الدكتور “موریس بوکاي” يكتب من الجزائر.. نظرات في التوراة والقرآن والعلم (الجزء الأول)

من أين ينبع الحقد التاريخي للغرب “الرّسمي” على الإسلام، ولماذا سعى ويسعى إلى تشويهه، وتشويه صورة الإنسان المُسلم في عيون المجتمعات الغربية؟ عندما نقرأ كتاب “التوراة والإنجيل والقرآن والعلم”، للكاتب الفرنسي الدكتور “موريس بوكاي” (1920 – 1998)، نُدرك بأنّ الغرب لا يحقد على المسلمين – العرب خاصة – فحسب، بل هو يخاف منهم، لأنّ “عودتهم” إلى الإسلام “الصحيح” ستفتح منافذ كبرى أمام المجتمعات الغربيّة لتُدرك بأنّ الكتب المُقدّسة التي تعتنقها والتي قامت على أساسها الحروب والمآسي.. هي كُتُبٌ مُحرّفة لا يقبلها العقل الصحيح، وتتنافى مع العلم ومعارفه. بمعنى أنّ تلك المجتمعات قد جرى تضليلها على امتداد قرون، ثمّ أنّ غرَقها في الحضارة الماديّة هو نتيجة لذلك التضليل!

يُمكن اعتبار الدكتور “موريس بوكاي” أنموذجًا للإنسان الغربي الذي استطاع أن يكشف التضليل الذي كان واقعا فيه، فاهتدى إلى الإسلام واعتنقه عن قناعة ويقين، وأقام مقارنات بين القرآن الكريم والتوراة والإنجيل، وخلص إلى نتائج نشرها في مجموعة من كُتبه التي لم يتقبّلها الغرب “الرّسمي”..

يروي “بوكاي” حادثةً أثّرت في توجّهه الفكري، قال: “في عام 1935، كنت في الخامسة عشرة من عمري وكنت ما أزال طالبا في مدرسة مسيحية. في تلك الفترة أعلن الأب بيرونيه، وكان أحد علماء الأحافير الجيولوجية، عن اكتشاف رسوم بشرية في كهف في جنوب إسبانيا أرجع تاريخها إلى 15000 عاما، هذا في الوقت الذي كُنّا نقرأ فيه في كتاب الدين بالمدرسة أنّ تاريخ ظهور الإنسان الأول على الأرض يرجع إلى 4000 عام قبل المسيح. أصابتني حيرة، فسألت الأب مُدرِّس الدين: أيُّ التاريخان أصدق؟ أجابني قائلا: من فضلك لا تخلط بين شيئين مختلفين، هناك العلم في جانب والدين في جانب آخر، وعندما يقع تعارض بينهما، فإنَّ ما يقوله الدين هو الحقيقة! قلت له: لا يمكن! هذا مستحيل، هذه حقيقة علمية تمّت البرهنة عليها، كيف يمكن إرجاع تاريخ ظهور الإنسان على الأرض إلى ما يقوله كتاب الدين؟”.

في عام 1976، نشر الدكتور “موريس بوكاي” كتابه: “التوراة والإنجيل والقرآن والعلم” – قد يجد القارئ الكتاب بعناوين أخرى – وقد تُرجم إلى حوالي عشرين لغة، وقد ألقى “بوكاي” مُحاضرة في الجزائر، تدور فكرتها حول موضوع كتابه، وقامت مجلة “الأصالة” الجزائرية بنشر المُحاضرة في أكتوبر 1978، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها فيما يلي..

هل العلاقة بالعلم تصرف عن الإيمان بالله؟

ما الأسباب التي تدفعنا في القرن العشرين إلى الإيمان بالله؟ السؤال مطروح هنا مع اندراج عامل “الزمن” في صيغته، أي مع أخذ بواعث خاصة بالعالم الحديث بعين الاعتبار. إذ ليس من المفارقات القليلة الشأن في عصرنا هذا أن تكون البواعث ذات العلاقة بالعلم قادرة على صرف البعض عن الإيمان بالله، بينما تَقوّى لدى الآخرين هذا الإيمان نفسه.

