الصورة تلخّص الفرق الهائل بين جلّاد صهيوني يمتلك جميع عناصر القوة والجبروت لكنه سرعان ما ينهزم أمام الضحية، ذلك الأسير الفلسطيني المجرّد من لباسه، سلاحه، وقدرته على الحركة حيث يجد نفسه مقيدًا، إلا أنّ تشبّعه بإرادة الصمود وشجاعة الأبطال وجرأة الفدائيين، كلّها عوامل مكّنته من قلب معادلة القوة. إنّ نظرته – المدجّجة بالشموخ والعزّة والإباء – لَأكثر فتكًا من أيّ سلاح لدى أيّ جلّاد، إلى حدّ أنّها جعلت دلالة الصورة ترتدّ على ملتقطها – الجندي الصهيوني – لتتحوّل إلى وثيقة تثبت انحطاط أخلاقه وتردّي مستواه، كيف لا وهو أنموذج مصغّر لكيان محتلّ يقوده بنيامين نتنياهو – خلاصة الإفلاس الصهيوني – بينما في الجهة المقابلة تتجلّى – في نظرة الأسير الفلسطيني البطل – أصالة وشجاعة وذكاء الشعب المصطفّ وراء المقاومة بقيادة يحيى السنوار الذي يمثّل خلاصة الشرف والإيمان والعبقرية الإنسانية.
=== أعدّ الملف: حميد سعدون – م. ب – س. س ===
الصورة المشار إليها – في مقدّمة ملف عدد اليوم من “الأيام نيوز” تخصّ تلك التي تضمّنها مقطع فيديو نشره جندي صهيوني يدعى “يوسي غامزو” يظهر فيه مواطن فلسطيني من أهالي غزة، خلال التحقيق معه، إذ تمّ خلع ملابسه وتقييد يديه وهو مصاب بجرح في ساقه.
كما يظهر المقطع المصوّر، الفلسطيني وهو يجلس على كرسي في مبنى بغزة وقد قيّدت يداه إلى الخلف والدمّ يسيل بسبب تعرّضه للتعذيب، وكان أصدقاء الجندي الصهيوني، قد تداولوا المقطع للتباهي به، مرفقا بهذه العبارة: “أطلقت النار على رجله وجرّدته من ثيابه وقيّدته على يديه”.
وكان الجندي الصهيوني – يوسي – يوثّق عمليات كتيبته القتالية في القطاع ويرفعها عبر قناته على موقع يوتيوب، كما تبيّن أنّ الفيديو تمّ تصويره في أواخر شهر ديسمبر من العام الماضي، وصوّر في حي الرمال وسط غزة، وكان الجندي الصهيوني نفسه قد نشر مقاطع فيديو تظهر اعتقال الجيش الصهيوني عشرات الرجال والنساء والأطفال وهم عراة ومعصوبو الأعين ومكبّلو الأيدي في أغلب المناطق التي دخلوها في غزة.
هذه القصة تلخّص مستوى الدناءة التي وصل إليها الجيش الصهيوني، فهي ليست مجرّد حالة فردية، إذ أنّ رئيس سلطة الكيان الصهيوني نفسه والذي يمثّل ما يسمّى بـ”المجتمع الإسرائيلي”، بات يُنظر إليه على أنّه مجرم الحرب رقم واحد في العالم، فيما نظامه تلقى إدانة تاريخية من محكمة العدل الدولية في لاهاي.
لكن بالمقابل، فإنّ المقاومة التزمت بأقصى قيم الأخلاق الإنسانية – خلال الحرب وخلال السلم – وهو ما تجلّى عندما ظهر محتجزون إسرائيليون بملابس أنيقة وملامح مبتهجة وابتسامات عريضة وسلام حار وصحة جيدة، وكان ذلك خلال تسليمهم للعدو الصهيوني ضمن عملية تبادل الأسرى التي جرت شهر نوفمبر 2023.
وعلى العكس من ذلك، ظهر الأسرى الفلسطينيون في حالة مزرية، خلال الإفراج عنهم، وقد مثّلت قصة الطفل المقدسي عبد الرحمن عامر الزغل (14 عاما)، مثالا بليغا على الوحشية الصهيونية التي يمارسها سجانو الاحتلال ضدّ المعتقلين الفلسطينيين.
الطفل الزغل لم يتمكن من الابتهاج بقرار الإفراج عنه، ضمن صفقة التبادل، إذ كان يخضع لعملية جراحية في مستشفى “هداسا عين كارم” بعد إصابته بجراح خطيرة يوم 19 أوت 2023، فقد كان هو الطفل الوحيد الذي يمكث في الحبس المنزلي من بين 69 طفلا مقدسيا أسيرا شملتهم الصفقة.
أم عبد الرحمان، روت تفاصيل أسبوعين من التنكيل في المستشفى الذي عولج فيه ابنها وهو مقيّد اليدين والقدمين، وقالت إنّ غرفته كانت تخضع لحراسة مشدّدة، بالإضافة إلى منع أقاربه من زيارته، ومنعها هي أيضا من الاقتراب منه إلا في أوقات وجيزة نادرة، بينما كانت تقضي الوقت كلّه في اختلاس النظر إليه عبر نافذة الغرفة، التي كان عناصر شرطة الاحتلال يغلقون ستارتها متعمّدين.
تفوّق المقاومة أخلاقيا على الكيان الصهيوني، انعكاس لتفوّقها عسكريا وسياسيا وإعلاميا وعلى كل المستويات، ذلك أنّ المقاومة الفلسطينية في غزة يقودها رجل من طينة الشرفاء – يحيى السنوار – بينما يقود الاحتلال الصهيوني مجرم الحرب – بنيامين نتنياهو – الذي جمع حوله مجموعة من المرضى النفسيين الحاقدين على كل مظاهر الحياة في فلسطين.
ضحايا الطرد والسلب يعودون أبطالا..
عبقرية “السنوار” في مواجهة كيان “غسل الأدمغة”
عام 2021، هاجمت صحيفة “هآرتس” العبرية – في مقال للكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي صحيفة – رئيس وزراء سلطة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير حربه بيني غانتس، مؤكّدة أنّ قائد حركة “حماس” في غزة يحيى السنوار، يمتلك شجاعة أكثر منهما.
وبيّنت الصحيفة العبرية، أنّه منذ زرع الورم الصهيوني عملت سلطة الكيان على “غسل الأدمغة بشيطنة أعدائها”، ففي الستينيات خلال عيد “لاغ بعومر”، قام الصهاينة بإحراق صورة جمال عبد الناصر، وقالوا للرأي العام لديهم إنّه “الديكتاتور المصري”، فلم يكن عبد الناصر في نظر الاحتلال إنسانا ومثله كذلك ياسر عرفات ومنظّمته.
ونبّهت الصحيفة، إلى أنّ “الخطاب المقرف الذي يتطوّر لدى الكيان الصهيوني حول ضرورة تصفية (المقاومة الفلسطينية) وإخضاعها والقضاء عليها، هو خطاب شرعي – بالمعنى الصهيوني طبعا – ما يتيح هدم بيوت الفلسطينيين وقتل أبنائهم”، مضيفة: أنّ “يحيى السنوار على سبيل المثال، هل هو “متوحش” أكثر من الطيارين في سلاح الجو الصهيوني الذين قاموا بإلقاء عشرات القنابل على المنازل وقتلوا 66 طفلا فلسطينيا؟ هل توجد دماء أكثر على يديه مما يوجد على أيدي ضباط الجيش الصهيوني؟ لدينا شكّ كبير في ذلك”، تجيب الصحيفة الإسرائيلية.
