الحضارة الغربية تعيش أزمة مع الطبيعة منذ خمسة قرون، فهي تقوم على ثقافة فردانيّة تهدم عناصر الحياة من ماء وأشجار وحيوانات.. وقد أدّى ذلك إلى انقراض أنواع كثيرة من الكائنات الحيّة، بل إنّ الحضارة الغربيّة ترى في “الإنسان الإفريقي” – مثلاً – مجرّد كائن حيٍّ لا يُؤسف على استعماره وتدميره بالحروب، أو التسبّب له في المجاعات والأمراض من خلال تدمير أرضه بدفن النفايات النوويّة والإشعاعية ومخلّفات “التقدّم” فيها.
يختزل لنا “غارودي” علاقة الإنسان الغربي بالطبيعة، بالقول: “إنّ علاقات الإنسان بالطبيعة قد استقرت منذ النهضة في جوٍّ من الحرب، إذ ما فتئت هذه الطبيعة تُعتبر في الغرب، منذ خمسة قرون، مُدَّخرًا ومزبلة: مدَّخرًا من المواد الأولية، ومزبلة لفضلاتنا، ولا نزال اليوم نهدمها من هاتين الناحيتين”.
دعا “غارودي” إلى تطعيم الثقافة الغربية بالقيم من خلال التربية.. حتى يعي الإنسان معناه كإنسان، وقال: “وأخصّ ما ينبغي أن تختصّ به تربيةٌ تليق بعصرنا هو أن تجعل الإنسان يعي أنّ مهمتّه كإنسان أن يشارك في الخلق المستمر للعالم وفي التوليد الإبداعي لمُطلق الجديد، وأنّ فعله لا يكون إنسانيًّا حقًّا ولا يمكنه من بلوغ ذروة الحياة إلّا إذا اجتمع الخلق الإبداعي والعمل السياسي والحب والإيمان لديه في فعل واحد”.
من المقالات المهمّة التي نشرها الفيلسوف “روجيه غارودي” في تشريحه للحضارة الغربية وإضاءة أمراضها وأزماتها، هذه المقالة التي ترجمها عن الفرنسية الأستاذ “توفيق بكار”، ونشرتها مجلة “الثقافة” الجزائرية في شهر ديسمبر 1983، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها لقيمتها الفكريّة وجدواها في فهم الغرب وكيفيّة التعامل معه من منطلق الفلسفة التي بنى عليها “حضارته”، وفيما يلي نواصل مع مقالة “روجيه غارودي”..
أبو الفلسفة الغربية ضابطٌ من مرتزقة “الهابزبورغ”
الحركة الانشقاقية الثانية هي حركة النهضة وقد فاتها أن تخترع خرافة الكائن في ذاته فاخترعت خرافة الذّات المنعزلة كالجزيرة في البحر. لقد عُرفت النهضة بجنون فرديّتها وتنافس أسواقها وفتوحات “غزاتها”، فكان “ديكارت” هو المعبِّر عن هذه السياسة وذلك الاقتصاد، فلقد أدخل في اللعبة الفلسفيّة شخصًا جديدًا هو (الأنا)، ذلك (الغازي) الذي بعثته الفلسفة الجديدة بأهدافه الأنانية الامتلاكيّة وخلاصتها أنّه “نصير أسياد الطبيعة ومُلاّكها”، وتمّ ذلك حين أنشأ “ديكارت” فيزياءه الخَليقة بالمهندسين والعسكريين، وقد كتب فيها “ميشال سير” يقول: (إنّ خطاب المنهاج هو من علوم الحرب”.
ومن بليغ الرمز أن يكون أبو الفلسفة الغربية المنعوتة بـ “العصرية” ضابطًا من ضُبّاط الخيّالة، وأحد مرتزقة “الهابزبورغ” في وقعة الجبل الأبيض. (الهابزبورغ: إشارة إلى الحروب بين مملكة هابزبورغ (النسما) مدعومة من طرف بعض الدول الأوروبية ضد الإمبراطورية العثمانية، خلال الفترة من بين القرنين 16 و18).
الإنسانُ دميةٌ على المسرح!
