بحلول فجر الـ7 أكتوبر، اهتزّت مفاصل الكيان الصّهيوني، على وقع “طوفان الأقصى” ـ أوسع عمليّة عسكريّة تضرب الاحتلال الصّهيوني في العمق منذ زرعه في جسم الأمة العربية، عمليّة نفّذتها المقاومة الفلسطينية حين اخترق مقاتلوها مستوطنات غلاف غزّة، وهاجموا مواقع الاحتلال هناك، مستهدفين ـ في وقت وجيز وعبر خطة بالغة الدّقة ـ معاقله الأكثر تحصّنا، وقد حدث كلّ ذلك بطريقة حبست أنفاس العالم الغربيّ وسط فرحة عارمة غمرت قلوب مؤيّدي القضية الفلسطينية. ورغم همجية ردّ العدو ووحشيته خاصة ضد المدنيين من الأطفال والنّساء ونزلاء المستشفيات ـ فقد مثّلت عمليّة “طوفان الأقصى” محطة تاريخيّة فارقة، ليس في طريق تحرير فلسطين المحتلة فحسب، بل في طريق تحرير العالم من خطر قاتل ـ متعدّد الأشكال والمظاهر والمستويات ـ يُسمّى “الصّهيونية”؛ تلك الآلة التدميرية التي ـ كانت ولا تزال ـ تمارس فظاعاتها ضد الفلسطينيين منذ احتلّت أرضهم؛ لكنها ـ وبكل ما أوتيت من بطش وعدوانية وجبروت ـ لم تستطع يوما أن تحتل عقولهم وضمائرهم.
=== أعدّ الملف: منير بن دادي وسميرة بلعكري وسهام سوماتي ===
وبالمقابل، فإن هذه الآلة الصّهيونية تمكنت بطرق خبيثة من احتلال الهياكل السّياديّة في العديد من دول العالم الغربي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكيّة، فضلا عن احتلال العقول والضمائر؛ إذ باتت واشنطن تتجاهل ارتفاع مستويات الفقر وتزايد الحاجات الاقتصادية لديها، وتركز جلّ اهتمامها على تخصيص ميزانيات طائلة مقتطعة من قوت الأمريكيين لحماية الكيان الصّهيوني، فبعد دعمها أوكرانيا ماليّا وعسكريّا ها هي إدارة جو بايدن تحشد إمكانات ماليّة ولوجيستيكيّة غير محدودة لدعم الكيان الصّهيوني في عدوانه المتواصل ضد الفلسطينيين حتى الآن.
لقد ارتفعت الأيادي الملطخة باللّون الأحمر عاليا، في رمزيّة إلى الدّم المراق بسبب العدوان الصّهيوني على قطاع غزّة خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ خصّصت لمناقشة طلب مساعدة بـ 106 مليارات دولار لأوكرانيا والكيان الصّهيوني، بحضور وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، يوم الثلاثاء 31 أكتوبر 2023.
فمع بدء جلسة الكونغرس، رفع صفّ من المحتجّين أيديهم في وجه المجتمعين، وتعالت هتافاتهم: أن “أوقفوا إطلاق النار الآن!”، و”احموا أطفال غزّة!”، و”أوقفوا تمويل الإبادة الجماعية”، لكن بلينكن، التزم الصمت ولم يرد على المحتجين الذين هبّت نحوهم شرطة الكونغرس وأخرجتهم من القاعة. لكن، بلينكن عندما سُئل لاحقًا عن إمكانية وقف إطلاق النار في غزّة، قال (مستخدما لغة التنكر في خطابه) إن “ذلك لن يؤدي إلا إلى مساعدة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على إعادة حشد صفوفها”، على حد تعبيره، وأضاف أنه “يمكن مع ذلك النّظر في إقرار هدنة إنسانية”.
غير أن دعم الرّئيس الديمقراطي جو بايدن للكيان الصّهيوني، يثير استياء لدى شريحة من الأمريكيين وهم يرون بلادهم تنفق 3.8 مليارات دولار من المساعدات العسكريّة سنويًا، على كيان غاشم كان دائما عِبئا يقتات من ضرائبهم، خاصة أنه اليوم ـ وبشكل مفضوح ـ يستفيد من هذه المساعدات لممارسة تعطشه إلى تقتيل المدنيين علنا في غزّة.
يهود نيويورك يتبرّؤون من الكيان ويدعون إلى العصيان
هذه الحالة من السادية الخارجة عن المعقول، شجعت يهودا على أن ينتصروا للإنسانية ـ على حساب نزعتهم القومية الدينية ـ حين نظمت جماعة تحمل اسم “الصوت اليهودي من أجل السلام”، يوم الجمعة 27 أكتوبر 2023، احتجاجا داخل محطة القطارات المركزية الكبرى (غراند سنترال ستيشن) بنيويورك، للمطالبة بوقف العدوان في غزّة، رافعين لافتات كتب عليها: “نرفض السماح بتنفيذ الإبادة الجماعية باسمنا، وارتدى المتظاهرون، الذين تجمعوا بالمئات، قمصانا مكتوبا عليها “يهود يقولون أوقفوا إطلاق النار الآن”.
ومع تزايد أعداد الصارخين بقوة في وجه العدوان، عجّلت إدارة محطة القطارات المركزية بالمدينة بحثّ الرّكاب على استخدام محطات بديلة، فيما قامت عناصر الشرطة بتطويق واعتقال عدد كبير من المتظاهرين، وأظهرت الصّور المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تدفق المتظاهرين من محطة القطار إلى الشارع 42 في وسط مانهاتن، واحتجاز السّلطات عددا كبيرا من الأشخاص.
ونشرت مجموعة “الصّوت اليهودي من أجل السّلام”، التي نظمت الاحتجاج، مقطعا مصورا على إنستغرام يظهر الشرطة في المحطة ترافق صفا طويلًا من المتظاهرين، وكتبت المجموعة في المنشور “يتم اعتقال المئات من اليهود والمؤيدين فيما يُرجّح أنه أكبر عصيان مدني جماعي تشهده مدينة نيويورك خلال عقدين من الزمن”.
واشنطن شريكة الكيان الصّهيوني في ارتكابه أكبر عمليّة تطهير عرقي يشهدها العالم
في 18 أكتوبر، اقتحم عشرات المتظاهرين اليهود مقر الكونغرس في مبنى الكابيتول، دعما للفلسطينيين، حيث رفع المحتجون وهم من حركة “اليهود من أجل السلام”، شعارات رافضة للعدوان على قطاع غزّة، منددين بسياسات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الداعمة لجرائم الاحتلال الصّهيوني، ومطالبين بوقف فوري لإطلاق النار ومنع سقوط مزيد من الضحايا، وكالعادة عمدت الشرطة إلى اعتقال عدد من المتظاهرين الذي اقتحموا المبنى.
وجاءت هذه التحركات تزامنا مع زيارة بايدن – وقتذاك ـ إلى (تل أبيب) لتأكيد دعم بلاده لـ”الكيان الصّهيوني”، وكان ذلك بعد أقل من 24 ساعة على مجزرة ارتكبها الاحتلال بحق المدنيين في مستشفى المعمداني بغزّة، أسفرت عن استشهاد نحو 500 فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء. وخلال زيارته، كشف بايدن عن أنه سيطلب من الكونغرس الأمريكي تقديم دعم “غير مسبوق لـ(إسرائيل)”، مضيفا: “أتيت… حاملا رسالة واحدة هي أنكم لستم وحدكم”.
هذا الخطاب الذي يتبجّح به بايدن يظهره في ثوب المتملق، بالمقارنة مع ما تدعو إليه شريحة واسعة مع اليهود الأمريكيين ـ الذين يفترض أن يكونوا أكثر انسياقا للسياسات الصّهيونية ـ ذلك أنه يتصرف بنوع من المزايدة الفجة، استرضاء لقادة الكيان وكأنه وجوده على رأس الدولة في بلاده لم يتحقق بأصوات الأمريكيين، بل تحقق ـ بالدرجة الأولى ـ عبر تزكية مشروطة من لوبيات صهيونية موالية للكيان، تتحكم في مصير أي أمريكي مهما كان شأنه، حتى ولو كان الرئيس بايدن نفسه، وهكذا فإن المقاومة الفلسطينية تقاتل في سبيل تحرير فلسطين وأيضا تحرير واشنطن من الهيمنة الصّهيونية المسكوت عنها.
إن بايدن الذي ورّط بلاه وكل الغرب في حرب ميؤوس منها ضد روسيا، لا يزال يواصل توريط بلاده في عدوان صهيوني همجي ما جعل العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية الأمريكية تتهم واشنطن بالمشاركة الفعلية ـ من خلال التواطؤ في تأجيج جرائم العدوان الإسرائيلية ضد قطاع غزّة ـ في أكبر عمليّة تطهير عرقي ضمن برنامج معدّ سلفا يقضي بتهجير الفلسطينيين خارج أرضهم.
