يُقال بأننا نحيا في عصر الثورة المعلوماتية والتطوّر التكنولوجي المُذهل، وأزعم بأنّنا نحيا في عصر التزوير الفكري والثقافي، ذلك أنّ شبكة الأنترنت – مثلا – تحوّلَت من أكبر نعمة على البشريّة إلى نقمة عليها، فقد تمّ توظيفها في تزوير حقائق الواقع والتاريخ والانقلاب على المفاهيم والقيم والعبث بالدين والشخصية القومية للأوطان و”احتقار” اللغة.. لقد صارت شبكة الأنترنت مجالا لحربٍ يوميّة تعتمد على سلاح التّزوير!
قبل أسابيع، تناولت جريدة “الأيام نيوز” في ملحقها الثقافي قضيةَ التزوير في الفكر والثقافة العربية، وتُجدِّد طرح هذا الموضوع من خلال مقالٍ نشره الكاتب الجزائري الدكتور “حنفي بن عيسى” بمجلة “الآداب” البيروتية، في شهر أفريل 1976، وتناول بعض الجوانب من التزوير في الإنتاج الفكري العربي.. قال الكاتب: “تسخير القلم في الافتراء وتزوير الحقائق لا يقلّ مَضرّة عن الشّعوذة والتّدجيل. وربّما صحّ القول بعد هذا، بأنّ تزوير الحقائق، إذا تَعمّده الكاتبُ لغرضٍ في نفسه، وبقصد تضليل بني قومه، ليس خطرا على مستقبل الثقافة فحسب، بل هو كذلك جريمة نكراء يجب أن يُعاقب عليها”.
لم ير “حنفي بن عيسى” اختلافا بين الشعوذة والدّجل، وبين تسخير القلم في الافتراء والتزوير! فكأنّما الكاتب والمفكّر “المُنحرف” في زمن “المجتمع الورقي” كان مُشعوذا ودجّالا.. فهل يصدق عليه هذا “الحُكم” في زمن “المجتمع المعلوماتي” لا سيما وأنّ عدد الكُتّاب على شبكة الأنترنت صار أكبر من عدد القرّاء! سنترك الحُكم للقارئ، وندعوه إلى الإبحار في مقال الدكتور “حنفي بن عيسى”..
التّزوير الذاتي
إنّ إنتاج الأديب يظلّ في حُكم العدم إذا بقي حبرًا على ورق، وسطورًا سوداء. وذلك أن إنتاجه في حاجة إلى عملية لاحقة تُخرجه إلى حيِّز الوجود، وهذه العملية تُسمّى: القراءة. غير أن هذا الإنتاج لا يصل إلى القارىء إلّا بعد المرور بمراحل، وفي كل مرحلة منها يتعرّض للتغيير والتّحريف، والتّشويه، والتزوير، والنقصان، وأحيانا للنسيان والإهمال في أدراج المكاتب.
والتزوير يقع أول ما يقع على يد الرّقيب الذي يُقيِّد حرية الكاتب في التعبير عن آرائه، ويمارس نوعًا من الوصاية على الثقافة، ويضع معايير لتقييم الإنتاج لا علاقة لها بالفكر، فكم من كتابٍ حُكم عليه بالإعدام، وحُرم منه القرّاء ربما إلى الأبد، بدعوى أنّ صاحبه تقدُّمي أو رجعي، أو يميني أو يساري، أو مُستهتر بالأخلاق، أو مناوئ للنّظام السياسي القائم. وقد يُمنع الكتاب لا لسببٍ سوى لأنّ الرقيب لم يفهمه حق الفهم، فيضع عليه العلامة الحمراء، لأنّ ذلك أسلم على أيّة حال، وأدعى للراحة والاطمئنان.
