الروائي “حفناوي زاغز”.. مسؤولية الكلمة وجدوى الكتابة

كثيرةٌ هي الأسماء الأدبية والفكرية الجزائرية التي بقيت في دائرة الظل، ولم تَلقَ أعمالُها الاهتمامَ والعنايةَ التي تُوطّد علاقتها مع القرّاء، لأسباب تتعلّق بغياب الإعلام الأدبي والثقافي، أو بمنظومة صناعة الكتاب التي تفتقر إلى الترويج والإشهار وغيرها من العمليات التي تُوجد الجسرَ الرابط بين المُبدع والمتلقّي. وكاتبُنا من هؤلاء الذين لم ينالوا حظّهم من “الأضواء”، رغم قيمة أعماله الأدبية وأهميّتها في “التجديد” الثقافي الذي عرفته الجزائر منذ فجر الاستقلال.

من فضائل الإنترنت، أن بعض المُبدعين الجزائريين بادروا إلى إنشاء مواقع رقمية تُقدّم سيَرَهم الشخصية وتُعرّف بأعمالهم الإبداعية، وتمنح المتلقّي الثّقةَ لقراءة أعمالهم، ذلك أن “فوضى” النّشر، أنتجت أسماءَ في حقول الأدب والثقافة، ينتابُ القارئَ شعورٌ بالخيبة وإضاعة الوقت في قراءة أعمالهم، وقد يتملّكه التحسّرُ إذا ما أنفقَ المال لاقتناء كتبهم. وقد تفطّن كاتبنا وأنشأ موقعًا إلكترونيًا يُعرّف به وبأعماله، وكاتبنا هو الأديب والروائي “حفناوي زاغز”، قامةٌ أدبية جزائرية تدعو إلى الافتخار والاعتزاز بها، وشخصيةٌ وطنيةٌ لها تاريخُها الجهادي والنضالي خلال ثورة التحرير الوطني، ولها سجّلها الحافل بالإسهامات القيّمة في المجال الوظيفي والمهني. وما نُقدّمه من إضاءات حول هذه الشخصية، هو في مُعظمه اقتباسات من الموقع الإلكتروني الشخصي لكاتبنا، وذلك للتأكيد على أهميّة الحضور الرقمي لمُبدعينا من خلال مواقعَ شخصية، لعلّها تَصيرُ من التقاليد الثقافية في تقديم مبدعينا لأنفسهم بعدد من اللغات العالمية، فيكون حضورهم على خارطة الإبداع العالمي، وليس الوطني فحسب.

كاتبٌ مَهمومٌ بقضايا أمّته

يختزل الكاتب والناقد “إبراهيم روماني” الهويّةَ الأدبية لمُبدعنا في توصيف مُعمّق ومُكثّف، فيقول: “حفناوي زاغز، كاتبٌ مَهمومٌ بقضايا الذات والوطن والأمة. نُصوصُه مشحونةٌ بصور الوعي المتألم من/على واقع عَصيّ، مُثقل بتراكم الخلل والفساد واللاّمعنى، الذي قد يلقي بظلاله على عناوين مؤلفاته: أشواق، ضياع في عرض البحر، الفجوة، نشيج الجراح، عندما يختفي القمر، صلاة في الجحيم، الإبحار نحو المجهول، ممَّا يجعل النصوصَ مشحونةً بالأحزان والهموم والأسئلة الصعبة. غير أن هذا الوعي المُتألم، وتلك الرؤية المهمومة، لا تُؤدّي بصاحبها إلى السقوط في شراك السوداوية المغلقة أو السلبية الانعزالية، بل تظل رؤيةً متقدةً مُتبصرةً، واقعية نقدية بنَّاءة، سعيًا وراء واقع/عالم ممكن منشود، فضاء للحرية والحق والعدل والكرامة والرقي، للصفاء والخير والتسامح والقيم الإنسانية النبيلة”.