وفي 20 أكتوبر، أرسل البيت الأبيض طلبا إلى الكونغرس للحصول على تمويل تكميلي للسنة المالية الحالية قيمته 106 مليارات دولار، يشمل دعم أوكرانيا بـ61 مليارا، والكيان الصّهيوني بـ14 مليارا، وبرامج أخرى منها 5.6 مليارات للدعم اللوجستي والبنية التحتية وغيرها من المساعدات التي جاءت تحت هذا المسمى الغامض: “تسهيل حياة الفلسطينيين النازحين من غزّة إلى البلدان المجاورة”.
أمريكا تقتل الفلسطينيّين بسلاحها.. وتعزّيهم بتأمين منفى مريح!
وطالبت مؤسسة “مشروع الديمقراطية بالشرق الأوسط” (POMED) – في بيان- إدارة بايدن بألا تتواطأ في تأجيج جرائم الحرب أو تشجيعها، وبضرورة الالتزام بالقانون الأمريكي وضمان أن مساعداتها العسكريّة تُستخدم فقط لأغراض دفاعية ولا تدعم انتهاكات حقوق الإنسان، وقالت سارة ليا ويتسون مدير المنظمة ذاتها: “بدلا من المطالبة بوقف إطلاق النّار لحماية المدنيين الفلسطينيين من المزيد من الفظائع، تتلاعب إدارة بايدن بسخريّة طبيرة إثر قبول مساعدة الفلسطينيين المطرودين ككلمة عزاء”.
وفور بدء العدوان الغاشم على قطاع غزّة، سارعت الولايات المتحدة إلى إرسال ذخائر وقنابل كثيرة للجيش الصّهيوني لتعويض أي نقص قد يتعرض له، ولم يعارض الكثير من أعضاء الكونغرس عدوان الكيان الصّهيوني الذي خلف أكثر من 9 آلاف شهيد حتى الآن.
وحتى إذا كان الرئيس الأمريكي ـ ممثلا لأغلبية النخب السياسية في واشنطن ـ غير قادر على توظيف حسّه الإنساني إزاء أطفال غزّة، فهل هو عاجز أيضا على التّعاطف مع نحو 9 ملايين أمريكي يعيشون في حالة من الفقر، وفق إحصائية صدرت عام 2022، مقارنة بأقل من4 ملايين فقير جرى إحصاؤهم في 2021.
وللعلم، فقد تسبب التضخم في تراجع الدخل الحقيقي بنسبة 2.3% في الولايات المتحدة في عام 2022. ورغم رفع الأجور، ازداد الفقر مع وقف المساعدات الحكومية التي قدمت خلال الجائحة، وكانت ليانا فوكس مسؤولة مكتب الإحصاء قد قالت العام الماضي إن التضخم المرتفع بشكل تاريخي أدى إلى تراجع متوسط دخل الأسرة الحقيقي، الذي بلغ 47.960 دولارا.
وفي سبتمبر الماضي، انتقد الرئيس المكسيكي “أندريس مانويل لوبيز أوبرادور” المساعدات الأمريكية لأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على فنزويلا وكوبا ودول أخرى، قائلا: إن العقوبات الاقتصادية الأمريكية تجبر النّاس على الهجرة من كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا.
وقال لوبيز أوبرادور إنه يجب على الولايات المتحدة أن تنفق بعض الأموال المرسلة إلى أوكرانيا على التنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية”، مضيفا: “إن ما يسمحون به للحرب في أوكرانيا أكبر بكثير مما يقدمونه للمساعدة في مكافحة الفقر في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي”، ودعا الرئيس المكسيكي إلى إزالة الحصار والتوقف عن مضايقة الدول المستقلة والحرة، وإنشاء خطة متكاملة للتعاون حتى لا يضطر الفنزويليون والكوبيون والنيكاراغويون والإكوادوريون والغواتيماليون والهندوراسيون إلى الهجرة.
اقتصاد البلاد يعاني وسياستها تموّل الحروب بسخاء..
عدد الأمريكيين الذين يقتلهم الفقر 10 أضعاف ضحايا الجرائم!
ومهما يكن، فإن كثيرا من الأمريكيين يدركون أن نظام الحكم في بلادهم موجّه على نحو غير شريف إلى محاباة الأشخاص الذين يتمتعون بالفعل بمزايا في الولايات المتحدة، إضافة إلى الكيانات الخارجية التي تدّعي واشنطن ضرورة حمايتها ودعمها، وذكرت صحيفة “بوليتيكو”، في مقال رأي نُشر على موقعها، شهر ماي 2023، أنّ الفقر منتشر في أمريكا عن قصد لتمكين نفوذ الأثرياء.
ويرى كاتب المقال أن الولايات المتحدة “هي أرض الأعباء الاقتصادية المتطرفة، مع استمرار الفقر المدقع المترسخ لأولئك الذين يكافحون في القاع”، ونقل الكاتب عن أستاذ علم الاجتماع في جامعة “برينستون” ومؤلف كتاب “الفقر على أيدي أمريكا” ماثيو ديزموند، قوله إنّ “الفقر ينجم عن 3 عادات أمريكيّة أساسية”.
أما العادات التي أشار إليها ديزموند، فهي “استغلال الفقراء ودعم الأغنياء والفصل المتعمد بين الأثرياء والفقراء”، إذ يتم جمع الفرص ومنحها للأغنياء، في حين يظل الحَراك الاجتماعي نادرا، وكشف المقال أن معدلات الفقر في الولايات المتحدة أعلى بكثير، وأكثر حدة، من تلك الموجودة في 25 دولة متقدمة أخرى، من بينها أستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا وبولندا والبرتغال وبريطانيا.
من جهة أخرى، أفادت تقارير أمريكية بأن سد فجوة الثّروة هو مسألة حياة أو موت، مشيرة إلى أن الفقر هو رابع سبب رئيس للوفاة في الولايات المتحدة، إذ توفي ما يقدر بنحو 183 ألف أمريكي تتراوح أعمارهم بين 15 عاما وما فوق في عام 2019. ووفقا لدراسة نشرت في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية، فإن “الفقر يقتل في أمريكا مثل الخرف والحوادث والسكتة الدماغية وألزهايمر والسكري”.
وقال مؤلف الدراسة ديفيد برادي، أستاذ السّياسة العامة في جامعة كاليفورنيا، إن الفقر قتل بصمت 10 أضعاف عدد جرائم القتل المرتكبة عام 2019، ومع ذلك، فإن حوادث العنف المسلح والانتحار تحظى باهتمام أكبر بكثير، وأضاف برادي “إذا كان لدينا فقر أقل، لكان هناك الكثير من الصحة والرفاهية، ويمكن للناس أن يعملوا أكثر، ويمكن أن يكونوا أكثر إنتاجية كل هذه الفوائد تجنى من الاستثمار في الناس من خلال السياسات الاجتماعية”. وأوضح المتحدث أن حالات الانتحار وحوادث الأسلحة النارية وجرائم القتل والسمنة والسكري والجرعات الزائدة من المخدرات، أدت إلى عدد كبير من الوفيات في عام 2019، ولكن تبيّن أنها مجتمعة أقلّ عدد من ضحايا الفقر في البلاد.
وتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في أمريكا خلال الربع الأول من العام 2023 ليسجل 1.3%، مع ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم. ومن المتوقع – إلى حد كبير – أن يستمر في التباطؤ بشكل أكبر في المستقبل. وأفادت وزارة التجارة الأمريكيّة أن الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس لجميع السلع والخدمات المنتجة لهذه الفترة، ارتفع بمعدل 1.3% على أساس سنوي في الربع الأول، وكان الاقتصاديون الذين شملهم الاستطلاع يتوقعون نموًا بنسبة 1.1%، وذلك بعد أن نما الاقتصاد في الربع الرابع (في 2022) بنسبة 2.6%.
وكان نمو اقتصاد أمريكا قد تباطأ خلال القراءة الأولى للربع الأول إلى 1.1% مقابل توقعات بتسجيله نسبة 2%، وارتفعت طلبات إعانة البطالة الأسبوعية في أمريكا، كما أن هناك 37.9 مليون شخص يعانون من الفقر في 2021، بزيادة نحو 3.9 مليون شخص عن عام 2019.
“وفي ظل هذا الوضع الكارثي، تواصل واشنطن التّملق لقادة الكيان الصّهيوني، متجاهلة الأصوات المنادية، من كل حدب وصوب في الولايات المتحدة بأعلى صوتها أن “أوقفوا العدوان على غزّة وأوقفوا دعم الكيان” بأموال الأمريكيين الذين يكافحون للتّغلب على مشكلاتهم الاجتماعيّة، وإذا لم تغيّر واشنطن موقفَها باتجاه الضّغط على الكيان الصّهيوني لحمله على وقف عدوانه، فربما ينتهي الأمر بحدوث عواقبَ وخيمة.
