وقفت والحزن في عينيها، تتأمل الألبسة والأحذية المعروضة على واجهة المحل، وأدق ما كانت تتأمل فيه تلك الأرقام المفزعة لأثمان السراويل والقمصان والتنانير والفساتين وغيرها.. فالفاقة في اليد والرغبة في القلب والحسرة في العين؛ آه لو أن لي ما يكفي من النقود، لاشتريت لـ”زينب” ولأقتنيت لـ”هاشم”، ولأفرحت الاثنين معا، بعد عام الحزن الذي مرّا به عقب رحيل رب البيت أبوهما.. آه يا زمن.. وزفرة يأس حارقة أطلقتها “فاطمة” من عمق صدرها الذي لا يزال يئن كمدا وحزنا على فراق سندها ورفيق دربها.
كان صاحب المحل يراقب المرأة من حيث لا تدري، فهو يعرفها ويعرف ما حلّ بها.. وأما هي فلم تكن تدري بأن القدر يخبئ لها شيئا لم يخطر لها على بال. فمنذ شهر وجمعية الحي تسعى إلى إدخال السعادة على بيوت الأطفال، خاصة الأيتام منهم والفقراء، حيث تجمع الأموال من صدقات المحسنين وتبرعاتهم، وتصرفها في شراء الأدوية والألبسة والأطعمة لذوي الفاقة والعوز.
إنهم أهل الخير منحا وجباية ورعاية، من رجال الله الذين سخّروا أنفسهم لخدمة المجتمع تطوعا لا طمعا، فيفخر المجتمع بهم ويعتز رفعة وشأنا، مطاولا في ذلك أهل الكرائم والفضائل والندى، من كل جنس ومن كل دين.. إنه مجتمع الجزائر السخي الندي الكريم، في كل ظرف وفي كل حين، يعرف متى، كيف وأين يجبر خواطر أبنائه وبناته، إذا ما اشتدت الأيام وضاقت، بكل عطف ورأفة وحنان، فالخير فيه أصل يتفجّر كالماء الزلال.
بالكاد استدارت لتغادر المكان منكسرة، حتى سمعت صوت صاحب المحل يقطع عليها صمت الحسرة والاكتئاب..
- مرحبا سيدتي.. تفضلي إلى داخل المحل..
ترددت هنيهة، ثم حركت قدماها باتجاه المدخل متثاقلة وكأنها تساق إلى حتفها، يشدّها الحياء وتثقل كاهلها الحشمة، فهي الزاهدة المستعففة التي لم تقف مثل هذا الموقف أبدا.. تمتمت مستعينة بالله؛
- اللهم اجعله خيرا.. يا رب.
أسرع الفتى صاحب المحل وأخذ لنفسه مكانا خلف المحسب، ثم أردف يكلّم المرأة، غضيضا لم تبرح الأرض عيناه احتراما وحياء؛
- سيدتي، أود أن أخبرك بأن المحل محلك، فخذي ما شئت من أغراض لك وللأولاد، فثمنها قد دُفِع مُقدما، وما أنا إلا وسيطا كُلِّفتُ بأداء الأمانة، ليس إلا.
- هل لي أن أعرف من الذي دفع، لماذا ومتى..؟
- في الحقيقة، جمعية الخير هي التي سدّدت المقابل على بياض، بمعنى أن لك ما تشائين وللأولاد من دون حساب.. وأما لماذا؛ فلأن زوجك المرحوم كان من أنشط رجالات الجمعية وأكثرهم حرصا على أموال الناس وحق الفقراء والأيتام.. وأما متى؛ فمنذ اليوم الذي رحل فيه زوجك وغادر الدنيا، فُتِح لك حساب على مستوى هذا المحل، لكسوة الأولاد في كل مناسبة ومع كل موسم.. متى شئت.
- آه.. الآن فهمت منك يا ولدي، حفظك الله.. وأنا التي كنت أنفعل كلما عاد إلى البيت متأخرا متعبا.. وأنا التي كنت أغضب لأنه لم يكن يخبرني بما يقوم به خارج البيت.. على روحك شآبيب الرحمة والمغفرة والرضوان، أيها الزوج الصاحب في الدنيا، والمرحوم المخلد في النعيم بحول الله في الآخرة.