فمن ذلك التاريخ ستصير الفلسفة الغربية مسرحًا من مسارح الظل يتصارع على شاشته شبحان: شبح الموضوع وشبح الذات، وسيتقاتل المثاليون والماديون تقاتلاً جنونيا حول هذا المشكل الزائف: أيّهما الأول، الروح أم المادة؟ وهو طور جديد أو صورة أخرى من الخصومة بين الإمبراطورية والكهنوت!
هكذا قطعوا الذات الإنسانية عن بقية العالم واقتصروا في معرفتها على توخّي المناهج التي أثبتت جدواها في تناول الموجودات الطبيعية، فإذا تلك الذات الإنسانية بين حالين:
– فإمّا أن تتضّخم حتى تصبح، وقد فقدت العالم الموجود الأوحد، فتكون الوجودية، كوجودية سارتر مثلاً إذ يدّعي (إنّ الإنسان هوى لا يجدي).
– وإمّا أن تذوب في الهياكل فيفضي الأمر إلى تعريف آخر – بنيوي هذه المرة ـ وهو تعريف ألتوسير (لوي بيير ألتوسير فيلسوف فرنسي وُلد في الجزائر 1918 – 1990) حين يؤكد: “إنّ الإنسان دميةٌ تحرّكها على الرّكح الهياكلُ”.
وفي كلتا الحالين لم يعد هناك إنسان ولا – بالتالي – فلسفة ولا حتى حاجة إلى الفلسفة أو رغبة فيها، ويعلن “فوكو” (ميشال فوكو فيلسوف فرنسي 1926 – 1984) إذّاك “إنّ الإنسان قد مات”.
كيف وصلت الفلسفة الغربية إلى الانتحار والهدم الذّاتي؟
كيف ولماذا وصلت الفلسفة الغربية إلى هذا المأزق بل إلى هذا الانتحار وهذا الهدم الذاتي؟ ليس هنا مقام التأريخ لاحتضار الفلسفة الغربية واندحارها لأنّ مأموريتنا ليست أن نُلقي المراثي ونرسل اللّعنات، وإنّما هي أن نُحّدد المناهج التربوية الجديدة التي من شأنها أن تساعدنا على اختراع المستقبل.
إنّ العناية بالقيم أي بمعنى التربية وغاياتها لتقتضي فيما يبدو لي أربع عمليات وهي:
1 – إنشاء حوار بين الحضارات لا يُقصد به إلى إنكار عطاء الغرب وإلغائه، بل يقصد به إلى تأكيد نسبيّته.
2 – الكفُّ عن فصل العلم عن الحكمة أي الانتقال من فلسفة قوامها الكائن إلى فلسفة قوامها الفعل.
3 – إيثار الفنون والجماليات بالدّور المحرِّك في التعليم.
4 – إعادة ما كان للتربية والثقافة من بعدٍ متسامٍ.
فالحوار بين الحضارات ضرورة أكيدة لأنّه يُعيننا – بما يتيحه لنا من المعرفة بالثقافات الأخرى – على أن نتصوّر ونمارس علاقات جديدة بالطبيعة وببقيّة البشر وبالمستقبل.
إنّ علاقات الإنسان بالطبيعة قد استقرت منذ النهضة في جوٍّ من الحرب إذ ما فتئت هذه الطبيعة تُعتبر في الغرب، منذ خمسة قرون، مُدَّخرًا ومزبلة: مدَّخرًا من المواد الأولية، ومزبلة لفضلاتنا، ولا نزال اليوم نهدمها من هاتين الناحيتين.
تحكُّم الرؤية الغربية في العالم، وقد دشّنها “غليلي” و”ديكارت” بأنَّ الطبيعة ملك لنا، وتذكِّرنا الثقافات الأخرى غير الغربية بأنّنا ملك للطبيعة كثقافة الصينيين من أتباع مذهب “صنع في التصوير”، أو ثقافة هنود أمريكا (الحفاة على الأرض المقدسة).