والحقيقة أنّ “الرّجعية” و”التقدّمية” و”النّزعة اليمِينيّة” و”النزعة اليساريّة”.. من الشعارات السياسية التي لا يجوز أن تُتّخذ معيارا في تقييم الإنتاج الفكري. ومِمّا لا يناقش فيه أحدٌ أنّ الأدب أصبح شديد الصلة بالسياسة، وأن الأديب الحق هو من يلتزم بالدفاع عن قضايا الإنسان العادلة حيثما كان.. هذا صحيح، ولا يناقش فيه أحد.. أمّا وصف الأديب بأنه “رجعي” فهذا أمرٌ لا يخلو من القدح في شخصه. ومعنى ذلك أنّنا عوضًا عن أن ننظر إلى فكر الإنسان وأدبه بكل تجرّدٍ وموضوعية، فإنّنا ننظر إلى شخصه، ونلتمس له الهفوات. ولا يسع الأديب في مثل هذه الظروف إلّا أن يتّخذ موقفّين: فإمّا أن يحطّم قلمه، وإمّا أن يمارس نوعا من الرقابة الذاتية أو نوعا من “التزوير الذاتي” إذا صحّ التعبير، فيستمرّ في الكتابة والتأليف، ولكنه لا يعبِّر إلّا عمّا سيرضى عنه الرقيب. وعندما نقول “الرقيب”، فنحن لا نعني بالضرورة شخصا مُعيّنًا يجلس وراء مكتب، يأمر وينهي ويتصرّف كما يشاء في ميدان التأليف، بل نعني جميع أنواع الضغوط المادية والمعنوية التي يتعرّض لها المُنتِج من مختلف الجهات لتصرِفَه عن موضوع معيّن أو لتقترح عليه موضوعًا مُعيّنا، أو لتشعره من طرفٍ خفيٍّ بأنّ هذا الفصل أو ذاك من كتابه غير مناسب، وأنه من الأفضل أن يُحذف..
طموح الأديب وشهوة الناشر وسطحية القارئ
والأدهى من كل هذا أنّ الأديب في كثير من الأحيان لا يختار المُرتَقى الصعب، بل ينساق وراء الحلول السهلة، فتُسوِّل له نفسه الاقتداءَ بالتاجر والمهندس والطبيب والمحامي، وغير هؤلاء من أصحاب المِهَن، فلقد يقول في نفسه: إنّ مهنة الأدب تستلزم من الذكاء والعناء ما تستلزمه مهنة المهندس والطبيب، فإلى متى أظل محرومًا من نعم الحياة؟ والغريب أنه يجد من المجتمع حوله تشجيعا على المضِيِّ في هذا السبيل، فأغلب القرّاء لا يميلون إلّا لما يُسمّى بالمطالعات الخفيفة.. والناشر سوف يقنعه بأنّ الكُتب المُبسّطة، وروايات الجيب، والقصص البوليسية، ومغامرات الجواسيس، وكتب الجنس والطبخ، أكثر رواجًا من المُؤلَّفات التي لا يزال بعض “المتزمّتين” يكتبونها، فلا يجدون من يقرأها.. ورجال الصحافة والإذاعة والتلفزة سوف يُشعِرونه بأنه لا سبيل إلى قبول إنتاجه إلّا إذا توفّرَت فيه بعض الشروط، وكتَب على نمطٍ خاص مُقرَّرٍ سلفا..
الأدب المُصنّع..
أضف إلى كل هذا أنّ الأدب أصبح “مُصنّعًا” تمامًا، تسرّبَت إليه أساليب لم تكن تُستخدم إلا في مجال النشاط الاقتصادي، كإصدار النّشرات المُبسَّطة، والاقتباس، والاختصار، وما إلى ذلك من الأساليب الأخرى، بل أصبحَت تُعقد اتفاقياتٌ لشراء حقوق الترجمة قبل صدور الكتاب في اللغة الأصلية.
إنّ المبدأ الأساسي الذي ينبغي أن تتقيّد به دُور النشر هو احترام الشهادة التي أدلى بها الكاتب.. ينبغي أن تظل تلك الشهادة نقيّة طاهرة لم يمسّها إنسٌ ولا جانٌّ، غير أنّ أدب الارتزاق – للأسف الشديد – هو الأدب السائد اليوم. وقُل الشيء نفسه بالنسبة لصنوه ونظيره: أدب الاستهلاك.. ولذلك فإنّ انتهاك حرمة هذه الشهادة أصبح من الأمور المُعتادة التي لم تعد تثير الاستغراب!