غضب وتململ في أروقة الخارجيّة الأمريكيّة
وغيرَ بعيد عن هذا الطّرح، توقّعت مجلة “فورين بوليسي” أن تهبَّ عاصفة في سماء وزارة الخارجية الأمريكية، وذلك في أعقاب غضب واستياء وخيبة عديد من دبلوماسييّ الولايات المتحدة بسبب ما يرونه من موافقة مطلقة من جانب الولايات المتحدة، تتيح للكيان الصّهيوني أن يشنّ حملة عسكريّة واسعة النطاق في قطاع غزّة، ما يتسبب في تكلفة إنسانية باهظة يتحمّلها المدنيون الفلسطينيون المحاصرون.
وتشير المجلة إلى أن هذا الغضب تحول إلى موجة معارضة شديدة للنهج الأمريكي تجاه الصراع القائم، وهو ما يضع إدارة الرئيس جو بايدن في موقف دفاعي داخليًا وخارجيًا، وقد جاء هذا التحذير في وقت كان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، يقوم بجولة في الشرق الأوسط بهدف التصدي للأزمة المتصاعدة في المنطقة نتيجة العدوان الصّهيوني في القطاع.
وفي رسالة وجهها بلينكن إلى أعضاء السلك الدبلوماسي في وزارته، أشار إلى صعوبة الوضع الراهن، ومطالبته بضرورة احترام الأمانة القانونية والمعايير الإنسانية الدولية، وأشار في الرسالة أيضًا إلى ضرورة الحفاظ على مساحة للنقاش والمعارضة وتوسيعها لجعل السياسات والمؤسسات أفضل.
تزامنت هذه المعارضة المتنامية داخل وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي والجهات الأمريكية الأخرى مع تفاعلات غاضبة خارج واشنطن وبين الديمقراطيين التقدميين والناخبين العرب الأمريكيين تجاه سياسات بايدن، وتشير المجلة إلى أن نسبة تأييد بايدن من الأمريكيين قد انخفضت بشكل كبير منذ عام 2020، إذ كان نحو 59٪ من هؤلاء يدعمونه في ذلك الوقت، بينما انخفضت نسبة دعمه في السباق الرئاسي المقبل لعام 2024 إلى 17٪ وفقًا لاستطلاع أجريَ حديثًا.
وتمثل زيادة الانتقادات الداخلية ـ في واشنطن ـ واحدة من أكبر التحديات التي تواجه وزارة الخارجية تحت إدارة بلينكن حتى الآن، وهو ما أكده بعض المسؤولين الحاليين والسابقين. وأفادت مجلة “فورين بوليسي” إلى أن نهج إدارة بايدن قد شهد تغييرًا ملموسًا في ضوء الخسائر البشريّة المتزايدة نتيجةَ الهجمات والعمليات العسكريّة الصّهيونية في قطاع غزّة، وقد دعت الولايات المتّحدة الكيان الصّهيوني – بشكل علني وسري – إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات للتّخفيف من المعاناة الإنسانيّة واستعادة تدفق المياه والوقود والإمدادات الإنسانية إلى غزّة.
ووفقًا للمجلة، فإن العديد من المسؤولين يتفقون على أن المأساة الإنسانية في غزّة والتّحذيرات الصادرة عن منظمات الإغاثة، جنبًا إلى جنب مع احتجاجات القوى الإقليمية الأخرى، بدأت تظهر بوضوح وتؤثّر في السّياسة الأمريكية بشكل جانبي، ما زاد التّركيز على القضايا الإنسانية.
ونقلت المجلة عن مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين أن الإشكالية الآن تكمن في تحديد مدى تأثير ردود الفعل القويّة بين الدبلوماسيين والمسؤولين الأمنيين – إذا ما كانت موجودة – على تشكيل هذا التّغيير في موقف الولايات المتحدة، ومع ذلك، ما زالت المعارضة مستمرة، وستختبر كيفية استجابة إدارة بايدن لمزيد من التحولات في الصراع، وقد تؤثّر هذه المعارضة الداخلية خلال الأسابيع المقبلة على مواقف الولايات المتحدة، وقد تكون قادرة على تغيير نهج الكيان الصّهيوني وإجباره على الكفِّ عن ممارسة المزيد من الإجرام.
واشنطن تحذّر “إسرائيل” من اقتراب نقطة التحوّل الحاسمة
ذكر موقع “سي أن أن” الأمريكي أن الرئيس جو بايدن وكبار مستشاريه حذّروا “إسرائيل” من أنه سيصبح من الصّعب عليها تحقيق “أهدافها العسكريّة” في غزّة في ظل اشتداد الغضب العالمي من استهداف المدنيين. وفي السياق ذاته، دعا السيناتور الأمريكي كريس ميرفي “إسرائيل” إلى إعادة النظر في النهج الذي تسلكه الآن في حربها على قطاع غزّة، كما حثّها على اتّخاذ خطوات ملموسة لإنهاء الأضرار الواسعة التي تلحق بالأبرياء في القطاع.
وأضاف موقع “سي أن أن”، في تقرير له، أن وزير الدفاع لويد أوستن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن شددا على هذه النقطة خلال حديثهما مع الإسرائيليين، مؤكدَيْن لهم أن “تآكل الدعم” ستكون له عواقب إستراتيجية وخيمة على إسرائيل.
وبحسب “سي أن أن”، فإن المسؤولين – خلف الكواليس- يعتقدون أن الوقت المتاح لـ “إسرائيل” لمحاولة تحقيق هدفها بالقضاء على حركة حماس “محدود جدا” قبل الوصول إلى “نقطة التحوّل” مع تنامي السخط العالمي من استمرار المعاناة الإنسانية في غزّة.
ويضيف الموقع، نقلا عن مصادر أمريكية، أن هناك اعترافا داخل الإدارة الأمريكية بأن “نقطة التّحوّل” تلك قد تأتي بسرعة، وسيصبح رفض الحكومة الأمريكية للدعوة علنا إلى وقف إطلاق النار “أمرا لا يمكن الدفاع عنه”.
ونقل موقع “سي أن أن” عن “مصادر مطّلعة” قولها إن بايدن وأعضاء فريق الأمن القومي “استاؤوا بشكل خاص” من الهجمات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مخيما للاجئين شماليّ غزّة (مخيم جباليا)، ما تسبب في دمار كبير ووفيات غير مسبوقة، وهو “ما لم يعجب الرئيس على الإطلاق”. وفي هذا الخصوص، قال أحد كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية “المشكلة الآن بالنسبة لـ”إسرائيل” هي أن الانتقادات أصبحت أكثر قوة، ليس فقط من منتقديها الكلاسيكيين، لكن ضمن دائرة أفضل أصدقائها”.
وبحسب “سي أن أن”، فإن بايدن لم يضع أي خطوط حمر أمام “إسرائيل”، وهو يتجنب إلى حد الآن الدعوة علنا لوقف إطلاق النار بدعوى أن ذلك لن يساعد إلا “حماس”، وأضاف أن بايدن حذّر رئيس وزراء سلطة الكيان بنيامين نتنياهو من أن المجتمع الدولي “سيحكم بقسوة” على “إسرائيل”، إن لم تتخذ خطوات “لتخفيف المعاناة الإنسانية وتقليل نسبة الوفيات بين الفلسطينيين”، كما عبّر له عن قلقه من “تصاعد أعمال العنف من قبل المستوطنين في الضفة الغربية”، ودعا إلى وقف هجماتهم.
وتابع الموقع أن وقف إطلاق النار المحدود لإخراج الرهائن والحفاظ على عمل شبكة الاتصال والإنترنت في القطاع مقابل السماح بإدخال مساعدات محدودة لغزّة كانا ضمن المحاور التي ضغطت الإدارة الأمريكية بشأنها على “إسرائيل” – ولا تزال – لاتخاذ خطوات ملموسة لتطبيقها.
من جهة أخرى، دعا السيناتور الأمريكي كريس ميرفي الكيان الصّهيوني إلى إعادة النّظر في النّهج الذي يسلكه الآن في عدوانه على قطاع غزّة، كما حثّه على اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء الأضرار الواسعة التي تلحق بالأبرياء في القطاع.
وقال ميرفي إن الوقت قد حان ليدرك الإسرائيليون أنّ النّهج الحالي يتسبب في مستوى غير مقبول من الأذى للمدنيين ولا يبدو أنه سيحقّق الهدف بإنهاء “التّهديد”، الذي تمثله حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وأوضح السيناتور الديمقراطي أن الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين الذين يسقطون في الحرب الإسرائيلية على غزّة تأتي بتكلفة أخلاقية وإستراتيجية، مشيرا إلى أن “الجماعات الإرهابية”، وفق وصفه، تتغذى على المظالم.
وقال المتحدّث ذاته إن الطريقة التي يتم بها شن ّالحملة العسكريّة الحالية، والتي تجلت مؤخرا في التّكلفة البشرية الباهظة التي خلّفتها الضربات الإسرائيلية على مخيم جباليا للاجئين، تشير إلى أنها لم تحقق التوازن المطلوب بين الضرورة العسكريّة والتّناسب في الرد، وأضاف “المعدل الحالي للقتلى لا يمكن قبوله”.