ولقد اتّصفت علاقات الإنسان بالإنسان في الحضارة الغربية، منذ النهضة، بصفات جعلت مجتمعاتنا تتردَّد بلا انقطاع بين فردانية الحيوان في دغلة وكليانية النّمل في حجره، دون أن تمرّ أبدًا بتلك العلاقة الجماعية التي يبدو وجودها واضحًا في إفريقيا التقليدية أو في الإسلام (المجتمع الإسلامي) إبّان عِزّه.
حرب وقائية ضد المستقبل
إنَّ علاقة الإنسان بالمستقبل بل بمستقبل تصوُّره للمذهب الوضعي صورة امتداد للماضي وللحاضر، قد أفضت إلى “الاستقباليّة” الوضعيّة على الطريقة الأمريكية أي إلى حرب وقائية حقيقية ضد المستقبل وإلى استعمال الماضي والحاضر لقادم العصور، وليس من مستقبل حقيقي ولا من اختراع حقيقي للمستقبل إلّا في اتّجاه التّسامي بمعنى في اتجاه القطيعة والتجاوز حتى لا يكون المستقبل مجرد نتاج لمجموع القوى التي تعتمل الماضي فيصير توليدًا إبداعيًّا لمطلق الجديد ممّا لا يخطر على البال وقوعه ويشك العقل في احتمال وجوده، فعلى هذا النحو فقط يتسنّى لنا أن نخترع المستقبل بمعناه: ليس هو ما سيكون، وإنّما هو ما سنفعل.
قطع الصّلة بالمذهب الوضعي القاتل
بالنسبة لعنصر الكفّ عن الفصل بين العلم والحكمة، فإنّما هو أن نُخضِع تنظيم الوسائل للتفكير في الغايات.. يوجد أسلوب آخر في استعمال العقل غير الذي ينزل من علّة إلى أخرى أو من سبب إلى نتيجة، وهو الأسلوب الذي يرقى من غاية إلى أخرى أو من أدنى الغايات إلى أسماها ويهدف، دون أن يدرك هدفه أبدًا، إلى بلوغ الوحدة العليا التي تُعيِّن لكل شيء معناه.
فبتربية الأطفال والكهول على هذين الأسلوبين المتكاملين في استعمال العقل يتسنّى لنا أن نرتّب العلم والتقنيات في خدمة غايات أرقى من غايات التنمية والقوة، ومن غايات إنسان ومجتمع لا يكونان إلّا جزءًا من الطبيعة.
فبهذه الطريقة فقط يمكن أن نقطع الصّلة بالمذهب الوضعي القاتل، وليس هو إلّا قدرة مدعاة على وصف العالم حاليًّا من الإنسان وقد تطور من علمانية إلى “استقبالية” دون أن يرى في المستقبل سوى صورة منقولة من الماضي، فإذا صار الإنسان عبدًا لشبح الكائن لم يعد له مستقبل ولا فعل، وإذا انحصر الفكر في حدود ما يزعم أنه واقع مُعطى انحبس الفعل في حدود النظام الموجود.
الفلسفة المتنبئة اختراع المستقبل
إنّ أكبر مشكل فلسفي يُطرح اليوم على التفكير الفلسفي هو مشكل فلسفة قوامها الكائن إلى فلسفة قوامها الفعل أي الانتقال من الفلسفة الوضعية إلى فلسفة متنبِّئة، وأعني بالفلسفة المتنبّئة تلك الفلسفة التي تدرك أنّ الحرية سابقة للكائن وأنها مصدره.
فليس ما نسمّيه (الكائن) إلّا أثرًا جمد وانعقد وتبلور من آثار الخلق المستمر، هذا ما تُعلِّمنا إيّاه سائر الحِكم في الدنيا باستثناء الثقافة الغربية وحدها.
وأعني بالفلسفة المتنبئة فلسفة تكفّ عن التبرير الإيديولوجي للنِّظام الموجود وعن تشبيه بالكيان فتعتبر الممكن، من حيث هو قوة تغيير، جزءًا من الواقع، وتقترح علينا جملة من الغايات والمشاريع والمهمات بقصد اختراع المستقبل.