وأخيرا، انفرجت أسارير المرأة الأرملة وانشرح صدرها، وابتهج وجهها غبطة وسرورا، ليس لأنها ستتمكن من أخذ ما تريد من كسوة وأغراض، ولكن لما وجدت من كنز ثمين وريح طيبة وأثر زكي، كميراث معنوي أخلاقي لا ينضب، تركه لها زوجها الراحل من غير أن تعلم بذلك، لأنه كان دوما يعتقد بأنها تجارة مع الله وأنها سرّ بين العبد وربه.
هذه قصة من أعماق المجتمع الجزائري، لها دلالاتها الاجتماعية والأخلاقية والثقافية، لشعب طالما عانى ويلات الضيق والشدّة والحرمان، إلا أنه ظل سامقا شامخا في سماء المكارم والفضائل، يتهادى نشوان في كنف العزة والكرامة. ليس هنا ولا هناك فقط، تتكرر هذه المشاهد وتتعدد، وإنما عبر كامل تراب الجمهورية، تختلف وتتنوع، لكنها تتفق وتتقاطع حول فعل الخير ونشر البرّ وحب الوطن.
لقرن وثلث قرن من الزمان، لم تستطع القوى الاستعمارية المتغطرسة سلخ الشعب الجزائري عن هويته ولا عن ثقافته ولا عن دينه ولغته.. ظل شعبا مستمسكا متماسكا على هامش المجتمع “الكولونيالي” الذي أرادته فرنسا بديلا للمجتمع المحلي الراسخ هنا على أديم هذه الأرض منذ ألوف السنين.. لم يفلح القتل ولا التهجير ولا السحق ولا المحق.. ولا كل الممارسات الشيطانية التي اعتمدتها السلطات الفرنسية لتغيير البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمع الجزائري، فقد أفلح الجزائريون بأن أقاموا بينهم وبين الفرنسيس حاجزا معنويا صارما، وقاهم شر الاحتواء والادماج.. ذلك أنهم منذ البدء قرروا بأن لا يتزوجوا منهم ولا يزوجوهم.. وأن لا يتقاضوا في محاكمهم، وأن لا يستعينوا بدركهم ولا بشرطتهم ولا بعسكرهم.. وأن لا يدخلوا كنائسهم ولا يشاركوهم أفراحهم ولا أقراحهم.. من مبدأ؛ لكم دينكم ولنا ديننا.
أفلحت سياسة القطيعة وثقافة المقاطعة، وجعلت المجتمع الجزائري ينأى بنفسه عن عبثية الاستعمار ومنكراته، ويصنع لذاته شخصية عظيمة لها مرجعياتها ومرتكزاتها وقيمها.. فانكب على وجه يبحث بين يديه عمّا يعوضه عن جفاء الدهر وشدّة الأيام، فكانت الأعياد الدينية والمواسم الأهلية كافية لملء حياته أنسا وسعادة وسرورا؛ من شعبان و”نصفيته”، إلى رمضان و”نصفيته” كذلك وليلة قدره وأوله وآخره.. إلى عيدي الفطر والأضحى وموسم الحج الأعظم وعودة الحجيج.. إلى محرم الله فعاشوراء وذكرى معجزة السماء بشق البحر ونجاة موسى عليه السلام.. إلى ذكرى المولد النبوي الشريف… إلى احتفاءات الأعراس وأسابيع المواليد واحتفالات الختان.. إلى “راس العام عرب” فـ”شاو ربيع” ثم دخول الصيف وحش القرط وحصاد الشعير ثم القمح وبقية الحبوب، ومن بعده الخريف فصل القطر والثمر، فالحرث والزرع وتهيئة الأرض لعام خصب جديد… كان ذلك قبل استقلال البلد وظهور الأعياد الوطنية المجيدة. ولذلك تجد الجزائريين من أكثر شعوب الأرض مبالغة في إظهار مباهج الفرح والمسرات، تنفيسا لقلوبهم عن مكاره الخطوب وشؤم الكربات.