الكتابةُ رسالةٌ إنسانيةٌ

نحن أمام أديب اختار الكتابة لتكون أداتَه في أداء رسالته الإنسانية، فهو لا يكتب من أجل “التّرف” الأدبي أو سعيًا إلى الشهرة والنجومية في سماوات الإبداع الروائي، ولكنه يكتبُ ليعيد تشكيل المعنى الإنساني انطلاقا من مسيرته في الحياة، وما عاشه وعايشه خلال فترة الاستعمار على الخصوص من أوجاع وآلام وكوابيس “يقظة” كانت تُعرقل تبرعُمَ الحلم الجزائري في حدائق الحرية والجمال والمحبة. وفي هذا الاتجاه، يقول الكاتب “إبراهيم روماني”: “من متاعب الفقر والاغتراب والضياع، وانكسارات القضية الفلسطينية وأزمة الهُويّة والانتماء والصراع الفكري وأسئلة الثقافة والعلاقة مع الغرب، إلى كوابيس الغربة والسجن والضياع والإرهاب، من مَتَاه القيم وعذابات الحب ومعاناة المرأة في مجتمع مليء بالتعارض والتناقض والكبت والزيف الى أزمة الصراع والتطرف الفكري- الإيديولوجي، والعنف المتوالد المتعدد الأشكال، المنتهي إلى الهاوية”.

عوالمٌ روائيةٌ متفرّدةٌ

تنفرد العوالم الإبداعية للأديب “حفناوي زاغز” بخصائص مميّزة، تمنح القارىء القدرة على ملامسة شخوص رواياته وتَنشّق عطرهم وتذوّق طعامهم والإحساس بانفعالاتهم وأوجاعهم وآلامهم.. هي خصائص تجعل من القارىء مُنتميا إلى الرواية وشخصا آخر من شخوصها. وعن هذا الأمر، يقول الكاتب “إبراهيم روماني”: “المتن الروائي- القصصي لحفناوي زاغز فضاءٌ حافل بالشخوص المُتعدّدة والأحداث المتراكمة والمواقف المختلفة، بالأمكنة اللامحدودة والأزمنة الممتدة، التي تشكل بنية فنية متماسكة، قوامُها لغة تصويرية رصينة وشفافة، تنساب أمام قارئها في متعة ويُسر، عبر أسلوب السرد المترابط وحبكة الحوار الجذاب. تنهض إبداعية النصوص على خلفية ثقافية صلبة وتجربة ناضجة وخبرة طويلة من المعايشة والممارسة، يسندُها وعيٌ مُتّقدٌ ورؤية مُتسعة متعمقة في قضايا كثيرة متداخلة، يتقاطع فيها الفردي بالجماعي، القروي بالمديني، الوطني بالإنساني، النفسي بالاجتماعي والسياسي، من وطأة الشر والاحتلال والاستبداد والقمع والتخلف إلى ملحمة الثورة والاستشهاد من أجل الحرية والكرامة والسؤدد، ورحلة البحث المستمر عن وجود بديل، ممكن وأفضل”.

بدايةُ رحلة في الحياة

أعلن الأديب “حفناوي زاغز” ميلادَه بصرخته الأولى ذات يوم من سنة 1927 بـ “المخادمة”، إحدى بلديات غرب ولاية بسكرة، في أسرة عريقة ميسورة الحال، انتدبت مُعلّما لتحفيظ القرآن يُشرف على تعليم أبنائها، وقد حفظ كاتبنا على يدي مُعلّمه ثلاثين حزبا من القرآن الكريم، وأخذ عنه ما تيسّر من علوم اللغة. ثم انتقل كاتبُنا إلى مدينة بسكرة سنة 1945، أين تتلمذ على يدي الشيخ “نعيم النعيمي”، وبعد سنة، التحق بجامع الزيتونة في تونس، لمواصلة تعليمه حتى سنة 1951 حيث حصل على شهادة التحصيل. وفي مراحل أخرى، واصل الكاتب تعليمه وحصل على الدبلوم في علم النفس، ثم شهادة ليسانس في الحقوق.

