ديوان “قالت الوردة” للشاعر الجزائري “عثمان لوصيف” هو فتحٌ شعريٌ لم ينل حظّه من الدراسات التي تبحث في أبعاده الفكرية والفلسفية، بعيدا عن سياق الشعر ذاته، وتستبطن الرسالة الكونية التي أراد الشاعر إيصالها إلى الإنسان.
“قالت الوردة” نصٌ شعري واحدٌ، حاول فيه “عثمان لوصيف” استدراج القارىء من مرحلة خلق الكون إلى المرحلة التي “نَصَّب” فيها الإنسان نفسه “آلهةً” في كوكب الأرض، وانحاز عن جوهره الروحي، إلى السلطة المادية التي تستجيب لنوازع جسده.
الشاعرُ الرَّائيُّ
عملية الاستدراج اعتمدت على الشعر باعتباره شكلا تعبيريا في وسعه أن يتغلغل إلى الروح من بوابة “المعرفة الذوقية”. وأيضا، لأنه يُفتَرض بالشعر أن يكون أكثر مقروئية وانتشارا، لما يمتلكه من مميزات وخصائص فنية وجمالية ولغوية. إضافة إلى أن “عثمان لوصيف” هو شاعرٌ يصوغ رُؤاه الفكرية والفلسفية في سياق الشعر، وليست “قضيَته” أن تُسجن رسالته الكونية في إطار الدراسات الأدبية، بما جرّدها من أهدافها الحقيقية، وجعلها نصّا شعريا يُعَامل مثلما يُعَامل أيّ نصّ آخر.
اللحظة الكونية الأولى
صيحةُ الأمر دَوّت
وَكُن! فاستجاب السُّكون العميق
وحنَّت نواقيسُه فاختلج
ولهًا…
واشرأبّ الظلام امتزج
بالرؤى والمرايا التي لألأت
أنجُما وهَزَج
انطلق الشاعر من لحظة “الإرادة الإلهية” في الخلق، ويُمكن توصيفها بأنها “اللحظة الكونية” الأولى المنبثقة عن الأمر الإلهي “كن”. وهذا الانطلاق حدّد أصل الخلق، ولم يترك مجالا للتأويل تبعا للنظريات التي حاولت تفسير بدايات الكون. وأيضا، أكّد الشاعر، منذ افتتاح نصّه الشعري، أن الخلق، بمعنى الإخراج من العدم إلى الوجود، هو شأنٌ إلهي مُطلق مُرتبطٌ بفعل الأمر “كن”، وقد وصّفناها بأنها “اللحظة الكونية” الأولى تجاوُزًا، لأن الزمن ذاته ابتدأ مع ابتداء العمليات الفيزيائية والكيمائية في الكون.
سياحة كونية
هي ذي سُدُم أنا صادمها
هي ذي جُزُر أنا راسمها
أتخطىّ النجوم إلى المنتهى
بعد اللحظة الكونية الأولى، يأخذ الشاعر بيد قارئه في “سياحة كونية” ابتدأت مع “الانفجار العظيم” وفق ما تقول به النظريات العلمية في مجال بدايات تشكُّل الكون. فيفترضُ الشاعر بأن الروح كانت شاهدة – من موقع ما – على مختلف العلميات التي تلت الانفجار العظيم من عمليات تصادم بين العناصر في الفضاء، بالإضافة إلى العمليات الفيزيائية والكيمائية التي أسهمت في تشكيل المجرات والشموس والكواكب. كما يفترض الشاعرُ بأن العناصر الفيزيائية التي تشكّلت منها الأجرام السماوية هي التي يتشكّل منها جسد الإنسان.
الروح تُؤرّخ للجسد
في كل التحوّلات الكونية، كانت الروح تؤرّخُ للجسد البشري، باعتبار أن وجودها سابقٌ لخلق ذاك الجسد. وعملية التأريخ “الروحي” هي صميم المعنى الذي صاغه الشاعر “عثمان لوصيف” لديوانه “قالت الوردة”. فالوردة هي الروح، و”أقوالها” هي مشاهداتها لخلق الجسد أو الوجود المادي.
سندباد الأعالي أنا
ها المجرات تسبح بي
وتقلّدني هالة من جلال البهاء
كأنما الشاعر أراد التأكيد بأن وجود الروح قبل الجسد يجعل من الإنسان كائنا سماويا كان منطلقا في سياحته الكونية، ثم جاء الجسد ليأسر الروح، فتشكّلت المعادلة بين الروح والجسد فيما يُسمّى الإنسان.
هذه المعادلة التي تحققت في كوكب الأرض هي المُحدّد لرسالة الإنسان ودوره في الحياة عموما. ويُرجع الشاعر “الاختلال” في الكوكب إلى اختلال في المعادلة وطغيان الجسد (المادة) على الروح، لذلك انتشر الظلم بكل أشكاله، ظلم الإنسان للإنسان، وظلمه للطبيعة بكل مخلوقاتها وموجوداتها.
بيان شعري
انطلاقا من اختلال هذه المعادلة، صاغ الشاعر “عثمان لوصيف” ما يُمكن توصيفه بأنه “بيان شعري” للإنسانية، يُخاطب الإنسان ويذكّره بحقيقته الروحية، ورسالته في كوكب الأرض. وقد أورد الشاعر في نهاية نصّه الشعري مقطعا، نعتقد بأنه تتويجٌ لما قالته الوردة في “تأريخها” أو سياحتها الكونية، وهذا ما جاء فيه:
أيها الآدمي الذي يتجبّر
قد سطعت على الملكوت
إلها صغيرا
وأورثك الحق هذه البسيطة
أنت الخليفة فيها فلا تنكر
الأمانات بين يديك
رويدك لا تتماد فتخسر
أنت من جوهر
في السماوات كان تألق
ثم استويت هنا بشرا
من تراب تكوّر
هي ذي الأرض تدعوك
أن تتلطّف
تزرعها جلجلانا وجوهر
ونوافذ تهفو على الكائنات
فتسكر
آه.. هل كنت جئت هنا تسيطر
فتذلّ الضعيف
تريق الدماء
وتفسد ما أبدع الله
يا أيها الآدمي
استعذ بالهوى وتطهّر
واعتنق زهرة البرق
والأرج المُتسَعّر
أيها الآدمي تحرّر
من عبودية النفس والشهوات
وكن نغما يتغنّج
أو أنجُمًا في الدياميس تزهر
وسحابا يفيض
إذا الحقل أقفر
وغدَا الصبح أكدر
أيها الآدمي تذكّر
نفخةَ الحق فيك
وكيف اصطفاك لتحتضن الأرض
تفرشها أغنيات
وعشقا
وعنبر
أيها الآدمي تعطّر
بالهوى
ثم صلّ مع العاشقين وكبّر
فإذا غلبتك الغرائز
فالله أكبر
نعتقد بأن هذا المقطع الشعر من ديوان “قالت الوردة” هو البيان الذي صاغه “عثمان لوصيف” شعريا ليُذكّر الإنسان بجوهره وحقيقة رسالته في الأرض، وأيضا “الهدف” من خلقه.
كما نعتقد بأنه لو لم يكن “عثمان لوصيف” شاعرا لصاغ البيان في سياق كتاب فكري أو فلسفي.. ونترك للقارئ حرية الإنصات إلى ما “قالت الوردة” لعله يلامسُ معاني أخرى مُتخفيّةً في كلمات البيان.