فقد أرادوا فى الواقع أن ينزعوا، باسم العلم، كل قابلية تصديق عن الميراث الديني الذي تركته لنا القرون السالفة في أشكال متنوعة، وفي أنحاء مختلفة. وأرادوا ألّا يثقوا بالمعرفة الإنسانية التي لا تفتأ تتقدّم في المعرفة العقلانية للحقيقة، وألّا يروا في الدين إلّا نتاجا لخيال جامع.

المنكرون لما فوق الطبيعة

وهكذا استبعدت قبليًّا كل وثيقة تتعلق بالإيمان بالله، فهم يقبلون أن يأخذوا بالحسبان كل ما استطاع “أفلاطون” أن يكتبه عن “سقراط” الذي لا يفكر في وجوده، أمّا أن يحدثنا العهد القديم أو القرآن الكريم عن “موسى”، أو أن تنقل إلينا الأناجيل قصصا وأخبارا عن “عيسى”، فإنّ هذه النصوص لا يُحكم عليها بالصدق، وإنّما تُنبذ جملة وتفصيلا بالنظر إلى طبيعة الموضوعات المطروقة فيها. ذلك هو موقف المُنكرين لما فوق الطبيعة (أو ما يتجاوز نطاق المحسوس).  أولئك المنكرين الذين وجدَت مواقفُهم في الغرب قبولًا لدى مُفكِّري القرن التاسع عشر، وأدّت إلى قيام نظرية: المادية الملحدة.

“المؤمنون” الغربيون لا يتقبّلون النّقد!

وهناك، بالمقابل، من يؤمنون بالله، ولكن كثيرا منهم، للأسف، في البلدان الغربية – وهم وحدهم الذين أسمح لنفسي بالحكم عليهم في هذا الصّدد – ما يزالون، بحكم تربيتهم السابقة وتعاليمهم الراهنة التي ما تزال متحجِّرة متصلِّبة، لا يرضون بأن يتجرّأ فكر موضوعي، حتى ولو استمسك بإيمانه كاملا، على الاهتمام بأسس هذا الإيمان، المتمثلة في الكتب المقدسة، من أجل دراستها دراسة نقدية مجردة من أيّ حكم مسبق، ولكن التطرّف في التشبّث بالحَرفِيّة جعلت الإيمان بالله فى البلدان الغربية وفي عصرنا هذا، يتعرّض، لهذا السبب في نظري، إلى ضرر بالغ.

الخضوع لتعاليم الطفولة

لقد كنّا في مرحلة ما من وجودنا، نقبل دون مناقشة بكل ما نُلقّن إيّاه في هذا الميدان، فالطفل يظل متأثِّرا حتى يبلغ سنًّا ما من عمره، بالاعتبارات التي يحتل فيها الغموض مكانا بارزا، وقابلا لكل ما يُقدَّم له على أنه من الحقائق التي لا نزاع فيها. ويظل بعض الناس حتى وهم في سن الرُّشد على هذا الخضوع لتعاليم الطفولة، بل ويمنحون حيِّزًا كبيرا في معتقداتهم الدينية لكل ما هو من قبيل الحالات النفسية الخاصة مع ذلك. إلّا أنّ شعور الإيمان يتعرّض، على العموم، لهجومات قاسية منذ اللحظة التي يكبر فيها الفرد، وتحصل له معلومات عن العالم الذي يحيط به، وينظر بإعجاب إلى هذه الإنجازات البشرية القائمة على المعرفة الدنيويّة التي تتقدّم في عصرنا هذا بصورة مذهلة، فكيف لا تُغري الماديةُ الجذّابة الشابَ العصري وهو مأخوذ في دوّامتها؟

الشعور الديني في الغرب

لذلك؛ فإنّ الشعور الديني في الغرب، تحت التأثير السائد من اليهودية المسيحية، ليشهد اليوم انحسارا كبيرا جدا. والترجمة المادية لهذا الهبوط قابلة للقياس بمنطلق الدقة: فنحن نجدها في هبوط الاتجاهات أو الميول الدينية بين الشباب. وإليكم لمحة عن ذلك:

