه في منتهى الخطورة إذا كنا نريد لأمّتنا أن تتخلّص من عصر الشعر والخطابية والغنائية، وأن تتّجه إلى عصر العلم والبحث والاختراع.
وليس هذا البحث سوى مساهمة في هذا المجال. ولدينا الثقة في أنّ الأديب العربي، الأديب الواعي لمسؤولياته القوميّة، سيكون في طليعة الداعين إلى تحقيق هذه الثورة الثقافية على مستوى الوطن العربي.