مع تزايد التركيز على انتشار فيروس «جدري القردة»، تصدّرت أسماء فيروسات أخرى المشهد الإعلامي، مثل فيروس «غرب النيل» وفيروس «أوروبوش»، وهو ما أثار المخاوف من احتمالية ظهور أوبئة جديدة قد تعيد البشرية إلى مواجهة تحديات صحية مشابهة لتلك التي كابدتها خلال جائحة كورونا (كوفيد-19)، لكن –بالمقابل- لماذا كل هذا التهويل في عالم شهد عبر التاريخ انتشار أوبئة أكثر فتكا؟ وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن تجاهل الأخطار التي تسبّبت فيها بعض الدول الكبرى من خلال تطوير الأسلحة البيولوجية، ما يعيد طرح أسئلة حول المصادر الحقيقية لكل هذه التهديدات الصحية.
في الآونة الأخيرة، دشّنت منظمة الصحة العالمية، خطّة مدّتها 6 أشهر للمساعدة في وقف تفشّي جدري القردة، تشمل زيادة عدد الموظفين في البلدان المتضرّرة وتعزيز استراتيجيات المراقبة والوقاية والاستجابة، وأشارت المنظمة إلى أن خطّتها -التي ستستمر من سبتمبر الجاري إلى فيفري من العام المقبل- تتطلّب 135 مليون دولار من التمويل، وتهدف إلى تحسين الوصول العادل إلى اللقاحات، خاصة في البلدان الإفريقية الأكثر تضرّرا من تفشّي المرض.
وفي منتصف أوت 2024، صنّفت منظمة الصحة العالمية تفشّي جدري القردة باعتباره حالة طوارئ صحية عالمية، وقد كشف تقرير لوكالة «بلومبيرغ» الأمريكية، نقلا عن علماء ومسؤولين بالصحة العامة، أنه “كان بالإمكان تجنّب تفشّي جدري القردة في إفريقيا، لو تم الأخذ بالاعتبار التحذيرات السابقة، وتوفير المزيد من اللقاحات”، وحسب «بلومبيرغ»، فقد أدت “الخطوات الخاطئة” و”التقاعس” من جانب الحكومات والهيئات الصحية وممولي البحث العلمي، إلى خلق “البيئة المثالية لتحور الفيروس إلى سلالة تنتشر بسهولة أكبر بين البشر”.
منظمة الصحة العالمية تقدّم «جدري القردة» -المعروف اختصارا باسم «إم.بوكس (Mpox)»- بأنه مرض فيروسي ينجم عن الإصابة بفيروس جدري القردة، ويتميز بقدرته على الانتشار بين البشر بشكل مباشر، كما يمكنه أن ينتقل بطريقة غير مباشرة عبر البيئة المحيطة، فقد يلتقط الشخص العدوى من خلال ملامسة الأسطح والأشياء التي سبق أن لامسها شخص مصاب بالفيروس.
وفي المناطق التي ينتشر فيها فيروس جدري القردة بين الحيوانات البرية، يمكن للمرض أن ينتقل من الحيوانات المصابة إلى البشر الذين يتواجدون في وضعية تماس مباشر معها، وبشكل عام، هناك نوعان مختلفان من هذا الفيروس تسببه سلالتان: السلالة الأولى تُعرف سابقا باسم «سلالة حوض الكونغو»، والسلالة الثانية باسم «سلالة غرب إفريقيا»، وكلاهما يمكن أن يكون قاتلا، على الرغم من أن السلالة الأولى لها معدل وفيات أعلى، وكانت تنتشر عادة -وفقا لمنظمة الصحة العالمية- عن طريق تناول لحوم الحيوانات البرية المصابة، فيما تنتقل السلالة المستجدة من شخص إلى آخر، غالبا عبر الاتصال الجسدي مثل مخالطة المصابين أو عبر استعمال فراش أو مناشف ملوثة.
عودة إلى زمن الأوبئة
لكنّ الحديث المتزايد حول «جدري القردة» لا يعني أنه التهديد الوحيد للصحة العالمية، فمنذ بداية صيف 2024، أعلنت كل من إسبانيا وإيطاليا عن تسجيل حالات إصابة بفيروس آخر، وهو «حمّى غرب النيل»، كما أفادت سلطات الكيان الصهيوني بتشخيص عشرات الإصابات بالفيروس نفسه، ما أدى إلى وفاة عدد من المصابين، ما يعكس خطورة انتشار هذا الفيروس الذي يسبب الحمّى والصداع وآلام في الجسم، بينما يعاني أقل من 1% من مشاكل عصبية، واكتسب الفيروس تسميته بغرب النيل عندما اكتُشف أول مرة في المنطقة الغربية من النيل وبالتحديد في أوغندا عام 1937.
تعدّ الطيور الحامل الرئيس لفيروس غرب النيل، ثم ينتقل منها إلى البعوض حيث يستغرق أيام عدة للوصول إلى الغدد اللعابية للبعوضة، والتي بدورها تقوم بنقله إلى البشر حين لدغهم، ويقول أستاذ ومستشار علاج الأمراض المُعدية الدكتور ضرار بلعاوي لـ«بي بي سي»، إن الفيروس ينتشر في المقام الأول عن طريق لدغة البعوض المصاب، والذي ينتمي عادةً إلى جنس «البعوض الزاعج»، ويوضح الدكتور بلعاوي أن هذه البعوضات تكتسب الفيروس عن طريق التغذّي على الطيور المصابة، أي التي تحمل فيروس غرب النيل.
وحمّى غرب النيل هي مرض خطير عديم العلاج بالأدوية قد يتضاعف خاصة بين أصحاب نظام المناعة الضعيف، وتتراوح فترة تطوّر المرض من لحظة الإصابة حتى ظهور أعراض المرض بين 5 أيام ويستغرق المرض لدى البشر من 3 إلى 6 أيام ويختفي من تلقاء نفسه، ويشبه المرض الناتج عن فيروس حمّى غرب النيل، الإنفلونزا، إذ يعاني المريض من الحرارة والصداع والضعف وآلام المفاصل والعضلات والطفح الجلدي وأحياناً الغثيان والإسهال، أما المضاعفات النادرة المحتملة فقد تكون الالتهاب الحاد في الدماغ أو التهاب السحايا.
وبالموازاة مع الأخبار الواردة حول فيروس «جدري القردة»، وكذلك فيروس غرب النيل الذي بدأ ينتشر في مناطق عدة من العالم، تناقلت وسائل الإعلام مصطلحا يجهله أغلب الناس وهو «حمّى الكسلان»، الذي ورد ضمن تحذير أصدرته –مع نهاية أوت 2024- مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة الأمريكية (سي دي سي) حين أعلنت تسجيل 21 حالة إصابة بـ«فيروس أوروبوش» لدى مسافرين أمريكيين قادمين من كوبا.
يُعرف «فيروس أوروبوش» باسم «حمّى الكسلان»، اكتُشف لأول مرة في ترينيداد وتوباغو عام 1955، وهو متوطّن في حوض الأمازون، وبعد 5 سنوات، اكتشفه العلماء في البرازيل في حيوان الكسلان ذي الأصابع الثلاث، وينتشر فيروس أوروبوش من خلال لدغات الهاموش والبعوض المصاب، وتشمل أعراض المرض الصداع والحمّى وآلام العضلات، مع حالات شديدة تؤدي إلى التهاب السحايا، مع العلم أنه لا توجد علاجات أو لقاحات محددة متاحة لهذا المرض في الوقت الراهن.
وقالت «سي دي سي» إنه بين الأول من جانفي والأول من أوت 2024، تم الإبلاغ عن أكثر من 8000 حالة إصابة بالمرض، بما في ذلك حالتا وفاة وخمس حالات انتقل فيها الفيروس من الأم إلى الجنين أثناء الحمل، وأضافت «سي دي سي» أن الدول التي أبلغت عن حالات تشمل البرازيل وبوليفيا وبيرو وكولومبيا وكوبا، مؤكدة أنه تم رصد حالات مرتبطة بالسفر في الولايات المتحدة وأوروبا لدى أشخاص عائدين من كوبا والبرازيل، وتتوقع «سي دي سي» ظهور حالات في دول أخرى مع زيادة الفحوصات والمراقبة في القارتين.
لكن الإنسانية شهدت ما هو أخطر من كوفيد-19 وفيروس «جدري القردة» وغيرهما، أبرزها فيروس «لاسا»، الذي يعد تشخيصه صعبًا لعدم ظهور أعراض واضحة لدى المريض، وينتقل هذا الفيروس عبر القوارض المصابة، التي تلوث الماء والمواد الغذائية، هر لأول مرة في غرب إفريقيا، ويُقدَّر أن 15% من القوارض في نيجيريا تحمل الفيروس.
إلى جانب «لاسا»، تفشى فيروس «زيكا» عالميًا في عام 2016، ما دفع منظمة الصحة العالمية إلى إعلان حالة الطوارئ. ينتقل هذا الفيروس عبر البعوض، ويؤدي إلى عيوب خلقية خطيرة مثل تشوهات الجمجمة ونمو الدماغ غير المكتمل (الصعل)، كما ظهر فيروس «شيكونغونيا» في أربع قارات، وجزر المحيط الهندي والهادي، مسببًا حمّى وآلامًا في المفاصل قد تستمر لأشهر أو سنوات. تتضمن أعراضه الرئيسة الغثيان، والصداع، والتعب، والطفح الجلدي، ولا يزال العلماء يبحثون عن علاج فعّال له.
من بين أخطر الفيروسات التي تهدد حياة الإنسان، «فيروس نيباه» و«حمّى الوادي المتصدع»، حيث تسببا في وفاة ما يصل إلى 75% من المصابين. سُجِّلت أولى حالات «نيباه» لدى الخنازير عام 1998، وعاد للظهور في الهند، متسببًا في وفاة 16 شخصًا. تتنوع أعراضه بين مشاكل في التنفس واضطرابات نفسية. في المقابل، ظهرت «حمّى الوادي المتصدع» في إفريقيا عام 1931، وانتقلت إلى البشر عبر اللبن ولحم الأبقار الملوثين.
كما تشمل قائمة الفيروسات الخطيرة «متلازمة الشرق الأوسط التنفسية» و«متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس)»، وهما من الفيروسات التاجية «كورونا» التي تؤثر على الجهاز التنفسي والهضمي. توفي نحو ثلث المصابين بهذه الفيروسات، قد ظهرت «حمّى القرم-الكونغو النزفية» لأول مرة في جزيرة القرم عام 1944 وانتشرت لاحقًا في الكونغو عام 1969. تسببت في وفاة 40% من المصابين، ولم يُكتشف علاج لها حتى اليوم، وتشمل أعراضها الصداع الحاد، الحمّى، والغثيان.