وكانت وزارة الداخلية في غزّة قد قالت – يوم 31 أكتوبر الماضي – إن جيش الاحتلال الصّهيونيي ارتكب مجزرة مروّعة، حيث أوقع قصف شديد 400 ضحية بين شهيد وجريح، ودمّر مربعا سكنيا كاملا في مخيم جباليا، قبل أن يعلن المتحدث باسم وزارة الصحة في غزّة فجر يوم الخميس المنقضي ارتفاع العدد إلى ألف بين شهيد وجريح في اعتداء واحد.
صوت يضجر مسامع بلينكن:
“الشعب الأمريكي لا يدعم هذه الحرب الوحشيّة”
مع استمرار التّصعيد والقصف المكثّف على قطاع غزّة، يزداد اتّساع الفجوة بين الرّئيس جو بايدن وإدارته المُصمّمة على مساندة الكيان الإسرائيلي، من جهة وبين الأمريكيين الداعمين للقضية الفلسطينية، والرافضين لاستعمال عائدات ضرائبهم، في دعم الجيش الإسرائيلي لتقتيل المدنيين الأبرياء، من جهة أخرى.
قاطع محتجون أمريكيون مناصرون لفلسطين عرضا قدمه وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الثلاثاء، لطلب تقديم المزيد من مليارات الدولارات الإضافية كمساعدات للكيان الصّهيوني، خلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي، مُنددين بدعم الولايات المتحدة الأمريكية ما وصفوه بـ”الإبادة الجماعية” المرتكبة ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة.
وأدلى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن بشهادتهما أمامThe Senate Appropriations Committee أو لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ، بشأن طلب الرئيس بايدنمبلغ 106 مليارات دولار لتمويل ما أسموه خططا طموحة لأوكرانيا والكيان الإسرائيلي وأمن الحدود الأمريكية، بحجة أن دعم شركاء الولايات المتحدة أمر حيوي للأمن القومي.
ويتعلق الأمر بطلب بايدن 61.4 مليار دولار لصالح أوكرانيا، حيث سيتم إنفاق نصف المبلغ، تقريبا، في الولايات المتحدة لتجديد مخزون الأسلحة الذي استنزفه الدعم العسكري السابق لكييف، إضافة إلى 14.3 مليار دولار لصالح الكيان الإسرائيلي، و9 مليارات دولار للإغاثة الإنسانية تشمل الكيان الصّهيوني وقطاع غزّة، و13.6 مليار دولار لأمن الحدود الأمريكية، و4 مليارات دولار كمساعدات عسكريّة وتمويل حكومي لمواجهة جهود الصين وتحركاتها الإقليمية في قارة آسيا.
“أوقفوا تمويل الإبادة الجماعية..”!
ومع بداية الجلسة، رفع صف من المتظاهرين المناهضين للحرب أيديهم الملطخة باللون الأحمر في الفضاء، قبل أن تُخرجهم شرطة الكابيتول في وقت لاحق من الغرفة، وهم يرددون شعارات من بينها Ceasefire now (أو وقف إطلاق النار الآن)، وProtect the children of Gaza (أو احموا أطفال غزّة)، وStop funding genocide (أوقفوا تمويل الإبادة الجماعية)، كما قالت متظاهرة غاضبة: “الشعب الأمريكي لا يدعم هذه الحرب الوحشية، عار عليكم جميعا، أوقفوا هذه الإبادة الجامعية العالم يشاهدكم”، قبل أن يهرع عناصر أمن مبنى الكابيتول لإخراجها من القاعة.
ولم يرد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، على المتظاهرين، لكن حين سُئل لاحقا عن إمكانية وقف إطلاق النار، قال إن ذلك “سيعزز ببساطة ما تمكنت حماس من القيام به… ومن المحتمل أن تكرر ما فعلته في يوم آخر”، قبل أن يعود للقول إن النظر في وقف مؤقت لإطلاق النار قد يكون ممكنا لأسباب إنسانية، وأضاف بلينكن “نعتقد أنه يتعين علينا النظر في أشياء مثل فترات وقف إطلاق النار الإنساني للتأكد من وصول المساعدة إلى من يحتاجون إليها وحماية الناس والابتعاد عن الأذى”.
انقسام الجمهوريين قد يُسقط خطط الدّعم في الماء!
وبينما يدعم الديمقراطيون والعديد من الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ بقوة إستراتيجيته المتمثلة في الجمع بين المساعدات الأمريكية لأوكرانيا والكيان الإسرائيلي، إذ قالت رئيسة لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ باتي موراي: “نحن بحاجة إلى معالجة كل هذه الأولويات كجزء من حزمة واحدة – لأن الواقع هو أن هذه القضايا كلها مترابطة، وكلها ملحة”.
وقالت السيناتور سوزان كولينز، أكبر جمهوري في اللجنة، إنها ستحكم على طلب التمويل بناء على ما إذا كان يجعل الولايات المتحدة أكثر أمنا، يبدو الطريق إلى الأمام بالنسبة لخطة التمويل الأخيرة للرئيس بايدنغير سهل وغير مؤكد، فالجمهوريون الذين يقودون مجلس النواب يعترضون على الجمع بين القضيتين، وقد انضم إليهمبعض أعضاء الحزب في مجلس الشيوخ، وخاصة أولئك الأكثر ارتباطا بالرئيس السابق دونالد ترامب، كما تُظهر استطلاعات الرأي تراجع الدعم الشعبي لمساعدات أوكرانيا.
ومع تزايد الإنفاق الفيدرالي بديون تبلغ 31.4 تريليون دولار، يتساءل الأمريكيون عما إذا كان ينبغي على واشنطن تمويل حرب أوكرانيا مع روسيا، بدلا من دعم الكيان الإسرائيلي، أو تعزيز الجهود الرامية إلى التصدي للصين، وكان رئيس مجلس النواب المنتخب حديثا، مايك جونسون، قد صوت في الماضي ضد دعم كييف.
وعرض، الإثنين الماضي، مشروع قانون لتقديم مساعدات بقيمة 14.3 مليار دولار للكيان عن طريق قطع التّمويل عن دائرة الإيرادات الداخلية، دون الإشارة إلى أي مساعدات لسكان قطاع غزّة، مما أدى إلى مواجهة مع الديمقراطيين، كما أثار دعم بايدن سلطة الكيان الإسرائيلي، التي تتلقى 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكريّة الأمريكية السّنوية، انتقادات واسعة وسط الأمريكيين مع تصاعد المناشدات الغربية والدولية على المستوى الشعبي لحماية المدنيين في غزّة.
اللافت في عرض بلينكن أمام أعضاء الكونغرس، حديثه عن ما أسماه “مستقبل غزّة بعد حماس”، وعلى الرغم من أن هجوم الـ7 أكتوبر الذي شنته المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركة حماس، على الكيان الإسرائيلي، وما سببه من صدمة إسرائيلية وأمريكية وغربية، وما تبعه من هجمات ضمن عمليّة “طوفان الأقصى” أوجعت الكيان الإسرائيلي، وكشفت ضعف قدراته الاستخباراتية والعسكريّة.
إلا أن وزير الخارجية الأمريكي قال إن غزّة في المستقبل لا يمكن أن تحكمها حماس، ولكن لا يمكن أن يديرها الكيان الإسرائيلي أيضا، مضيفا أنه من المثالي أن تقوم “سلطة فلسطينية فعّالة ومتجددة” بإدارة القطاع في نهاية المطاف، بينما يمكن لدول أخرى في المنطقة التدخل للمساعدة ضمن ترتيبات مؤقتة.
وإضافة إلى مجريات الحرب التي تُظهر تعثرا إسرائيليا مفضوحا، مقابل تفوق واضح للمقاومة الفلسطينية مثمثلة في حركة حماس، رغم الخسائر البالغة في صفوف المدنيين المستهدفين من قبل ضربات العداون والذين فاق عددهم الـ8520 شهيدا، فإن المساندة الشعبية التي اتضح أن القضية الفلسطينية تحظى بها في الولايات المتحدة، من خلال المظاهرات والاحتجاجات التي وصلت إلى مبنى الكونغرس الأمريكي، تؤكد أن حديث بلينكن عن مستقبل القطاع بدون حماس أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وأن بايدن بتصميمه على الاستمرار في دعم الكيان الإسرائيلي يساهم في توسيع الفجوة بينه وبين ناخبيه، وتقليص حظوظ فورزه بعهدة ثانية في الانتخابات المقبلة في الـ 5 نوفمبر 2024.
كيف ينظر الأمريكيون إلى دعم بلادهم الكيانَ الإسرائيلي؟
بعد مرور أكثر من أسبوعين عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ردا على عمليّة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية – حماس – في المستوطنات الواقعة في ما يُعرف بغلاف غزّة، وسقوط ما يزيد عن 8 آلاف شهيد فلسطيني، أغليهن أطفال ونساء، بدأت استطلاعات الرأي في تقديم بيانات حول كيفية رؤية الأمريكيين للحرب المستمرة بين الكيان والمقاومة الفلسطينية، ممثلة في حركة حماس.