التزوير في شهادة الكاتب
يقع التزوير في شهادة الكاتب، في فيما يلي:
أولا – باستعجال الكاتب، وفرض شروط مُجحفة عليه في التّعاقد، ومطالبته بدفع المَخطوط قبل موعدٍ مُحدّدٍ، مع تهديده – إن لم يفعل – بالحرمان من حقوقه، أو بفرض عقوبة مالية عن كل تأخير.
ثانيا – بالاقتباس أو بإصدار نَشرات مُبسّطة أو مختصَرة، سواء من أجل السينما أو المسرح أو التلفزة أو غير ذلك من وسائل الإعلام والتبليغ. فلا بدّ في كل هذه الحالات من استئذان المؤلِّف، لكيلا يُستغلّ اسمه في ترويج طبعةٍ قد تكون ممسوخة ومُشوّهة.
ثالثا – بالترجمة من غير أن يُستأذن المؤلِّف. وهنا نقع على مشكلة الفوضى السائدة في عالم الترجمة. فهذه المهنة أصبحَت في أشدّ الحاجة إلى تنظيم، وإلى وضع قوانين، لكيلا يكثر فيها الدُّخلاء الذين يُقوِّلون المؤلِّفين ما لم يقولوا، لأنّهم يجهلون أسرار هذه المهنة. وحبّذا لو يتمّ إنشاء اتّحاد المترجمين العرب، على غرار الاتحادات العربية الأخرى، وعندئذ يتأتّى للجامعة العربية أن تُحصي الكفاءات الموجودة في هذا الميدان، وأن تضع قائمة الكُتب التي تستحقّ الترجمة، وأن تضع “الدليل العام للتّرجمات الصادرة في البلاد العربية” لكيلا تتكرّر الترجمة، ولكيلا تضيع الجهود.
رابعا – باستخدام مطابع أكل عليها الدَّهر وشرب، والاستعانة بمُصحِّحين وتقنيّين غير أكِفّاء، فإنتاج الأديب كثيرًا ما يصدر عن هذه المطابع في حالة يُرثى لها، هي حالة المسخ والتشويه، فالأخطاء المطبعيّة لا تُعدّ ولا تُحصى، والأسطر منقولة أو “مُزحلّقة” عن مواضعها، والصفحات مَقلوبة..
خامسا – إصدار نشرات خاصة بكل بلد.. وذلك أنّ بعض الناشرين وأصحاب المجلّات يسمحون لأنفسهم باقتطاع هذا الجزء أو ذاك من المقال، وإخراجه في الثوب الذي يلائم نظام الحكم في هذا البلد أو ذاك. وهذا هو السّبب في أن الباحثين الذين يتتبّعون الحركة الأدبية والفكرية في البلاد العربية يهتدون في أبحاثهم إلى نُسخ مختلفة من المقال الواحد، فيحتارون، ولا يدرون ما هو الأصل.
سادسا – بالاستهتار بحقوق المؤلف المادية والمعنوية: فشروط التّعاقد بين الكاتب والناشر تُملَى من طرف واحد، وليس للكاتب إلّا أن يذعن ويخضع لهذه الشروط. وكم من كتابٍ يُتّفق بشأنه على أن يطبع منه ثلاثة آلاف نسخة، في حين أنّ الناشر يسمح لنفسه، من غير حسيب ولا رقيب، بطبع أضعاف هذا العدد، مع حرمان المؤلف من حقوقه.
أخطار التزوير وأشكاله
لقد تبيّن مِمّا سبق أنّ التزوير يؤدّي إلى الآتي:
أولا – على مستوى الكاتب، إلى تنكُّره لفنّه، وممارسة نوعٍ من الرقابة الذاتيّة على عمله، فيُشوِّهُ بذلك إنتاجه، ويتخلّى عن الصدق في الأداء، وينساق وراء أساليب الكذب والتزوير.
ثانيا – على مستوى الناشر، إلى إفساد العلاقة الطيبة التي كان من المفروض أن تسود بينه وبين المؤلِّف، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، لأن التزوير يؤدّي في آخر الأمر إلى إفساد العلاقات بين الناشرين أنفسهم.