أما «فيروس إيبولا»، الذي عاد للظهور مؤخرًا، فقد بدأ تفشّيه في إفريقيا الوسطى عام 1976. يتسبب الفيروس في وفاة 40% من المصابين، وترتفع النسبة في بعض المناطق إلى 90%، ورغم الجهود المستمرة، لا يزال اللقاح المضاد له قيد التجارب السريرية، هذا دون نسيان «حمّى ماربورغ النزفية»، التي تشبه إلى حد كبير «إيبولا»، تنتقل عبر الخفافيش وتعد من أخطر الفيروسات، حيث تودي بحياة 90% من المصابين بها.
الاحتلال يتسبب في كارثة صحية.. شلل الأطفال يجتاح غزة
في جويلية 2024، أعلنت وزارة الصحة في غزة، أن فحوصات بيّنت وجود الفيروس المسبب لشلل الأطفال في عينات عدة من مياه الصرف الصحي في القطاع، مندّدة بـ”كارثة صحية”، وأوضحت لوزارة في بيان، أن نتائج الفحوص التي أجريت على عينات من الصرف الصحي بالتنسيق مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف»، بينت وجود ذلك الفيروس، الذي يعد نادرا إذ أنه يتوطن حاليا في بلدين فقط حول العالم، هما باكستان وأفغانستان.
وأضافت الوزارة، التابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أن هذا الاكتشاف “في مياه الصرف الصحي التي تجري بين خيام النازحين” في القطاع الفلسطيني “ينذر بكارثة صحية حقيقية ويعرض آلاف السكان لخطر الإصابة” بالمرض، مع العلم أنه في الأسابيع الأولى من حرب الإبادة الصهيونية على غزة، توقفت مضخات مياه الصرف الصحي في دير البلح وسط القطاع عن العمل، بسبب نقص الوقود.
تفشى هذا المرض في قطاع غزة المدمر بعد أن اضطر غالبية السكان البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة إلى النزوح من منازلهم بسبب العدوان الإسرائيلي، إلى ملاجئ ومراكز إيواء مكتظة تحت ظروف كارثية، ومنتصف أوت 2024، رُصدت لدى رضيع عمره 10 أشهر أول إصابة بشلل الأطفال في القطاع منذ ربع قرن، وللعلم فإن منظمة الصحة العالمية تصنّف -منذ عام 2014- شلل الأطفال طارئة صحية عالمية، وهو أعلى مستوى تحذير يمكن أن تطلقه الهيئة الصحية الأممية، وتشكل مياه الصرف الصحي الراكدة وأكوام القمامة والأنقاض “بيئة مواتية لانتشار أوبئة مختلفة”، حسبما قالت الوزارة.
وسبق للدكتور حسام أبو صفية لمدير مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة أن اتهم الاحتلال الإسرائيلي بالتورّط في انتشار فيروس شلل الأطفال في ظل منعه إدخال التطعيمات اللازمة والمعدات المطلوبة لحل أزمة برك الصرف الصحي، وأوضح أبو صفية –لتلفزيون الجزيرة في قطر- إن الاحتلال يتعمد أيضا عدم إدخال مياه صالحة للشرب وأطعمة صحية ونظيفة، مما يخلق بيئة خصبة لانتشار هذا الفيروس.
وأشار إلى أن الاحتلال حرم أطفال قطاع غزة من 4 تطعيمات دورية، موضحا في الوقت نفسه أن فيروس شلل الأطفال يصيب من هم تحت الخامسة وتمتد فترة حضانته إلى 35 يوما، وتطرق إلى وجود فيروس الكبد الوبائي داخل مراكز الإيواء في غزة، إلى جانب مئات حالات التلوث المعوي التي ترد على مدار الساعة إلى المستشفيات والمراكز الصحية في غزة، وأكد أبو صفية أن الحرب على غزة أعادت هذا الفيروس إلى الواجهة، كاشفا أن هذا الفيروس كاد أن ينتهي كليا في عام 1988، وكان يجري حديث عالمي عن استئصاله بشكل تام مع حلول عام 2026، مبديا أسفه لعودة الحديث عن انتشاره مجددا.
يشار إلى أن هناك 1.7 مليون فلسطيني مصاب بأمراض معدية نتيجة النزوح في القطاع، وأكثر من 71 ألف حالة عدوى بالتهاب الكبد الوبائي الفيروسي، إضافة إلى أن 3500 طفل معرضون للموت بسبب نقص المناعة، وفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، بدوره، يقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن 67% من نظام المياه والصرف الصحي تم تدميرها في القطاع من طرف الاحتلال خلال الحرب الحالية.
تحذيرات متزايدة.. الأسلحة البيولوجية تقترب من الخروج عن السيطرة!
في منتصف مارس 2022، وجهت روسيا اتهامات إلى الحكومة الأوكرانية بأنها تدير بالتعاون مع واشنطن مختبرات بهدف إنتاج أسلحة بيولوجية، وطلبت روسيا من الإدارة الأمريكية أن تفسر للعالم سبب دعمها ما تصفه بأنه برنامج بيولوجي عسكري في أوكرانيا يشمل مسببات لأمراض فتاكة مثل الطاعون والجمرة الخبيثة عن طريق الطيور المهاجرة بين البلدين، وفي أوت 2024، قال تقرير لفورين أفيرز إن الدفاعات الحالية ضد الأسلحة البيولوجية ضعيفة، وإن السيطرة على جائحة كوفيد-19 كانت ممكنة فقط لأن الفيروس لم يكن فتاكا بما يكفي، وشدد على ضرورة ضبط الأسلحة البيولوجية قبل فوات الأوان.
وأشار هذا التقرير الذي كتبه كل من روجر برنت وغريغ جونيور وجيسون ماثيني- إلى أن على قادة العالم إعطاء الأولوية لتطوير دفاعات قوية ضد الأسلحة البيولوجية، ويشمل ذلك تطوير أنظمة مراقبة لاكتشاف الأمراض المصنعة، وزيادة كفاءة سرعة إنتاج اللقاحات وفاعليتها، وفرض سيطرة محكمة على تكنولوجيا التصنيع.
وقال التقرير إن كوفيد-19 وما نتج عنه من عرقلة الاقتصاد العالمي، وتعطيل نظام الحياة اليومية، وتوترات اجتماعية وسياسية، وضغط على القطاع الصحي والوفيات، أظهر ثغرة خطيرة في دفاعات الهجوم بالأسلحة البيولوجية، وقد سهل التطور العلمي في مجال البيولوجيا الجزيئية والبشرية، بجانب الذكاء الاصطناعي، هندسة فيروسات قاتلة تخترق المناعة بسهولة، وتنتشر بسرعة، وتفتك بالجسد البشري بفعالية.
وقال التقرير إن التقدم في التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية قد ذلل تطوير الأسلحة البيولوجية على الدول والأفراد والمجموعات الإرهابية، وأصبح من السهل تصنيع الأمراض باستخدام المواد المتوفرة في الأسواق العادية، كما أن الاعتماد الحديث على أنظمة الذكاء الاصطناعي يجعل البيانات المتعلقة بالأسلحة البيولوجية عرضة للاختراق والسرقة، وقد تقع في الأيدي الخاطئة، مما يشدد على ضرورة تطوير دفاعات ضدها.
ودعا التقرير إلى بناء أنظمة لتطوير اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات، مع تحقيق القدرة على تطعيم سكان العالم في غضون 100 يوم من ظهور وباء، كما أكد على أهمية تزويد المباني بأنظمة لتنقية الهواء، والحد من تمويل التجارب البيولوجية، وفرض رقابة صارمة على الشركات التي تبيع المواد البيولوجية، وأبرز التقرير أن الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية الأسلحة البيولوجية الصادرة عام 1972، فشلت تاريخيا في ردع الدول عن تطوير برامج أسلحة بيولوجية.
وقد وجدت وزارة الخارجية الأمريكية في 2024 أن كوريا الشمالية وروسيا تمتلكان برامج أسلحة بيولوجية هجومية، في حين تتابع الصين وإيران بحوثا بيولوجية قد تكون قابلة للتسليح، رغم أن جميع هذه الدول قد وقعت على الاتفاقية، وقال التقرير إن الولايات المتحدة أجرت في الستينيات تجارب لنشر الأسلحة البيولوجية في محيطها إذا دمر قصف نووي من موسكو ترسانة واشنطن النووية.
ونشرت بكتيريا غير ضارة في أنفاق مترو نيويورك وخليج سان فرانسيسكو، ورشت مواد كيميائية بالطائرات من جبال روكي إلى المحيط الأطلسي ومن كندا إلى خليج المكسيك، وبنهاية الستينيات كانت أسلحتها البيولوجية متعددة ومتنوعة، واتخذت خطوات بعدها للحد من برامج أسلحتها البيولوجية.
واستمر الاتحاد السوفياتي في برنامجه للأسلحة البيولوجية حتى بعد الاتفاقية، وزار مسؤولون أمريكيون وبريطانيون منشآت البرنامج في 1991، حيث رأوا صفوفا من الأوعية والمفاعلات الحيوية القادرة على إنتاج آلاف اللترات من فيروس الجدري، ويمكن لهذه الأوعية ضخ الفيروس عبر أنابيب مبردة إلى قنابل صغيرة يمكن تحميلها على الصواريخ.
وكان طارق الحريري –وهو خبير عسكري- قد أشار في مقال له –بعنوان “الأسلحة البيولوجية.. أبشع أنواع الحروب”- بأنه بعد ظهور وباء «كورونا»، تبادلت بعض الدول التي تمتلك معامل بيولوجية متطورة، الاتهامات ضد بعضها البعض، بادعاء كل طرف أن الآخر وراء تسرب الفيروسات المسببة لـ«كوفيد-19» من المعامل الموجودة في نطاقه الجغرافي، وادعى البعض فيما بعد أن الفيروس تم تعديله من خلال الهندسة الوراثية بغرض مهاجمة دول أخرى.
تمر هذه الاتهامات المتبادلة على متابعي الميديا باعتبار أنها قد تكون إحدى أساليب المكايدة السياسية، وربما يعتبرها البعض حقيقة واقعية، دون أن ينتبه الطرفان من الجمهور العام إلى أن التوصيف الصحيح لهذه المزاعم يعني “الحرب البيولوجية”، التي توجد لها سوابق تاريخية منذ القدم، كما جاء في مقال الخبير العسكري.