يبدو أن رد فعل الأمريكيين حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، أقوى مما قاله الرئيس جو بايدن في خطابه من المكتب البيضاوي – الخميس الماضي – حيث لم يكتف بطرح قضية دعم الكيان الإسرائيلي وأوكرانيا، بطريقة يفهمها الأمريكيون فحسب، بل أكد أيضا على قوة التزام الولايات المتحدة تجاه الكيان، وهو الالتزام الذي عبّرت عنه غالبية الشعب الأمريكي في أعقاب الهجوم المفاجئ وعالي التنسيق الذي شنته كتائب القسام، التابعة لحركة حماس في الـ 7 أكتوبر الجاري.
لكن، وعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي يقف – الآن – بقوة إلى جانب الكيان الإسرائيلي، إلا أن المظاهرات التي تشهدها المدن الأمريكية الكبرى، على غرار الكثير من المدن الغربية الأخرى، مناصرة لفلسطين، وتطورات الحرب، تفرض مراقبة الرأي العام من حين لآخر، حيث إن المواقف والتصورات قد تتغير مع تغيّر الأحداث على الأرض.
الكيان الصّهيوني عصب السياسة الأمريكية في الشّرق الأوسط
وفق استطلاع جديد لـ Economist/YouGov أو مجلة إيكونوميستو مؤسسة يوغوف المختصة في استطلاعات الرأي ودراسة البيانات، فإن 7 من كل 10 أمريكيين، بما في ذلك 81℅ من الجمهوريين و74% من الديمقراطيين، يؤيدون تقديم المساعدات لـ “إسرائيل”، بينما يقول 41℅ من المستجوبين، إن إرسال أسلحة إلى “إسرائيل” إذا لزم الأمر، فكرة جيدة.
وحسب الاستطلاع فإن الأمريكيين يعتقدون أن سلطة الاحتلال ملزمة بحماية مواطنيها، وإنقاذ الرهائن، والقضاء على التهديد الذي تُشكله حركة حماس الفلسطينية، وردا على سؤال حول رد فعل “إسرائيل” على الهجوم المفاجئ الذي نفذته كتائب القسام التابعة لحركة حماس، في السابع من أكتوبر الجاري، قال أغلبية 35℅ من الناخبين المسجلين إن انتقام “إسرائيل” كان “صحيحا” بينما قال ربعهم إن رد “إسرائيل” لم يكن قاسيا بما فيه الكفاية.
وفي سياق متصل، يعتقد الأمريكيون بأغلبية ساحقة – 71%- أنه فيما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، فمن “المهم جدًا” (-42%) أو من “المهم إلى حد ما” (-29%) حماية “إسرائيل”، وهذا الاعتقاد الذي يحظى بدعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشكل مثير للاهتمام، إذ يشعر 80% من الجمهوريين و72% من الديمقراطيين بأن حماية “إسرائيل” تمثل جانبا مهما من السّياسة الأمريكية.
وبصرف النظر عن العلاقة الخاصة التي تتمتع بها الولايات المتحدة تاريخيا مع الكيان الإسرائيلي، على أساس ما يُسمى بالقيم المشتركة والالتزام بالديمقراطية، في أعقاب هجوم حماس، أكد بايدن والمسؤولون الإسرائيليون على أن حماس وجماعات مثل تنظيم داعش -وهو تنظيم مُسلح كان قد عُرف سابقا باسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – هما كيان واحد، يتمثل في التهديد الذي يفهمه الأمريكيون وهم على استعداد لمواجهته.
وتتوافق نتائج استطلاع الرأي الذي قامت به مجلة “إيكونوميست” ومؤسسة “يوغوف”، إذ أظهرا (الاستطلاعان) – في الوقت الحالي – الدعم الكبير الذي يوليه الشعب الأمريكي لـ “إسرائيل”، وبأغلبية ساحقة يقولون بحق الكيان الإسرائيلي في الدفاع عن نفسه، ورفض السياسات الانعزالية والتخلي عن الحلفاء. هذا، وقال منسق الاتصالات الإستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، بداية الأسبوع الجاري، نه من حق الكيان الاسرائيلي أن يدافع عن نفسه، ولا يزال أمامه عمل يتعيّن عليها القيام به لملاحقة قادة حماس، كما قال إن الولايات المتحدة ستستمر في دعم الكيان، وتركيز إدارة بايدن منصب على التأكد من أن لديها ما تحتاجه لمواصلة المعركة، مستبعدا وقف إطلاق النار في الوقت الحالي.
وبينما عبّر جون كيربي عن وجهة نظر الإدارة الأمريكية، ومفادها أن الوقت المناسب لوقف إطلاق النار لم يحن بعد، تشهد كُبرى شوارع الولايات المتحدة، وجامعاتها، وعلى رأسها جامعة هارفارد الشهيرة، احتجاجات ومظاهرات متواصلة، تدعو إلى وقف الحرب على الفلسطينيين العُزل، وتطالب إدارة بايدن بوقف إرسال أموال دافعي الضرائب الأمريكيين لقتل الأطفال والمدنيين في غزّة، وهو ما دفع الكثير من المتابعين إلى التساؤل عن سبب تغريد المتظاهرين والطلبة الجامعيين الأمريكيين ـوأعدادهم بالآلاف إن لم تكن الملايين ـ خارج سرب السياسيين والإعلاميين الغربيين، الذين ومنذ بداية الحرب على قطاع غزّة، لم يدّخروا جهدا في محاولة التأثير على الرأي العام الأمريكي، وتوجيهه وفق الأجندة التي رسمتها واشنطن للأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل خاص، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل أكبر.
أستاذ العلوم السّياسية والعلاقات الدّولية أبو الفضل محمد بهلولي لـ”الأيام نيوز”:
“فشل المؤسّسات الدّولية في أداء مهامها وتحقيق أهدافها سببه الهيمنة الأمريكية”
يصف أستاذ العلوم السّياسية والعلاقات الدّولية، أبو الفضل محمـد بهلولي، في حوار خصّ به “الأيّام نيوز” الفشل المتكرر لمجلس الأمن الدولي في إيقاف الظّلم المستمر على الشّعب الفلسطيني، وعجز الأمم المتحدة في وقف إطلاق النار بغزّة، بأنه ناتج عن الخلل الكبير الذي أصاب المنظمة الدّولية، بعد هيمنة أمريكا والدّول الغربية عليها، وهو بمثابة إعلان وفاة صريح لهذه المنظمة، محذّرا من خطر ذلك على النّظام الدولي.
الأيام نيوز: كيف تقرؤون الفجوة التي تزداد اتّساعا بين الشّعوب الغربية وحكّامها وعلى رأسهم أمريكا، ومدى انسجام الطبقة السياسية الأمريكية والغربية عمومًا مع شعوبها؟ ألا ترون أنّ الأدوات الديمقراطية بمفهومها الغربي أضحت على المحك، بحكم أنّها كشفت عجزها عن ضمان مفهوم الشّعب يحكم نفسه بنفسه رغم المصطلحات البرّاقة والواجهة المضلّلة التي تحاول إيهام العالم عمومًا والشرق خصوصًا بأنّ الثقافة والمفاهيم الغربية هي الأنموذج المثالي والوحيد لإدارة العالم؟
أبو الفضل محمـد بهلولي: أرى أنّ المحافظين الجدد أصبحوا نافذين، اليوم، في صناعة القرار الأمريكي، وهم أصحاب التوجّهات اللّيبرالية الجديدة القائمة على فلسفة إحلال السّلام بالقوة والتدخّل في شأن الشّرق الأوسط، بالإضافة إلى الاهتمام الكبير بالصّهيونية، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تدخل أمريكا عام 1992 في الجمعية العامة للأمم المتحدة كان من أجل إلغاء قرار سابق يعتبر الصّهيونية عنصرية، حيث لعب المحافظون الجدد في تلك الفترة دورا كبيرا في ذلك. كما أنّي أعتقد أنّ الشّعب الأمريكي يعتمد على وسائل الإعلام الأمريكية فقط في استقاء الأخبار. ومن جهة الأخرى، فإنّ اللّوبي الصّهيوني متمركز بشكل كبير في الإعلام الأمريكي، حيث إنّ الحقيقة مغيبة كليّا عن الشّعوب الغربية نظرا للإعلام القوي والسّيطرة على الفضاء الأزرق، فالمواطن الأمريكي مبرمج ومتابع كبير للأوساط الإعلامية، في المقابل هناك تقلص للّوبي العربي في أمريكا مما يجعل التأثير العربي على الشّعب الأمريكي يكاد تكون منعدما.
