الدولة النفطية من منظور الأرقام والاحصائيات

أجد البعض من المشتغلين بموضوعات الطاقة يستسهلون التسرع بالإجابة، سواء بـ “نعم” أو “لا” حول سؤال “هل الجزائر دولة نفطية؟”، لكنني أجد بأن مسؤولية تقديم إجابة موضوعية تحمل دلالات معرفية هادفة تستوجب منا الاستناد إلى إطار مرجعي للإحاطة بجوانب المسألة، قبل الخوض في متاهة السؤال والبحث عن إجابة جاهزة مقولبة.

أولا، ماذا نعني بالتصنيف تحديدا، من خلال نعت دولة ما بأنها “دولة نفطية” ؟ هل نصنف الدولة بأنها نفطية على أساس ما تحوزه من احتياطيات نفطية مؤكدة وقابلة للاستغلال، أم على أساس قدرات الإنتاج الفعلية لديها؟ أم أننا نستند في ذلك إلى نسبة إسهام ما لديها من موارد نفطية في تلبية حاجياتها من الطاقة ومدى إسهام النفط في ضمان أمنها الطاقوي ؟ أم أننا ننظر إلى ذلك من زاوية مساهمة النفط في توفير الموارد المالية لتغذية منظومتها الاقتصادية ؟

ولبسط الحديث في ذلك، دعونا نتقاسم هذه القراءة، من زاوية المعروض الطاقوي المنتج وطنيا، من خلال فحص التقارير الدورية للمجمع الطاقوي الوطني “سوناطراك”، هذه التقارير التي تُشير إلى أن:

إجمالي حجم المحروقات المسّوقة في السوق الخارجية والداخلية أيضا (بما في ذلك الموجه منه لوحدات سوناطراك)، والذي بلغ خلال السنوات الثلاثة (2021، 2022، و2023) على التوالي (159،4 مليون طن مكافئ نفطي، 158،3 مليون طن مكافئ نفطي، 164،2 مليون طن مكافئ نفطي)، شّكلت مادة النفط الخام ومشتقاته المكررة منها ما نسبته (30،2%، 32%، 30،9%) على التوالي، أي أنها تقترب من قيمة الثلث (1\3) ضمن المزيج الطاقوي المسّوق من الموارد الطاقوية الأحفورية.

ضمن مزيج هذه الحجوم المسوّقة من الهيدروكربونات، نجد بأن حجم الصادرات بلغ خلال السنوات الثلاثة المذكورة (2021، و2022، و2023) المقادير التالية (95 مليون طن مكافئ نفطي، 91،6 مليون طن مكافئ نفطي، و95 مليون طن مكافئ نفطي) على التوالي.

بداية ينبغي لنا أن نلاحظ بأن حجوم الصادرات إلى إجمالي حجم المحروقات المسّوقة قد حازت على نسبة (59،6%، 57،9%، 57،8%)، كما نجد بأن مادة النفط الخام ومشتقاتها المكررة منه مثّلت ما نسبته (38،4%، 37،9%، 35،9%) على التوالي، وفي المقابل نجد حصة الغاز الطبيعي في مزيج الصادرات الجزائرية من المحروقات مثل ما نسبته، خلال السنوات الثلاثة المذكورة على التوالي (54،1%، 50،2%، 49%). مع الإشارة أننا لم ندخل، لا المكثّفات ولا غاز البترول المميع، ضمن هذه المقابلة بين النفط والغاز الطبيعي، فقد اعتمدنا فقط على الفيئتين الرئيسيتين.

فالاستنتاج الأول الذي نخلص إليه هو سيطرة الغاز الطبيعي (من خلال التقديرات بالطن مكافئ نفطي)، حيث أنه أخذ حصة النصف من إجمالي صادرات الجزائر من المحروقات.