وعاد طارق الحريري في مقاله إلى التاريخ، حين اعتبر أن البدايات الأولى للحرب البيولوجية تمثلت في إلقاء الحيوانات الميتة أو العوامل الحيوية الضارة في آبار مياه الشرب، واستخدام الملابس والأغطية الملوثة بالجدري، كما حدث مع السكان الأصليين بعد اكتشاف «كريستوفر كولومبوس» للعالم الجديد، منذ قرابة 700 عام.
واستطرد الخبير العسكري، قائلا: “لكن القرن العشرين، شهد منعطفا أكثر قوة وخسة في تطوير الأساليب القديمة، بعد التقدم العلمي في مجال البيولوجيا؛ بالاستهداف المتعمد لاستخدام الميكروبات؛ سواء كانت بكتيرية أو جرثومية، بغرض نشر الأوبئة بين البشر والنباتات والحيوانات، كما تستخدم أيضا في هذه الحرب سموم الكائنات النباتية مثل الريسين والسموم ذات المصادر الحيوية”.
وأوضح الحريري أنه من الناحية الأخلاقية، فإن الإيذاء الذي تسببه الأسلحة البيولوجية بوصفها أحد أسلحة الدمار الشامل، للبشرية، بصرف النظر عن مصدرها أو أسبابها ومَن المستفيد من ورائها، هو إيذاء بالغ الضرر، فالواقع أن الإنسان هو المتضرر الأساسي بين الكائنات الحية عندما يهوى سوء الاستعمال إلى قاع انتهاك قيمة الحياة الإنسانية، من جانب طرف من هنا أو هناك يسعى إلى تحقيق مصالحه العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، حتى لو كانت النتيجة فناء الإنسان وهلاك المجتمعات.
أخذت الأسلحة البيولوجية مسارا خطيرا جدا –يضيف صاحب المقال- عندما أصبح من الممكن إنتاج ميكروبات معدلة بكتيرية أو فيروسية، غير قابلة للعلاج، والأخطر أنها غير متاح لها لقاحات، وضاعف من تأثير هذه الأسلحة إمكانية نشر الميكروبات المهندسة وراثيا عن طريق الجو، وقدرتها على إصابة الإنسان عن طريق التنفس أو الاختراق عن طريق الجلد.
ومن وسائل الحرب البيولوجية أيضا استخدام الحشرات وسائل ناقلة لتوصيل العامل البيولوجي، بإلقائها فوق المناطق المستهدفة، كما أن وجه الخطورة في الأسلحة البيولوجية سهولة نشر الأجيال المعدلة أو غير المعدلة من الميكروبات وباقي الأنواع الحيوية.
من الأمراض الناتجة عن الفيروسات بعض أنواع سلالة «بونيافيريدي» التي تسبب حمّي الكونغو النزفية والوادي المتصدع، وفيروس «إيبولا»، وسلالة «فلافيفيريدي» المتسببة في مرض التهاب الدماغ الياباني، وفيروس «ماتشوبو» المتسبب في الحمّى النزفية البوليفية، وفيروسات «كورونا» خاصة «السارس» و«كوفيد»، وفيروس «ماربورج» المتسبب في النزف الشديد، وفيروسات الجدري والحمّى الصفراء والتهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي.
وجاء في المقال الذي نشره موقع سكاي نيوز: [لا تقتصر الأسلحة البيولوجية على الفيروسات فقط، لكنها تمتد إلى البكتيريا التي تؤدي على سبيل المثال للطاعون والكوليرا، يضاف إلى هذا العناصر الفطرية، والريكتسيا المسببة للتيفوس والحمّى البرعمية، والسموم العنقودية المعوية. جدير بالتنويه أن الأسلحة البيولوجية التي تعتمد على مسببات الأمراض التقليدية والمستحدثة بعد هندستها وتعديلها وراثيا يمكن الحصول عليها من حيوان مصاب أو حامل للعدوى.
من المؤسف تتصف الأسلحة البيولوجية بأنها لا تتيح الإنذار للأفراد عسكريا أو مدنيا، سواء بالعين المجردة أو الحواس المختلفة، على عكس الأسلحة الكيماوية، والأخطر أن لها قابلية على الانتشار على مساحات شاسعة، وللأسلحة البيولوجية قدرة فائقة على اختراق المنشآت بل والتحصينات العسكرية التي لا تتمكن منها الأسلحة التقليدية، وتستطيع هذه الأسلحة بعد انقضاء فترة الحضانة إحداث إعاقة كاملة أو شلل مؤقت والوفاة للأفراد في ميادين القتال.
تطلق هذه النوعية من السلاح في الحروب العسكرية عن طريق دانات المدفعية ورؤوس الصواريخ أو قذائف الطائرات والبالونات.. تواجه العمليات البيولوجية عسكريا صعوبات بالغة وتحديدا على صعيد الهجوم، إذ إن من الصعب ضبطها وتحديد مناطق تأثيرها بين قوات متقاربة أو متلاحمة، ومن ثم فهي أكثر خطورة من الأسلحة الكيماوية بالطبع.
مدنيا، يمكن أن تتسبب الأوبئة عند استخدام هذا السلاح في حصد أرواح لا تحصى، ونظرا لأنه يصعب اكتشاف الأسلحة البيولوجية ولأنها منخفضة التكاليف وسهلة الاستخدام، تنشأ المخاوف من أن تصبح جاذبة للإرهابيين، عن طريق داعميهم، حيث تقدر تكلفة السلاح البيولوجي بنحو 0.05 في المائة من تكلفة السلاح التقليدي، وهذا يؤدي إلى عدد الإصابات الجماعية نفسها لكل كيلومتر مربع، بل وما يزيد عليها أيضا.
ثار جدل أخيرا حول استخدام الأسلحة البيولوجية في أوقات السلم، في حرب خفية صامتة، من خلال مراكز لتجميع الطيور المهاجرة وترقيمها بأجهزة تتبع حساسة، ثم تزود بكبسولات حاملة للعامل البيولوجي الفتاك، يمكن تفجيرها بأجهزة تحكم عن بعد حسب خطوط سير هجرات الطيور عبر الدول، حيث يكون التفجير فوق المكان المستهدف، فينتشر العامل البيولوجي ناقلا الوباء والمرض].
حروب الفيروسات وصراع القوى..
منظمة للصحة العالمية أم حلبة صدام جيوسياسي؟
بقلم: الدكتور نبيل كحلوش – باحث جزائري في الشؤون الأمنية والدراسات الاستراتيجية
تمثل الأزمات الصحية مراحل خطيرة جداً في تسيير الشؤون العامة لدول العالم، وهي اختبارات حقيقية لمتانة المنظومات الصحية من جهة، وللقدرات على التسيير الاستراتيجي من جهة أخرى. وهذا يعود إلى أن خصوصية الأزمة الصحية تكمن في انتشارها الأفقي وتجاوزها الحدود الفاصلة بين القطاعات المختلفة، إذ تمس الجميع دون استثناء.
وعلى هذا الأساس، فإن ظهور أي أزمة جديدة مثل قضية “إم.بوكس” (Mpox) أو ما يعرف بـ”جدري القردة”، أو حتى “فيروس غرب النيل” و”فيروس أوروبش”، يعني تحديات جديدة سواء على مستوى العلاقات الدولية -بما في ذلك التعاون الدولي لمواجهة هذه الأزمات- أو على مستوى السياسات العامة الداخلية.
هنا يُطرح تساؤل مهم: هل حكومات الدول مستعدة لمجابهة أي تحديات صحية جديدة في ظل حالة عدم اليقين التي تطبع النظام الدولي الراهن وتراجع مصداقية المؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومجلس الأمن الدولي بعد أزمة “كوفيد-19” والعدوان الصهيوني المستمر على قطاع غزة؟
نلاحظ أن منظمة الصحة العالمية تحولت إلى ساحة صدام جيوسياسي، خاصة بين الولايات المتحدة والصين خلال أزمة “كوفيد-19”. كما أن مجلس الأمن الدولي أصبح هيكلاً شكلياً، غير قادر على توفير التعاون الدولي الفعّال، كما ظهر بوضوح خلال حرب غزة. هذا الوضع أدى إلى حالة من عدم اليقين وفقدان الثقة في هذه المؤسسات، ما سيجعل من الصعب تصديق أي طرف، وبالتالي سيؤدي إلى عدم الاستجابة السريعة والمناسبة، حتى في حالة وجود تهديد صحي حقيقي.
ومن زاوية أخرى، فإن فكرة “حرب الفيروسات” أصبحت جزءاً من أجندات أطراف دولية عدة، حيث تغيب في هذه الحروب الحدود الأخلاقية أو القانونية التي تنظم الفئات المستهدفة ونطاقات الاستهداف. هذا يقودنا إلى استنتاج أن الدول نفسها لن تتمكن من التعاون بالمستوى المطلوب، نظراً لتآكل عامل الثقة بشكل كبير نتيجة لهذه الأنشطة الصحية الإجرامية التي تمارسها بعض الأطراف.
إذا، فالعالم ليس مستعداً لمواجهة أزمات صحية مستجدة، باستثناء بعض الاستعدادات المحلية أو الإقليمية التي قد تحققها بعض الدول بفعل جاهزيتها المسبقة.
من الطاعون الأسود إلى كورونا..
انفجارات وبائية ونظريات مؤامرة
بقلم: علي أبو حبله – محامي فلسطيني
الأوبئة التي ظهرت عالمياً كانت دائماً مرفقة بشائعات ونظريات مؤامرة ذات انعكاسات خطيرة. وكانت هذه الشائعات والنظريات تتناول، كما في الوقت الحاضر، القضايا الرئيسية المتعلقة بأصل وانتشار الأمراض. وإحدى نظريات المؤامرة تفترض أن مجموعة ناشطة في السر تحاول السيطرة على مؤسسة أو دولة أو حتى العالم برمته، أو تدميره، كما يفيد البروفيسور ميشاييل بوتير من توبينغن.
عندما اجتاح الطاعون أوروبا في القرن الـ14، لم يكن أحد يعرف أصله. وسرعان ما ظهرت شائعات حول تسميم الآبار. وبالسرعة نفسها، تم الكشف أيضاً عن الجناة المفترضين: اليهود، الذين زُعم أنهم وراء “مخطط شيطاني للسيطرة على العالم”. كان الوباء غير معروف وتم تحميله سياسياً ودينياً ليتحول إلى اضطهاد وتهجير.