الأيام نيوز: في اعتقادك، لماذا لم يتوقف إطلاق النار في غزّة رغم تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالموافقة؟ ولماذا لم يتم الاستجابة لموقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بإدخال مزيد من المساعدات؟
أبو الفضل محمـد بهلولي: الأمم المتحدة أنشأت على رماد الحرب العالمية الثّانية بهدف وقف ويلات الحرب، فكان شعارها “نحن الأمم المتحدة” وأهم مقصد هو تحقيق الأمن والسّلم الدّوليين وتجنّب ويلات الحرب وقتل المزيد من سكان الكوكب، بالإضافة إلى أن هدف ومقصد الأمم المتحدة هو مساعدة الدّول على حق تقرير المصير، لأنّ القانون الدّولي لا ينظّم فقط علاقات الدّولية لكن يساعد الدّول على ضمان حقّهم في تقرير المصير. لكن بعد مضي 75 سنة من إنشاء هذه المنظمة لم تحقق هذه الهيئة الأهداف التي رسمت لها مع إنشائها وهذا بسبب الهيمنة الأمريكية على النّظام الدّولي وعلى المؤسسات الدّولية، فأمريكا -على سبيل المثال- استعملت 45 مرة حق الفيتو ضدّ قرارات في صالح القضيّة الفلسطينية، الأمر الذي يعطي ضرورة تقييد هذا الحق الذي صيغ في ظروف دولية معينة، وقد تغيرت بعد 75 سنة حيث نعيش – الآن – في مرحلة انتقالية من نظام أحادي إلى نظام متعدد الأطراف تظهر فيه مثل هذه الصّراعات وتزداد وتتنامى، فالهياكل الدّولية أصبحت عاجزة ومشلولة نظرا للفيتو الأمريكي.
وحسب تصوري، فإنّ قرار الجمعية العامة الذي حظي بأغلبية هو خطوة أولى للتوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لأن التوصّل إلى هذا الاتفاق يتطلب اتفاقا ملزما للأطراف وعن حسن نيّة على أن يكون طرفا ثالثا موثوقا فيه يضمن ذلك. فالأمم المتحدة لم تعد طرفا مضمونا وقادرا على حماية الفلسطينيين لكنّ قرار جمعية العامة هو خطوة للتّوصل إلى اتفاق. ومن جهة أخرى، فإنّ أمريكا والدّول الغربية التي أجهضت قرارين لمجلس الأمن يضمنان وقف إطلاق النّار لهم نية في إطالة الحرب كما حدث في أزمات فلسطين السابقة، لاسيما في الأربعينيات والستينيات حتى تحقّق الأهداف المسطرة في الأجندة الغربية.
الأيام نيوز: اضطر عدد من المسؤولين في مناصب مرموقة رفيعة المستوى بأمريكا وبريطانيا للاستقالة بعد المجازر التي ارتكبها ويرتكبها الكيان الغاصب بحقّ الفلسطينيين، حيث أعلن مدير مكتب نيويورك في مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان استقالته من منصبه، احتجاجا على عجز المنظمة عن وقف الإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال في قطاع غزّة، وسبقه إلى ذلك مدير مكتب شؤون الكونغرس والشؤون العامة بالخارجية الأمريكية، كيف تقرؤون هذه الاستقالات؟ وفي نظرك هل ستسهم هذه المواقف في وقف الإبادة الجماعية على القطاع؟
أبو الفضل محمـد بهلولي: الاستقالات هي صورة ضمير كل مسؤول رفيع المستوى له إيمان بالقانون الدّولي والقانون الدّولي لحقوق الإنسان والقانون الدّولي الإنساني، لكنّ الواقع يثبت أنّ نظرية القوة هي المهيمنة في العلاقات الدّولية. بل أكثر من ذلك، هناك إهانات واضحة في حق هيئة الأمم المتحدة وحتى الأمين العام للأمم المتحدة، لذا أتصوّر أنّ منظمة الأمم المتحدة أو العالم غير متعدّد الأقطاب يواجه ضغطا رهيبا يدعو إلى ضرورة الاستعجال في إصلاحه وإلا سنكون أمام حرب عالمية ثالثة!
الحقوق والحريّات.. حلال إذا تحقّقت المصلحة حرام إذا غابت..
الدّيمقراطية الغربيّة عمياء ونظامُها أعرج.. !
بقلم: الأكاديمي والخبير الاجتماعي الدكتور هشام بوبكر
ما هو معروف عن الدّيمقراطية أنّها تنافي كلّ حكم فردي أو حكم تتفرّد به نخب أو حكم تستقل بع بعض الطّبقات الاجتماعية التي تجمعها في الغالب مصالح مشتركة، سياسية كانت أو اقتصاديّة أو دينيّة عقائديّة.. إلخ، فجوهر الدّيمقراطية كما يسوَّق للجماهير الغربية قبل العربية هو حكم الجماعة أو حكم الشّعب، وحريّة الرّأي والتّعبير والمساواة بين المواطنين وكسر الحواجز والفوارق بينهم وبين نظام الحكم، وهذا ما لا نراه إذا ما تعلّق الأمر بعقيدة غير عقيدتهم التي يؤمنون بها أو برأي يخالف رأيهم أو تعلّق بحرية الرأي والتّعبير عن مصلحة تتعارض مع مصالحهم، فهنا فدائما ما يترك الحبل على الغارب.
فالأنظمة الدّيمقراطية الغربية تقرّ بأنّ للإنسان أو المواطن الغربي حقّ في حرية الرأي والاعتقاد وحرية النّشر والمساواة والعدل القانوني والاجتماعي؛ هذا الأخير الذي يقوم أساسا على تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، فالعلاقات الاجتماعية مصدر مهمّ لسيرورة الحياة الاجتماعية واكتمالها. فالدّيمقراطية – بهذا المعنى – هي اعتراض على العنف والإكراه الذي يمارس ضد الإنسان وضدّ حريته وإنسانيته. فإلى أيّ مدى طبّق كل ذلك في المجتمعات الغربية التي نظرت وأسست وأعلنت ونشرت وتباهت بمفاهيم الدّيمقراطية وبشعاراتها؟ وإن كان ذلك واقعا فهل هذا يعني أنّ الأنظمة الغربية وفّرت حقا البيئة المناسبة لتطبيق الدّيمقراطية؟ وهل فسحت المجال لمواطنيها لممارسة حقوقهم وواجباتهم والمشاركة في المسؤولية وفي القرارات المصيرية؟
إنّ أنظمة الحكم الدّيمقراطيّة الغربية قد فضحها الزّمان والمكان وأجهزت عليها أحداث التّاريخ، فقد بُنيت على شعارات زائفة بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة وعن ممارسات الواقع، فالغرب نفسه لا يؤمن بتعاليم الدّيمقراطية وبمبادئها إذا ما تعلّق الأمر بمصالح بعض الفئات والطّوائف الدّينية أو الطّبقات الاجتماعية أو بعض النّخب السياسية والاقتصادية.. إلخ، فتراه يرتدّ وينقلب على عقبيه ويتنكّر لمواطنيه وقد يسلبهم أو يحرمهم بعضا من حقوقهم، ففي بعض الدّول الأوروبية كإيطاليا مثلا التي تدّعي الدّيمقراطية جعلت من الكنيسة الكاثوليكية مصدر إلهامها ولها الوصاية الكاملة على حياتها السياسية بالخصوص؛ فلا صوت يعلو فوق صوت الكاثوليك ولا قرار يلغي قرار الكنيسة، وإسبانيا كما هو مقر في دستورها أنّ الانتخاب حقّ فقط للإسبان الكاثوليك دون غيرهم من المواطنين من الدّيانات الأخرى، وهناك من الأمثلة التي تنفي وتنكر عنهم ديمقراطيتهم الكثير الكثير.
فدائما ما تنكشف وتنفضح الدّيمقراطية الغربية أكثر فأكثر في علاقاتها مع المستضعفين من البلدان (الإسلامية والعربية خاصة)، فتشاهد أنواع الظّلم والاستبداد والطّغيان وأشكالا مختلفة من السّطو والاغتصاب، وكلّه مبرّر بداعي رفع الغبن عن الشّعوب المقهورة وتحريرها من طغيان حكّامها الدكتاتوريين، ونقل زيف الدّيمقراطية إلى هذه البلدان.
وكلّ العالم بنسائه ورجاله وبأطفاله وشيوخه، بمثقفيه وبغيرهم، الكل سمع وشاهد الديمقراطية بحريتها وعدلها ومساواتها التي نقلت إلى العراق وإلى اليمن وإلى تونس ومصر وسوريا وإلى ليبيا! وها نحن، اليوم، نرى بأمّ أعيننا الديمقراطية الأمريكية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والألمانية وكلّ ديمقراطيات العالم الغربي والعربي، التي تسمع لصوت شعوبها ومواطنيها وتسمح لهم بالمشاركة في سياساتها الدّاخلية والخارجية! كما تسمح لهم بالمساهمة في تقرير مصيرهم ومصير أوطانهم! فها هم المواطنون الغربيون يخرجون إلى الشّوارع والسّاحات العمومية يتظاهرون ويحتجّون على المجازر الإسرائيلية في قطاع غزّة، وينادون جميعهم بصوت واحد أوقفوا العدوان الصّهيوني على أطفال وأبرياء غزّة.
