الصحفي جون ميشال أباتي.. صوت الحقيقة الذي أسكته النفاق الفرنسي

في خطوة تعكس زيف شعارات حرية التعبير في فرنسا، أعلن الصحفي الفرنسي جون ميشال أباتي استقالته من قناة “RTL”،بعد إيقافه بسبب تصريحاته الجريئة التي وصف فيها الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه “المصدر الذي استلهم منه النازيون وحشيتهم”. قرار إقصائه لم يكن مفاجئًا لمن يدرك ازدواجية المعايير الفرنسية، لكنه كشف عن مدى الخوف الذي تعيشه النخبة السياسية والإعلامية في باريس من مواجهة الحقيقة، خاصة عندما تتعلق بتاريخها الاستعماري الأسود في الجزائر.

فرنسا التي لا تتوانى عن تقديم دروس في الديمقراطية والحقوق، لم تحتمل أن يصدر مثل هذا الموقف من أحد أبنائها، فجاءت العقوبة سريعة، وكأنها رسالة ترهيب لكل من يفكر في كسر الطابوهات ويتجرأ على انتقاد الماضي الاستعماري لباريس. وبينما تُحاضر فرنسا على العالم بضرورة احترام الآراء المختلفة، كانت هي نفسها تكمم فم أحد أكثر صحافييها خبرة وتأثيرًا، فقط لأنه خرج عن الرواية الرسمية.

حرية التعبير في فرنسا.. انتقائية فاضحة

ازدواجية المعايير الفرنسية لم تعد بحاجة إلى إثبات، فهي تتجلى في كل مناسبة، حيث تُفتح المنابر على مصراعيها لكل من يهاجم الجزائر أو يشوه نضالها، بينما يتم قمع أي صوت يفضح تاريخ فرنسا الدموي.

في الوقت الذي تروج فيه باريس لمزاعم “تقييد الحريات” في الجزائر، وتدافع باستماتة عن الكاتب المزعوم بوعلام صنصال بحجة أنه “ضحية القمع الفكري”، نجدها في المقابل تعاقب صحفيًا مخضرمًا لمجرد أنه قال الحقيقة التي لا تتماشى مع روايتها التاريخية الرسمية، وهو ما يكشف عن نفاقها الصارخ في التعامل مع حرية التعبير.

حين يتعلق الأمر بشخصيات مثل صنصال، تصبح حرية الرأي مقدسة، وتتحرك اللوبيات الإعلامية والسياسية لحمايته، لكن عندما يتحدث صحفي فرنسي عن وحشية الاستعمار، يتم إسكاته فورًا، وكأنه ارتكب جريمة لا تُغتفر.

ازدواجية المعايير هذه لم تعد خافية على أحد، إذ تسمح فرنسا لنفسها بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، منتقدة سياساتها الداخلية، بينما تمارس الرقابة المشددة على الأصوات التي تخرج عن “التوجه العام” في قضايا مثل الاستعمار والجرائم التاريخية.

أباتي يرفض الركوع ويواجه العاصفة

في رسالة نشرها عبر منصة “إكس”، أعلن أباتي قطع الحبل السري مع قناة “RTL” التي عمل فيها لسنوات طويلة، وأوضح أن إيقافه لم يكن بسبب خطأ مهني، بل كان عقوبة على جريمة قول الحقيقة.

وأكد أن القناة بررت إيقافه بتلقيها “احتجاجات” من المستمعين، وطلبت منه الغياب مؤقتًا لامتصاص الغضب، قبل أن يتفاجأ لاحقًا بقرار تعليقه نهائيًا. وقال أباتي بأسف شديد: “في البداية تفهمت القرار، لكن عندما تحول إلى إقصاء ممنهج، أدركت أنني أتعرض للعقاب بسبب قناعاتي، وهذا أمر لا يمكنني قبوله”.

وأضاف الصحفي المخضرم أنه كان يمكنه العودة والعمل كأن شيئًا لم يكن، لكنه رفض ذلك لأن العودة تعني الرضوخ للإملاءات والاعتراف بأنه أخطأ، وهو أمر يرفضه رفضًا قاطعًا.

التزام أخلاقي تجاه الجزائر

رغم أنه لا يملك أي روابط عائلية أو شخصية مع الجزائر، أكد أباتي أنه يشعر بمسؤولية أخلاقية في فضح التاريخ الاستعماري الفرنسي. وقال: “لقد صُدمت مما قرأته في كتب المؤرخين، حيث تكررت المجازر الجماعية بحق الجزائريين على مدار 132 عامًا من الاحتلال، وتم تطبيق نظام استعماري قائم على الحرمان والاضطهاد والقمع الممنهج”.

وأضاف أن النظام الاستعماري لم يقتصر على القتل، بل شمل التجويع، التهجير، الاستغلال الاقتصادي، وتدمير الهوية الجزائرية، وهو ما يجعل من غير المقبول أن تتجاهل فرنسا هذه الجرائم أو تحاول تبريرها بأي شكل من الأشكال.

سقوط قناع “الديمقراطية

قرار إيقاف أباتي لم يكن مجرد إجراء إداري، بل هو رسالة تهديد لكل من يحاول كشف الحقيقة، وهو ما يفضح مرة أخرى أن حرية التعبير في فرنسا مجرد شعار أجوف، يتم التلويح به عندما يخدم المصالح الفرنسية، ويتم خنقه عندما يتعارض مع الرواية الرسمية.

فرنسا التي تهاجم دولًا أخرى بحجة “قمع الصحفيين”، هي نفسها التي تعاقب أحد كبار صحافييها لأنه كشف جانبًا من تاريخها الاستعماري. وهذا يُظهر أن “حرية الصحافة” في باريس ليست سوى أداة سياسية تُستخدم حسب الحاجة، وليس مبدأ حقيقيًا يُحترم.

استقالة بشرف

في ختام رسالته، وجه أباتي انتقادًا لاذعًا لمن سماهم “الوطنيين المزيفين” الذين يخافون مواجهة تاريخهم الحقيقي، وقال: “لقد عانيت دائمًا من غياب اعتراف رسمي بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وآمل أن يأتي يوم تعترف فيه فرنسا بهذه الجرائم كما فعلت دول أخرى”.

هذا الموقف الشجاع، وإن كان سيكلف أباتي مسيرته المهنية في الإعلام الفرنسي، إلا أنه سيبقى شهادة حية على النفاق الفرنسي، ورسالة للعالم بأن باريس لا تزال عاجزة عن مواجهة ماضيها الاستعماري، وتفضل دفن رأسها في الرمال بدلًا من تحمل مسؤولياتها التاريخية.

حين تصبح الحقيقة جريمة

ما حدث مع أباتي ليس حالة معزولة، بل هو نموذج واضح لسياسة فرنسية متأصلة، تعتبر أي كشف لماضيها الاستعماري تعديًا على ثوابتها المقدسة.

لكن مهما حاولت باريس قمع الأصوات الحرة، فإن الحقيقة ستظل أقوى من الرقابة، والتاريخ لن يرحم نفاقها المستمر في التعامل مع حرية التعبير.

وحيد سيف الدين - الجزائر

وحيد سيف الدين - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس الجزائر تستنكر بشدة خرق الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة الرئيس تبون يستقبل وزير الداخلية التونسي 15 سنة سجنا لمتّهم بالمضاربة غير المشروعة في البطاطا بداري: "الجامعة منخرطة بقوة في الأهداف التنموية للبلاد" التوقيع على اتفاقيات لتطوير الصناعة المحلية لقطع الغيار وزير الداخلية التونسي في الجزائر