في غضون سنتين فقط (1918 ـ 1920)، أدت “الإنفلونزا الإسبانية” إلى وفاة ما بين 25 و50 مليون شخص، وهو عدد أكبر من ضحايا الحرب العالمية الأولى التي انتهت لتوها. وبما أن أصل المرض لم يُبحث إلا ابتداءً من الثلاثينيات، اعتبر كثيرون المرض أنه “سم ألماني”، سلاح طوره الجيش الألماني بشكل اصطناعي.
لم يكن “خنافس ضد ألمانيا الشرقية” مرضاً، بل كان آفة خنفس البطاطس في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة. وعندما كادت هذه الآفة في عام 1950 أن تدمر محصول البطاطس تقريباً، سُوِّقَت من قبل الدعاية الاشتراكية بسهولة على أنها “سلاح أمريكي” استخدم للتدمير ضد الشرق، في محاولة من النظام الشرقي الألماني الجديد لصرف الانتباه عن إخفاقاته الذاتية.
لم يشهد مرض آخر هذا النوع من التضليل الإعلامي مثل الإيدز. بدءاً من عام 1983، روج جهاز المخابرات السوفياتي السابق “كي جي بي” عالمياً للشائعة التي تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية طورت الإيدز كسلاح بيولوجي، وجربته على سجناء وأبناء أقليات ومثليين جنسياً، وألقت بالمسؤولية في ذلك على إفريقيا على أنها أصل للمرض. وعلى الرغم من أن علماء البيولوجيا والأطباء في جميع أنحاء العالم نفوا صحة هذه النظريات، فإن نظرية المؤامرة هذه لا تزال رائجة حتى اليوم.
ما نجح في الترويج للإيدز تم نقله إلى أمراض أخرى. في منتصف التسعينات، انهار الاتحاد السوفياتي وتمكنت السلطات الصحية من السيطرة بشكل أفضل على الإيدز. لكن في إفريقيا، تفجر مرض إيبولا بشكل كبير. بعض المنظرين للمؤامرة، الذين يعتقدون بأن الإيدز كان نتاج مختبرات أمريكية، ألقوا مجدداً بالمسؤولية عن انتشار إيبولا على محاولات اختبار أسلحة بيولوجية في مؤسسات البحوث العسكرية في فورت ديتريك بالولايات المتحدة وفيبورتون داون ببريطانيا.
يجب الإشارة إلى أن هناك نظريات أخرى تروج حول فيروس كورونا، تصف الأخير بأنه سلاح بيولوجي اصطناعي من إنتاج صيني. وتتشابه هذه النظريات في تعليلها، ولا وجود لأدلة تدعمها. وهذا النوع من نظريات المؤامرة ينشأ خاصة في الفترات الأولى للأوبئة التي يكون أصلها وانتشارها غير واضح نسبياً.
كما زادت الثورة الرقمية من تعقيد الوضع، لأن الشائعات والأخبار الكاذبة تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أسرع من علم البيولوجيا والطب وقدرة السلطات الطبية على توفير المعلومات. فالزمن الرقمي له مفعول شاحن توربيني على نظريات المؤامرة حول الأمراض.
كورونا وجدري القرود وفيروس أوروبوش هي فيروسات لا يمكن مواجهتها إلا بالبحوث الجادة وإجراءات النظافة والرعاية الصحية. وهنا أيضاً يساعد التعليم والتأهيل الإعلامي والنظافة الفكرية.
والسؤال هو: هل العالم مستعد لمواجهة الوباء العالمي القادم؟ عامة الناس لا يَحْسَبون ذلك، خاصة أن الناس لا يعرفون ما هو نافع لهم عندما يتصل الأمر بالسياسة الخارجية أو التصدي للمخاطر العالمية. ويقول الخبراء إن الأمر أكثر تعقيداً من أن يفهمه العامة. ومع ذلك، تشير استطلاعات الرأي إلى أن الكثيرين بين العامة يدركون جيداً كيف أن نوبات تفشي الأمراض المعدية في العالم تنطوي على مخاطر جسيمة على حياتهم وأمنهم الاقتصادي، وهم يعرفون ما يجب عمله في هذا الوضع.
وخلص مسح استقصائي لبحوث الرأي العام أُجري بتكليف من مجموعة البنك الدولي وشارك فيه أربعة آلاف مجيب في خمسة بلدان صناعية – هي فرنسا وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة – إلى أن معظم الناس غير مقتنعين بأن العالم أو حتى بلدهم مستعد لمواجهة الوباء العالمي القادم. ويبلغ عدد المجيبين الذين يعتقدون أن العالم سيشهد وباءً عالمياً آخر في العشرة أعوام القادمة ضعف عدد الذين لا يعتقدون ذلك، وأقل من نصف المشاركين في المسح مقتنعون بأن بلدهم مستعد لمواجهة هذا الظرف. وهم يُصنِّفون “الصحة والأوبئة العالمية” على أنها أحد أهم الشواغل العالمية بعد الإرهاب وتغير المناخ.
وتأتي هذه النتائج بعد مرور قرابة عام منذ أعلنت منظمة الصحة العالمية اعتبار وباء الإيبولا “حالة طوارئ تواجه الصحة العامة وتثير اهتماماً دولياً” وهي أعلى مستويات الإنذار التي تُصدرها المنظمة. وقد أطلق هذا الإعلان شرارة استجابة عالمية هائلة، ولكن لم يأت هذا إلا بعد مرور ثمانية أشهر على رصد أول حالة إصابة في غرب أفريقيا. مهما يكن من أمر، فإنه بعد ما يزيد على 11 ألف وفاة، وتعطل حياة ملايين من الناس، وضياع مليارات الدولارات من الدخول، ما زالت تظهر حالات إصابة جديدة بالإيبولا. وشهد العالم أيضاً في الآونة الأخيرة انتشار فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) إلى الجمهورية الكورية، وهو ما ساهم في انخفاض نمو إجمالي الناتج المحلي لهذا البلد إلى أدنى مستوى له في ستة أعوام.
واقتصر انتشار فيروسي الإيبولا وميرس إلى حد كبير على بضعة بلدان لأنهما ينتقلان من خلال الاختلاط الشديد. ولكن كيف سيكون الحال إذا واجه العالم مرضاً سريع الانتشار ينقله الهواء مثل تفشي الإنفلونزا الإسبانية في 1918-1919؟ تُنبئ نماذج التحليل بأنه لو حدث وباء شبيه بالإنفلونزا الإسبانية اليوم، فإنه سيقتل ما يربو على 33 مليون شخص في 250 يوماً. وتذهب التقديرات إلى أن الخسائر الناجمة عن مثل هذا الوباء الشديد ستعادل 4.8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي أو ما يزيد على 3.6 تريليون دولار.
إذن، فالعامة على حق: العالم غير مستعد لمواجهة الوباء القادم. وهو ليس أفضل استعداداً وتجهيزاً مما كان عليه لمواجهة الوباء على وجه السرعة. ولكن بمقدوره أن يكون مستعداً، والثمن ليس سوى نسبة ضئيلة مما سيخسره لو لم يتم التحرك سريعاً.
القرن الحادي والعشرون قرن الأوبئة بامتياز! تلك ليست خرافات ولا إحدى نظريات المؤامرة. الكوكب يعاني. والتوازنات البيئية العظيمة التي دعمت الحياة على سطح الأرض لآلاف السنين باتت في حالة من الفوضى. وتوضح الكوارث البيئية، من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى ارتفاع منسوب مياه البحار إلى حرائق الغابات الخارجة عن السيطرة، وفقدان التنوع البيولوجي المتسارع والمتفشي، التفكك التدريجي للنظم الطبيعية.
وتكاد صفحة الإنسان العاقل، وبالتالي البشرية، تتلوث بإدراك مفجع: لقد زعزعت الأفعال البشرية نفسها أسس الكوكب. وفاقمت الصراعات الجيوسياسية وعدم المساواة الاقتصادية، والثقافة التي تركز على الاستهلاك المفرط، والسياسات غير الفعالة وغير المسؤولة (في بعض الأحيان) هذا التدهور، مما يكشف تصادماً بين الطموحات البشرية والحقائق البيئية. وتظهر الأوبئة كنتيجة حتمية في ظل الاضطرابات التي تطبع هذا العصر.
الأوبئة أكثر بثلاث مرات؟
اختبر العالم على مر التاريخ العديد من الأوبئة المدمرة مثل طاعون أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، والطاعون الأنطوني في القرن الثاني، وطاعون جستنيان في القرن السادس، والموت الأسود في القرن الرابع عشر، والإنفلونزا الإسبانية في القرن العشرين. ومع ذلك، شهد العقدان الأخيران زيادة كبيرة في عدد الأوبئة واختبر العالم أكثر من جائحة.
وتطول قائمة الأوبئة التي عانت منها البشرية مثل الأنفلونزا A H1N1 في العام 2009، والإيبولا في غرب أفريقيا في العام 2014 وفي كيفو في العام 2019، وجائحة كوفيد-19 في العام 2019، ومؤخراً جدري القرود في العام 2022، ثم في العام 2024. ومن المرجح أن تتفاقم هذه الظاهرة في المستقبل، حسب العديد من الدراسات العلمية. ووفقاً لتقديرات ماراني وآخرين، التي نُشرت في أغسطس 2021، قد يتضاعف احتمال حدوث أوبئة شديدة ثلاث مرات خلال العقود المقبلة. فما هي الأسباب وراء تفاقم هذا التهديد؟
أوبئة خطيرة
يرتبط الاحتباس الحراري، الآفة الكبرى للعصر، بشكل وثيق بزيادة الأوبئة. فهو يؤثر على مسببات الأمراض (مثل حمى الضنك والشيكونغونيا وزيكا وفيروسات غرب النيل) ويزيد من تسربها من الحيوانات إلى البشر (مثل الزاعجة البيضاء والقراد). وغالباً ما يؤدي ظهور مسببات الأمراض هذه في المناطق غير الموبوءة إلى انتشار الأوبئة. ووفقاً لتحليل في مجلة Nature (أغسطس 2022)، قد تتفاقم 58% من الأمراض المعدية البشرية بسبب التغير المستمر في المناخ.
وبالإضافة إلى ذلك، أدت أحداث متطرفة أخرى إلى ظهور الأوبئة أيضاً، ومنها تلوث مصادر مياه الشرب ونزوح المجموعات البشرية والحيوانية. وفي الواقع، تم الإبلاغ عن حالات الكوليرا وشلل الأطفال (كما في غزة حالياً) في المناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية (مثل الزلازل والفيضانات) أو البشرية (مثل الحروب).