تقول الإحصائيات الأسقفية الفرنسية أنه كان بفرنسا في سنة 1965 ما يقرب من 36000 قسِّيسا، وكان من الممكن لسِلك رجال الكنيسة أن يتجدّد بصورة مُرضية بمتوسط عدد سنوي قدره 1500 من القساوسة الجدد، إلّا أن هؤلاء لم يبلغوا في سنة 1967 أكثر من 489؛ ومنذ ذلك العام أخذ عددهم ينخفض باطِّراد ليصل إلى 136 في سنة 1976، و99 في سنة 1977. ثم إنّ عدد الطلبة المُسجَّلين في المدارس الإكليريكية من القِلّة بحيث يمكن معه التأكيد بأنّ عدد ما سيتمّ تكوينهم سنويا من القساوسة في السنوات القليلة القادمة لن يصل إلى مائة، الأمر الذي يمكن معه القول أنّ الكنيسة، بالنظر إلى هذا التواتر، وإلى العدد المتزايد سنويا من الاستقالات، لن يكون لها في غضون عقود قليلة سوى عدد ضئيل من الرجال.

فقدان الثقة في الكتب التوراتية

ومن الأسباب الأساسية لهذا النفور من الحياة الدينية في البلاد المسيحية: فقدان الثقة في الكتب التوراتية. وفيما يلي بيان ذلك:

لم يكن يجري الحديث، حتى “مجمع الفاتيكان الثاني” (1962 – 1965)، عن أصالة نصوص التوراة التي كان الناس يقبلونها على ما هي عليه حاليا باستثناء حالة اختصاصيين نادرين. من ذلك أنه ما من أحد كان يتجرّأ – فيما يتعلق بالأناجيل – على أن يتشكّك في كونها تنقل إلينا كلام “عيسى” بدقة وإحكام، فهو – كما كان يقال – نتاج شهود مباشرين لرسالته. ألم تكن الأناجيل تُدعى “مذكرات الحواريين”؟ ولكن لائحة من لوائح “مجمع الفاتيكان الثاني” في سنة 1965 لم تنح هذا النحو بصورة قطعية.

اختلاف حول “مذكرات الحواريّين”!

غير أنّ هذا التصوّر قد هاجمته، بعد سنوات قلائل من المجمع الأخير، بحوث أخذت تظهر ابتداء من سنة 1970، وهي من إنتاج لاهوتيين مسيحيين أنفسهم. فقد قام هؤلاء بدراسة دقيقة للنصوص، مستعملين كل العناصر التي تمنحها لهم المعرفة العصرية في مجال علم اللغة وعلم الآثار، والتاريخ إلخ…

فقد أصبح الناس اليوم يسلِّمون بأنّ الأناجيل الشرعيّة الأربعة ليست سوى ترجمة لما كانت تعتقده في “عيسى” جماعاتٌ مختلفة لا تتّفق فيه – كما يبدو من النصوص – على رأي واحد، لأنّ أحداثا من رسالته قد عولجت بصورة تختلف باختلاف نظرة أصحاب الأناجيل الناطقين بلسان تلـك الجماعات.

إنّ شروح الترجمة المسكونية الأخيرة للتوراة (العهد الجديد 1972)، وهي عمل اشترك في إنتاجه أكثر من مائة اختصاصي من الكاثوليك والبروتستانت، لتصرِّح بذلك دون أدنى التباس أو غموض، كما تعبِّر عنه أيضا أعمالُ “مدرسة القدس التوراتية”، هذا إذا اقتصرنا على أهمها فقط، وقد أثبتُّ مراجع دقيقة وعديدة عن هذه الدراسات في كتابي “التوراة والقرآن والعلم” الذي نشر بالفرنسية في سنة 1976، وبالعربية والإنجليزية في سنة 1978.

أصالة نصوص الكتب المقدسة!

