من بين قصص النجاح المبهرة في عالمنا العربي قصة نجاح العالم والطبيب الجزائري «إلياس زرهوني» الذي استطاع أن يصل إلى أعلى مراتب العلم في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم ككل، واستطاع بفضل مثابرته أن يصل إلى ترؤس أكبر مؤسسة بحثية في العالم غير من خلالها وجه التشخيص الشعاعي إلى الأبد بابتكاره طريقة لتمييز الورم الخبيث عن الحميد باستخدام التصوير دون الحاجة للتدخل الجراحي، وقد أبهرت قصة نجاحه رئيسين أمريكيين فجعلتهما يكافئانه بما لم يصل إليه عربي قبله.
ولد البروفيسور إلياس زرهوني في قرية ندرومة بولاية تلمسان، في 12 أفريل 1951، وهو أحد الرواد المبتكرين في مجال الأشعة الطبية لأكثر من عقد من الزمن، وقد تحصل على شهادة الدكتوراه في الطب من جامعة الجزائر في عام 1975.
هاجر زرهوني إلى الولايات المتحدة عن عمر يناهز 24 سنة، إذ تحصل على منحة دراسية بجامعة جونز هوبكنز المرموقة، قبل أن يصبح ـ في عام 1978 ـ طبيبا مقيما رئيسيا، ويُعتبر الدكتور زرهوني من أبرز مؤسسي التصوير بالرنين المغناطيسي (IRM) في العالم، حيث عمل على تطويره من التشريح الخام إلى التصوير الجزيئي للجسم.
هجرته إلى الولايات الأمريكية المتحدة
درس الطب في جامعة الجزائر وتحصل على شهادة الدكتوراه سنة 1975، ثم غادر بعدها الجزائر وهو في الرابعة والعشرين من العمر، رفقة زوجته نادية عزة، طبيبة أطفال، لكنه بقي مترددا بين متابعة دراسته في فرنسا أو أمريكا.
ولأنه سليل أُسرة عانت من الاستعمار الفرنسي، فقد بدا التوجّه إلى فرنسا مؤلما في تلك الآونة، لذا اختار الرحيل إلى الولايات المتحدة التي دخلها وهو لا يتقن الإنكليزية، وهناك تدرج في مناصب عدّة اعتمادا على قدراته العلمية، وخصوصا في مجال البحوث.
تخصّص علمي غير مألوف
عقب تخرجه طبيبا في الجزائر، اختار البروفيسور زرهوني تخصّصا علميا غير مألوف، وهو التصوير الطبي عبر الأشعة، فقد التحق بجامعة «جون هوبكنز» في أمريكا، حيث يوجد تخصص في استعمال التصوير الإشعاعي في تشخيص الأمراض.
وفي عام 1978، عُيّن أستاذا مساعدا بالجامعة ذاتها، ثم تدرج ليُصبح أستاذا محاضرا وهو لم يتجاوز الرابعة والثلاثين، وبين عامي 1981 و1985 عمل في قسم الطب الإشعاعي في كلية الطب في فرجينيا الشرقية، واشتغل على استخدام التصوير الإشعاعي كوسيلة للتشخيص المُبكّر للأمراض السرطانية.
ابتكر أولا جهازا للتصوير المجسم «سكانر»، بعدها، عاد إلى جامعة «جون هوبكنز»، فعُيَن أستاذا محاضرا عام 1992، ثم رئيسا لقسم الطب الإشعاعي عام 1996، وفي تلك الفترة، أنجز زرهوني 157 ورقة بحث معتمدة، ونال 8 براءات اختراع عن مكتشفاته في التصوير الإشعاعي، ومُنح الميدالية الذهبية للعلوم في أمريكا.
الاكتشاف المبهر
يتمثّل الاكتشاف الكبير للبروفيسور زرهوني في استعمال صور «السكانر» لتحديد نسبة الكالسيوم في الأنسجة الحيّة، ما مكّنه من استخدام تلك الصور للتمييز بين الورم الخبيث والحميد.
ما يزيد من أهمية هذا الاكتشاف أنه أغنى الأطباء والمرضى عن الحاجة إلى أخذ عينات من الأورام جراحيا من طريق الخزعة، حيث لم يسبقه أحد إلى تلك التقنية، التي استخدمها للتعرف على نسبة الكالسيوم في العظام، ما جعله أول من استعمل الصور الإشعاعية، منذ عام 1978 لتشخيص مرض ترقق العظام، والذي يعتبر من أكثر الأمراض انتشارا، خصوصا بين النساء.
