يدرك الاحتلال الصهيوني أن حزب الله هو القوة القتالية غير الحكومية الأقوى في العالم، إذ تتجاوز قدراته العسكرية قدرة جيوش العديد من دول الشرق الأوسط، فترسانته الضخمة تتضمن صواريخ موجّهة يمكن أن تضرب أي مستوطنة صهيونية، لكنّ الحزب لا يزال رده على العدوان الصهيوني الجاري أقل بكثير من المتوقع، وهذا سبب آخر لحالة القلق التي تعانيها (إسرائيل) وجنرالات جيشها الذي أثبتت الوقائع أنه لا يزال يعمل كمليشيا.
تمّكن حزب الله اللبناني من تحقيق زيادة في عدد الصواريخ وعمق ضرباها الموجّهة نحو المستوطنات الصهيونية خلال اليومين الماضيين، إلا أنه لم يعتمد قاعدة “تل أبيب مقابل بيروت” كما يشير بعض الخبراء العسكريين. ففي يوم الاثنين، استهدف الحزب مناطق داخل الكيان تصل إلى عمق 45 كيلومتراً، بينما بلغ مدى القصف يوم الثلاثاء 65 كيلومتراً، حيث أطلق 200 صاروخ في غضون ساعة واحدة.
هذا التطور يضع حوالي 1.5 مليون إسرائيلي في مرمى الصواريخ، مما يضطرهم للبحث عن الملاجئ، وبالمقابل فإن المجازر في ضاحية بيروت تظل ضمن إطار عمليات الاغتيال وليس قصفاً عشوائياً، مما يعني أن الحزب لم يرد باستهداف تل أبيب. علاوة على ذلك، لا يزال الحزب يستخدم صواريخ غير موجهة حتى اللحظة.
وتسعى (إسرائيل) إلى كسر إرادة حزب الله من خلال استهداف منظومته العسكرية والقيادية، وذلك لإجباره على قبول واقع جديد يتجاوز العودة إلى ما وراء نهر الليطاني، وليس مجرد إعادة مستوطني الشمال إلى بيوتهم كما يتوعد القادة الصهاينة. وهذا يشير إلى أن (إسرائيل) ستواصل تدمير جنوب لبنان وتهجير سكانه، نظراً لأنه يمثل مركز ثقل الحزب العسكري والشعبي، تماماً كما فعلت في قطاع غزة.
وأصبح الحزب يصعّد هجماته الصاروخية، فقد أطلق 200 صاروخ في الساعة مقابل 150 صاروخا في اليوم في أوقات سابقة، ومع ذلك فإن ردة فعل الحزب، لا تزال في إطار محاولة استيعاب الصدمة العسكرية التي وجهتها إليه (إسرائيل) قبل أن يبدأ في الرد الفعلي عليها، فالحزب يتبنى مبدأ الدفاع المرن الذي يقوم على ترك قوات الاحتلال تعمل ثم يرد عليها حتى لا تنكشف منصاته الصاروخية.
صحيفة تلغراف البريطانية أشارت -في تقرير لأدريان بلومفيلد في بيروت- إلى أن زعيم حزب الله حسن نصر الله، حذر (إسرائيل) مرارا وتكرارا من أن أي غارات جوية على معاقله في جنوب بيروت ستقابل بوابل من الضربات الصاروخية على تل أبيب، ولكن القيادة مع ذلك تتريّث في تصعيد الصراع، ربما لأن إيران تكبح جماحها لإفشال رئيس وزراء سلطة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو في سعيه إلى جر الولايات المتحدة إلى المعركة.
وذكّر مراسل تلغراف بأن (إسرائيل) قصفت العاصمة اللبنانية في الشهرين الماضيين مرتين، مما أسفر عن استشهاد بعض أكثر قادة نصر الله خبرة في ساحة المعركة، وفي الأسبوع الماضي، أصيب الآلاف من أفراد حزب الله في هجمات متزامنة على أجهزة الاتصال اللاسلكي التابعة للحزب، وبالفعل أطلق الحزب أعنف وابل من الصواريخ عبر الحدود، وأعقب ذلك القصف إعلانه أنه أصبح الآن في “معركة حساب مفتوحة” مع (إسرائيل).
ولكن الحزب لم يستهدف عمدًا المراكز السكانية الصهيونية كما لم ينشر أسلحته الأكثر تطورا، ويتساءل الكاتب لماذا هذا؟ ليرد بأن تردّد قيادة الحزب في استخدام ترسانتها المتقدمة وترددها في تصعيد الصراع يرجع إلى أسباب خاصة بها، كالرأي العام المحلي وتفادي الوقوع في الفخ الصهيوني.