العولمة والمقاومة
يثير انتشار الأمراض المعدية مثل الكوليرا والسل والملاريا في مناطق جغرافية واسعة مخاوف صحية كبيرة. ويتفاقم هذا الوضع بسبب ظهور مقاومة الأدوية، وتزايد قدرة البعوض على تحمل المبيدات الحشرية، وعدم كفاية ظروف الصرف الصحي، وأيضاً بسبب آثار العولمة. ووفقاً للبنك الدولي، ارتفع إجمالي عدد المسافرين جواً من أقل من مليارين في عام 2000 إلى أكثر من أربعة مليارات في عام 2019، في غضون عقدين من الزمن فقط.
ويخلق هذا النمو الهائل في الاتصال العالمي مخاطر جديدة مرتبطة بمسببات الأمراض الناشئة. وتؤكد دراسة إحصائية أميركية نشرت عام 2022 هذه الملاحظة من خلال تسليط الضوء على دور الترابط في شبكات التهوية في زيادة انتقال الفيروس، وذلك بناءً على البيانات المتعلقة بجائحة كوفيد-19.
الشك العلمي
ويترك تزايد الشكوك وعدم الثقة في العلم تأثيراً مقلقاً على انتشار الأوبئة. من خلال التشكيك في التوصيات المستندة إلى أدلة علمية راسخة ورفض استراتيجيات الوقاية القائمة، يمكن تقويض جهود مكافحة تفشي المرض بشكل خطير. ويستمر وباء شلل الأطفال جزئياً بسبب التردد في اللقاح في أجزاء من أفغانستان وباكستان، حيث تم الإبلاغ عن ست حالات جديدة (حتى الآن) في العام 2024. ومع ذلك، حذرت منظمة الصحة العالمية من تطور الوباء المحلي ليصبح جائحة عالمية في حال بقيت معدلات التطعيم منخفضة. علاوة على ذلك، وفقاً لدراسة نشرت في أكتوبر 2021 في مجلة Nature، أدت الشكوك العلمية إلى انخفاض الامتثال لتدابير الاحتواء المرتبطة بكوفيد-19 في الولايات المتحدة، مما فاقم من انتشار الفيروس.
سياسات غير مسؤولة
ومن العوامل المؤثرة أيضاً في انتشار الأمراض المعدية عن غير قصد، السياسات العبثية التي قد تصل أحياناً إلى مستوى اللامسؤولية. فبالنسبة لبعض صناع القرار، الاحتباس الحراري العالمي مجرد أسطورة بسيطة. وهم يرفضون الاعتراف بحقيقة آثاره الضارة والتي لا رجعة فيها على الكوكب، ويرفضون الانخراط في إجراءات ملموسة لمواجهتها. علاوة على ذلك، تظهر اللامبالاة ونقص التدابير المتخذة في مواجهة الأوبئة التي تجتاح البلدان الفقيرة قصر النظر وغياب التضامن على نطاق عالمي.
وفي الواقع، يعرض إهمال الصحة العامة في جزء واحد من العالم الكوكب بأسره لأزمات صحية محتملة. وتشكل أوبئة جدري القرود الحالية مثالاً واضحاً على ذلك. وأخيراً، بمواجهة التوترات الدولية المتصاعدة، لم يكن ينقص الكوكب إلا التهديدات باستخدام الأسلحة البيولوجية. ويمكن في هذا السياق، استخدام بعض العوامل المعدية، مثل عصيات الجمرة الخبيثة أو يرسينيا بيستيس (البكتيريا المسؤولة عن الطاعون) أو فيروس الجدري، بشكل يهدد البشرية.
أخيراً، يلف الغموض مستقبل البشرية بمواجهة الخطر المحتمل للانفجارات الوبائية. ومن الأهمية بمكان التعاون على المستوى الدولي من أجل السيطرة على المخاطر والتخفيف من حدتها.
“الإمبوكس”..
مجرّد تسخينات نفسية لما هو أخطر!
يرى محمد شريف ضروي الخبير في التخطيط الاستراتيجي والعلاقات الدولية، أن فيروس جدري القردة (الإمبوكس) – الذي بدأ يثير مخاوف العديد من الجهات – هو فيروس محدود الانتشار، ويبدو أن تأثيره لا يرقى إلى مستوى الأوبئة العالمية التي شهدناها في الماضي القريب.
وأوضح «ضروي» أن المعلومات المتاحة حول جدري القردة لا تزال محدودة، حيث لا توجد دراسات شاملة أو دقيقة حوله. والمعروف حتى الآن أن الفيروس ينتقل بشكل رئيسي عبر الاتصال الجسدي المباشر، وهو ما يجعله مختلفاً عن أمراض مثل جائحة “كوفيد-19″ التي تنتقل بسهولة عبر الهواء وتعد من أخطر الأوبئة التي اجتاحت العالم في العصر الحديث.
في هذا السياق، أضاف «ضروي» في حديثه لـ”الأيام نيوز” أن الفيروس سمي “جدري القردة” لأنه ينتقل من الحيوانات المصابة – خاصة القردة – إلى البشر في حالات التماس المباشر معها، سواء في المنتزهات أو الغابات أو المناطق الطبيعية. وعلى هذا الأساس، صنف «ضروي» هذا الفيروس ضمن الأمراض الفيروسية الحيوانية المنشأ، أي تلك التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر.
ومع ذلك، أشار إلى أن احتمالية تحوله إلى جائحة عالمية أمر ضعيف جداً. وأضاف أن الخبراء يميزون بين هذا الفيروس وبين “كورونا” الذي يتميز بقدرته على الانتشار السريع قبل ظهور الأعراض، في حين أن سرعة انتشار جدري القردة أقل بكثير، ولا ينتقل بسهولة عبر الهواء كما كان الحال مع “كوفيد-19”.
وفي تحليله للتغطية الإعلامية المكثفة حول جدري القردة، أكد «ضروي» أن هناك تضخيماً إعلامياً واضحاً يتمثل في محاولات إثارة الخوف والقلق بين الناس. ولفت إلى أن هذا التضخيم ليس مجرد استجابة صحية، بل قد يرتبط بتوجيه الرأي العام نحو قضايا معينة تخدم أجندات سياسية أو اقتصادية. وأوضح «ضروي» أن ظهور هذا الفيروس في توقيت حرج، بالتزامن مع الأحداث الدولية الكبرى، قد يكون جزءاً من محاولات لتشتيت الانتباه عن مواضيع أخرى أكثر أهمية.
وأشار «ضروي» في هذا الصدد إلى أن عام 2024 هو عام محوري على الصعيد السياسي العالمي، حيث تجري أكثر من 76 انتخابات رئاسية حول العالم، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة. وهذا الزخم السياسي يتزامن مع تغطية الأزمات والصراعات الدولية التي تنتشر من قارة إلى أخرى، مثل العدوان الصهيوني المتواصل على غزة، مما يجعل هذا التوقيت مثالياً لبعض الجهات لاستغلال الوضع الصحي لتوجيه الانتباه بعيداً عن تلك القضايا.
وأضاف المتحدث أن الضجة الإعلامية المثارة حول جدري القردة قد تكون جزءًا من تحضير نفسي لتمهيد الساحة لجائحة أخرى مشابهة لجائحة كورونا، بتدبير من جهات معينة، خاصة إذا أخذنا بنظرية المؤامرة التي تشير إلى وجود مخططات تستهدف البشرية على نطاق واسع.
وأوضح «ضروي» أن تتبع مسار الفيروسات على مر العقود الماضية يكشف عن نمط متكرر، فقبل أزمة “كوفيد-19” كانت البشرية قد شهدت عدة أوبئة مثل “السارس” و”إنفلونزا الطيور” و”إنفلونزا الخنازير”، وكلها ظهرت في فترة تتراوح بين 10 و15 سنة قبل تفشي جائحة كورونا. كما يشمل هذا التاريخ العودة إلى التسعينيات، حين انتشرت أمراض أخرى مثل “جنون البقر” الذي أثار في حينه قلقاً عالمياً.
وأشار «ضروي» إلى أن مثل هذه الفيروسات لم تكن مجرد أحداث معزولة، بل جزء من نمط أوسع يظهر على فترات متقاربة. وعلى هذا الأساس، فإن المخاوف من أن يكون هناك توجه لتحضير الرأي العام لجائحة جديدة لا يمكن استبعادها، خاصة مع التحذيرات الأخيرة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.
وفي هذا الإطار، لفت «ضروي» إلى أن منظمة الصحة العالمية قد أطلقت تحذيراً مع بداية هذا العام من احتمال ظهور جائحة جديدة أطلقت عليها اسم “الوباء إكس”. وهذا الوباء غير المحدد قد يتسبب، بحسب التوقعات، في وفيات تفوق تلك التي أودت بحياة الملايين خلال جائحة كورونا بمقدار يصل إلى عشرين مرة.
ويأتي هذا التحذير ضمن الجهود الدولية لاستعداد البلدان للتعامل مع الأزمات الصحية الكبرى التي قد تضرب العالم في المستقبل القريب. يشير مصطلح “الوباء إكس” إلى الأمراض التي لم تظهر بعد والتي قد تشكل تهديداً عالمياً هائلاً بسبب قدرتها على الانتشار السريع وإحداث ضرر كبير دون أن يكون لدى البشرية المعرفة الكافية للتصدي لها.
«ضروي» أوضح أن هذه التحذيرات من منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى التغطية الإعلامية الواسعة حول جدري القردة، قد تكون جزءًا من استراتيجية تهدف إلى تهيئة البشرية نفسيًا لتقبل احتمالية ظهور فيروسات جديدة. وأكد أن الدراسات الحديثة تشير إلى دخول العالم في مرحلة تعرف بـ”الحروب البيولوجية”، حيث يتم استخدام الفيروسات والأسلحة الجرثومية كأدوات لصراعات خفية تتجاوز الحدود التقليدية للدول.
هذه الحروب البيولوجية قد لا تكون مجرد معارك بين الدول، بل هي شكل جديد من العداء الموجه ضد البشرية جمعاء، حيث تصبح الفيروسات والأسلحة الجرثومية أدوات بيد القوى الساعية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية على حساب حياة الملايين.
وفي ختام حديثه لـ”الأيام نيوز”، شدد «ضروي» على أن الأسلحة البيولوجية تعد من أخطر أنواع أسلحة الدمار الشامل، إذ لا تقتصر تأثيراتها على دولة معينة أو منطقة بعينها، بل تصيب الإنسانية بأكملها. وأشار إلى أن ضرر هذه الأسلحة يتجاوز الحدود التقليدية للحروب، إذ لا يهم مصدرها أو الجهة التي تقف وراء استخدامها، فالنتيجة في النهاية هي تدمير حياة البشر وإلحاق الضرر بالمجتمعات بشكل لا يمكن إصلاحه.