وكانت العوائد المالية لهذه الصادرات 6759 مليار دينار جزائري في سنة 2023 (مقابل 8422 مليار دينار جزائري)، شكلّت عائدات تصدير النفط الخام والمواد المكررة ما نسبته (41،5%) منها (مقابل 44% في سنة 2022)، و شكّلت عائدات تصدير الغاز الطبيعي ما نسبته (47،5%) من إجمالي الصادرات (مقابل 45% في سنة 2022).

وبالعودة إلى السوق الوطنية الداخلية التي استحوذت على (64،3 مليون طن مكافئ نفطي، 66،7 مليون طن مكافئ نفطي، 69،2 مليون طن مكافئ نفطي) خلال السنوات الثلاثة المذكورة (2021، و2022، و2023) على التوالي، أي ما مثّل (40،4%، 42،1%، 42،1%) من الحجم الإجمالي للمواد الطاقوية المسوّقة. حيث شكّل الغاز الطبيعي منها ما نسبته (71%) من إجمالي حجوم الطن مكافئ نفطي المسوّقة في السوق الوطنية، وكانت قيمة مبيعاته في السوق الوطنية (101 مليار دينار جزائري) في سنة 2023، و(165 مليار دينار جزائري) في سنة 2022، وهذه القيمة كانت نسبتها (26،8%) من إجمالي قيمة مبيعات المواد الطاقوية للمحرقات في السوق الوطنية في سنة 2023 (38،3% في سنة 2022). في ظل مبيعات للمواد الطاقوية من المحروقات بقيمة 377 مليار دينار جزائري في سنة 2023 (مقابل 431 مليار دينار جزائري في سنة 2022)، بما شكلّ عائدات تسويق للمواد المكررة ما نسبته (70%) منها (مقابل 59% في سنة 2022).

وهنا نستنتج معًا ما يلي

أنه في سنة 2023، تمّ تخصيص السوق الوطنية بـ(42،1%) من الحجم الإجمالي للمواد الطاقوية المسوّقة، وكانت قيمة مبيعاتها قد مثّلت (5،3%) من إجمالي العائدات (4،9% في سنة 2022). من المهم جدا أخذ هذا الرقم في الحسبان حين الحديث عن الجزائر باعتبارها “دولة نفطية” اجتماعية، لأن حجم المواد الطاقوية من المحروقات المسوّقة في السوق الوطنية تمثّل (42%)  من الحجم  الإجمالي للمواد الطاقوية المسوّقة، لكن عائداتها تمثل فقط (5%) من إجمالي العائدات المالية للمحروقات المسوّقة.

أيضا نجد معًا بأن الغاز الطبيعي يهيمن على قُرابة الثلاثة أرباع (3\4) الاستهلاك الطاقوي في السوق الطاقوية الداخلية الوطنية، لكن قيمة مبيعاته تمثل فقط ربع (1\4) إجمالي مواد المحروقات المسوّقة في السوق الوطنية، وهنا أيضا يتجلى البعد الاجتماعي للدولة الطاقوية.

كما أننا نجد أيضا بأن نسبة صادراتنا من الغاز الطبيعي (مقدرة بـالطن مكافئ نفطي) تتجاوز الـ(51%) من إجمالي مزيج الصادرات الجزائرية من المحروقات ومشتقاتها، وعائدات صادرات الغاز الطبيعي (بشكليه الطبيعي عبر الأنابيب والمسال منه) تتجاوز عائدات الجزائر منه عائدات تصدير النفط الخام والمواد المكررة.

وإذا نظرنا إلى حجم الاكتشافات، سنجد بأن ما تعلق بالغاز من حيث العدد هو أكبر من تلك الاكتشافات المحققة في الزيوت النفطية.