وتساءلت: “هل هو أكثر شجاعة واستعدادا للتضحية من زعماء الكيان؟ لا أحد – من قطعان الصهيونية – يوافق على الاعتراف بذلك، فالسنوار بالنسبة إليهم عدو، وبالتالي فهو ليس من البشر”، ورأت “هآرتس”، أنّ “هذه المقاربة البدائية لا يمكن مناقشتها، لكن يمكننا اقتراح قراءة أخرى للواقع، على سبيل المثال: هم أيضا من بني البشر، هناك في حماس من لهم طموحات وأحلام، نقاط ضعف وصفات تستحق التقدير، ولحماس أهداف محقّة يجدر الاعتراف والتسليم بها أيضا”.
وذكّرت أنّ “السنوار قضى 22 سنة في السجون الصهيونية، وهي أقل بقليل من الفترة التي قضاها نيلسون مانديلا (سياسي مناهض لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا شغل منصب رئيس جنوب إفريقيا عام 1994)، وتعلّم السنوار في السجن كيفية التحدّث بالعبرية بطلاقة.
واعتبرت الصحيفة، أنه “ليس من الضروري أن يكون المرء مؤيّدا لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، كي يتذكّر بأنّ السنوار ومحمد الضيف، ترعرعا في مخيم خان يونس للاجئين جنوب القطاع”، وتابعت: “كم هو عدد الإسرائيليين الذين يعرفون عن ظروف الحياة هناك؟ هل يمكن أن يترعرع هناك شخص يحبّ الكيان؟”.. الكيان المحتل الذي طرد مواطنين فلسطينيين من المجدل (بينهم عائلة السنوار) أو من كوكبة (بينهم عائلة الضيف).. لقد دمّر الاحتلال حياة هؤلاء إلى الأبد.. طرد وسلب وتفقير وحصار ظالم.
وأشارت الصحيفة العبرية، إلى أنّ هناك من يرى الآتي: “من السهل دعوة حماس إلى التنازل عن النهج العسكري”، مؤكّدة أنّ “الحقيقة الفظيعة، تظهر عندما تقوم حماس بضرب الكيان، ساعتها، فقط، يهتمّ العالم بمصير قطاع غزة، وعندما تتوقّف مدافع حماس عن الهدير ينسون غزة.. ولتختنق”، وهذا يعني أنّ الصهيوني يتجاهل الجميع حتى يتمّ ضربه.
وأكّدت أنّ “السنوار هو أكثر شجاعة من نتنياهو وغانتس، اللذين لديهما حماية بدرجة كبيرة، كما أنّه من ناحية عدالة نضاله، له كل الأفضليات على سجانيه ومحتليه، الذين يستخدمون أبشع الوسائل الإجرامية لفرض توجّههم بالمنطقة”، والآن، هل باتت الفكرة واضحة، عن الفرق بين السنوار ونتنياهو؟.. إنّ الأول يعرف جيدا من هو الثاني الذي بدوره أصبح ضحية الجهل المقدّس والانغلاق على الذات والعجز عن رؤية العالم من زوايا متعددة، فالسنوار يعرف جيدا أعداءه.
ترجم كتابين لرئيسين سابقين للشاباك..
يحيى السنوار الذي يعرف أعداءه
حتى في أقسى الظروف، سعى رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، يحيى السنوار، إلى معرفة أعدائه ودراسة طرق تفكيرهم، لكن الصهيوني شموئيل روزنر، وهو محلّل أخبار تلفزيوني، اعترف أنّ السابع من أكتوبر 2023، “علّم الإسرائيليين ماذا يعني الحذر”، وأضاف “لقد فهمنا أنّنا لا نعلم ما الذي يريده السنوار حتى لو اعتقدنا قبل ذلك أنّنا نعرف ماذا يريد”.
وكشفت كيتي بيري، رئيسة مصلحة السجون الصهيونية سابقا في تصريح تلفزيوني، أنّ السنوار ترجم كتابين لرئيسين سابقين لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، ويتعلّق الأمر بكتاب واحد ليعقوب بيري وعنوانه “القادم لقتلك”، والكتاب الثاني لكرمي غيلون، عنوانه “الشاباك بين الانقسامات”، ويتمحور حول الانقسام في ما يسمّى بـ”المجتمع الإسرائيلي”.
ومن أمام الزنزانة التي كان يحتجز فيها السنوار، قالت بيري إنّه في إحدى عمليات التفتيش المفاجئة، تم العثور على كتاب بحوزة السنوار، يُعتقد أنه بخطّ يده، وتتراوح عدد صفحات الكتاب ما بين 500 إلى 600 صفحة، مؤكدة أنّه كان يريد الترجمة للأسرى الأمنيين، وتحدّثت المسؤولة الإسرائيلية السابقة عن شخصية السنوار، قائلة “كان من الواضح تماما أنّه نوع من القادة الهادئين وذوي القوة”، وإنّه “يقرأ إستراتيجية قادة الشاباك” ضمن قاعدة “اعرف عدوك”.
ومن جهته، كان شموئيل روزنر، وهو محلّل أخبار كان قد قال في ديسمبر الماضي، إنّ “طوفان الأقصى”، “علّم الإسرائيليين ماذا يعني الحذر”، وأضاف “لقد فهمنا أننا لا نعلم ما الذي يريده السنوار حتى لو اعتقدنا قبل ذلك أننا نعرف ماذا يريد”، أما معلّق صحيفة “معاريف” العبرية “ران أدليست”، فقد قال عنه بأنّه الأكثر صلابة من بين ثلاثي “حرب غزة” نتنياهو، بايدن وقائد المقاومة يحيى السنوار.
وفي مقدّمة تحليله في “معاريف”، كتب أدليست: “ثلاثة في ملتقى أحداث غزة هم: جو بايدن، بنيامين نتنياهو والبطل يحيى السنوار، وإنّ الواقع الذي يحدّد توجّه التاريخ هو من صنع الزعيم الذي يأتي بناءً على شخصيته”، وأضاف: “في الشهر القريب القادم سيقع بين بايدن، السنوار ونتنياهو صدام، وإنّ شخصياتهم بمستوياتها العلنية والخفية، ستلعب دورا حاسما في سياقات إنهاء القتال واليوم التالي”.
وأشار إلى أنّ نتنياهو يعمل من موقع ضعف “كورقة تتطاير في الريح وفي كل صوب”، أمّا بايدن فيقول الكاتب إنّه يعمل من موقع سيطرة، تستوجب إدارة متعدّدة الوجوه بمصالح متضاربة، ويرى الكاتب أنّ الشخصية الأكثر صلابة بين الثلاثة هو يحيى السنوار.
ويقول آدليست: نتنياهو، في المقابل، هو الملاكم المترهل الذي يتحرّك في الحلبة عندما يلاكم من جانب اليمين المجنون إلى جانب إدارة بايدن ومن هناك إلى صناع القرار على الأرض، في كل مكان يغيّر نسخة ثم يعود إلى المنزل بمصباح يدوي في عينه وطعنة في كليته لينال الضربة القاضية اليومية، والهدف الوحيد الذي يدافع عنه بحماس هو إحباط محاكمته، أما بقية قراراته، فهي نتيجة وميض من الضغط العشوائي في الضباب الذي يعيش فيه.
ومن وجهة نظر بايدن، يتلخص دور الاحتلال في القضاء على حماس، التي تمنع الولايات المتحدة من تثبيت الاستقرار في إحدى الركائز الإستراتيجية في الشرق الأوسط، ويضيف: استعدادا لانتخابات 2024، ينبغي أن نوفّر لبايدن نوعا من النصر على الأشرار على الساحة المحلية والدولية.. يجب القضاء على دور حماس وترك الأمر لبايدن.