ولفت إلى أن ما يدفع الجهات التي تستخدم هذه الأسلحة قد يكون دافعاً عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، لكن النتيجة النهائية تكون دائماً هي ذاتها: ضحايا أبرياء ومجتمعات منهكة، مما يجعل الإنسان الضحية الأكبر لهذه الصراعات التي تهدد مستقبل البشرية.
بأسلحة خفيفة وخفية لكنها أشد فتكاً..
حرب “صامتة” ضدّ البشرية أجمع
يرى الأكاديمي والخبير في العلاقات الدولية، الدكتور رائد ناجي، فيما يتعلق بتفشي سلالة جديدة وأكثر فتكا من فيروس جدري القرود في وسط إفريقيا، أنه وبالرغم من أن تقارير منظمة الصحة العالمية وبعض الجمعيات الطبية الدولية، تؤكد أن هذا الفيروس حالة طبيعية، إلاّ أن هذا المرض لا يمكن أن يكون فيروساً طبيعيا ولا يستبعد أن يكون مطورا في المخابر ويدخل ضمن ما يسمى بالحروب البيولوجية التي تعمل على نشر مسببات الأمراض الفتاكة بين البشر والحيوانات والنباتات عمدا، والتي تظهر أسلحتها البيولوجية مثل بكتيريا أو فيروس متسلل سريع الانتشار حاد التأثير بالغ الضرر في بيئة مناسبة غير قادرة على صد هذا الهجوم.
وأبرز الدكتور رائد ناجي، في تصريح لـ”الأيام نيوز”، أن هذا الأمر مرجح بقوة في ظل تسييس منظمة الصحة العالمية في أحايين كثيرة، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى عدم مصداقية تقاريرها ومؤشراتها في التعبير عن حالة الوباء، خاصة أن دورها اليوم بات مجرد دور وقائي وإعلامي يأتي فيما بعد انتشار أي مرض أو فيروس.
وفي سياق ذي صلة، أفاد محدثنا أنه وبالرجوع إلى التاريخ وتفحصه بدقة نجد أنه لم تمر سنة من السنين الماضية إلاّ وظهر فيها مرض جديد على غرار “جنون البقر” و”إنفلونزا الطيور” و”إنفلونزا الخنازير” وغيرها من الأمراض، وبالتالي لم تخلو فترة ما من مثل هذا النوع من الأوبئة، ما يطرح تساؤلات عدة حول هذا الانتشار للأوبئة والأمراض في مناطق معينة من العالم، تجيب عنها فروض نظرية المؤامرة وغيرها من النظريات في داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تعدّ اليوم مجرد نظريات بل أصبحت حروبا واقعية تشتعل بين الدول.
حروب “صامتة” ضدّ العالم أجمع
وفي هذا الصدد، أكد الخبير رائد ناجي، أنه بعد اكتشاف الأسلحة الجرثرومية والبيولوجية أصبحت “الحرب الصامتة” بنشر الأوبئة أحد سمات هذا العصر، حيث انتقلت الحروب من معلنة ضدّ دولة أو أخرى إلى حروب بيولوجية صامتة تورط العالم بأجمع، حيث تكمن خطورتها وقوتها في أنها خفية، وخفيفة يمكن لزجاجة صغيرة أن تحتويها، لكنها فتاكة، لا تعرف التوقف، ومتى تهيأت الفرصة كانت لها الغلبة والسطوة، مع النأي عن الحرب بمعانيها العسكرية وكل أشكال القصف والتدمير واستعمال الرصاص، فبات هذا المسرب مسربا لنوع آخر من الحروب أصبح يعرفها العالم اليوم تضاف إليها الحروب “السيبرانية” وحروب “الجوسسة” وما إلى ذلك.
وتابع محدثنا يقول: ” يبدو جليا أننا نشهد اليوم عصرا يخضع إلى حروب بيولوجية، ولا يستبعد أن تكون تلك الأمراض التي كنا نسمع عنها في كل مرة، والتي تسببت في وفاة الآلاف بل الملايين من الأشخاص، مثل “الإيدس” و”إنفلونزا الطيور”و”جنون البقر” ومؤخرا “كورونا” و”جدي القرود” وكل تلك الأسماء التي تظهر في كل فترة، بأنها حروب فيروسية مفتعلة بالدرجة الأولى، لأنها متحورة وقابلة للتحور وبالتالي لا يمكن أن تكون فيروسا طبيعيا مثل الإنفلونزا الموسمية العادية التي تُعرف مسبباتها.
ويرى الدكتور رائد ناجي، أن هذه الحروب البيولوجية والجرثومية قد تكون فعلا أحد المجاديف لحرب ضد البشرية، وما يدعم هذا القول–حسبه-مؤشرات كثيرة جدا، ومن بينها التصريحات التي خرجت من رحم صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية مفادها وجوب تصفية نصف الكرة الأرضية، وظهرت نظريات بالكامل، تؤكد على ضرورة إنقاص عدد سكان هذا الكون وأن هذا الكون لا يتسع لهذا العدد الهائل من البشر.
وفي هذا الشأن، أوضح المتحدث ذاته، أن هذه النظريات ظهرت من طرف جهات معينة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وحتى من داخل الأروقة الأوروبية التي ليست بعيدة عن هذا الطرح، والذين شرعوا في تطبيقها على أرض الواقع خلال السنوات الماضية بعملية تحديد النسل وغير ذلك من الإجراءات، لتنتقل فيما بعد إلى نوع من الحروب تبيد جزء لا بأس به من سكان الكرة الأرضية، وهذا في حد ذاته جوهر الرأسمالية وموجود في كتاباتها كما أنها نزعة واضحة لدى العديد من الرأسمالين.
هذا، ولفت الدكتور رائد ناجي، إلى أن هناك مخابر في دول من العالم تسهر على تطوير مجموعة كبيرة من البكتيريا والفيروسات المعدلة وراثيا لمقاومة المضادات الحيوية، والتي يمكن استخدامها أسلحة بيولوجية ضمن هذه الحروب، مثل ما هو الحال مع المخابر التي اكتشفت في أوكرانيا مثلا والتي كانت تمولها شركات غربية وأمريكية وصهيونية وكانت تعمل على تطوير أنواع مختلفة من الفيروسات.
وفي هذا الصدد، أفاد محدثنا أنه مع بداية الأزمة الروسية- الأوكرانية وجهت موسكو اتهامات إلى حكومة كييف بأنها تدير بالتعاون مع واشنطن مختبرات في أوكرانيا بهدف إنتاج أسلحة بيولوجية، وطلبت روسيا من الإدارة الأميركية أن تفسر للعالم سبب دعمها ما تصفه بأنه برنامج بيولوجي عسكري في أوكرانيا يشمل مسببات لأمراض فتاكة مثل الطاعون والجمرة الخبيثة عن طريق الطيور المهاجرة بين البلدين، كما كشفت موسكو أن القوات الروسية اكتشفت وثائق في أوكرانيا قدمت أدلة على أن وزارة الصحة الأوكرانية أمرت بإتلاف عينات من الطاعون والكوليرا والجمرة الخبيثة ومسببات الأمراض الأخرى قبل بداية العملية العسكرية هناك.
حرب “تكنولوجية” بأسلحة”بيولوجية”
وبالعودة إلى جائحة كورونا–يضيف المتحدث ذاته- لوجدنا الكثير من الآراء المتناقضة، إلاّ أن الأمر الذي اتضح فيما بعد هو أن “أزمة كوفيد 19” كانت في مبدأها حرب تكنولوجية أدت إلى محاولات الاحتراب بالجانب البيولوجي اي عن طريقة نشر هذا الوباء المتحور، وأكدت الكثير من التقارير صحة هذ القول على غرار التقارير الروسية التي أشرنا إليها سابقا والتي تفيد بوجود مخابر في أوكرانيا كانت تعمل على تربية الطيور وتنقل إليها الفيروسات المعدلة وراثيا ومن ثم تطلقها اتجاه رحلاتها المحددة، وهو ما يعزز اعتقاد أن جائحة كورونا تدخل ضمن هذه الحروب البيولوجية.
وتابع ناجي يقول: “والنقطة الثانية هي قضية الصين كيف احتضنت هذا المرض وأعادت تصديره مرة أخرى لأنها فهمت هذه الرسالة، وعندما وصل الفيروس إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية أدركت هي الأخرى تلك المعادلات، التي انتشرت عبر العالم بحيث أن محاولة اضعاف بلد ما اقتصاديا أو تكنولوجيا يتم من خلال هذا النوع من الأسلحة.”
ولعل خير دليل على هذا– يضيف الخبير ذاته- هو العديد من الأطروحات في الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى أن انتشار مثل هذه الأمراض يساعد على إعادة الترتيب الديمغرافي وعلى ترتيب العلاقات الدولية وكذا على ترتيب الأولويات والقطبيات العالمية، هذا الطرح بحد ذاته يجعلنا نتوقف ونتأمل فيه كثيرا لنقول مرة أخرى إن كورونا لم يكن فيروسا عاديا وإنما كان مطورا ومقصودا في حد ذاته وكان يستهدف جهات معينة على وجه التحديد.
وفي ختام حديثه مع “الأيام نيوز”، اعتبر محدثنا أن جدري القرود يندرج أيضا تحت هذا الباب بكونه صناعة بيولوجية بالدرجة الأولى، خاصة في ظل هذا التوقيت الذي يعرف فيه العالم موجة من الصراعات الدولية والإقليمية، لأن “الزمنكانية” تلعب دورا هاما جدا في مثل هذه الأمور التي لابد التوقف عندها في إطار قراءة الأحداث وتحليلها، بحيث أن الإطار الزمني لظهور مرض جدري القرود في إفريقيا ثم انتقاله إلى مصر ومن ثم السودان، يأتي في ظل قضايا سياسية ودولية عديدة ذات بعد استراتيجي، من بينها الاحتراب الداخلي في السودان، وسوء العلاقات ما بين إثيوبيا ومصر، إلى جانب ما يحدث في إفريقيا، بالإضافة إلى الحرب على البحر الأحمر، ناهيك عن الأزمة الروسية الأوكرانية، وأزمة الصومال، والأهم والأبرز من كل هذا هو أحداث غزة التي يراد بها طبعا طمس الحقائق، في انتظار ما ستكشفه لنا الأيام.