وَمضةٌ من مسيرة ثورية

انطلق “حفناوي زاغز” مُعلّما في إحدى مدارس جمعية العلماء المسلمين، إضافة إلى تقديمه لدروس الوعظ والإرشاد في المسجد. وسرعان ما انخرط في صفوف ثورة التحرير الوطني، وكان عضو اللجنة المسؤولة عن منطقة سطيف ونواحيها منذ جانفي 1955. وقد تم اعتقاله من طرف الاستعمار الفرنسي في شهر مارس 1957، ثم تمّ الإفراج عنه في أواخر السنة نفسها، فاستأنف عمله الثوري من تونس، وأشرف على مجلة الشباب الجزائري إلى غاية عودته إلى الجزائر في شهر جوان 1962.

وظائف ومسؤوليات مُتعدّدة

ابتدأ “حفناوي زاغز” مسيرته العملية في جزائر الحرية والاستقلال أستاذا في التعليم الثانوي من 1962 إلى 1966، ثم التحق بمسؤوليات أخرى في مواقع متنوّعة. وسنة 1970 التحق كاتبُنا بالأمن الوطني، حيث كان محافظا رئيسيا مسؤولا عن التعريب على المستوى الوطني، ولهذه الغاية، ألّف كتابين لتعليم أصول اللغة العربية وقواعدها، بالإضافة إلى مهام ومسؤوليات أخرى كثيرة على المستوى الوطني والعربي والدولي، منها الإشراف على مجلّة الشرطة.

حصادٌ أدبيٌّ وافرٌ

قدّم الأديب “حفناوي زاغز” إلى المكتبة الجزائرية والعربية مجموعتين في القصة القصيرة، ومجموعة من القصص الطويلة منها: فتضحك الأقدار، صلاة في الجحيم، حكاية قدسية. وتسع روايات هي: ضياع في عرض البحر، الفجوة، المكنونة، نشيج الجراح، عندما يختفي القمر، الشخص الآخر، خطوات في اتجاه آخر، الإبحار نحو المجهول، الزائر. بالإضافة إلى رصيد وافر من المقالات نشرها في الدوريات الجزائرية والعربية، كما قدّم الكثير من الأبحاث في المؤتمرات والفعاليات ذات العلاقة بمجال عمله الوظيفي.

“رحلتي في دنيا الكتابة”

آمن الأديب “حفناوي زاغز” بأن الكلمة مسؤولية، وقد شغلته مسألة “جدوى الكتابة” منذ أعماله الأولى، وكتب موضوعا عنوانه “رحلتي في دنيا الكتابة” أضاء فيه جوانب مُهمّة من علاقته مع قلمه الأدبي. وقد توقّف عن الكتابة لسنوات تحت طائلة مسألة “جدوى الكتابة”، حيث قال: “وبغتة، وقبل نيل الجزائر استقلالَها، قرّر الشابُ التوقّفَ عن الكتابة الأدبية، بعد أن تبيّنَ له عدم جدوى الكتابة، فلمن يكتب، ولماذا الكتابة أصلاً؟ قائلا في ذاته ما أكثر الذين كتبوا والذين يحترفون الكتابة، ولكن أيّ شيء استطاعوا أن يحققوه غير النقود التي يكتسبونها ثمناً لما يُحبّرون حقا كان ذلك أو باطلا. وهل تمكّن أحدهم أو بعضهم من تغيير الواقع أو تطوير إنسان، أو إزالة ظلم أو نفض غبار الجهالة والجمود؟ فلمَ إذًا يُجشم نفسه مشقةَ إضافة حفنة كلام إلى بحار متلاطمة من الأقوال، أو زيادة صفحة إلى جبال شاهقة من الأوراق، وماذا لديه من جديد يمكن أن يعالج به النفوس المَرضى بداء الأنانية وحب الذات، والكذب، والخيانة، والنفاق، لكنه يدرك في ذات الوقت أن رصاصة واحدة وراءها عزيمة ثابتة، وأمامها هدف واضح، قادرة أن تعيد الرّشاد الى الطغاة، الأمل الى المحرومين، أن تفتك الحق من مغتصبيه..”.