والوضع اليوم هو أنّ حماس – بقيادة السنوار – لم تسمح بالقضاء عليها، والكيان الصهيوني لم ينته من عمله بعد والتزامن المأمول لا يسير وفق خطة بايدن، واستمرار القتال يضرّ بالمصالح الأمريكية في العلاقات مع الدول العربية ويشعر بالحسرة في بيته، يا للمهزلة.
“إسرائيل” ووسطاؤها بانتظار كلمة من السنوار
أشار النائب في حزب الليكود، داني دانون، إلى أنّ انتظار قادة الكيان الصهيوني لردّ قائد حماس في غزة، يحيى السنوار، على اقتراح بشأن تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة يوم الأحد الماضي، كان مهينا، وعبّر دانون عن استيائه بقوله لنتنياهو: “(دولة) بأكملها قضت يوم الأحد تنتظر ما سيقوله السنوار.. كان هذا أمرًا مهينًا”.
قال نتنياهو، أول أمس الاثنين، لنواب حزبه – الليكود – إنّ “قتل قيادة حركة حماس هدف سيستغرق شهورا وليس سنوات”، ونقلت النسخة الإلكترونية من صحيفة هآرتس عن نتنياهو قوله في الاجتماع بمقر الكنيست في القدس الغربية: “يجب علينا قتل قيادة حماس. لا يمكن أن تنتهي الحرب قبل حدوث ذلك”، وذكر أنّ “الوصول إلى هذا الهدف سيستغرق شهورا وليس سنوات”.
ولكن النائب في حزب الليكود، داني دانون، أشار في اللقاء ذاته إلى أنّ انتظار قادة الكيان أن يردّ قائد حماس في غزة يحيى السنوار على اقتراح لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة، يوم الأحد الماضي، كان مهينا، ونقلت الصحيفة عن دانون قوله لنتنياهو: “(دولة) بأكملها قضت يوم الأحد تنتظر ما سيقوله (زعيم حماس في غزة يحيى السنوار)… كان هذا أمرا مهينا”.
وما زال قادة الكيان والوسطاء ينتظرون ردّ حركة حماس على مقترح صفقة جديدة لتبادل الأسرى، قدّمه اجتماع ضمّ ممثلين لمصر وقطر والولايات المتحدة والكيان الصهيوني بالعاصمة الفرنسية باريس في 28 جانفي الماضي، وأوضحت الصحيفة أنّ دانون “دعا إلى منع سكان غزة من الانتقال من جنوب إلى شمال قطاع غزة، بقوله: هذا هو الإنجاز الوحيد الذي حققناه في الحرب”.
وأكد ضباط ومسؤولون إسرائيليون سابقون، أنّ الانتصار على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في حرب غزة لم يعد ممكنا، وأنّه لم يعد من خيار سوى القبول بصفقة لتبادل الأسرى يحدّد شروطها يحيى السنوار رئيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة.
وفي سياق متابعتها للحرب في قطاع غزة وتداعياتها، نقلت القناة 12 عن اللواء احتياط يتسحاق بريك قوله إنّه رغم تدمير 1100 فتحة نفق، فإنّ ثمة آلاف الأنفاق الإضافية ومئات الكيلومترات منها، وفي ظلّ عدم حل هذه المعضلة، فلن يتحقّق الانتصار على حماس بقيادة السنوار.
وفي رده على طرح مقدّم البرنامج بأنّ السيطرة على الحدود ومحور فيلادلفيا، يمكن أن تحققّ الانتصار في الحرب، قال بريك: “لا يمكن الانتصار في الحرب.. يجب أن نواجه الحقيقة، وأن نقولها، ونكفّ عن قصص نحن ونحن ونحن (..) برأيي، من الصعب جدا اليوم تقويض حماس، والأسهل هو استعادة المخطوفين”.
في حين نقلت قناة “كان 11” الإسرائيلية عن رئيس جهاز الموساد سابقا تامير باردو، تأكيده أنه لم يعد هناك خيار أمام الكيان إلا القبول بعقد صفقة لتبادل الأسرى يحدّد السنوار شروطها وموعد الإفراج عن الأسرى، مضيفا “إذا أنهينا الحرب بـ136 رون آراد (في إشارة إلى اسم طيار مفقود منذ 36 عاما) أو بـ136 تابوتا، فإنّ الكيان – للمرة الأولى منذ إقامته – سيخسر الحرب”.
وأضاف أنّ ما يجب على الكيان الحرص عليه هو تصحيح ذلك الفعل الفظيع بتخلي السلطة عن مواطنيها وبخيانتها لهم، مضيفا أنّ “السنوار بعيدا عن أي ضغط، ونحن اليوم بعيدون جدا عن حسم المعركة البرية (..) إذا قرّرت الحكومة ورئيسها التخلي عن المخطوفين فليقل ذلك علنا أمام الجمهور”.
بدوره، قال إليئور ليفي، وهو محرّر الشؤون الفلسطينية في قناة كان 11، إنّ ما يحدث اليوم هو نوع من الغوص في الوحل بقطاع غزة وليس التموضع فيه، وهو يذكّر بغوص الأمريكيين في الوحل العراقي، معتبرا ذلك بداية حرب استنزاف في قطاع غزة.
من جهتها، قالت أميراف سبيرسكي، وهي شقيقة أسير قتل في غزة، إنّ الحكومة تكذب عليهم وتخلّت عن ذويهم وضحّت بهم، مشيرة إلى أنّها تقصد أشخاصا محدّدين في الحكومة وهم من يقولون: “فقط القتال.. فقط القتال”.
ونقلت وسائل إعلام عدّة، تصاعد تفاعلات أهالي الأسرى الإسرائيليين أمام منزل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ومن ذلك ما قاله متظاهر أمام منزل نتنياهو في قساريا “في كل مدينة ستلجأ إليها يا بنيامين سنكون هناك.. عليك أن ترتجف هذه اللحظة، ولن تساعدك الحبوب المهدّئة”.
كيف أدار يحيى السنوار “الحرب النفسية” ضد العدو؟
إلى جانب القصف المروّع الذي نفّذه على سكان قطاع غزة، مارس الكيان الصهيوني حرب أعصاب كان من المخطط لها أن تجبر زعيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بغزة، يحيى السنوار، على أن يخضع لشروط الاحتلال. لكن، ما حدث هو العكس تماما، فقد أثبت السنوار أنّه «سيّد اللّعبة»؛ فهو الأعرف بنقاط الضعف لدى الكيان، وقد استخدمها بطريقة قوية للتأثير على الرأي العام.
وفي هذا الشأن، قالت صحيفة «لوموند» الفرنسية، إنّ الزعيم الفلسطيني، البالغ من العمر 61 عاما، قد تحدى – وفقا للصحيفة – كلّ أولئك الذين قدّموه لدى الكيان على أنه “رجل ميت” بالفعل. لكن على النقيض من ذلك لم يبق السنوار على قيد الحياة فحسب، بل حقّق انتصارا سياسيا جديدا.
ونقلت الصحيفة، في هذا الصدد، عن المستشار السابق لعدد من رؤساء جهاز المخابرات الداخلية الصهيوني (شين بيت)، ماتي شتاينبرغ، قوله “شخص مثل السنوار يعرف كيف يفكّ رموز الإسرائيليين بشكل جيّد للغاية. لقد فهم قادة حماس بشكل أساسي ـ تمامًا ـ الانقسامات في الكيان، وبالتالي ضعفها. ولكنهم أيضًا يفهمون حقيقة أنّه لمحاربة جيش أقوى بكثير من حيث الوسائل والرجال، من الضروري اللجوء إلى أسلحة مختلفة، بما في ذلك الرهائن، وكل عملية إطلاق سراح للرهائن هي بمثابة تذكير بهذا النصر في نظر الرأي العام الفلسطيني”، وفقا لشتاينبرغ.