فتخرج عليهم وزيرة الدّاخلية البريطانية تعلنها صراحة بعدم السّماح مهما كان بمعاداة السامية، وتأمر الشّرطة البريطانية بقمع احتجاجات المؤيدين للقضية الفلسطينية، واتخاذ كلّ التّدابير والاجراءات الصّارمة ضدّ أيّ مظهر من مظاهر التّأييد، وها هي الشّرطة الفرنسية – كعادتها – تواجه المتظاهرين وتقمع الحريّات والمحتجّين المطالبين بوقف الإبادة الجماعية والقصف المدمّر للغزاويين.
هذه هي ديمقراطية الدّيماغوجيين والفاشيين والفاسدين الغربيين، التي فاح ريحها النّتن بين شعوبها ومواطنيها قبل الرّافضين والمعادين لها، فيرى فيها الكثير من الباحثين والمختصّين في الشّأن السّياسي، وكنتاج لدراسات مراكز ومعاهد أمريكية وأوروبية متخصّصة، أنّ الدّيمقراطية الغربية تتراجع في السّنوات الأخيرة خاصة في أمريكا، فلقد أصبحت الدّيمقراطية الأمريكية واجهة لحكم الأقلية وأصبحت قاعدتها هشّة تتبع النفود وتشترى بالمال.. إلخ، فهي تفقد كلّ مرّة مصداقيتها بين شعوبها ومواطنيها. فلا ننسى ذلك السّلوك الدّيمقراطي الحر الذي أطلّ به علينا أحد رؤساء أكبر دولة في العالم “دونالد ترامب”، الذي يتبنّى هو وبلده النّظام الدّيمقراطي، وكانوا أكثر المروّجين لمبادئ الدّيمقراطية وأفكارها، وذلك حين فشل في الحصول على ولاية أخرى لرئاسة أمريكا، حيث قام بتحريض مناصريه وداعميه على اقتحام الكونغرس الأمريكي. هل هذه هي الدّيمقراطية الأمريكية المنشودة؟ وهل هذه هي مظاهرها وتجلياتها؟.
علينا أن ننتبه جيدا – كشعوب تابعة لا متبوعة – إلى الهمجية والعنجهية التي يحملها بعض ممثلي الأنظمة الغربية التي تدّعي الدّيمقراطية ويتغنّون بشعارات العدل والمساواة والحرية المزيفة. فهناك الكثير من أبناء تلك الديمقراطية يؤمنون إيمانا كبيرا بفقدان جاذبيتها وبريقها، كما يبدوا أن بقاءها واستمرارها هو بفضل سطوة وقوة أصحابها، الذي ينافي أصلا مبادئ الدّيمقراطية وأهدافها، فالدّيمقراطية الغربية في أيّامنا هذه أقل ما يقال عنها إنها عمياء ونظامها أعرج.
الباحث في الشؤون الدوليّة عبد الرحمان بوثلجة:
“إدارة بايدن أعلنت ولاءَها للكيان خشيةَ فقدانها الهيمنة على العالم”
يرى الأستاذ والباحث في الشؤون الوطنية والدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أن الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس بايدن تشهد جملة من التغييرات التي لم تشهدها في عهد رؤساء سابقين، ويرتبط ذلك بشكل أساسي بكون الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت اليوم تخشى على مكانتها كقوة عظمى رقم واحد في العالم سواء كان هذا اقتصاديا أو عسكريا، خاصة بوجود دولة الصين التي يشهد اقتصادها وقوتها العسكريّة تطورا ملحوظا، فيما يعتقد عدد من المحللين والمتابعين أن الصين ستصبح القوة العظمى الأولى في المستقبل القريب.
وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ بوثلجة، في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أن دعم أمريكا للكيان الصّهيوني يشهد في عهد الرئيس بايدن تطورًا آخر ظاهرا للعيان، تخطى كل الدعم التاريخي الذي التزم به كل الرؤساء الأمريكيين السابقين، الجمهوريين منهم أو الدّيمقراطيين، وذلك من خلال إرسال حاملات طائرات وبوارج عسكريّة إلى الشرق الأوسط لدعم “إسرائيل”، بالإضافة إلى تقديم مساعدات عسكريّة أخرى بمليارات الدولارات، كما أن هناك حديث عن إرسال قوة من المارينز إلى المنطقة، وإرسال مستشارين عسكريين ممن شاركوا في الحرب على العراق لدعم القوات الإسرائيلية بهدف القضاء على حماس باعتبارها حركة إرهابية كما يدّعون دائمًا.
وفي السياق ذاته، أبرز متحدث :الأيام نيوز” أن الولايات المتحدة الأمريكية ماضية في دعمها اللامشروط ودفاعها بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة عن الكيان الصّهيوني، رغم بشاعة الجرائم والمجازر المروعة التي يتمادى جيش الاحتلال الإسرائيلي في ارتكابها في حق الأبرياء والمدنيين العزل في قطاع غزّة، لافتًا – في هذا الصدد – إلى أن الدعم الأمريكي المطلق للكيان الصّهيوني يرتبط بعدة أسباب يأتي في مقدمتها العامل الديني الذي يعد حجر الأساس الأهم، في مصادر الدعم لـ “إسرائيل” داخل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أسباب إستراتيجية تتعلق بالهيمنة؛ إذ إنّ أمريكا تعتبر “إسرائيل” أداةَ ردع لها في المنطقة، زد على ذلك تأثير اللوبيات الغربية والأمريكية المؤيدة لـ “إسرائيل” وبشكل خاص في الكونغرس، حيث وافق مجلس النواب الأمريكي على قرار يدعم “إسرائيل” في عدوانها المستمر على قطاع غزّة، وهو الإجراء الأول الذي تم طرحه للمناقشة بعد انتخاب الرئيس الجديد للمجلس مايك جونسون، حيث جاءت نتيجة التصويت 412 لصالح القرار في مقابل 9 نواب ديمقراطيين، ونائب جمهوري ضده.
هذا، وتحدث الباحث في الشؤون الوطنية والدولية، عن سعي الإعلام الغربي والأمريكي إلى ترويج الأخبار الزائفة والمغالطات بشأن المقاومة الفلسطينية وما يحدث في قطاع غزّة، مشيرا إلى أن الإعلام في الغرب وفي أمريكا هو إعلام أحول لا ينظر إلى المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في حق الفلسطينيين، ولكن ينظر إلى فزع المستوطنين يوم السابع أكتوبر الفارط، غاضًا الطرف عن كونهم مسلحين ومغتصبي أرض ليست أرضهم.
“استفاقة شعبية وتحوّل في الرؤى رغم التّعتيم الإعلامي المُحكَم”
في سياق ذي صلة، أشار الأستاذ بوثلجة إلى أن هناك بعض الأصوات في أمريكا التي كانت قد بدأت قبل تاريخ السابع أكتوبر تنتفض ضد سياسة الإدارة الأمريكية في دعمها المطلق لأوكرانيا و”إسرائيل” على حساب الشعب الأمريكي، خاصة في ظل ارتفاع معدلات الفقر في عدد من الولايات الأمريكية، بالإضافة إلى طرح مشكلة الحدود مع المكسيك وهجرة آلاف المكسيكيين بطريقة غير شرعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي ينظر إليه الأمريكيون بتوجس كبير.
وبالرغم من تسجيل تحوّل في الرؤى على المستوى الشعبي فيما يتعلق بالدعم الغربي والأمريكي للكيان الصّهيوني، من خلال المسيرات الشعبية المنددة بالعدوان الصّهيوني على غزّة في عدد من المدن الكبرى على غرار نيويورك، باريس، لندن، إلا أن الإعلام والنخبة الحاكمة في الدول الغربية وأمريكا لا يزالان مصرّان على دعم الكيان الصّهيوني، والنظر بازدواجية إلى الوضع في فلسطين، حيث إن استهداف وقصف آلاف المدنيين بما فيهم الأطفال والنساء في غزّة لا يعدو إلا أن يكون دفاعا عن النفس، فيما يتباك هؤلاء على موت إسرائيلي واحد، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الشعارات الرنانة التي يرفعها الغرب وما يتضمنه القانون الدولي الإنساني والحديث عن الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها والحق في الحياة الكريمة هي مجرد شعارات جوفاء تستعمل لأغراض سياسية وتستعمل بازدواجية، وقد تمت صياغتها على مقاس الشعوب الغربية لا أكثر ولا أقل. واليوم أصبح أمر هذه الأنظمة مفضوحا للعلن، فالمجازر الإسرائيلية المرتكبة في غزّة قد عرّت هذه الأنظمة وفضحت شعاراتها المزيفة، وعليه فإن العالم بعد هذه الحرب لن يكون نفسه كما كان عليه من قبل، يؤكد الأستاذ بوثلجة.