بيد أنّ “مجمع الفاتيكان الثاني” كان قد استثنى، في الحقيقة، العهد القديم، إذ أكدّ في التّصريح المجمعي رقم 4 أنّ هذه الكتب “تتضمن نقصا” بل وحتى ـ باطلا ـ وتُبيِّن الأعمال الحديثة أنه من المشروع تقييم الأناجيل بمثل هذه التقييمات.

فكيف نتصوّر كون هذه الأناجيل لا تنقل إلينا إلّا الحقيقة التي أوحى بها الله، عندما نجد فيها مقاطع لا يقبلها العقل إطلاقا، مثل هذه السلاسل من نسب “عيسى” التي هي من تلفيقات خيال “لوقا” و”متّى” المقدَّمين لنا قوائم لأجداد مختلفة، والتي يتجلّى فيها صحة قائمة “لوقا” بالخصوص، ألا ينسب هذا الإنجليزي خمسة وسبعين جدًّا لعيسى منذ آدم؟ إنّ ما نعرفه من الحد الأدنى لقدم الانسان على وجه البسيطة ليجعل مثل هذا القول فى عصرنا هذا أمرا غير مقبول. فكيف يلقِّن الله للناس ما لا يطابق الواقع، كما سبق أن لاحظ القديس “أوغوستين” بصدد أصالة نصوص الكتب المقدسة؟

وكيف يمكن أن نقبل بتناقضات بين قصص سبق أن أوردت أمثلة واضحة، منها كمثال “الخوخة المعجزة” التي قال “لوقا” أنّها حدثت في زمان “عيسى”، بينما قدّمها “يوحنا” على أنها حدث سيحصل – كما قال – عندما يُبعث “عيسى” من جديد؟ وكيف لا نلاحظ أن إنجيليًّا مثل “يوحنا” ينسى أن يصف مؤسَّسة “سر القربان المقدس” كما فعل: مرقص، لوقا، متى، أثناء وجبة الغداء الأخيرة التي تناولها “عيسى” مع الحواريين، تلك المؤسسة التي أوردها الإنجيلي الرابع مع ذلك بتفاصيل عديدة؟ وكيف لا نلاحظ أنّ الإنجيليين الثلاثة لا يذكرون وصية “عيسى” الروحية الطويلة جدا، وهي موضوع مقاطع طويلة في إنجيل “يوحنا”؟

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
أقرضت فرنسا القمح.. ستورا يرد على تطاول زمور على الجزائر نقابة شبه الطبي ترفع مقترحاتها حول القانون الأساسي لوزير الصحة حوادث المرور.. 3 قتلى خلال يوم واحد وزير الخارجية يحل بسوريا في زيارة رسمية صحيفة إسبانية تحذف مقالا عن تفاصيل خطيرة كشفها نائب مدير المخابرات المغربية السابق إليكم ما جاء فيه توحيد الرؤى حول القضايا المشتركة محور نقاش بين وزير الاتصال ورئيس غانا مناصفة مع نظيره التونسي.. الوزير الأول يحيي ذكرى أحداث ساقية سيدي يوسف لأول مرة.. حماس تُسلّم 3 أسرى إسرائيليين من وسط قطاع غزة هذه توقعات حالة الطقس لنهار اليوم السبت محامية من أصول جزائرية تحرج وزير الداخلية على المباشر بشأن الحجاب تحذير أممي من اتساع رقعة العنف في الكونغو الديمقراطية ستورا: موقف فرنسا من الصحراء الغربية قد يعمّق التوتر مع الجزائر تصدير 27 ألف طن من المسطحات الحديدية نحو تركيا أول رد من المحكمة الجنائية الدولية على عقوبات ترامب حوادث المرور.. 4 قتلى خلال يوم واحد بلاغ هام للراغبين في أداء مناسك العمرة القضاء الفرنسي يصفع اليمين المتطرف.. ما القصة؟ طقس.. أمطار رعدية غزيرة على هذه الولايات أسعار النفط ترتفع بعد تصريحات ترامب الرئيس تبون يناقش تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي مع نظيره التشيكي