وقالت “لوموند”، إنّ السنوار، الذي اعتقلته سلطة الاحتلال سنة 1989 وحكمت عليه بأربعة أحكام بالسجن مدى الحياة بتهمة اختطاف وقتل جنديين صهيونيين، ومن يتهمهم بأنهم عملاء فلسطينيون للكيان، أطلق سراحه فيما باتت تعرف بصفقة «شاليط»، ورفض – ولدهشة الجميع – التوقيع على وثيقة يتعهّد فيها بعدم رفع السلاح في وجه الاحتلال، قائلا إنّه مستعد للبقاء في السجن إذا كان ذلك هو الثمن الذي عليه أن يدفعه.
وأبرزت “لوموند”، أن السنوار هو الهدف الأول للاحتلال في حملته العسكرية على غزة، وقد تعهّد وزير دفاعه أنّ الإسرائيليين لن يجعلوا حدا لعملياتهم ما لم يصفّوا السنوار بالذات وقادة آخرين، وهو ما علّقت عليه الصحيفة بقولها إنّ موته لن يحسم المصير السياسي لحماس.
كيف استغلّت “حماس” نقاط ضعف الكيان؟
من جانب آخر، قال الدكتور جال يافيتز، من قسم علوم المعلومات بجامعة بار إيلان الإسرائيلية، إنّ “حماس تفهم نقاط الضعف لدى الكيان، وتستخدمها بطريقة ساخرة ومتلاعبة”. وأوضحت صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية إنه منذ بدء العدوان على غزة باتت الحرب النفسية ساحة إضافية يتقاتل فيها الطرفان.
وأشارت إلى أنّ الهجوم الأول لحركة حماس، ومشاهد اقتحام المستوطنات، في يوم يفترض أنه عيد احتفالي، وطرق أبواب المستوطنين، واقتياد الجنود أسرى، صدمة دائمة، وقال يافيتز: “إنّ هذه الحرب لم يسبق لها مثيل من حيث حجم وطول الرسائل التي يتم إرسالها عبر الإنترنت”، وأضاف: “هذه هي الحرب الأوسع عبر الإنترنت في العالم على الإطلاق، إننا نشهد (كلا الجانبين) يستخدم الساحة الإلكترونية بطريقة دقيقة للغاية للتواصل مع بعضهما البعض وإلى بقية العالم”.
وأضاف يافيتز: “كان هناك استخدام متعمّد لأيّ منصة رقمية ممكنة، بما في ذلك كاميرات الجسم، من أجل إثارة الذعر ونشر الخوف”، ولفتت الصحيفة إلى أنّ الحرب النفسية ليست جديدة، واستخدمها (الطرفان) لسنوات، من أجل إضعاف المعنويات، لكن منذ فجر العصر الرقمي، أصبح الوصول بسهولة إلى جماهير أكبر.
ونقلت عن الباحث في الحرب النفسية، في جامعة أريئيل، رون شلايفر، قوله: “قبل الحرب وبعدها، الحرب النفسية للتأثير على الرأي، لكن خلال الحرب الهدف هو تغيير السلوك”، وأضاف شلايفر: “حماس التي لا تملك مدافع أو طائرات مقاتلة، هذه طريقتها لإقناع الجانب الآخر بعدم الضغط على الزناد، أو على الأقل استخدام قوة نيران أقل، وهم يعتقدون أنّ هذا سيؤدي إلى النتيجة ذاتها”.
ورأت الصحيفة، أنّ ما زاد من تعقيد الأزمة الصهيونية، وشكّل أرضا خصبة للحرب النفسية، وجود عدد كبير من الأسرى لدى الفلسطينيين في غزة، بعيدا عن متناول الاحتلال. وقبل الاجتياح البري لقطاع غزة، جلس أقارب الأسرى الخائفين في استوديوهات التلفزيون، معربين عن خوفهم من نجاح الاجتياح، وأنّ الهجوم سيضر بمحاولات إخراجهم.
وقالت الصحيفة، إنّ حركتي حماس والجهاد الإسلامي حاولتا الاستفادة من الجدل العام لدى الاحتلال، بين من يريد إطلاق سراح جميع الأسرى، قبل قصف غزة، وبين مؤيدي الهجوم الواسع.
ولفتت إلى أنّ المقاومة نشرت مقاطع لبعض الأسرى الذين ماتوا بسبب العدوان، فضلا عن مشاهد العمليات واحتدام القتال مع قوات الاحتلال. وقال شلايفر: “هدف حماس هو إقناع الآخرين بأنهم على حق. ومن أجل القيام بذلك، عليهم إحباط الجانب الآخر، إنهم يعرضون مقطع فيديو للهجمات، ما يسبّب للكيان إحباطا كبيرا وعجزا كبيرا”، وشدّد على أنه توازن دقيق للغاية، “إذ تحتاج حماس إلى توخي الحذر، حتى لا يزيد الحافز لدى الصهاينة، والموازنة بين إيذاء العدو، ولكن بالمقابل ألّا يؤدي ذلك إلى إصابته بالجنون”.
وقالت الصحيفة، إنّ وسائل الإعلام الإسرائيلية امتنعت عن بث مقاطع فيديو نشرتها حماس والجهاد، جرى فيها تصوير الأسرى بسيناريوهات مختلفة، وظهرت أسيرة وهي تقرأ بيانا اتهمت فيه رئيس سلطة الاحتلال بنيامين نتنياهو بعدم حماية مواطنيه، وأنهم يدفعون ثمن فشله وإهماله، وبالمحصلة خرجت في صفقة التبادل.
ولفت يافيتز: “من الواضح أنّ حماس هي التي تحدّد النغمة هنا منذ اليوم الأول، حيث تأخذ زمام المبادرة في الحرب النفسية، وسلطة الكيان متخلّفة”. وأشارت الصحيفة إلى أنّه مع وجود فارق القدرة العسكرية بين حماس والاحتلال، فليس أمامها خيار سوى “الاستثمار أكثر في الحرب النفسية”.
الإستراتيجية الفلسطينية..
الباحث “علي الطواب” يقرأ تفاصيل معركة “طوفان الأقصى”
أبرز الباحث المصري في الشؤون السياسية والإستراتيجية، علي الطواب، أنه ممّا لا شك فيه أنّ عملية “طوفان الأقصى” جاءت في توقيت مُهم وجدّ حساس من عمر القضية الفلسطينية، فنحن اليوم نقف أمام فصيل صهيوني متطرّف بكل ما تحمله الكلمة من معاني، لا يُلقي بالا لا للقوانين الدولية ولا للأعراف والقيم الإنسانية، فتجده يتمادى في قتل الأبرياء والعزل من الشعب الفلسطيني، واستهداف كل ما ينبض بالحياة، حتى وصل به الأمر إلى حجب أموال الضرائب عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته يحاصر ما يقرب من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، المنطقة الأكثر ازدحاما في العالم، في مساحة تقدّر بحوالي 360 كيلومتر مربع.
وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ الطواب، في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أنّ الاحتلال الصهيوني يُمارس كل أنواع الظلم بحق المدنيين العزل، في وقت تكتفي فيه الكثير من الأنظمة الدولية بأخذ موقف المتفرّج، ولا تجدها تُحرّك ساكنًا بالرغم من كل الممارسات والسياسات القمعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية أو في عدة مناطق أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن هنا جاءت معركة “طوفان الأقصى” لتُغيّر وبشكل جليّ ملامح المشهد في المنطقة العربية ككل وليس في الداخل الفلسطيني فقط.
