يعتبر الشيخ ابن باديس أحد أهم الأقطاب الفكرية في الوطن العربي والعالم الاسلامي، دعوة وكفاحا وقلما ولسانا، وهو الذي استطاع الجمع بين الإصلاح الديني والبناء الوطني على مستوى الفرد والمجتمع، وذلك من خلال ثلاثيته المقدسة الخالدة؛ الإسلام ديننا، العربية لغتنا والجزائر وطننا.. وهي المرجعية الأساسية التي جمعت شتات الجزائريين، ورصت صفوفهم، وأحيت وعيهم تحت راية واحدة في مواجهة الصلف الاستعماري، وزبانيته الذين عملوا إذّاك لأكثر من قرن من الزمان على سحق الهوية الوطنية، واستبدال عناصرها ومبادئها بأخرى غربية غريبة لا تمت للشعب الجزائري بأية صلة.
وفي هذا السياق، قال الشيخ الجليل مرة لأحد طلبته: “قومي هم العرب أولا والمسلمون ثانيا، فهم شغل خاطري وهم مجال سرائري، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نصبح فرنسيين حتى لو أردنا ذلك، ونحن لا نريد ذلك، لأننا شعب وأمة لها دينها ولغتها ومقوماتها وتاريخها الخاص المتميز، والجزائر وطننا وأرضنا وما فرنسا إلا احتلال واستعمار ابتلينا به”.. وقد رسخ هذه القناعات الفكرية في ذاكرة الأجيال، وذلك من خلال قصيدته العصماء التي كان قد ارتجلها بمناسبة المولد النبوي الشريف، يوم الثاني من شهر ماي العام 1937م، أمام جمع رهيب من الحضور، والتي جاء منها؛
حـيـيـت يـا جـمعَ الأدب ورقـيـت سـامـيـةَ الرتبْ
وَوُقِـيـتَ شرَّ الكائدين ذوي الدسـائـس والشغبْ
أحـيـيـت مـولـد من بـه حـييَ الأنـام على الحِـقَـبْ
أحـيـيـت مـولـوده بـما يُبرى النـفـوسَ مـن الوصبْ
بالـعـلـم والآداب والـ أخـلاق في نـشءٍ عـجـبْ
حـتى يـعـودَ لـقـومــه مـن عِـزّهـم مـا قـد ذهبْ
ويـرى الجـزائـرَ رجـعـت حـقَّ الحـيـاة المـسـتـلَـبْ
شَعْـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ وَإلىَ الـعُـروبةِ يَـنتَـسِـبْ
مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أصْلِـهِ أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذبْ
أَوْ رَامَ إدمَــاجًــا لَــهُ رَامَ الـمُحَـال من الطَّـلَـبْ
يَا نَشءُ أَنْـتَ رَجَــاؤُنَــا وَبِـكَ الصَّبـاحُ قَـدِ اقْـتَربْ
خُـذْ لِلحَـيـاةِ سِلاَحَها وَخُضِ الخْطُوبَ وَلاَ تَهبْ
وَاقلَعْ جُـذورَ الخَـــائـنينَ فَـمـنْـهُـم كُلُّ الْـعَـطَـبْ
وَاهْـزُزْ نـفـوسَ الجَـامِدينَ فَرُبَّـمَـا حَـيّ الْـخَـشَـبْ
مَنْ كَــان يَبْغـي وَدَّنَــا فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحبْ
أوْ كَـــانَ يَبْغـي ذُلَّـنـَا فَلَهُ الـمـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ
هَـذَا نِـظـامُ حَـيَـاتِـنَـا بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ
هَــذا لكُمْ عَـهْــدِي بِـهِ حَـتَّى أوَسَّــدَ في الـتُّـرَبْ
فَــإذَا هَلَكْتُ فَصَيْـحـتـي تَحيـَا الجَـزائـرُ والْـعـرَبْ
الاستقلال الذي لم يأت من فراغ، ولم يسقط هبة من السماء، وإنما كان تتويجا ربانيا لحقب متطاولة من الكفاح والنضال والتضحيات الجسام، لأجيال ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، جلدا وصبرا واحتسابا. فهذا الشيخ ابن باديس بعيون بعض من عاصروه، حيث أجمعوا على أنه كان يتصف بالصدق والصبر والرحمة، وبالإخلاص والدعوة إلى الله على بصيرة، والتواضع والإرادة القوية، والزهد والاستقامة والورع، والثبات على المبدأ والشجاعة في الحق، والحلم والتسامح.. كان فيه خصال الأولياء.
لقد عمل ابن باديس على تحرير شعبه من ربقة عبودية الجهل الذي كان يرى فيه العدو اللدود للأمة، فبادر إلى إنشاء المدارس والكتاتيب والزوايا، عبر كافة أنحاء الوطن؛ من عنابة إلى تلمسان، ومن بجاية إلى بسكرة فالوادي وتبسة، ومن العاصمة إلى وهران ومستغانم ومعسكر وسيدي بلعباس.. إلى أقصى نقطة في عمق الصحراء، كان صاحب رؤية وروية، يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف.