لذلك أجد بأن أهمية الغاز بالنسبة للجزائر تتزايد أكثر فأكثر، لكن تبقى للنفط أهميته التي لا يمكن تعويضها في الجوانب الصناعية والحاجة للمواد المستخلصة منه. الغاز الطبيعي شهد صعودا مذهلا على مدى الـ 50 سنة الماضية عبر العالم، حيث تحوّل من مورد مهمل إلى مادة حيوية، تتجه للتربع على عرش الطاقة العالمي، ومعه سينزاح التصنيف، لأن النفط والدول النفطية واقتصاد النفط هي تسميات تاريخية بقيت ماثلة وعالقة بالاقتصاد العالمي، فهناك تحوّل مضطرد نحو “حقبة الغازات”، الغاز الطبيعي ثم الهيدروجين، لكن التصنيف النفطي بقي إرثا عالقا.

وضمن هذا المنظور للتحوّل الطاقوي العالمي من حقبة الزيوت “الموارد الطاقوية السائلة” والنفط على الخصوص، نحو حقبة “الموارد الطاقوية الغازية”، بما أصطلح عليه بحالة “التسامي” نحو الغاز الطبيعي ثم الهيدروجين، نجد صعودا للطاقات المتجددة، ليس لتعويضها كلية أو الوصول إلى حالة من الاستبدال الجذري للموارد الطاقوية التقليدية، بل للحلول كجزء من منظومة الطاقة، ضمن مزيج طاقوي تتواجد فيه جميع الموارد الطاقوية في حالة من التكامل والتعاضد.

وهنا سأقدم قراءة واقعية توضيحية لفهم ما يجري، ويمكننا من خلال ذلك فهم الحالة الجزائرية، عبر استحضار حالة الانتقال الطاقوي في العالم، خلال فترة العشر سنوات (2012-2022) نجد حقيقة هناك صعودا ملحوظا للطاقات المتجددة ضمن مزيج الطاقة العالمية، لكن هناك جوانب مهمة مغفول الطرق إليها والحديث عنها، حيث نجد هناك فرط إبراز لنمو الطاقات المتجددة، وبأن نسبة نموها قد تجاوز الوقود الأحفوري. لكن هذا الإفراط يغطي عن حقيقة مشهد الطاقة، لأنه يتم إخفاء مقدار حجم صعود الطاقة الأحفورية المطلوبة والمستهلكة، فقد تراجعت الطاقة الأحفورية (فحم، نفط، غاز) كنسبة في المزيج من (81،1% إلى 79%) على مدى عشر سنوات، وهذا هو المفهوم الصحيح للاستبدال حيث تأخذ الطاقات المتجددة حصة لها، كما هو متجسد هنا، بحيث افتكت نسبة (2،1% فقط وليس 58% التي يروج لها، فنسبة 58% كانت ضمن مقدار نطاق الطاقة المتجددة الحديثة فقط وليس ضمن المزيج الطاقوي الكلي)، وأيضا مع هذا النمو للطاقات المتجددة نجد بأنه قد صاحبه ارتفاع في الطلب على الطاقة الأحفورية من حيث الحَجم المُستَهلك، حيث نجد بأن حجم الطاقة الأحفورية في سنة 2022 التي مثّلت (79%) ضمن مزيج الطاقة العالمية هي أكبر بالحجم (إكسا جول) من الحجم الذي ساهمت به في سنة 2012، على الرغم من أن نسبتها في المزيج كانت أعلى بـ(81،1%). فإجمالي استهلاك الطاقة النهائي في العالم في عام 2022، قد نمى بنسبة 5% على مدى عشر (10) سنوات، وصولا إلى 399 إكسا جول (EJ)، فقد زاد استخدام النفط والفحم، وبلغ متوسط استهلاك النفط الأحفوري 101،1 مليون برميل يوميًا في عام 2022، وهو أعلى قليلاً من الرقم القياسي قبل الجائحة البالغ 101،0 مليون برميل يوميًا، وارتفع استهلاك الفحم بنسبة 1.4% في عام 2023 ليتجاوز 8،5 مليار طن سنويًا لأول مرة على الإطلاق. وفي ظل هذا النمو في الطلب على الطاقة الأحفوري، نجد مجموع مصادر الطاقات المتجددة الحديثة قد مثّلت 13% من إجمالي الاستهلاك الطاقي النهائي العالمي في عام 2022، وهي نفس الحصة في عام 2021.