ورغم أن حزب الله أصبح لديه ترسانة أكثر وأقوى بكثير من ترسانته عام 2006 عندما حارب (إسرائيل)، فإن المعلّق اللبناني قاسم قصير الذي تربطه علاقات وثيقة بحزب الله يرى أن إضعاف (إسرائيل) من خلال مواجهة استنزافية طويلة الأمد هي الإستراتيجية التي يفضلها حزب الله أمام جيش صهيوني تأكد كل العالم أن يعمل كمليشيا.
وفي مقابلة مع صحيفة معاريف كشف المؤرخ العسكري الصهيوني أوري ميلشتاين عن الأسباب التي أدت إلى الفشل العسكري الكبير الذي وقع في 7 أكتوبر ، والذي وصفه بأنه “أكبر فشل في تاريخ الكيان”، معتبرا أن الجيش الصهيوني لا يزال يعمل كمليشيا، وذلك في تذكير لخلفية تشكيل هذا الجيش من عصابات صهيونية مثل الهاغاناة والشتيرن، والتي مارست أعمالا إرهابية تسببت في تهجير الفلسطينيين عام 1948.
وأكد ميلشتاين -الذي لطالما كان منتقدا شرسا لمؤسسة الدفاع الصهيونية- في بودكاست مع رئيس التحرير المشارك للصحيفة دورون كوهين أن الإخفاقات التي حذر منها على مدى سنوات عديدة قد تجمعت لتؤدي إلى هذا الحدث المدمر.
وبدأ ميلشتاين بالحديث عن حقيقة صادمة وهي أن الجيش الصهيوني “بدأ كمليشيا وما زال يعاني من هذا الإرث حتى اليوم”، وأن “(إسرائيل) لم تطور جيشا محترفا حقيقيا”. وقال “لم أفاجأ بما حدث، لقد حذرت لسنوات من أوجه القصور في الجيش الصهيوني وثقافته العسكرية، وهذا الفشل كان نتيجة حتمية لتجاهل تلك التحذيرات”، حسب زعمه. وأضاف “لا يزال الجيش يعتمد بشكل كبير على الوحدات الخاصة ذات المستوى العالي، لكن على مستوى الجيش العام ما زلنا نعمل كمليشيا”.
وانتقد ميلشتاين الفجوة الكبيرة بين الأداء التكتيكي للجنود والقيادة الإستراتيجية، مشيرا إلى أن الأداء الجيد على المستوى التكتيكي لم يكن كافيا لتعويض غياب التخطيط الإستراتيجي، وأن “الجنود نجحوا في المواجهة المباشرة، لكن غياب التفكير الإستراتيجي أدى إلى عدم الجاهزية لحرب شاملة”.
وأكد أن هذه المشكلة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى طبيعة الجيش الصهيوني منذ نشأته، وقال “كان يجب على قادة الجيش أن يدركوا أن التحضير للحرب لا يتعلق فقط بإدارة المعارك الصغيرة، بل بالتفكير في إستراتيجيات شاملة”.
وأشار ميلشتاين إلى مشكلة أخرى في القيادة الصهيونية للجيش تتمثل بغياب الشفافية في تفسير ما حدث في 7 أكتوبر، مطالبا رئيس أركان الجيش الصهيوني هرتسي هاليفي ومدير المخابرات العسكرية المتقاعد أهارون هاليفا بالخروج إلى العلن لتقديم توضيحات بشأن ما جرى، لأن عدم وضوح القيادة أدى إلى انتشار نظريات المؤامرة بين الجمهور.
وقال “هناك روايات متداولة بشأن تخطيط الحكومة لفشل صغير يسمح لحماس بالاختراق كجزء من خطة لاحتواء الصراع، وأن الفشل كان جزءا من خطة لجعل (حركة المقاومة الإسلامية) حماس تقوم باختراق محدود يمكن احتواؤه بسرعة، ولكن الأمور خرجت عن السيطرة”. وأضاف “يجب على هرتسي هاليفي أن يمثل أمام الجمهور ويشرح ماذا حدث ولماذا اتخذت تلك القرارات الخاطئة”.
وإلى جانب النقد العسكري وجه ميلشتاين انتقاداته إلى النظام السياسي لدى (إسرائيل)، مشيرا إلى أن الثقافة الحزبية التي ترسخت منذ تأسيس الورم الصهيوني كانت من العوامل التي أسهمت في هذا الفشل.
وأوضح أن “(إسرائيل) تأسست على يد حزب واحد هو ماباي فقط، وتلك الثقافة الحزبية أدت إلى تحويل الخصوم السياسيين إلى أعداء داخليين، مما أضعف تركيز البلاد على التحديات الأمنية الحقيقية”، مشيرا إلى أن هذا النهج أثر بشكل مباشر على مؤسسة الجيش وعلى قدرتها على التكيف مع التحديات العسكرية الحديثة.