في السياق ذاته، أشار محدثنا، إلى أنّ حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، لا تمتلك الترسانة العسكرية التي تُضاهي في قوتها ما يمتلكه جيش الاحتلال الصهيوني من عتاد وعُدّة، إلا أنها تتمتع بكثير من الخبرة، ونتحدث هنا عن خبرة في التعامل مع الإسرائيلي، خبرة في التعامل مع الصهيوني وخبرة في التعامل مع اليهودي، ومن هنا نجد أنّ المقاومة الفلسطينية هي التي تتحكّم في المشهد وبزمام الأمور على أرض الميدان، فهي التي تمتلك ورقة الرهائن والأسرى الإسرائيليين، وتمتلك كذلك معلومات سرية واستخباراتية ووثائق هامة تمكّنت من الوصول إليها عقب عملية “طوفان الأقصى” التي جرت تفاصيلها بتاريخ السابع من أكتوبر 2023، هذه العملية التي شكّلت نقطة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني السافر.
في سياق ذي صلة، أوضح الباحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية، أنّ الكيان الصهيوني لا يملك سوى قوة التدمير واستهداف الآمنين في بيوتهم، مُستخدما في ذلك سلاح المدفعية والطائرات المسيّرة، التي كانت ولا تزال تضرب وتقصف قطاع غزة بشكل هستيري ومتواصل، على غرار مدينة خان يونس جنوبي القطاع ودير البلح، وعدة مناطق أخرى في غزة، ففي واقع الأمر الاحتلال الإسرائيلي، وصل إلى مرحلة الجنون في التعامل مع المدنيين والأبرياء العزل، ووصل الأمر به إلى حدّ الإبادة الجماعية، فما يحدث في قطاع غزة من قتل وتنكيل هو جريمة حرب مكتملة الأركان بالمعنى المفهوم والمُتكامل.
وفي هذا الشأن، أكّد الأستاذ الطواب، أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خسر الشيء الكثير على مستوى المشهد السياسي، وهو يُحاول إطالة أمد مسيرته السياسية، والتهرب من المحاكمة المقدّمة ضده في “إسرائيل”، من خلال ارتكاب المزيد من المجازر المروعة التي يُندى لها جبين الإنسانية، فإن أفلت نتنياهو من الحرب فلن يفلت من القضاء، ومن هنا نجد أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت وآخرون، يُنافسونه على المشهد السياسي، والقربان الذي يُدفع في نهاية المطاف هو إراقة المزيد من الدماء الفلسطينية، لكن وبالرغم من كلّ ذلك لازالت حتى هذه اللحظة حماس هي من لها اليد الطولى على أرض المعركة في قطاع غزة.
أما عن رئيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في قطاع غزة، يحيى السنوار، فيبرز الباحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية، بأنّ السنوار صاحب الأرض والحق تمكّن من تحقيق مكاسب عديدة، بدايةً بما أحدثته عملية “طوفان الأقصى” من صدمة لدى الاحتلال الصهيوني وإهانة بالغة لجيشه الذي لطالما صدع رؤوسنا بعبارة الجيش الذي لا يقهر، كما أنّ حركة المقاومة الإسلامية، بدأت تتردّد بكثافة في أروقة سياسية وشبابية عديدة، وأصبح الجميع يُدركُ أنّ الجهاد فريضة على كل فلسطيني إزاءَ هذا المحتل الإسرائيلي السافر، بالإضافة إلى أنّ ما حدث أعاد القضية الفلسطينية من جديد لتكون حاضرة وبقوة في مختلف المحافل الدولية وفي الضمير العالمي على وجه الخصوص.
تحليل الأكاديمي صالح الشقباوي..
هذا نتنياهو وهذه سياسته العرجاء
أكّد الأكاديمي والمحلّل السياسي الفلسطيني، الدكتور صالح الشقباوي، أنّ الجميع يجب عليه أن يدرك أنّ هناك تغييرًا دراماتيكيًا يحدث في العالم من خلال قوى الهيمنة والسيطرة وقوى الصراع، أي أنّ هناك بروزًا لعالم جديد، ولقوى جديدة، هناك أيضًا تغيير في بنية النظام الدولي الجديد، وبالتالي سيكون هذا العالم أكثر عدلاً وأكثر إنصافًا، الأمر الذي سينعكس حقيقةً على الخارطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط وفي فلسطين المحتلة، خاصةً بعد عملية “طوفان الأقصى” التي أحدثت صدمة سيكولوجية كبيرة في بنية الوعي الشعبي لدى المواطن الإسرائيلي، الذي فقد أمنه وأمانه على هذه الأرض، وفقد إيمانه بأنّ الجيش الإسرائيلي جيشٌ لا يقهر وجيشٌ لا يُهزم، وتأكّد مرة أخرى أنّ الشيء المهم بالنسبة إلى رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو هو مصلحته الشخصية ولا شيء غير ذلك.
وأوضح الدكتور الشقباوي في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أنّ تمادي نتنياهو وإصراره على سياسته العرجاء، أفقد “إسرائيل” مكانتها في العقل اليهودي العالمي كونها حارسةً للقيم اليهودية وحارسةً للتراث اليهودي والبقاء اليهودي في العالم وفي فلسطين تحديدًا، فاليوم نحن نقف على وجود هجرة معاكسة لليهود، خاصة إذا ما علمنا أنّ كل يهودي إسرائيلي يحمل جنسية ثانية، الأمر الذي يعني أنه سيتوجه إلى البلد الذي يحمل جواز سفره بمجرد شعوره بعدم الأمان في أرضٍ يدّعي زورًا أنها أرضه.
إذًا، هذا الأمر يؤكّد أنّ فكرة الانتماء للمكان وفكرة أرض الميعاد وشعب الله المختار، هي مجرد أفكار زائفة على مرّ التاريخ، وها هم اليهود بأنفسهم يؤكّدون ذلك، بأنّه لا علاقة لهم بهذه الأرض وأنهم محتلون وغاصبون، والعلاقة التي تربطهم بهذه الأرض لا تعدو أن تكون علاقة براغماتية قائمة على مبدأ المصلحة والمنفعة، أي أنّها ستنتهي بمجرد انتهاء هذه المصلحة.
وتابع المتحدث: “بالنظر إلى المعطيات الموجودة على الأرض، يُمكن أن نؤكّد أنّه سيكون هناك نمط جديد في التعاطي مع ما يسمّى عبثا “دولة إسرائيل”، أي أنّ قاطنيها سيتركونها ويعودون إلى بلدانهم الأصلية التي جاؤوا منها إلى فلسطين، وهذا ما يُعزّز بشكل أو بآخر نظرية التفكّك والانحلال الديمغرافي الذي يربطهم بـ”إسرائيل” الآخذة في الانهيار والانزياح والهزيمة النكراء”.
في السياق ذاته، أبرز المحلّل السياسي الفلسطيني، أنّ عملية “طوفان الأقصى” التي يقف وراءها “يحيى السنوار” ومن معه، قد أعادت المجد والكرامة، ليس فقط للفلسطينيين ولكن أيضا لكل الأمة العربية والإسلامية بتسطيرها لأروع ملاحم التاريخ، فقد استطاعت هذه المعركة أن تعود بالقضية الفلسطينية من بعيد إلى هرم اهتمامات المجتمع الدولي الذي اعتقد أنها انتهت بهيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة، فغضَ البصر عن حقوق الفلسطينيين الوطنية الشرعية، ظانا أنّ مقولة “غولدا مايير” قد تحقّقت حينما قالت “إنّ الكبار يموتون والصغار ينسون”، لكن بعد أن وطئت أقدام رجال المقاومة أرض فلسطين المحتلة، متغلّبين بذلك على كل إمكانات الكيان التكنولوجية والعسكرية الاستخباراتية، تغيّرت طبيعة وجدلية الصراع، معلنة عن عدم جدوى استظلال المطبّعين بهذه القوة التي فشلت في صدّ هجمات “أسود القسام”، الذين أسروا ما يزيد عن 200 شخص من بينهم عسكريون برتب عالية، ما أصابهم بصدمة نفسية كبيرة تماما كما أصيبت بها أوروبا وأمريكا.