كما استطاع زرهوني المساهمة في تحويل صور «السكانر» العادية إلى صور عالية الدقة، وهو ابتكار مسجل باسمه.
مكافأة بوش وأوباما
في سنة 2002 اختار الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الإبن، إلياس زرهوني مديرا عاما للمعاهد الطبية الأمريكية، بموافقة من «الكونغرس»، وتمثل هذه الهيئة أعلى مرجع طبي في الولايات المتحدة، فهي ترعى 27 معهدا ومركز بحث، وتُشغّل 27 ألف باحث وموظف، بينهم 17 ألف متفرغ، وتقدر ميزانيتها السنوية بأكثر من 28 مليار دولار.
أما الرئيس السابق باراك أوباما، فلقد اختاره ليكون ضمن فريق «حكماء البيت الأبيض» ومستشاره في مجال الصحة، كما عينه موفدا خاصا للعلوم والتكنولوجيا إلى منطقة الشرق الأوسط، فيما قلّده الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وسام «فارس جوقة الشرف» سنة 2008، وهو أعلى وسام في الدولة هناك.
لغة عالمية
يعتبر زرهوني العلم لغة عالمية وينظر إليه على أنه عالمي وشامل، لذلك أصبح من أوائل مبعوثي العلوم الرئاسية لتعزيز العلوم والتكنولوجيا في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى بلدان العالم، وبذلك زار العديد من البلدان العربية ووجد العديد من العقول والكفاءات المنطوية في بلادها التي تحتاج برأيه إلى مد الجسور والمساهمة التي تصنع التغيير.
يوجه زرهوني رسالة إلى العقول العربية، بأنها عقول لا ينقصها الذكاء لكنها تعاني من حالة فقدان للهوية وقلة تقدير للذات، ويقول إن اليوم الأول الذي تسلّم فيه منصبه كمدير لمعاهد الصحة الوطنية، أخذوه في زيارة إلى المكتبة الوطنية الأولى التي تضم أقدم كتاب لديهم في الطب وتبين لزرهوني أن الكتاب ما هو إلا مؤلف باللغة العربية للرازي، ويرى زرهوني أن لإحداث نهضة علمية في بلداننا، لا بد من البدء بالطفل والاهتمام بالتعليم الذي يراه مستهلكا.
موقفه من وباء كورونا
“يجب أن نتعلم من هذه الأزمة وأن نتعاون ولا نعيد الأخطاء” بهذه الكلمات القليلة والواضحة اختزل زرهوني رسالته التي وجهها للعالم لكي يخرج من تجربة كورونا القاسية بالدرس الذي يجعل البشرية على استعداد لمواجهة أي وباء جديد.
ويُرجع سبب تفشي كورونا في العالم إلى افتقار العالم أجمع إلى نظام ومراقبة أخطار عن الوباء بشكل فعال، ويقول إن العالم لم يتعلم من المحن الماضية التي مرت عليه أيام إيبولاوميرس وسارس وهذه الفرصة الوحيدة اليوم إذا لم تستغلها بلدان العالم لن تنجح مرة ثانية في مواجهة الأوبئة.
رحلة زرهوني المشرفة لما يقارب الـ40 عاما من البحث والجهد المتواصل أوصلته إلى 8 براءات اختراع وأكثر من 200 بحث علمي وترك ـ خلال هذه الفترة ـ الكثير من الأثر الطيب في الآلاف من العلماء والباحثين ، ونال العديد من التكريمات خلال هذه المسيرة، فقد حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة الجزائر عام 2005 ووسام جوقة الشرف الفرنسي عام 2008 وحصل على درجة فخرية من جامعة جونز هوبكنز عام 2010 وأصبح عضوا بالأكاديمية التونسية للآداب والفنون وعضوا بالـNational Research Council، وزميل في مؤسسة بيل وميليندا غيتس.
يشغل البروفيسور إلياس زرهوني، حاليا ـ (منذ 13 جوان 2020) ـ منصب مستشار خاص للوكالة الوطنية للأمن الصحي المستحدثة مؤخرا والتي يرأسها البروفسور كمال صنهاجي، ما يتيح له وضع خلاصة تجربته تحت تصرف بلاده ويطمح إلى أن يدعم الشباب المبدع بالخبرة التي حصل عليها، على اعتبار أنه يمثل ـ بالنسبة إلى الملايين ـ قدوة ينبغي السير على خطاها.