الإيمان نقيض الفردية
وأمّا إيثار الفنون والجماليات بالدور المحرك، بالدور الأكبر في التعليم، فمعناه أن نجعل المرتبة الأولى للفعل الخلاّق، وللتفكير في الفعل الخلاّق وهو أخصّ أفعال الإنسان بالإنسان، لأنّ الفنون والجماليات تخلق أو تحيي اللحظات التي يتجاوز فيها الإنسان بالتمرّد أو الدعاء أو الحب أو البطولة أو التضحية أو الإبداع.. حدًّا جديدًا من الحدود، فإنّها تدرّبه بما تتيحه له من الاتصال ببدائع الإنسان على مباشرة فن الاختراع.
وليس أشدّ ثورية من تربيةٍ تعلّم الإنسان أن يقف أمام العالم موقف من يرى فيه دعوة إلى الخلق لا موقف من يعتبره واقعًا مُعطى ومكتملا.
ولا أقصد إذا تحدثت عن (الثورة) تداول السلطة بين جماعة وأخرى، لأنّ الثورة في حياة المجتمع كتبدّل العقيدة في حياة الفرد، فهي تغيير للغايات والدلالات والقيم الأساسية في الحياة.
وأمَّا إعادة ما كان للتربية وللثقافة من بعدٍ متسامٍ، فإنّها لا تعني تقديس نظام ما ثقافي أو اجتماعي باسم دين من الأديان أو ملّة من الملل أو كنيسة من الكنائس أو شكل من أشكال الحكم الإلهي. فالإيمان الذي أعنيه، وما يشهد به من انفتاح ثغرة التّسامي، إيمان يمكن أن يُقرّ به الملحد والمسيحي على السواء، فهو أولاً نقيض الحتمية لأنّه اليقين بأنّه في وسعنا أن نتوخّى أسلوبًا آخر في الحياة. والإيمان وهو نقيض الفردية لأنّه الوعي بأنّ كلامنا مسؤول شخصيًّا عن مستقبل كل الآخرين.
وإنّ حقيقة الإيمان لتّتفق مع كل سياسة في “علو الإنسان” يعني مع ما يقتضيه الضمير من واجب الحرص على أن نجعل كل إنسان إنسانًا أي خلاّقًا، فنهيّئ ما يلزم من الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية حتى يُتاح لكل طفل يحمل في نفسه عبقرية “موزار” أن يكون حسب عبارة “مارکس”.. فأنا لا أتصوّر للتربية غاية أسمى من هذه الغاية، وهذا يقتضي أن تتحوّل الثقافة الغربية بفضل ما يكون بين الحضارات من حوار يؤكد نسبيتها، فتصبح:
مهمة الإنسان المشاركة في استمرارية الخلق للعالم
1 – ثقافة وتربية واعيتين لمسلّماتها الأوليّة: فليس في وسع الإنسان أن يحلّ فى الكائن ويصف ما ماهيته، فإنّما هذا شأن التربية الدوغمائية، و”إنّ كل ما أقول في الطبيعة وفي التاريخ وفي الله، إنّما قائله إنسان” أي أنّه شيء وقتي نسبي قابل للمراجعة، وإنّه مناقض جذريًّا لكل تربية دوغمائية.
2 – ثقافة وتربية واعيتين لحدودهما: فإنّ على الأرض وفي السماء من الأشياء أكثر ممّا يسع العقل.
3 – ثقافة وتربية واعيتين لطفرتهما: فليس في استطاعتنا أن نسجن الواقع في قفص نظام فكري ما، إنّ العقل كالإنسان يعيش كلاهما من کونه ناقصًا.
فالتّسامي هو هذا الانفتاح على مطلقِ الجديد، وهذا التقبّل له هو اليقين بأنّ المستقبل لا يقتصر على ما تنتجه قوى الماضي. وأخصّ ما ينبغي أن تختصّ به تربيةٌ تليق بعصرنا هو أن تجعل الإنسان يعي أن مهمتّه كإنسان أن يشارك في الخلق المستمر للعالم وفي التوليد الإبداعي لمطلق الجديد، وأن فعله لا يكون إنسانيًّا حقًّا ولا يمكنه من بلوغ ذروة الحياة إلّا إذا اجتمع الخلق الإبداعي والعمل السياسي والحب والإيمان لديه في فعل واحد.