“محمود الجبري” شاعرٌ فلسطينيٌّ شاب يقيم في “خانيونس” جنوب قطاع غزة، أصدر عام 2024 مجموعته الشعرية “خنجر في النشيد” عن “مكتبة كل شيء” بمدينة حيفا الفلسطينية.
كان لا بد لنا من الوقوف عند عنوان مجموعة “خنجر في النشيد” للشاعر الشاب “محمود الجبري”، قبل الحديث عن قصائد المجموعة، ونحن في ذلك كالذي أضطر للوقوف لوقت ما عند العتبة قبل الولوج إلى البيت ترويًّا لا يخلو من حذر واستعدادا لا يخلو من دهشة لما هو غير مُتوَقّع.
وما دعانا إلى ذلك الوقوف الذي بدا (ضروريا) أيضا، هو الدلالات التي رأينا أن العنوان ينطوي عليها والتي تفضي إلى سياقات نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية، كلها تصب في سياق أوسع وأشمل هو سياق “الاغتراب الوجودي”.
كأن الشاعر حين وسم مجموعته بذلك العنوان قد سلمنا بيده مفاتيح تأويل قصائده بعنواناتها التي ترتبط بشكل أو بآخر بالعنوان الرئيس.
إن النشيد يفضي إلى دلالات الفرح والابتهاج كما أنه ذو علاقة بكل ما يوحي بالزهو والتمجيد، والخنجر يحيل إلى دلالات القتل والسلب والخوف، كما أنه يخرج إلى دلالة خفية هي الغدر.
كما أنه يصدمنا بمفارقته المتضادة والمتجاورة في حيز لفظي واحد:
الخنجر/ القتل، الغدر (الموت)
النشيد / الزهو، الفرح (الحياة)
وجليٌّ هنا النفس الذاتي لدى الشاعر، والذي يعبّر به، أحيانا، عن المجموع الذي يشاركه الآمال والآلام والأحلام والإخفاقات والصدمات والانتكاسات ذاتها. لقد انغرز الخنجر في قلب النشيد، وما ذاك النشيد إلا حلم الشاعر الشخصي أو الجمعي الذي كان ينتظر تحقّقه.. وقد قال لنا أكثر من نص: إن الخنجر الذي طعن النشيد/ الحلم، كان يتنقل من يد صديقة إلى يد عدوّة بالتناوب والتواطؤ.
ولسنا هنا بصدد اتباع المنهج الإحصائي لإحصاء تلك الألفاظ والصور التي تؤكد كلها ولادة جلّ نصوص المجموعة في جو وجودي اغترابي يقاسي منه الشاعر والذي هو صورة عن مجتمع هش وعن وطن غير مكتمل، فضلا عن تلك المسحة الكافكاوية التي بدت على سطح كثير من النصوص، وذلك العبث السيزيفي الذي تغلغل في عمق بعض النصوص.
ترى ما الذي يجعل شاعرًا، يبدو بهذه القسوة الذاتية وبهذه السوداوية التي تصبغ جل نصوص المجموعة، وبهذا الجزم التام بأن لا مكان في مقام الشاعر وكذلك في فضاءات هذا العالم الكبير/ الصغير الذي يجمعنا سوى لليأس والفقدان والعبث؟ أهو صدى رامبوي أم هوى كافكاوي؟
فلنترك هذا التساؤل للمتلقّي ولأفق انتظاره من النصوص. ولكنا نعتقد أن طول واتساع وعمق تجربة الكاتب الحياتية، تنعكس على كتابته بصورة أو بأخرى.. ويمكن أن نتخذ منها كاشفا، يساعدنا على تبين النص الصافي عن ذلك الذي وقع تحت شوائب التأثير.
لقد عدّ “الجاحظ” الشعر ضربا من التصوير، وجعله “قدامة بن جعفر” صورة للمعاني التي هي بمثابة المادة الخام للشعر وهو بهذا يقدم اللفظ والشكل على المضمون والفكرة، وهو يتساوق في ذلك مع مقولة “الجاحظ” الشهيرة: “المعاني ملقاة على قوارع الطريق”. وقد تعددت واختلفت وتشاكلت وتقاطعت تعريفات مصطلح الصورة الشعرية أو الصورة الفنية أو المجاز أو الاستعارة عند النقاد العرب القدامى والمحدثين وكذلك عند النقاد وفلاسفة اللغة الغربيين بمناهجهم الكثيرة المثيرة.
ولكنا لم نطمئن إلا لما ذهب إليه “عبد القاهر الجرجاني” فيما يخص الصورة الشعرية الذي لم ينظر إلى الشعر على أنّه معنى، أو مبنى، يسبق أحدهما الآخر، بل نظر إليه على أنّه معنى ومبنى ينتظمان في الصورة، لا سبق، ولا فضل، ولا مزّية لأحدهما على الآخر.
و”الجرجاني” بهذا يقترب من الفهم الحديث والمعاصر لمصطلح الصورة، أو قل: قد سبق هذا الفهم الحديث والمعاصر.
سقنا ما سبق من آراء بشأن الصورة الشعرية، والتي نعدّها أيضا حاملة للفكر والرؤى؛ حين وجدنا الشاعر يجترح صورا شعرية جديدة صادمة مدهشة وهو ما يجعلنا نعلي من فهم وتوظيف الصورة لدى الشاعر الذي لا يعدّها وصفا تقريريا ولا نقلا للواقع كما هو. وهي عنده وعاء لرؤياه الخاصة ولما وصل إليه من نضج فكري. ونحن نرى أن شاعرنا قد كتب شعرا مبناه ومعناه قد انتظما في الصورة كما قال صاحب “دلائل الإعجاز”.
لطالما كنا نميل إلى النص الشعري القصير المحقون بجرعات عالية من التكثيف والتركيز والإيجاز غير المُخلّ بالمبنى أو المعنى. ولطالما أعجبنا حد السحر بذلك الشاعر الذي يختصر كرم العنب في زجاجة نبيذ واحدة.
وهذا الإعجاب وذلك الميل لا نُلزم بهما أحدا، ولا نتعسّف في فرضهما على ذائقة متلقٍّ مُفترض. فالشعر إلماح وإشارة وومض. ونحن أمام تجربة شعرية لا ننكر عليها بعضا من هذه الخصِّيصات التي تجلّت في بعض النصوص. ولكن السمة التي غلبت هي طول النصوص الذي أخذ الشاعر إلى استقصاء الفكرة بغية توضيحها وهو ما لا يتلاءم مع تقنيات التكثيف والتركيز والإيجاز التي ذكرناها، وهذا الطول أيضا حرم الشاعر من الإقامة المريحة في منطقة التأمّل، كذلك جعله وكأنه يستجدي المتلقي؛ كي يفهم ما يقوله عبر النص.
نحن أمام تجربة شعرية، فيها من النضج الفني والرؤيوي، ما لم نجده في تجارب شعراء شباب آخران، ولكنا نتطلع إلى أن يخرج الشاعر من حيّزه الذاتي، ويدخل بثقة أكبر إلى الفضاء الإنساني الأرحب في تجاربه الشعرية القادمة.