وفي سياق ذي صلة، أكّد الدكتور الشقباوي، أنّ عملية “طوفان الأقصى” دفعت بالقضية الفلسطينية دفعا قويًا إلى الأمام، بعدما أدّبت الكيان الصهيوني ومرّغت أنفه على رمال الأراضي الفلسطينية المحتلة وبأحذية رجاله البواسل، وكل هذه الأحداث ستدفع بقضيتنا لتأخذ الصدارة والاهتمام على المستوى الدولي، ونأمل في أن تعود كقضية مركزية للأمة العربية أيضا، فلابد على كل الفاعلين الدوليين أن يقتنعوا بأنّه لا حل ولا استقرار إلاّ بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ومن بينهم تلك الأنظمة العربية المطبّعة التي يستوجب عليها بعد كل هذه المجازر التي ارتكبها الكيان أن تراجع نفسها، وتقوم بتجميد كل خططها الهادفة إلى تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وإعادة التفكير في أولويات سياستها الخارجية في ظلّ تصاعد العدوان على قطاع غزة.
وفي ختام حديثه لـ “الأيام نيوز”، قال الأكاديمي والمحلّل السياسي الفلسطيني، الدكتور صالح الشقباوي: “إننا ماضون في تسطير تاريخ جديد بدمائنا وعزيمة مقاتلينا وفي مقدّمتهم القائد يحيى السنوار، سنواصل عبور خطوط الدفاعات الصهيونية، تماما كما حدث في حرب أكتوبر، لما عبر الجيش المصري خطّ قناة السويس والجيش السوري هضبة الجولان، مع فارق أنّ من عبروا آنذاك كانوا جيوشا نظامية، وأنّ من عبروا في طوفان الأقصى هم شجعان وفدائيو مقاومة مدعومة بقوة الإيمان الراسخ بأنّ ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، وقد يظنّ العدو المجرم أنّه بارتكابه جرائم حرب مروعة في حق مدنيين وعزَّل ونازحين وقصف المستشفيات، سيدفع شعبنا ومقاومتنا إلى الاستسلام، هذا الشعب لا يعرف الانكسار؛ فمزيد من القتل يعني مزيد من الصمود، ومزيد من الالتفاف حول المقاومة الفلسطينية الباسلة”.
“إسرائيل” في مهب طوفان الأقصى..
صراع الخير ضد الشّر!
بقلم: الدّكتور صالح نصيرات – كاتب وباحث أردني
ينظر كثيرون ممّن لا يفهمون طبيعة الصّراعات الإنسانية إلى الحرب التي تشنّها قوى الظّلام الصّهيونية على شعب محاصر وأعزل، على أنّها مجرّد هجمة جاءت بسبّب الظّلم الواقع على أهل غزّة خاصة وفلسطين عامّة، ولا يدركون أنّ العدو الصّهيوني يمثّل في حقيقته كيانا زرع لقلب المعادلة الحضارية، والحرص على إبقاء المنطقة تحت “البسطار” (الحذاء الثّقيل) الغربي فكريًا وثقافيًا وحضاريًا.
وفي ذات الوقت، يستخدم المجرم “نتن ياهو” الفكرة ذاتها لأنّه يدرك تمامًا أنّ التقدّم الحضاري لهذه الأمّة لن يتحقّق ما دامت منظومات متكاملة من الاستبداد والظّلم والخور والجبن، تتحكّم في حياة مئات الملايين من العرب والمسلمين. ولذلك يستخدم أفكاره التي يستلّها من خرافات العهد القديم والتّلمود ليقول للنّاس، إنّ هذه الخرافات هي التي قدّمت النّور للعالم. في حين أنّ الواقع يقول إنّ هذه الأمّة المجنونة بالقتل والإفساد لم تقدّم يومًا للإنسانية إلّا مفاهيم السّيطرة التي تمكّنت منها بسبب استغلالها لكلّ ما وقع تحت أيديها من مال وغنى اشترت له عقولًا وقلوبًا لا همّ لها سوى كنز الأموال من الحرام.
ومع الذلّ والمهانة التي يعيشها هذا المجرم، يحاول بإفلاس واضح أن يخاطب الغرب بلغة التّهديد والتّخويف من الإسلام، فحربه ليست على غزّة، بل على نهجها المقاوم المستند إلى رؤية حضارية ذات جذور إسلامية، والإعداد الذي تمّ لخوض “طوفان الأقصى” أبلغ دليل على ذلك.
إنّ السّنوار وصحبة الكرام يفهمون طبيعة المعركة فكانت نظرتهم إلى الواقع الذي أحاط بقضية فلسطين من إهمال وتراجع، بل تآمر عربي وغربي على قلّة مؤمنة في غزّة، ومحاولات حثيثة من قبل قوى فاسدة للقضاء على روح الأمّة وجهادها من أجل التقدّم والرّفعة. كما أنّهم فهموا دورهم كحركة مقاومة وطنية كيف يمكن أن يكونوا مصدر إلهام لكلّ شعوب المنطقة ليتحرّروا من الاستبداد والظّلام الذي خيّم على المنطقة، ليروا بأمّ أعينهم الظّلام والشّر الذي يمثّله الكيان المغتصب للأرض والذي يتمدّد ليغتصب العقول والقلوب أيضًا.
لقد كانت خطواتهم الكبيرة، التي يراها المنافقون والجبناء والمثبّطين مغامرة ليست مضمونة العواقب، ويثيرون الغبار لإحباط حالة التّعاطف الذي شمل شعوبًا كثيرة، في حين اعترف كثيرون من مفكّريها أنّهم كانوا مغيبين بفعل سطوة الإعلام الصّهيوني الذي صوّر لهم العرب والمسلمين على أنّهم مصدر الشّر على هذه الأرض. هذه الحالة الجديدة وغير المسبوقة، وضعت الإسلام في المكان اللّائق به، فأصبح النّاس أكثر قدرة على التحرّر من رؤية عنصرية إلى النّظر إلى الإسلام والمسلمين، هذا التحوّل أصاب الصّهاينة وحلفاءهم بالهوس، فأصبح العالم المتحرّر من هيمنتهم عدوًا للسّامية، ومن يقول الحق مجرمًا في نظرهم.
النفاق والتضليل في خدمة الصهيونية..
نتنياهو المثقل بخلفيات أيديولوجية وأعطاب سيكولوجية
بقلم: جورج كعدي – كاتب صحفي وأكاديمي لبناني
الشَبَقُ التّدميريّ الذي يختبره رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في غزّة، قتلا وتدميرا وحصارا، ليس متأتيّا من فراغ أو من لحظة غضب وانفعال وانتقام آنيّة، بل له مرتكزاته الأيديولوجيّة من ناحية، والسيكولوجيّة من ناحية ثانية. وأورد في هذا السّياق بعضًا منها، استنادًا إلى تصوّرات نتنياهو نفسه في كتابه “مكان بين الأمم – إسرائيل والعالم” (صدرت طبعته العربية الأولى عام 1995)، وإلى “دراسة نفسية لشخصية بنيامين نتنياهو” أنجزها وليد عبد الحي عام 2021.
تطالعنا، بدءا، في كتاب نتنياهو التزويريّ التلفيقيّ للتاريخ والجغرافيا، مفارقة عبثيّة تدلّ بوضوح على فطرة النّفاق والدجل لديه، إذ يروي وقائع زيارته مع وفد إسرائيلي معسكري أوشفيتز وبركناو في بولندا، حيث تعرّضت أعداد كبيرة من اليهود، بين مجموعات وأقوام أخرى، لأعمال إبادة رهيبة على أيدي النازيين. هنا يقول نتنياهو حرفيًا: “قبل وقوفي هناك، في بركناو، لم أكن أتخيّل كم كان صغيرًا وحقيرًا ذلك المكان. لقد كان بالإمكان وقف العمل في ذلك المسلخ من خلال طلعة جوية واحدة يقوم بها سرب من القاذفات، ولم يكن ذلك الأمر يتطلّب جهدًا خاصًا، إذ إنّ دول الحلفاء قصفت أهدافًا متنوّعة قريبة من هذا المعسكر. لم تكن هنالك حاجة سوى لإعطاء أمر بسيط واحد، لإحدى الطائرات لكي تنحرف قليلاً، وتوقف تلك المجزرة. لكنّ ذلك الأمر لم يُعطَ أبداً. يعتقد كثيرون من زوّار بركناو أنّ دول الحلفاء لم تكن تعلم بأنّ الألمان يبيدون، بصورة منهجية، كلّ يهود أوروبا. لكنّ تلك ليست هي الحقيقة”.
يستخدم في هذا المقطع، نتنياهو عبارتي “المجزرة” و”الإبادة المنهجية”. يقف متباكيًا على قومه من اليهود الذين تعرّضوا لـ”مجازر وإبادات منهجية”، ملقيًا الملامة على قوات الحلفاء التي لم توقف تلك المجازر. تُرى من القادر اليوم على توصيف ما يرتكبه نتنياهو في غزّة بغير المجزرة والإبادة الممنهجة؟ هل ثمّة توصيف آخر؟ هذا القاتل بالفطرة أليس كاذبا ودجّالا ومنافقا حين يبكي على ضحايا النازية ويرتكب اليوم بحقّ الشّعب الفلسطيني ما هو من أفعال النازيين؟ يعاتب أيضا دول الحلفاء التي لم توقف المجزرة النّازية، كأنّه يكترث اليوم لمن يطالبه بوقف مجزرته الإبادية، بل محرقته، في غزّة؟
إن كنّا نريد معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة، تجدر بنا العودة إلى منابع تأثّراته الأيديولوجيّة (الجابوتنسكيّة بامتياز) بل حتى العائليّة، فهو مولود (بئس الساعة) عام 1949 لأب بولنديّ الأصل يُدعى بن صهيون مايلكوويسكي وكان من كبار مساعدي الصهيونيّ المتطرّف زئييف جابوتنسكي، ومن داعمي فكرة تهجير الفلسطينيين إلى خارج أرض فلسطين كي تبقى “دولة يهودية نقيّة”، وقد بدّل الأب اسم العائلة إلى نتنياهو (كان والده، أي جدّ بنيامين، حاخاما يدعى ناتان). وكان والد نتنياهو محبطا بعد هجرة العائلة إلى الولايات المتحدة من عدم القدرة على الاندماج في المجتمع الأمريكي، حيث كان يعتبر نفسه مؤرّخا، ولم يتمكّن من العثور على مركز وعمل يرويان طموحه، رغم إلقائه بعض المحاضرات في جامعة كورنيل الأمريكية، حتى إنّ الجامعة العبرية في القدس رفضته، فعاد خائبا إلى الولايات المتحدة وظلّ طوال حياته يحمل ضغينة شديدة لحزب العمل الإسرائيلي وللنّخب الفكرية في الكيان الصهيوني، فزرع في أبنائه فكرة أن الكلّ “عدوّ له”.
وتركت هذه الفكرة، أثرًا عميقًا في بنيامين الذي أضحى يرى (حتّى السّاعة) أنّ المؤامرة في كلّ مكان، وأنّ العالم فائق القسوة ولا مكان فيه للإيثار أو عمل الخير أو الصداقة الحقيقية، وأنّ البشر يعيشون في صراع داروينيّ مستمرّ من أجل البقاء. كما تشرّب بنيامين من والده ذاك الشعور بأنّه دخيلٌ على المؤسسة السياسية، وبأنّه كان في بداياته معزولا رغم تميّزه (بحسب نظرته إلى نفسه)، لذا تملّكته عقدة أنّ جميع زملائه السياسيين منافسون له، ومن هنا انتقامه المستمرّ منهم. أي لا حليف ولا صديق. ولعلّ عمق إيمانه بالمنظور الداروينيّ الذي زرعه الأب (العلمانيّ الملحد) في أبنائه يفسّر رؤية بنيامين بأنّ غالبية العرب، بمن فيهم عرب 1948، يشكّلون تهديداً وجودياً لـ”إسرائيل”، واتسع مضمون فكرة “التهديد الوجودي” ليشمل أركان العالم كلّه، وهو يردّد نغمة “التهديد الوجودي” في كل ظرف وكلّ مناسبة.
ومن ضمن مجموعة هواجس وأفكار مركزيّة في خطاب نتنياهو السياسيّ: اعتبار الأمن الإسرائيلي مهدّداً من كل حدب وصوب. “الإرهاب” الفلسطيني. معاداة السامية. الخطر الإيراني وحزب الله. معاداة الأمم المتحدة “إسرائيل”. التّذكير المستمرّ بالهولوكوست. فشل أوروبا في فهم “التهديد” الذي تتعرّض له “إسرائيل”. وترى الدراسات النفسية الخاصة أنّ هذه الأفكار المتكرّرة في خطاب نتنياهو هي نتيجة الفكرة التي غرسها الأب في ذهنه، أنّ “العالم كلّه يكرهنا”. ولذا أي نقد لـ”إسرائيل” هو جزء من “العالم يكرهنا”. وحتى أمّ بنيامين، سيليا، التي كانت متزوّجة من نوح بن توفيم قبل زواجها من والد نتنياهو، كان تأثيرها في تدريب أبنائها على “الانضباط وممارسة القوة”، كما زرعت فيهم إحساس التفوّق والنجاح.
وفي خلاصة الأمر، زرع والدا بنيامين في ابنهما مسألتي كراهية الآخر غير اليهودي، ومن ثم الصراع بمفهومه الداروينيّ، وهو الظاهرة الطبيعية في هذا الكون، أي البقاء للأصلح. لذا رسّخت فكرة ممارسة القوة في ذهنه بوصفها أمرا طبيعيّا، بغض النظر عن مدى شرعيتها، فالتاريخ تصنعه “الأحذية الثقيلة” بحسب قول جابوتنسكي الذي ربطته بوالد بنيامين علاقة وطيدة.
في جوانب العقيدة الصهيونيّة الأشدّ تطرّفاً لدى نتنياهو، يمكن أن نخلص إلى النقاط الآتية في كتابه:
العداء للعرب، استنادًا إلى أقوال الحاخام الإسباني يهودا هليفي الذي يورد نتنياهو نظرته إنّ “عودة اليهود إلى أرضهم هي الأمل الوحيد لوضع حد لمعاناتهم على أيدي العرب الذين لم يشهد اليهود أمة أكثر عداءً منهم، ولا أمّة أساءت إليهم وفرّقتهم وقلّلت عددهم وحقّرتهم أكثر منهم”. ويمضي هذا الحاخام أبعد، بحسب نتنياهو إلى اعتبار أنّ “الإقامة في أرض “إسرائيل” واجب ديني، مكلّف به كلّ إنسان يهودي (…)”. إنّه “واجب دينيّ” ما يؤمن به بعصبيّة مريضة العلمانيّ الملحد بنيامين نتنياهو، الذي يستشهد أيضاً بفريدريك الأكبر الذي طلب من طبيبه أن يأتيه ببرهانٍ على وجود الله، اكتفى هذا الطبيب بالقول: “وجود اليهود هو الدليل على وجود الله”.
الإسقاط الحاسم لفكرة السلام، إذ يقول نتنياهو بوضوح: “يؤمن إسرائيليون كثر بإمكان إنهاء النزاع العربي – “الإسرائيلي” بالكلام الفارغ، كأننا لا نعيش في ذروة عاصفة صحراوية تغمرنا بخليط من التعصّب والعداء، وكأنّنا نعيش في الغرب المتوسط الأمريكي، وليس في الشرق الأوسط (…)”. إنّ الصراع المستمرّ يتطلب جهداً قومياً طويل المدى، وربما ندخل، بين حين وآخر، في مجابهات دولية شديدة. حتى لو توصلنا إلى إنهاء الحرب مع العرب، وأحللنا السلام الرسميّ معهم، وحتى لو نتج عن ذلك انخفاض حقيقي في مستوى النزاع العربي – الإسرائيلي فلن تتلاشى نهائياً أخطار الحرب والمجابهات في المستقبل، تماماً مثلما لم تنتهِ كليا النزاعات بين الشرق والغرب”.
يرى نتنياهو، إذن، أنّ السعي إلى السلام هو نقيض اقتناعه بصراع البقاء الذي ينبغي أن يستمرّ إلى الأبد، لتبقى “الأمة” الإسرائيلية التي، يضيف: “تجد صعوبة في التكيّف مع ظروف واقع السياسة الدولية، فميول السياسة “الإسرائيلية” للهرب إلى الخيال تنبُع من عدم قدرة اليهود على التسليم بوجودهم الدائم مع الصراعات، ومع ضرورة الاحتفاظ دائما بقوة يهودية لمواجهة هذه الصراعات”. هو يلوم اليهود على قلّة صبرهم وعدم تسليمهم بديمومة الصراع، إلى الأبد!
مواجهة العالم وقواه العظمى، فبصريح العبارة يعلن نتنياهو في كتابه “أنّ فكرة واجب دولة ما بأن تبدي مقاومة شديدة لرغبة الدول العظمى أحياناً لا تخطر ببال هؤلاء الإسرائيليين الذين يميلون إلى الانحناء أمام أي ضغط دوليّ، سياسيّ أو اقتصاديّ، وهم يتساءلون: من نحن لنقاوم العالم كلّه؟ إذا كانت الدول العظمى تريد ذلك ما علينا سوى الرضوخ (…) إنّ عادة الانحناء والاستسلام التي اكتسبها الشعب اليهودي طوال سنوات التشرّد لا تزال سائدة إلى حدّ بعيد على الصعيد السياسيّ. وكما تنبّأ هرتزل في حينه، إذ قال إنّ من أصعب التغييرات التي يمكن أن يجتازها الشعب اليهوديّ هي الإقلاع عن هذه العادات (…)”.
دعوته واضحة وصريحة إلى مقاومة الضغوط الدولية على “إسرائيل”، وهذا تماما ما يطبّقه نتنياهو في مواجهة العالم والرأي العام فيه، مستنجدا، مرّة أخرى، بجابوتنسكي، معتبرا أنّه “الوحيد من تلاميذ هرتزل الذي أدرك أهمية المقاومة السياسية، وقال إنّه من الممكن، ويجب، مقاومة الضغوط التي تتعرّض لها الصهيونيّة عبر ضغط مضادّ يكون موجّها ضدّ الحكومات الأجنبيّة، وجماهير المواطنين فيها، وللقيام بذلك ينبغي أن يُظهر اليهود روحا قتالية في المعركة السياسية لا تقلّ عن تلك المطلوبة في المعركة العسكرية”.
نتنياهو، وقبله والده، تلميذان نجيبان لأحد عتاة الصهيونية، جابوتنسكي، صاحب نظرية “الجدار الحديديّ” المعروفة. أمّا أعطاب نتنياهو النفسيّة فتختصرها دراسة وليد عبد الحيّ بالآتي:
أولاً، النرجسيّة (الأصحّ القول النرسيسيّة نسبة إلى نرسيس في الأسطورة اليونانية والذي أغرم بصورته المنعكسة على سطح الماء حتى وقع فيه وغرق)، فنجاح نتنياهو الشّخصي يتقدّم على كلّ الاعتبارات الأيديولوجية التي يروّجها، إذ لديه أوهام القدرة على الإدراك أكثر من الآخرين الذين لا يمتدح أي فكرةٍ يطرحونها.
ثانياً، العدوانية والمراوغة، فهو مقتنع بأنّ ميدان العلاقات الدولية محكوم بقانون الغاب، لذا يرى أنه يحقّ له استخدام أي أسلوب لبلوغ أهدافه، ولا يتورّع عن سحق خصومه حتى من رفاق حزبه الذين يشنّ عليهم هجوما استباقيًا لمنع وصولهم، متخلّيا عن حلفائه إذا استشعر أنهم سيؤثرون على مكانته.
ثالثاً، إدمان الكذب، فالخداع بالنسبة إليه أمر مقبول في السياسة، ولا يخالجه أي تأنيب ضمير (طالما أنّه لا يملك مثله)، وحتى عندما يقول الحقيقة يبدو غير مقنع. كما أن ميله إلى الكذب، سواء في نطاق علاقاته الزوجية (تزوّج ثلاث مرّات) والنسائية (من يصدّق أنّ هذا القاتل الجزّار الشرس يتوسّل إلى إحدى زوجاته أن تسامحه على خيانته لها مع امرأة أخرى؟!)، أو في تعامله مع الرؤساء، أمران مؤشّران على أنّ الوفاء ليس في قاموسه، وأنّ الكذب مشروع في السياسة والعلاقات.
رابعاً، عقدة الشّك، إذ يغلب لديه الشعور بعداء الآخرين له وبأنّه “ضحية”، ويرى في أصدقائه “خونة محتملين”، ويصفه أحد مستشاريه السابقين بأنّه “ليس شخصا عقلانيا جدا، بل هو ضعيف جدا، غير واثق، منغلق جدا، يملك عددا قليلا جدا من الأصدقاء المقرّبين ومن الصعب أن يثق بأحد حتى بزوجته”. ويضيف مستشار آخر: “لديه نوع من عقدة النقص منذ المرحلة الباكرة، وهو يحاول دوما إثبات نفسه بسبب شعور بنقص الأمان في شخصيته، فخلال فترة عملي معه كاد يرتكب أخطاء سخيفة في أحيان كثيرة، وعندما لم نكن نوقفه كان يرتكبها بالفعل”.
مثل سائر الطغاة والمجرمين الذين يعجّ بهم تاريخ البشرية، يعثر “ملك إسرائيل المُلهم” نتنياهو على مبرّرات ودوافع جرائمه فائقة الوحشيّة، تارة باسم اليهودية التي يستفيض في الكلام عنها في كتابه التلفيقيّ المنافق، وتارة أخرى باسم الفكرة الصهيونية ومشروعها الإحلاليّ والعنصريّ القائم منذ البدء على التسلّل الخبيث إلى أرض فلسطين، ومن ثم مصادرة الأرض وارتكاب المجازر.. إنّما في كلتا الحالتين، لا شك في أنّ القاتل يروي ظمأ إلى الدم والقتل، يحمله في تركيبه النفسيّ وأعطابه النرسيسيّة والعصابيّة، بحيث يمكن إدراجه بسهولة في قائمة أوحش طغاة التاريخ وأكثرهم جنونا.