من التحورات إلى المقاومة..
كيف تعود الفيروسات القديمة بشكل جديد وتسبب الأوبئة؟
في سياق الظهور المتكرر للفيروسات والأوبئة العالمية، قدم الدكتور سلامة كواش، المختص في الصحة العمومية، تحليلاً علمياً حول الأسباب التي تدفع إلى ظهور الفيروسات القديمة بشكل جديد. ووفقًا للدكتور كواش، فإن الفيروسات التي نراها اليوم، والتي تظهر بين فترة وأخرى، ليست جديدة بالكامل. بل هي فيروسات قديمة كانت موجودة سابقًا ثم انقرضت أو تراجعت بشكل كبير قبل أن تعود للظهور مجددًا، إما على شكل نسخ أصلية أو نسخ متحورة.
من وجهة نظر علمية، يُعتبر التحور سمة أساسية للبكتيريا والفيروسات. كما تطور البشر في مجالات متعددة مثل إنتاج المحاصيل، والبناء، وتخزين المياه، فإن الفيروسات والبكتيريا تتطور بدورها لضمان بقائها. الصراع من أجل البقاء والتطور من أجل الاستمرارية هو المبدأ الأساسي الذي ينطبق على جميع الكائنات الحية، بما في ذلك الفيروسات.
يتناول الدكتور كواش أيضًا كيفية تأثير الأدوية واللقاحات على مكافحة الفيروسات. يوضح أن الأدوية واللقاحات التي تُستخدم لمكافحة الفيروسات قد تكون في بعض الأحيان غير فعالة، إما بسبب ضعفها أو بسبب استخدامها غير الصحيح. وعندما يظل الفيروس حياً، فإنه يتحور ويتطور ليصبح مقاومًا للعلاج المتوفر. هذا التحور يؤدي إلى ظهور الفيروسات بشكل جديد بعد فترة من الزمن، مما يجعل المكافحة أكثر صعوبة.
دروس مستفادة.. التحورات في الفيروسات والحشرات
يشير الدكتور كواش إلى أن التحورات ليست مقتصرة على الفيروسات فقط، بل تمتد أيضًا إلى الحشرات. على سبيل المثال، يتم إنتاج مبيدات جديدة سنويًا لمواجهة تحورات الحشرات، كما يتم إنتاج لقاحات جديدة كل ثلاث إلى أربع سنوات لمواكبة تطور الفيروسات. هذا يشير إلى أن المبدأ الأساسي هو أن التحور والتطور هما استراتيجيتان حيويتان للبقاء والمقاومة.
وأكد الدكتور كواش أن الفهم العميق للتطور والتحور في الفيروسات والبكتيريا هو المفتاح لمكافحة الأوبئة والحد من تأثيراتها. عبر تحسين استراتيجيات العلاج واللقاحات ومواكبة التطورات الجديدة، يمكن تحسين استجابة العالم للأزمات الصحية العالمية.
وفي إطار تحليله حول أسباب ظهور الأوبئة، قدم الدكتور سلامة كواش، المختص في الصحة العمومية، رؤى مفصلة حول العوامل العلمية والاجتماعية التي تسهم في انتشار الأمراض المعدية. يركز الدكتور كواش في تحليله على مجموعة من العوامل التي تؤدي إلى ظهور الأوبئة، مشددًا على أهمية الفهم الدقيق لهذه العوامل لتفادي الأزمات الصحية المستقبلية.
يشير الدكتور كواش إلى أن التحورات التي تحدث في الفيروسات والبكتيريا تعد من الأسباب الرئيسة لظهور الأوبئة. هذه التحورات تساهم في بروز الفيروسات القديمة بشكل جديد، مما يجعل مكافحتها أكثر صعوبة. التحور هو عملية طبيعية تهدف إلى بقاء الكائنات الحية وتطورها لمواكبة التغيرات البيئية، بما في ذلك التهديدات التي يفرضها الإنسان.
الاختلافات في الرعاية الصحية.. من أوروبا إلى مناطق النزاع
يؤكد الدكتور كواش على أن غياب الرعاية الصحية في بعض الدول يشكل عاملاً هامًا في ظهور الأوبئة. ففي حين أن الدول الأوروبية، التي تُعتبر متقدمة صحيًا، قد تخلصت من العديد من الأمراض المعدية، تظل هذه الأمراض موجودة في بعض الدول الأخرى. هذا الوضع، إلى جانب الهجرة غير الشرعية والسفر، يسهم في ظهور بؤر جديدة للأوبئة.
تناول الدكتور كواش أيضًا تأثير الصراعات العالمية والحروب على الصحة العامة، مشيرًا إلى أن دولًا مثل اليمن وفلسطين وغزة تعاني من دمار شامل وغياب الرعاية الصحية والتغذية، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض الخطيرة والأوبئة. قلة المياه، التلوث، وسوء الحالة الصحية العامة تساهم في انتشار الأوبئة بشكل سريع.
يبرز الدكتور كواش أن التعديلات الجينية التي يجريها الإنسان على الكائنات الحية، مثل المنتجات الزراعية، قد تساهم في ظهور الأوبئة. كما يشير إلى أن الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية يمكن أن يؤدي إلى تفشي الأمراض بشكل كبير. هذا الاستخدام العشوائي يعزز من ظهور الأوبئة بسبب التغيرات البيئية الناتجة عن هذه الأنشطة.
يستعرض الدكتور كواش أيضًا مشكلة الاستعمال العشوائي للأدوية، خصوصًا المضادات الحيوية. يوضح أن هذا الاستعمال يمكن أن يؤدي إلى ظهور بكتيريا مقاومة، وهي مشكلة تحذر منها منظمة الصحة العالمية. هذه البكتيريا المقاومة تهدد الصحة العامة وتتسبب في ظهور أمراض نادرة وصعبة العلاج.
يشير الدكتور كواش إلى أن التلوث الصناعي، مثل تلوث المياه الجوفية بسبب صناعة الأنسجة واستخدام الملونات في الملابس، يعتبر من الأسباب التي تسهم في ظهور الأوبئة. ارتفاع نسب التلوث في العالم يعزز من تفشي الأمراض ويزيد من المخاطر الصحية.
الفهم العلمي أولاً
فيما يتعلق بنظرية المؤامرة، يوضح الدكتور كواش أن الأطباء يركزون على الجوانب العلمية، ويعتبرون أن احتمالية وجود مؤامرة ضعيفة جدًا. ويشير إلى أن نظرية المؤامرة قد تظهر في الشطر الثاني، أي بعد ظهور الأوبئة، حيث يتم استغلال الأمراض للتنافس على إنتاج اللقاحات والأدوية. يشدد على أن التنافس بين المخابر لإنتاج منتجات جديدة يعد أمرًا منطقيًا، لكنه لا يعني بالضرورة وجود مؤامرة.
وتناول الدكتور كواش بقوة موضوع نظرية المؤامرة التي تظهر بشكل متكرر عندما يظهر فيروس جديد. ويشير إلى أن هناك العديد من الفرضيات التي تتحدث عن كون فيروس كورونا مؤامرة، لكنه يؤكد أن هذا الطرح يفتقر إلى الأدلة العلمية القوية. ويستند الدكتور كواش إلى حقيقة أن فيروس كوفيد-19 ينتمي إلى عائلة السارس وعائلة الزكام، مما يجعله مشابهًا للفيروسات الأخرى من حيث البنية والخصائص. بناءً على هذه المعطيات، يعتبر الدكتور كواش أن نظرية المؤامرة في حالة كوفيد-19 ضعيفة جدًا وغير مدعومة علميًا.
الحرب البيولوجية.. تهديدات محتملة وتطورات جديدة
يستعرض الدكتور كواش أيضًا مسألة الحرب البيولوجية، مشيرًا إلى أن الحرب الكلاسيكية بالأسلحة أصبحت من الماضي. في الوقت الراهن، تركز بعض الدول على ترويج المخدرات وجعلها وسيلة لتدمير الشعوب. ولكن، يشير الدكتور كواش إلى أن الحرب البيولوجية قد تشمل أيضًا استخدام الأمراض لشل حركة الناس وتسبب وضعًا وبائيًا خطيرًا. يمكن أن تشمل هذه الأمراض، الأمراض التنفسية، المعوية، العصبية، أو العضلية، مما يجعلها تهديدًا محتملاً يتطلب يقظة وحذرًا دائمين.
في الختام، يؤكد الدكتور كواش أن نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية قد تظل قيد النقاش في بعض الحالات، لكنها ليست حاضرة في جميع الأوبئة والأزمات الصحية. يشدد على أهمية الاعتماد على التحليل العلمي الدقيق والبيانات الموثوقة لتفهم أسباب ظهور الأوبئة والتعامل معها بشكل فعّال. إن الوعي والتفهم العميق لهذه القضايا ضروريان لتحسين الاستجابة العالمية للأزمات الصحية وضمان حماية الصحة العامة.
كيف يمكن للعالم الاستفادة من دروس كوفيد – 19؟
في عصر الفيروسات “الناشئة”
في ظل المخاوف المتزايدة حول الفيروسات الناشئة وتهديدات الجوائح المستقبلية، قدم الدكتور محمد ملهاق، الباحث المختص في علم الفيروسات، قراءة حول حالة الطوارئ الصحية المُعلنة مؤخرًا من طرف منظمة الصحة العالمية، التي صنفت فيروس جذري القردة في خانة حالة طوارئ صحية عامة ذات أبعاد دولية.
أوضح الدكتور ملهاق أن الفيروس يشهد انتشارًا في دول إفريقية عدة ، حيث سجلت السلطات الصحية الفرنسية مؤخرًا 14 حالة جديدة بين 28 أغسطس و3 سبتمبر. وأضاف أن هذا الفيروس، على الرغم من انتشاره المحدود، يختلف عن فيروس كورونا من حيث طرق الانتقال وسرعة التفشي، إذ ينتقل جذري القردة عبر الاتصال الوثيق، بما في ذلك العلاقات الجنسية، وليس بسرعة كورونا الذي ينتقل عبر الهواء والتنفس.
الاستعدادات العالمية للجائحة X
وأشار الدكتور ملهاق إلى أن منظمة الصحة العالمية أصدرت إنذارًا دوليًا للتأهب والاستعداد لمواجهة جائحة محتملة أخرى، تعرف باسم “الجائحة X”، وهي جائحة مجهولة من حيث طبيعة الفيروس أو الجرثومة التي قد تتسبب فيها. وتابع قائلًا إن هناك نحو 27 فيروسًا تحت المراقبة، ومن بينها فيروسات ناشئة يجب الاستعداد لاحتمالية ظهورها في أي وقت.