ولو نستحضر مسار الانتقال الطاقوي خلال عقد من الزمن، بشكل آخر، ما بين عامي 2011 و2021، سنجد بأن إجمالي الاستهلاك النهائي للطاقة في العالم ارتفع بنسبة 16%، ومعها زادت كمية الطاقات المتجددة الحديثة في إجمالي الاستهلاك الطاقوي النهائي العالمي  بـ (20 إكسا جول أي ما يعادل 478 مليون طن مكافئ نفطي)، من 30 إكسا جول (EJ) ) في عام 2011 إلى 50 إكسا جول في عام 2021، أي بزيادة مساهمة مصادر الطاقات المتجددة بـ(3،8%)، صعدا من 8،8% إلى 12،6%، مع تسجيل تراجع في حصة الطاقة الأحفوري ضمن إجمالي الاستهلاك الطاقوي النهائي العالمي، بـ (2،3%)، نزولا من 81،2% في عام 2011 إلى 79،1% في عام 2021؛ وعلى الرغم من هذا التراجع في حصة الوقود الأحفوري بـ(2،3%) ضمن إجمالي الاستهلاك الطاقوي العالمي، نجد بأن حجم الاستهلاك الإجمالي للطاقة الأحفورية قد زاد بمقدار 35 إكسا جول (836 MTep) خلال هذه الفترة. بزيادة تقدر بـ(75%) أكبر من تلك الزيادة التي حُظيت بها حصة الطاقات المتجددة.

لكن من المهم أيضا ملاحظة بأن الشكل النهائي في استهلاك الطاقة على المستوى العالمي يبقى يهيمن عليه “الاستهلاك على الشكل الحراري”، ففي سنة 2019 مثّلت الحرارة نسبة (51%)، وفي سنة 2021 نزلت قليلا إلى نسبة (48%)، لكنها تبقى التحدي الأصعب في التحول الطاقوي العالمي، لذلك بدأ يطرح الهيدروجين كحل لمعضلة الاستخدام الحراري، فإلى حدّ اليوم بقي الانتقال الطاقوي العالمي قابعا في الجزء الكهربائي، وهنا نجد تحدي آخر بارز، ففي سنة 2019 شكلت القدرة الكهربائية (17%) من إجمالي الاستهلاك الطاقوي النهائي العالمي، وضمنها ضمنت الطاقات المتجددة حصة نسبتها (28%) من القدرات الكهربائية، وفي سنة 2021 ارتفعت حصة الطاقات المتجددة لتصل إلى  (30%) وزادت القدرات الكهربائية بما فيها الأحفورية لتحوز نسبة الـ(23%) ضمن المزيج الطاقوي النهائي. فالطاقة الكهربائية المتجددة ارتفعت بدرجتين مئويتين (2%) وفي المقابل نمت القدرات الكهربائية بما فيها الأحفورية بنسبة (6%) ضمن نمو كلّي للطلب على الطاقة وزيادة في حجم استهلاك الطاقات الأحفورية.

أعتقد بأن هذا العرض التحليلي الذي يستند إلى حقائق حركية المشهد الطاقوي العالمي سيمكننا من فهم طبيعة الانتقال الطاقوي ومقتضياته في بلدنا الجزائر.

مهماه بوزيان

مهماه بوزيان

باحث دائم وخبير في الشؤون الطاقوية والاقتصادية

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
هذه أبرز الملفات التي ناقشها اجتماع الحكومة تحطم طائرة عسكرية بأدرار.. والجيش يفتح تحقيقًا في الحادث مظاهرات حاشدة بالمغرب تطالب بإسقاط التطبيع مع الكيان الصهيوني إحباط محاولة إدخال 30 قنطارًا من الكيف عبر الحدود مع المغرب الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات