طيلة قرون، كان حوض البحر الأبيض المتوسّط منطقة للصراع بين المسيحيين الأوروبيين والمسلمين من شمال إفريقيا، غير أنّ أوروبا علّمت أبناءها في المدارس والكُتب المدرسية بأن البحّارة المُحاربين المسيحيين كانوا يقومون برسالة مُقدّسة إلى درجة أنهم “لُقِّبوا بحماة العقيدة والحضارة ضد الوحشية الإسلامية”. بينما في الكُتب العربية، يوجد اختلاف حول “الإمبراطورية العثمانية” فهناك من يعتبرها استعمارا واحتلالا للبلدان العربية، وهناك من يعتبرها آخر “خلافة إسلامية”، وتبعا لهذا الخلاف هناك من يعتبر – مثلا – أعمال الأسطول الحربي الجزائري “جهادًا بحريًّا”، وآخرون يعتبرونها من أعمال القرصنة، ولا عجب أن يُسمّى قادة الحروب البحرية الجزائريين بـ “القراصنة” خاصة وأنّ مرحلةً من تاريخنا اعتمدت في كتابتها على المصادر الغربية بالدرجة الأولى..
ونعتقد أن هذا الأمر يجب تصحيحه في ذهنية المتلقّي الجزائري لا سيما الأجيال الناشئة، لأن لفظة “قرصان” تُحيل إلى معاني الاعتداء على الآخر وممارسة الظلم عليه.. وواقع الحال أنّ أصل الصراع دينيٌّ بين المسيحيين والمُسلمين منذ سقوط “غرناطة” وتهجير المُسلمين من الأندلس، والسيادة الجزائرية على حوض المتوسط – قلب العالم – كانت جهادا بحريًّا في صراع ديني ما زال قائمًا حتى اليوم وإن كان يتخفّى تحت مسمّيات أخرى!
من المُجدي أن نقرأ تاريخ ذلك الصراع في فكر المؤرّخين والكُتّاب الغربيين لا سيما في القضايا التي لم تحظ بدراسات وافرة مثل ظاهرة الاسترقاق والاستعباد للأسرى بين الطّرفَين الناتجة عن ذلك الصراع.. وهذا الإيطالي الأستاذ الدكتور “سلفاتوري بونو”، المتخصص في تاريخ المغرب العربي، سيحدّثنا عن “العلاقات بين إيطاليا والجزائر، من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر”، في مقال ترجمه “أبو القاسم بن التومي” ونشرته مجلة “الأصالة” الجزائرية في عددَي جانفي ومارس عام 1972. وسنرى كيف أنّ هذا المؤرّخ “المنصف” يؤكّد بأنّ الصراع في حوض المتوسط كان صراعا دينيًّا، ومن الجانب الأوروبي كان يتميّز بالهمجيّة والتوحّش إلى درجة أنّ الدول الأوروبية كانت تشكّل تحالفات عسكرية ضد الجزائر، مثل تحالف عام 1541 الذي شاركت فيه 500 سفينة حربية من دول أوروبية عديدة ضد الجزائر.. وفي المقال، يؤكّد “سلفاتوري بونو” عن التّسامح الجزائري والرّقي في التعامل مع الأسرى إلى درجة أن كثيرين منهم اعتنقوا الإسلام وحظوا بمكانة متميزة في المجتمع الجزائري حتى وصلوا إلى أعلى المراتب.. ويحدّثنا هذا المؤرّخ الإيطالي عن الجزائر التي كانت تمثّل الكابوس المرعب لأعدائها، حيث كانت عاصمتها تُعرف باسم “مدينة الرعب” في الدول الأوروبية. وفي الوقت نفسه، كانت الجزائر تمثّل الحلم والأمل للإنسان الأوروبي، فقد هاجر إليها كثيرون من مختلف الجنسيات: (إيطالية، ألمانية، إنجليزية، فرنسية، إسبانية..) بحثا عن الحياة الكريمة في بيئة آمنة تحقّق طموحاتهم.
ورغم أنّ “سلفاتوري بونو” كان شجاعا في الاعتراف بقوة الجزائر وفضلها على أوروبا وشعوبها، فإنه لم ينس أن يحدّثنا – لأغراض في نفسه – عن قادة جزائريين كانوا في الأصل أسرى مسيحيين اعتنقوا الإسلام وغيّروا أسماءهم وتَموقعوا في مراكز قيادية وصلت إلى الحُكم! ومهما يكن من أمر، فإنّ أهمّ ملاحظة نستخلصها من المعاني الخفيّة في كتابة هذا المؤرّخ الإيطالي أنّ القوة البحرية الجزائرية كانت مهيّأة لمواجهة أحلافٍ عسكريّة أوروبيّة، ولم يكن في وسع دولة واحدة أن تتجرّأ بمفردها على الجزائر، ولعل ما يُسمّى اليوم “الناتو” (منظمة حلف شمال الأطلسي)، الذي تأسّس عام 1949، قد تأسّس فعليًّا عام 1541 ضدّ الجزائر..
من زاوية التاريخ، وبلسان المؤرّخ الإيطالي “بونو”، نهمس في أذن كل دولة ترى في الجزائر خطرا عليها بهاتين الحقيقتين: الأولى أنّ الجزائر لعنةٌ على من يعاديها، ونعمة على من يسالمها. والثانيّة أن الجيش الجزائري مُهيّأ لمواجهة حلف أو أحلاف عسكرية جبّارة منذ عام 1541، وهو أسمى وأعظم من أن يواجه جيش دولة واحدة.. هكذا يقول التاريخ بلسانٍ أوروبيٍّ! ونترك القارئ مع المقال، مُنوّهين بأنّ آراء الكاتب تعبّر عن رؤيته الخاصة أو من منطلق أوروبي..
كتابات الأوروبيين عن الجزائر
لقد تحدّثنا طويلا عن الجزائريين في إيطاليا، ونريد الآن أن نقول كلمة عن الإيطاليين في البلاد الجزائرية، لا سيما الذين خلّفوا لنا شهادات عن الحياة في مدينة الجزائر وعن الحوادث السياسية والتجارية وحالة السكان الاجتماعية. وتلك الشهادات عبارة عن رسائل ومُذكّرات وكُتب ألّفها رجال مبعوثون من طرف الحكومات الإيطالية للتفاوض في بعض الشؤون، وقناصل كانوا مقيمين في الجزائر، أو مبشّرون، أو عبيد.. كتبوها أثناء إقامتهم في مدينة الجزائر إثر عودتهم إلى أوطانهم..
ولنبدأ بذكر ما حرّره المترجم “جيوفاني باتيكتازا” المُوفَد إلى الجزائر في سنة 1625 ليفاوض في شأن فداء جماعة من رعايا “البندقية” أُسروا أثناء غارة على قرية “بيراستو” في “دلماسية”. فوصف المفاوضات، ثم كتَب تقريرا إضافيًّا عن أنظمة القراصنة الجزائريين وطرق نشاطهم، وعن التجارة في تلك المدنية، ملاحظا أنّ معظم المبادلات التجارية مع بلدان أوروبا كان يقوم على القرصنة البحرية نفسها، ذلك أن غنائم السفن المسيحية كانت تُباع لتجّار مسيحيين، فترسل إلى “ليفورن” لإعفائها من رسوم الجمارك، ومن هناك تُوزّع على كافة المدن الإيطالية. ثم ذكَر بإعجابٍ مدينة الجزائر، مُثنِيًا على روابيها الجميلة الخضراء المحفوفة بالمنازل والغابات مثلما في “طوسكانيا”.
وبالرغم من أهميّة كِتاب “سلفاتو” فقد ظل زمنا طويلا غير مطبوع. ومُؤلّفات “سيفيتا آف ستونداردي” الذي كان قنصل إمبراطور النمسا في الجزائر، وإن طُبعت سنة 1765 غير أنّها بقيت بعيدة عن أنظار المتخصصين في تاريخ المغرب العربي، ولم تُعرف إلا منذ عهد قريب. وقد جاء “ستونداردي” إلى الجزائر سنة 1749 حينما أنشئت علاقات دبلوماسية بين حكومة الجزائر وإمبراطور “آل هبسبور” عقب الصُّلح المُبرم في السنة السابقة. وكانت له خبرة شخصية بالعالم الإسلامي، إذ قام برحلة دامت سنتين في البلاد الشرقية. وفي سنة 1748 قام بمهمة مُوفّقة في “القسطنطينية” لصالح حكومته. وقبل نهاية سنة 1749 كتَب تقريرًا عن حكومة الجزائر، وكان الداي آنذاك هو “محمد بن بكير”.. وقد عُيّن دايًا سنة 1748 بعد وفاة “إبراهيم كيسيوك”، وكان ذكيا مثقفًا عادلا ذا مهارة، محبًّا للسِّلم، حريصا على إقرار الأمن في البلاد.
تقرير “ستونداردي” عن النظام الجزائري عام 1749
يصف “ستونداردي” النظام السياسي للجزائر فيقول: “إنّ سلطة الديوان قد تحوَّلت، فأصبح ملزما بقبول القرارات التي يتّخذها الداي بالاشتراك مع مجلس الموظفين السامين وأفراد حاشيته. ولإحباط المحاولات التي قد يقوم بها بعض الطامعين عند موت الداي للاستيلاء على الحكم بالقوة، جرت العادة بتعيين الداي الجديد من بين المساعدين الأكثر اتصالا بالداي الرّاحل، ثم يُعلن في آنٍ واحد عن وفاة الداي السابق وعن اسم خليفته”. أمّا عن قيادة الجيش، فيذكر أنها متكوّنة من ثلاثين ياباشي (رتبة عقيد) و800 بلوکباشي (رتبة رئيس أو قبطان) و400 أودباشي (ضباط صف)، وكان عدد الجنود 7000 منهم 2000 شيوخٌ أو مرضى أو معفون من الخدمة، وألف جندي كانوا مُوزّعين على مختلف الحاميات، والباقون يعملون في سفن القرصنة أو يرسلون لحفظ الأمن في داخل البلاد. ويبدي القنصل المذكور ملاحظات دقيقة عن علاقات مدينة الجزائر مع نواحي البلاد، ويقدّم بيانات عن موارد الدولة وعن البحرية.. تمكّن الباحث من إجراء مقابلات مفيدة مع ما ورَد في مصادر أخرى.
الوباء يجتاح الجزائر (1752 – 1753)
يظهر أن “ستونداردي” درس بعناية خاصة – أثناء إقامته في الجزائر – مظاهر الحياة الاقتصادية بالمدينة التي خصّص لها تقريرًا تحت عنوان: “تجارة الجزائر”، وهو يتعجّب كثيرا من ضعف النشاط التجاري وتدهوره في بلاد غنيّة ذات أرض خصبة، كثيرة السكان، ويرى أن ذلك ناتج عن فقدان الصناعة، أي عدم وجود نشاطات منتجة، والحواجز التي تقيمها حكومة تريد أن تشرف على كل مظاهر الاقتصاد. وخصّص تقارير تعرّض فيها لذكر بعض الحوادث التي جرت في البلاد أثناء إقامته في الجزائر، وهو يعطينا عناصر جديدة لم يسبقه إليها أحد، فمثلا تحدّث عن الوباء الذي اجتاح الجزائر في عامي (1752 – 1753)، فأورد بيانات مُفصّلة عن طرق العلاج المستعملة، وتحدّث عن آثار هذا الوباء بالنسبة إلى السكان على اختلاف عناصرهم وطبقاتهم الاجتماعية.
وفي تقرير آخر، يقدّم لنا معلومات عن حالة الطقس من سبتمبر 1752 إلى سبتمبر 1753. ويروي أخيرا حادثا مثيرًا جرى وهو بالجزائر، ذلك هو مقتل الداي “محمد بن بكير” وتعيين “بابا علي” خلفا له. (وقد حلّلتُ في بعض مؤلفاتي هذا التقرير بإسهاب).
أسيرٌ ليوم واحدٍ..
ولنذكر في الختام “الرحلة” الشيّقة التي كتبها بعد رجوعه إلى إيطاليا الشاعر الأديب “فيليبو فانوتي” (Philippo Fanauti) الذي ساقه سوء الحظ إلى الجزائر سنة 1813، فأسِر بها يومًا واحدا ثم أُطلق بفضل تدخّل القنصل البريطاني، وأقام بها – الجزائر – زمنا. وكتابه الذي يحتوي على مُذكّرات أدبية وأخبار نقلها عن مصادر أخرى فيه ملاحظات عديدة حول مظاهر مختلفة للحالة المحلية، وخاصة الحياة اليومية بمدينة الجزائر. وقد طرق مواضيع شتّى، فوصف سكان البلاد على اختلاف أجناسهم، وذكر مميزاتهم الخاصة وعوائدهم، وتحدّث عن النشاط الصناعي الذي كان مزدهرا وقتها، وعن اللهجات، وكيفيّة تعيين الداي وطرق مباشرة الحكم، وصلاحيات ووظائف أجهزة الدولة. وقد تُرجم كتابه إلى عدة لغات، لكنه رغم انتشاره لم يُستعمل كمصدر تاريخي مع كل استحقاقه لذلك.
القرصنة توطّد العلاقات بين الشعوب!
لقد تعرّضنا في هذه المحاضرة لذِكر بعض المؤلِّفين والأحداث التي كوّنت صلة بين مدن وسكان الجزائر من جهة ومدن وسكان إيطاليا من جهة أخرى، ووحّدت بينهم. وكان في وسعنا أن نذكر أشخاصا آخرين، وهم كثيرون نظرا لوفرة العلاقات بين البلدين وتأصّلها خلال القرون التي ألمحنا إليها والتي تلتها.. وفى إطار حروب القرصنة الطويلة القاسية في غالب الأحيان التي استمرّت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر في البحر المتوسط، رأينا كيف نشأت وتمكّنت رغم كل هذا علائق تجارية واتفاقيات دبلوماسية، وروابط تقدير وتعاون وصداقة بين الأفراد..
ومهمّتنا، نحن المؤرخين، هي سرد وقائع الماضي وتفسيرها. وهذا يفرض علينا أن ننظر بضمير نيّرٍ إلى الحاضر. وأتمنى في ختام هذا العرض أن تتّسع العلاقات الموجودة بين بلدينا وتزداد توثّقا، وخاصة في الميدان الذي يهمنا، أعني التعاون العلمي والثقافي. وأرجو فيما يتعلق بالبحث التاريخي، أن نتمكّن في مستقبل الأيام من اتخاذ مبادرات مشتركة بين الباحثين الجزائريين والباحثين الإيطاليين..