وتابع محدّث “الأيام نيوز” قائلا: “في حقيقة الأمر، شعوب العالم ودول العالم لم تعد تصدّق أمريكا ومن يتبعها من الدول الغربية في الحلف الأطلسي “الناتو” وفي مجموعة السّبع، وقد تجلى ذلك من خلال التصويت على مشروع القانون الذي طرحته المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا، حيث صوّتت لصالح القرار 120 دولة عضو في الأمم المتحدة ورفضته 14 دولة من بينها أمريكا، وامتنعت عن التصويت 45 دولة. ورغم أن القرار ليس ملزما فإنه يكتسب أهمية سياسية كبيرة ويعكس التوجهات العالمية في وقت يكثف فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على غزّة”.
وفي ختام حديثه لـ “الأيام نيوز”، أبرز الأستاذ والباحث في الشؤون الوطنية والدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أن شعوب العالم – اليوم – أصبحت لا تؤمن بالشعارات الرنانة التي ترددها أمريكا في كل مرة ولا بديمقراطيتها ولا بما تدعو إليه، لافتًا في السياق ذاته إلى أن الشعوب الغربية هي كذلك ضحية للإعلام الموجه الذي يتغنى بحرية التعبير وحرية الصحافة التي لا نجدها إلا في الكتب، في ظل تنامي التضييق الممارس عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي؛ فبمجرد الحديث عن غزّة أو عن المقاومة يتم التضييق على الحساب وفي بعض الأحيان حذفه بشكل نهائي من على منصات التواصل الاجتماعي. وعليه، فإن الحرب في غزّة ستفضح الكثير من هذه الأمور ومن هذه السياسات المغرضة المؤيدة للباطل على حساب الحق، كما ستكشف الكثير من الأكاذيب والكثير من الأجندات الدعائية الكاذبة التي ليس لها أي أسس صلبة على أرض الواقع، والتي تهدف فقط إلى استغلال الشعوب لصالح أمريكا والدول الغربية وبالتالي فقد تكون الأزمة في غزّة بداية لعالم جديد يكون أكثر عدلا وأكثر صدقا وأكثر إنسانية.
الأكاديمي والمحلل السياسي الفلسطيني صالح الشقباوي يكشف:
“أساسُ الدّعم الأمريكي المُطلق للكيان الصّهيوني عقائديٌّ بحت”
أكّد الأكاديمي والمحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور صالح الشقباوي، أنه لا يخفى على أحد حجم المساندة والمساعدات التي قدمتها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية للكيان الصّهيوني لحظة قيامه وقبل قيامه أيضًا، وتابع محدثنا يقول أن الجميع يُدرك بما لا يدعُ مجالا للشك أن الغرب، بمكوناته العسكرية والسياسية والإيديولوجية، وقف إلى جانب إقامة ما يسمى عبثا “دولة إسرائيل”. فإذا عدنا إلى التاريخ وتحديدا إلى اتفاقية “سايكس بيكو”سنة 1916 التي قسمت العالم العربي بين فرنسا وبريطانيا، سنجد أن الانتداب البريطاني سنة 1922 على فلسطين كان الخطوة التمهيدية الأولى لإقامة ما يسمى “إسرائيل” وقد سبقتها خطوة كبيرة ومماثلة تمثلت في وعد “بيلفور” المشؤوم سنة 1917.
وأوضح الدكتور الشقباوي، في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أن الموقف الغربي والموقف الأمريكي بشكلٍ خاص معلوم عنهما أنهما وقفا بكل إمكانياتهما المادية والسياسية والعسكريّة إلى جانب إقامة ما يسمى عبثا “دولة إسرائيل”، والجميع يعلم أنه في سنة 1948 بعدما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، قامت بتقديم الدبابات والمدافع والطائرات التي كانت تمتلكها على أرض فلسطين للعصابات الصّهيونية “أشتيم”،”الإرغون”، “البالماخ” وغيرها، حيث قدمت لها كل الدعم وكل المعدات العسكريّة، وفي الوقت ذاته كانت تمنع الفلسطيني من أن يحمل سكينًا أو أي سلاح آخر وفي حال تم القبض على أي فلسطيني وبحوزته أي سلاح أبيضَ كان أو ناريا تقوم بمحاكمته وإعدامه في كثيرٍ من الأحيان. وعليه، فإن بريطانيا عملت حقيقةً على المشاركة الكبرى في تأسيس ما يسمى “دولة إسرائيل” ووصولها في عام 1948 إلى تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين حسب قرار الأمم المتحدة 181، الذي تم بموجبه الإعلان عن قيام دولتين، “دولة يهودية” تُسيطر على 56 بالمائة من أراضي فلسطين التاريخية، ودولة فلسطينية تمتلك 42 بالمائة من حدود فلسطين التاريخية.
وفي سياقٍ متصل، أشار المحلل السياسي الفلسطيني إلى أن أمريكا، ومنذ اللحظة الأولى من قيام ما يسمى “إسرائيل”، أظهرت تأييدها ودعمها المطلق لهذا الكيان المستبد، حيث تم توقيع اتفاقين سنة 1948 و1952 للدعم اللوجستي والعسكري الثنائي، تلاهما اتفاق حول تعاونهما السياسي والأمني بين الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل”، إذ تم تقديم مساعدات ومعونات مادية تصل قيمتها إلى أكثر من 3 مليار دولار سنويا لاقتناء المعدات العسكريّة وتطوير أنظمة الصواريخ وما يسمى بالقبة الحديدية ومقلاع داوود للتصدي لصواريخ المقاومة الفلسطينية.
هذا، وأبرز الشقباوي أن هذا الدعم الأمريكي والتأييد المطلق للكيان الصّهيوني لم يأتِ من فراغ، فالولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي تسخو بأموالها من أجل الإبقاء على تفوق هذا الكيان عسكريا على كل الدول العربية في المنطقة ومنع أي خلل في موازين القوى، انسجامًا مع العقيدة الإنجليكانية البروتستانتية التي تحكم أكثر من 70 مليون أمريكي، هذا الاعتقاد القائم على أن دعم وتأييد “إسرائيل” هو واجب ديني وعقائدي وإيديولوجي محض، وبالتالي تأتي السّياسة في أواخر اهتمامات القادة الأمريكيين، وبالتالي فإن هذا التمايز والدعم الأمريكي والوقوف إلى جانب “إسرائيل” على كل الجبهات والمستويات لم يأتِ بمحض الصدفة إنما يرتبط بأسس وعوامل دينية عقائدية بالدرجة الأولى.
وأردف المتخصّص قائلا: “إذن، ليس غريبا أن نرى اليوم أن أمريكا وقعت منذ سنة 2019 إلى سنة 2023 اتفاقًا لدعم “إسرائيل” تبلغُ قيمته 38 مليار دولار لتطوير القبة الحديدية ومقلاع داوود والمنظومة الصاروخية المضادة للصواريخ في حركة الدفاع وفي حركة التصدي لصواريخ المقاومة الفلسطينية، التي تطلق عليها من قطاع غزّة. واليوم، نرى أن أمريكا قد فتحت كل مستودعاتها العسكريّة وبكل أنواعها لصالح “إسرائيل”، كما قامت بفتح جسر جوي مباشر لتقديم المعونات العسكريّة واللوجستية للكيان الصّهيوني الذي يقوم بقتل منظم وممنهج لأطفالنا ونسائنا وشيوخنا في قطاع غزّة، حيث وصل عدد الشهداء جراء العدوان الصّهيوني إلى نحو 10 آلاف شهيد نصفهم من الأطفال، فهذه العقيدة عقيدة القتل الممنهج الصّهيوني ترتكب لقتل الجيل القادم وقتل الحلم الفلسطيني القادم والقضاء عليه والتخلص من هذا الأرق الفلسطيني”.
هذا، وجدد الأكاديمي والمحلل السياسي الفلسطيني الدكتور صالح الشقباوي تأكيده على أن أمريكا هي شريك حقيقي في حرب الكيان الصّهيوني على الشعب الفلسطيني، وهي تحول دون نيله حقوقه، وهي التي ترفض وقف إطلاق النار الآن في قطاع غزّة وهي التي تقف عائقا أمام وقف الهجوم الصّهيوني المتغطرس على شعبنا وأبنائنا بطائراته وقنابله المحرمة دوليا، على غرار قنابل الفسفور الأبيض، الأمر الذي أكدته خبيرة في الأمم المتحدة، التي قالت إن الفلسطينيّين اليوم في غزّة يتعرضون إلى حرب إبادة بأسلحة وقنابل وصواريخ وطائرات أمريكية، وعليه فإن أمريكا مشاركة في هذه المعركة ومشاركة في سفك دماء الأبرياء والمدنيين العزل في قطاع غزّة، وفي حال لم تتحرك الأمة العربية بشكل عاجل لإيقاف هذا التجبر والعدوان الغاشم في غزّة، فسنقف – لا قدر الله – على هزيمة للأمة جمعاء من المحيط إلى المحيط.