رحيلُ الجسد

في آخر يوم من شهر أوت سنة 2018 رحل الأديب المُجاهد “حفناوي زاغز” عن عمر ناهز الواحد والتسعين سنةً، مُخلّفا وراءَه مسيرة نضالية كبيرة، وتاريخا عمليا حافلا، وإرثا أدبيا مُتميزا في مجال الرّواية والقصة. ومن الواجب إعادة تثمين هذا الإرث وتفعيله في البناء الثقافي، وأيضا إنصافُ كاتبنا وتحريره من الدوائر الأكاديمية الضيّقة، وتقديمه إلى القارئ الجزائري وكل قرّاء العربية.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
جدري القردة.. خطة إفريقية لاحتواء الوباء الرئيس تبون يُهنّئ البطل البارالمبي إبراهيم قندوز نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية إلى غاية الواحدة زوالا بلغت 13.11 % الجزائري إبراهيم قندوز يفتك ميدالية ذهبية في تخصص الكاياك 200 متر كينيا تعلن تنكيس الأعلام 3 أيام حدادا على وفاة 17 تلميذا بوغالي: اليوم تصل الجزائر إلى محطة من محطاتها الخالدة وتعطى الكلمة للشعب الملاكمة إيمان خليف: الواجب الانتخابي ضروري من أجل حماية الوطن حساني شريف: نحن اليوم أمام استحقاق حاسم ومهم وسنقبل أي اختيار يقوم به الشعب الفريق أول السعيد شنقريحة يؤدي واجبه الانتخابي تبون: الفائز في هذه الانتخابات سيواصل المشوار المصيري للدولة الجزائرية قوجيل: الجزائر تعيش يوما تاريخيا نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بلغت 4.56% حتى الساعة العاشرة صباحا رئاسيات 2024.. العرباوي: الشعب الجزائري سيختار المرشح الأكثر استحقاقا المترشح أوشيش يدعو الجزائريين إلى التجند والتعبير عن صوتهم شرفي: قرابة 63 ألف مكتب تصويت و500 ألف مؤطر لتنظيم رئاسيات 2024 رئاسيات الـ 7 سبتمبر.. إمكانية التصويت بتقديم وثيقة رسمية تثبت هوية الناخب رئاسيات 2024.. فتح مكاتب التصويت أمام الناخبين عبر كامل التراب الوطني مخطط أمني استثنائي لتأمين الرئاسيات في الجزائر تراجع أسعار السردين بفضل التحسن التدريجي في الإنتاج بجاية.. تفكيك شبكتين إجراميتين وحجز 50 صفيحة من المخدرات اختتام قمة منتدى التعاون الصيني-الإفريقي "فوكاك" 2024 أمطار رعدية غزيرة عبر 22 ولاية الألعاب البارالمبية 2024.. تبون يهنئ المصارع عبد القادر بوعامر بعد تتويجه بالميدالية الذهبية عين أميناس.. 18 جريحا في حادث انقلاب سيارة نفعية قمة بكين.. عطاف يشيد بالطابع المتفرد للشراكة الإفريقية-الصينية أمن العاصمة.. الإطاحة بمجموعتين إجراميتين مختصتين في تنظيم رحلات “الحرقة” الرئيس تبون يهنئ أبطال الجزائر في الألعاب البارالمبية الألعاب البارالمبية باريس.. صفية جلال تهدي الجزائر الميدالية الذهبية الرابعة تعزيزا للأمن الغذائي.. عرقاب يستقبل وفد عن الشركة القطرية “بلدنا” "إيفيزا".. نظام تأشيرة إلكترونية جديد للجزائريين