ويتّخذ التزوير هنا أشكالًا مُتعدِّدة:
فلقد تصدر ترجمةٌ جيدة لكتابٍ، حتى إذا صادفَت من القرّاء نجاحًا كبيرا، عمَد المُزوِّر إلى إدخال تعديلات طفيفة عليها، وقام بنشرها على هذه الصورة، مُدَّعيًا بأنه صنَع ترجمة جديدة، وأنه لا شيء يمنعه من أن يكرِّر الترجمة.
ولعل أخطر أنواع التّزوير هو ما درَج عليه بعض قراصنة النّشر من استعمال مطابع الأوفست في السطو على إنتاج الغير، وإخراجه مطابقا للأصل، من غير زيادة ولا نقصان، بقصد إخفاء هذه الجريمة النّكراء. والأغرب من كل هذا أنّ هؤلاء يجترؤون على المؤلِّف، وهو لا يزال على قيد الحياة، وكأنّه لا توجد قوانين لحمايته من جشعهم، أو ربما افترضوا بأنّ المؤلِّف لن يجرؤ على إقامة الدَّعوى عليهم أمام المحاكم بسبب التكاليف المالية، والمُماطلة في إصدار الحُكم. ومن المؤسف جدًّا أن نرى بعض دُور النشر تسارع إلى اقتناء الآلات الحديثة، لا لنشر الثقافة على أوسع نطاق، ورفع مستواها في البلاد، بل للاعتداء على ملكية الغير، وتثبيط عزائم المؤلِّفين وخنق مواهبهم وإسكات أصواتهم.
التزوير في التراث وتحقيق المخطوطات
إنّنا نجتاز اليوم مرحلةً أصبح الاهتمام فيها كبيرا بالتراث العربي الإسلامي. وكان من المفروض أن تسود روح التعاون بين دُور النشر، من أجل إحياء هذا التراث الذي أصبح من التراث الإنساني. إلا أننا نجد أن الفوضى السائدة في هذا الباب لا نظير لها. والسبب في ذلك أن روح الارتزاق هو الذي يتحكّم في جميع الخطط والمشاريع التي تضعها دور النشر. فهناك مثلا تهافتٌ على بعض الكتب مثل: العقد الفريد، الأغاني، لسان العرب، في حين أن كُتبا أخرى لا تقلّ عنها أهميّة لم تحظ إلى حدِّ اليوم بأيّة التفاتة من طرف دُور النشر، وإذا استمرّ الوضع على ما هو عليه فسوف تظلّ العشرات من الكتب الثمينة في طيّ النسيان إلى الأبد، وفي ذلك خسارة كبرى للبحث العلمي.
وكان من المفروض ألّا يقع التزوير في هذا الباب، لأنّ نشر التراث العربي الإسلامي لا يحتاج إلى ترخيص من أحد، ولأن هذا التراث لا يجوز أن يحتكره أحد. ومع ذلك فإن التزوير يقع بالفعل، عندما يأخذ أحد الناشرين نسخةً حقّقها غيره، فيدخل على ذلك التحقيق تعديلات بسيطة، من حيث شرح المفردات وترتيب الحواشي، ليُوهم الناس بأنه قام بعمل جديد، وأنّ الدافع الأساسي لعمله هو إحياء التراث والغيرة عليه.
هل من طريق إلى الوحدة الثقافية العربية؟
وبعد، فقد آن الأوان أن تسود روح التعاون بين المؤلِّف والناشر، وبين الناشرين أنفسهم، ليس عن طريق عقد الندوات والملتقيات فحسب، وإصدار توصياتٍ يظل أكثرها حبرًا على ورق، بل لا بدّ كذلك من اتخاذ خطوات بنّاءة على مستوى العالم العربي، من أجل التعجيل بالوحدة الثقافية، في انتظار الوحدة الكبرى.
وهذه الوحدة الثقافية يمكن أن نعجل بها عن طريق عقد اتفاقيات للنّشر المشترك وتنظيم شبكات التوزيع في جميع أنحاء البلاد العربية، وتبادل المعلومات بشأن الكفاءات المتوفّرة في مجال التأليف والترجمة، والقضاء على الفوضى السائدة في مجال إحياء التراث، وسنّ قوانين صارمة لمعاقبة المزوِّرين بدون هوادة.