هذا علاوة على إنجازاته العلمية دينا وأدبا وحكمة وتأويلا؛ من الكتابة والتأليف، إلى تأسيس صحف وجرائد ومطويات لمقاومة الاستعمار الغاشم، إلى الخطب المنبرية والدروس المسجدية، إلى المحاضرات الدورية والمناسباتية، بصورة حضارية نبيلة، غيّرت الكثير من ملامح المجتمع الجزائري الذي أغرقته الهمجية الاستعمارية في دوامة من التخلف والجهل طوال دهر غير يسير.
وفي جهاده الكتابي، ترك الشيخ الجليل تفسيرا للقرآن الكريم موسوما باسمه؛ تفسير ابن باديس.. وكتاب العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.. وكتاب مجالس التذكير من حديث البشير النذير.. وآثار متفرقة جمعتها أيادي الخير بعد وفاته وبعد استقلال البلد. كما أصدر جريدة “الشهاب” والتي جعلها نافذة لنشر المواضيع الدينية، الأدبية والعلمية، وقد صدر منها في حياته ما يُقارب خمسة عشر مجلداً.
بعد عدوان اليهود على المسلمين في قسنطينة العام 1934م، تدخل الشيخ ابن باديس في مساعي حميدة وأعاد الأمور إلى نصابها، وهنا تدخلت السلطات الفرنسية وعرضت عليه منصب رئاسة الأمور الدينية، وذلك لإغرائه وكبح جماحه وجعله تحت عينها فتأمن منه ما لا يمكن توقعه، لكنه رفض ذلك، وأبى أن يكون خادما للاستعمار. إلا أن العمل الجبار الذي قام به، وجعل منه بطلا قوميا ومرجعا دينيا ومعلما وطنيا بامتياز كبير، هو تأسيسه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
فمع مطلع شهر ماي من العام 1931م، اجتمع ثلة من صفوة الأئمة والدعاة والمفكرين الجزائريين بنادي الترقي بالعاصمة الجزائر، وعبروا عن رغبتهم الجامحة في تأسيس تنظيم يلم شملهم ويرص صفوفهم ويثمن مجهوداتهم الدعوية والاصلاحية.. فكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وانتخبوا لها مكتبا وهيئة مسيرة جاءت على النحو التالي:
- الرئيس: عبد الحميد بن باديس.
- نائب الرئيس: محمد البشير الإبراهيمي.
- الكاتب العام: محمد الأمين العمودي.
- نائب الكاتب العام: الطيب العقبي.
- أمين المال: مبارك الميلي.
- نائب أمين المال: إبراهيم بيوض.
أعضاء مستشارين:
- المولود الحافظي.
- الطيب المهاجي.
- مولاي بن شريف.
- السعيد اليجري.
- حسن الطرابلسي.
- عبد القادر القاسمي.
- محمد الفضيل الورتلاني.
ومنذ ذلك اليوم، صارت الجمعية تقدّم على أنها تيار إصلاحي اجتماعي تربوي، ترمي إلى الدفاع عن الشخصية الجزائرية في عروبتها وإسلامها، وتعمل على المحافظة عليها في قيمها الروحية والتاريخية.. إلا أن ميادين الإصلاح التي خاضتها الجمعية فقد كانت متعددة؛
الميدان الديني الخالص، حيث أدركت الجمعية الأهمية القصوى التي تمثلها العقيدة في حياة الأفراد، الأمر الذي جعلها تتخذها كقاعدة انطلاق لمشروعها التغييري والإصلاحي.
الجانب الثقافي والاجتماعي، فقد عملت على محاربة الأمية، وتربية وتعليم الناشئة والاهتمام بالطفولة ومحاربة الآفات الاجتماعية والاهتمام بشأن المرأة.
الجانب الاقتصادي، حيث أنها لم تغفل الدور المهم الذي يلعبه المال في إدارة شؤون الأفراد والجماعات، فأقدمت على تأسيس العديد من الجمعيات المهنية، كجمعية التجار المسلمين التي أسستها بقسنطينة، والجمعية الاقتصادية، وذلك لتحقيق الاستقلالية الاقتصادية للشعب الجزائري.
الجانب السياسي، وعلى الرغم من أن القانون الأساسي للجمعية يؤكد على أن لا خوض في الأمور السياسية، إلا أنها اضطرت إلى الخوض في عديد القضايا السياسية، منها مسألة التجنس ومقاومة سياسة الإدماج وغيرها.
لقد كانت دعوة “ابن باديس” وجمعية العلماء صريحة في التخطيط لانتشال الأمة الجزائرية من الوضعية المزرية التي آلت إليها، جراء السياسة التدميرية للسلطة الاستعمارية وكذا ترميم وإصلاح البيت الوطني، ثم الخروج إلى مواجهة الصلف والعدوان الاستعماري.. فكانت بعد ذلك ثورة التحرير العظمى التي كرّست كل المبادئ والقيم، وحقّقت كل الآمال والأحلام باستقلال الوطن.