تطرق الدكتور ملهاق إلى الدروس المستفادة من جائحة كوفيد-19، التي تسببت في وفاة ملايين الأشخاص وأثرت بشكل كبير على الأنظمة الصحية والاقتصادات العالمية. وأكد أن العالم لم يتعافَ بالكامل من آثار تلك الجائحة، مما يزيد من ضرورة التأهب واليقظة لمواجهة أي تحديات صحية مستقبلية.
التفاؤل بقدرة السيطرة على جذري القردة
رغم المخاوف من انتشار جذري القردة، أكد الدكتور ملهاق أن الاستعدادات لمواجهة هذا الفيروس أفضل من السابق، بفضل توفر اللقاحات والبروتوكولات العلاجية والتشخيص المبكر. وأشار إلى أن طبيعة هذا الفيروس تجعل السيطرة عليه أسهل مقارنة بكورونا، نظرًا لأن سرعة انتشاره أبطأ بكثير.
اختتم الدكتور ملهاق حديثه بالتأكيد على أن الفيروسات تتميز بالتطور والتحور المستمر، مما يصعّب أحيانًا السيطرة عليها. وأشار إلى أن بعض الفيروسات، مثل الفيروسات التاجية والأنفلونزا الموسمية، تغير صيغتها الجينية بسرعة، ما يتطلب استعدادًا دائمًا من قبل العلماء والحكومات لمواجهة أي جائحة محتملة، وخلص تصريح الدكتور محمد ملهاق إلى أهمية الاستعداد لمواجهة الفيروسات الناشئة، مع الاستفادة من الدروس السابقة لتفادي كوارث صحية مستقبلية.
من إفريقيا إلى أوروبا..
مواجهة الذعر
حول ما يتم تداوله بشأن تفشي فيروس جدري القرود في أوروبا، أكد الدكتور هشام علام، الأمين العام للتنسيقية الوطنية للأطباء، أن هذا المرض الفيروسي نادر ويشبه إلى حد كبير الجدري، لكنه عادةً ما يكون أخف وأقل فتكًا. وأوضح أن الفيروس ينتشر بشكل رئيسي في مناطق وسط وغرب إفريقيا، حيث ينتقل إلى الإنسان عبر الاتصال المباشر مع الحيوانات المصابة أو من خلال العلاقات الجنسية أو ملامسة مواد ملوثة.
نفي نظريات المؤامرة
في حديثه، شدد الدكتور علام على عدم وجود أي أدلة تدعم النظريات التي تروج لكون تفشي جدري القرود جزءًا من مؤامرة دولية. وانتقد الادعاءات التي تشير إلى أن الحكومات أو الكيانات القوية تستخدم الفيروس وسيلة للسيطرة على السكان عبر فرض إجراءات صارمة، مثل الإغلاق وزيادة المراقبة. وأوضح أن انتشار الفيروس في بعض الدول الأوروبية، مثل السويد، يعود إلى أنماط الانتقال الطبيعية مثل السفر أو الاتصال بالحيوانات المصابة، وليس إلى أي مخطط متعمد.
أكد الدكتور علام أن السلطات الصحية تعمل وفق المعايير والإجراءات الدولية لاحتواء تفشي جدري القرود ومنع انتشاره. وأشار إلى أن هذا العمل يعتمد على خطط معروفة للتعامل مع الأمراض المعدية، وهو جزء من الجهود المستمرة لحماية الصحة العامة.
مكافحة المعلومات المضللة
انتقد الدكتور علام انتشار نظريات المؤامرة التي لا تستند إلى أدلة علمية، والتي تعمل على خلق الذعر غير المبرر بين الناس. وحث الجمهور على الاعتماد على مصادر موثوقة للمعلومات، مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) أو منظمة الصحة العالمية (WHO)، للحصول على تحديثات دقيقة حول الوضع الصحي.
وفي ختام تصريحاته، دعا الدكتور علام إلى التحلي بالهدوء والتعامل بعقلانية في مواجهة التهديدات الصحية. وشدد على أهمية التوعية بمخاطر المعلومات المضللة، مشيرًا إلى أن التكاتف المجتمعي واتباع إرشادات الخبراء الصحيين هما السبيل الأمثل لحماية الصحة العامة.
وخلاصة القول فإن تصريحات الدكتور هشام علام شدّدت على أن انتشار جدري القرود يتبع أنماط انتقال طبيعية، بعيدًا عن نظريات المؤامرة، وأكدت على أهمية الاعتماد على المعلومات العلمية الموثوقة لمواجهة التفشي ومنع انتشار الذعر.
“الأيام نيوز” تحاور البروفيسور عكنوش حول التحديات الصحية القادمة وسبل المواجهة..
ما هي التدابير اللازمة لمواجهة تحالف الفيروسات؟
مع تزايد القلق بشأن انتشار الأوبئة الفيروسية الجديدة، ومع ظهور فيروسات مثل جدري القرود وفيروس غرب النيل وفيروس أوروبوش، أصبح السؤال الأكثر إلحاحًا هو مدى جاهزية العالم لمواجهة هذه التحديات الصحية المتسارعة. وبينما يحذر البعض من احتمالية تفاقم الأزمات الصحية العالمية، يرى آخرون أن الحديث عن هذه الفيروسات قد يكون جزءًا من مؤامرات أعمق تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع العالمي بطرق تهدد البشرية. في هذا الحوار، نستعرض مع البروفيسور عكنوش نور الصباح –وهو خبير استراتيجي- رؤيته حول تلك التهديدات المحتملة، وما إذا كان العالم مستعدًا بالفعل لمواجهة “تحالف الفيروسات” الذي قد يقف في وجه مستقبل الإنسانية.
الأيام نيوز: مع تصاعد القلق حول انتشار فيروس “جدري القردة”، بدأت وسائل الإعلام تسلط الضوء على فيروسات أخرى مثل فيروس غرب النيل وفيروس أوروبوش، ما أثار مخاوف جدية من احتمالية ظهور أوبئة جديدة. هذا القلق يعيد إلى الذاكرة التجربة القاسية التي مر بها العالم خلال جائحة كوفيد-19، ويطرح تساؤلات حول مدى استعداد العالم لمواجهة أزمات صحية مشابهة. السؤال الأهم: هل يمكن أن يكون هذا الحديث المتزايد عن الفيروسات جزءًا من نظرية مؤامرة؟
البروفيسور عكنوش نور الصباح: الحروب الجديدة التي تقودها مختبرات الموت تهدف إلى إعادة صياغة نهاية البشرية ضمن إطار ديموغرافي واقتصادي شامل. هذه الأوبئة تُستخدم كأداة لفرز السكان، بهدف تقليص عددهم إلى الحد الأدنى، مما يتيح للأقلية الذهبية العيش في رفاهية. وفقًا لهذا الفكر، الفيروسات تُصمم بشكل منهجي للقضاء على من يُعتبرون غير مفيدين في هذه المعادلة البيولوجية المخطط لها بدقة.
وجدري القردة بعد جائحة كورونا ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، والذي قد يحدد مصير أجيال بأكملها تواجه خطر الانقراض المبرمج لخدمة أجندات خبيثة تقودها لوبيات المال والموت التي تسيطر على العالم حاليًا. هذه الصفوة المتوحشة، بشهواتها الاستعمارية الجديدة، تسعى لاستئصال الآخر من خلال نوع جديد من الحروب الفيروسية التي قد تنتشر في السنوات القادمة ضمن خارطة جيوبيولوجية تشمل إفريقيا، أمريكا، آسيا، وصولًا إلى أوروبا، لتشكل دورة موت مغلقة تهدف إلى السيطرة التامة.
الأيام نيوز: ما مدى استعداد العالم لمواجهة “تحالف الفيروسات” ضد مستقبل البشرية في رأيكم؟
البروفيسور عكنوش نور الصباح: هناك أزمة مفاهيمية حقيقية؛ فالعالم لم يعد واحدًا بل أصبح عوالم متفرقة. العولمة بدورها تحولت إلى أشكال متعددة بعد تفكك المركزية وتداخل الأنساق والقيم، وإعادة توزيعها بين العديد من الفاعلين، سواء كانوا رسميين أو غير رسميين، تقليديين أو إلكترونيين. لم يعد هناك مركز موحد لتوجيه الجهود، ولذلك نجد أن بعض الدول تستعد لحروب بيولوجية جديدة، بينما تقف دول أخرى متفرجة، وأخرى تنتظر، وأخرى تجتهد وفقًا لمواردها ومؤسساتها وبنيتها ونخبها. الخطر يختلف بطبيعته وشكله، ولا يوجد إطار دولي موحد للتعامل معه. وبالتالي، تختلف السياسات الصحية باختلاف الدول، وتبقى الفيروسات تهديدًا أساسيًا للفئات الأكثر ضعفًا، مما يجعلهم هدفًا سهلاً في مؤامرات الأشرار.
الأيام نيوز: هل تعتقدون أن المجتمع الدولي يمكن أن يتحد في مواجهة هذه التحديات الصحية المحتملة مستفيدًا من تجربة كورونا؟
البروفيسور عكنوش نور الصباح: السؤال الذي ينبغي طرحه هو: هل هناك مجتمع دولي فعلاً بالمعنى الأخلاقي والبنيوي والتضامني؟ الواقع هو أن العالم بعد كورونا أصبح أكثر ضعفًا وهشاشة، وأكثر عرضة للاختراق البيولوجي والقتل المنهجي بأسلحة غير مرئية. مع تزايد الأزمات، الحروب، اللجوء، الأوبئة، والفوضى، يصبح الكوكب مكشوفًا أمام أي وباء جديد دون استعداد كافٍ لمواجهة الكوارث المقبلة.
الأيام نيوز: إلى أين وصلت الجزائر في مجال الوقاية ومكافحة الأمراض المعدية؟
البروفيسور عكنوش نور الصباح: أعتقد أن هناك سياسة عامة صحية تتعامل مع هذا الملف، تحت إشراف وزارة الصحة إلى جانب هيئات أخرى معنية بالوقاية، المراقبة، التوعية، والعلاج. الجهود المبذولة إيجابية، لكنها تحتاج إلى مزيد من اليقظة، خصوصًا فيما يتعلق بالتنبؤ بطبيعة الأمراض المعدية التي تنتشر وتتغير بشكل مفاجئ. هذا يتطلب عملًا حكوميًا أكبر من حيث التنسيق والتدخل لضمان مخرجات فعالة على أرض الواقع.