اختار منذ البداية طريقا صعبا للتعبير عن احتجاجه وآماله وتبنّي هموم شعبه وأمته، وبالنسبة إليه الموسيقى التي لا تدفع إلى التفكير لا يُعوّل عليها، وهكذا فقد حاول ـ على امتداد أربعة عقود ـ تحريك السواكن فغنى للمقاومة الفلسطينية وللحرية والقيم الإنسانية الكبرى، إنه الفنان التونسي الملتزم محمد بحر المولود في 1 أكتوبر 1957 بمدينة «قصور الساف» التونسية.
صعوبات وتحديات واجهت الفنان التونسي في بداية مشواره الفني، دفعته لاختيار المنفى (فرنسا) بحثا عن أرضية تساعده على نشر رسالته الفنية وإيصالها إلى أوسع جمهور، لأن الأغنية الاحتجاجية أو الملتزمة تركز أساسا على مضامين سياسية ثورية تهدف لإيصال رسالة محددة.
وفي السبعينيات والثمانينيات برز عديد الموسيقيين الذين عرفوا بهذا النمط الموسيقي من بينهم محمد بحر الفنان الذي يعرف نفسه على أنه مواطن فنان جمع بين تأليف الموسيقى والمسرح والغناء.
في حواره لـ«الأيام نيوز» تحدث الفنان التونسي محمد بحر عن قناعاته الفنية وعن بداياته، وعن سر اختياره الفن الملتزم، للتعبير عن قناعات وأفكار رأى أنها تدافع عن القضايا العادلة والإنسان.
كيف تقيم تجربتك بعد أربع عقود؟
أنا قبل كل شيء مواطن فنان، بدأت تجربتي الفنية منذ نعومة أظافري، أي منذ كنت في المعهد الثانوي، وتطورت التجربة بعد التحاقي بكلية 9 أبريل بتونس العاصمة، ثم انضمامي لمجموعة أمازيغيين (الرجال الأحرار) عام 1979، وبدأنا الغناء في الفضاءات الجامعية وبعض المهرجانات، وبعد ذلك سافرت معهم إلى فرنسا وسجلت في جامعة السوربون فدرست هناك المسرح وموسيقى المسرح، ومن هناك انطلقت تجربتي الفنية التي اخترت أن تكون مختلفة لأن مشروعي الفني هو تعميق وعي المثقف والفنان بدور الثقافة والموسيقى في لعب دور ايجابي في المجتمع.
لكن اليوم هناك منافسة وانتشار للفن التجاري، كيف يمكن للموسيقى الملتزمة أن تفتك موقعها؟
دائما ما أعتبر أن الموسيقى التي لا تدفعنا إلى التفكير لا يُعول عليها، وكل فن هو ملتزم بشيء معين، حتى من يدعون أنّ ما يقومون به هو فن للفن أو فن ربحي، هذا غير صحيح لأن الفن موجّه ويقع توجيهه إلى الفرد والمجتمع من خلال رسائل معينة قد تختلف، لكن، تبقى ذات أثر في الفكر وتجعل المتلقي يفكر.
كيف يمكن للموسيقى والفن أن يكونا لهما أثر في عالم يطغى عليه الظلم والحيف والاعتداء على الإنسان والإنسانية؟
المهم الالتزام بقضايا إنسانية عادلة مثل تحرير الشعوب وتقري المصير والمطالبة بالعدالة والحقوق الاقتصادية والاجتماعي والثقافية، والأهم من هذا ألا يبقى الفنان حبيسا لايدولوجيا ضيقة مثلما تفعله بعض الأحزاب والحكام وحتى الدول لرأسمالية التي تتحدث عن قيمة الإنسان وتطلق شعارات الحقوق والمساواة وحريات التعبير ولكن تجد اغلبها يفعل العكس.
بعد أربعة عقود تمسك فيها الفنان محمد بحر بحلم ومشروع فني مختلف، ما هي أبرز المحطات أو الأغاني التي ظلت عالقة في ذهنك إلى اليوم؟
أذكر إحدى الأغاني وهي عبارة عن قصة اسمها “سعيد ماسح الأحذية” التي رافقت تحركات ارتبطت بأحداث معينة جرت في تونس وهي أحداث الخبز سنة 1978، وكذلك غنيت للقضية الأم القضية الفلسطينية أغنية القدس لمظفر النواب و(أنا الصمود) لمحمود درويش (وأرى النخل يمشي في الشوارع) للطاهر الهمامي وكنت كذلك من موقعي أساهم حملة المطالبة بإطلاق سراح نيلسون مانديلا.
حسب اعتقادك، الفن الملتزم هو محاكاة لجراح الشعب الفلسطيني أم رسالة وتجسيد لقضية عربية؟
هو شعور خاص بالألم وبالظلم وبضرورة المقاومة وتبليغ صوت القضية الفلسطينية إلى أوسع جماهير، وخاصة الجماهير غير عربية لأن الجماهير العربية أغلبها باستثناء بعض الأنظمة المطبعة مع الصهيونية والخارجة عن الصف العربي الوطني أغلبها متضامنة مع هذا الشعور وبعدالة القضية لكن المفيد إيصال صوت فلسطين إلى كل شعوب العالم، واعتبر أن تجربتي في الفن الملتزم تحمل عمقا فكريا ورسالة، أسعى من خلالها إلى النبش في دواخلنا وتحريك الشعور بالحرية والعدل والحلم الذي ما زال متواصل مادامتُ على هذه الحياة.
في السنوات الأخيرة ركبت بعض الأنظمة العربية قطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، في ظل هذه المتغيرات هل مازال محمد بحر يحمل حلمه بالانتصار، وهل مازالت القضية الفلسطينية تحمل في داخلها مقومات النصر كما تقول دائما؟
رغم أن التطبيع مأساة بالنسبة للقضية الفلسطينية مثله مثل النكبة وقد يكون أعمق لأن النكبة على الأقل لم تمنع الشعب الفلسطيني من مواصلة المقاومة وتقديم كل يوم وكل ساعة التضحيات بخلقه إشكالا للمقاومة حتى يحافظ على الأرض والعرض، لكن، تبقى النكبة الكبرى هي انخراط بعض الأنظمة التي لها مصالح مع العدو الإسرائيلي في التطبيع.
هل تعتقد أنه يمكن جرّ تونس إلى مربع التطبيع؟
القضية الفلسطينية هي قضية حياتية بالنسبة للشعب التونسي، وهذا معنى التضامن لكن تبقى المخاوف قائمة لأن هناك بعض الأصوات في تونس تعتبر أن الصهاينة ليسوا أعداء، هؤلاء يجب الوقوف في وجههم، لأن من يريد التطبيع مع الصهيونية أعتبره صهيوني، كما أدعو إلى إعادة البريق والوهج للقضية الفلسطينية لأنني لاحظت في السنوات الأخيرة نقص في التحسيس بها مقابل تمدد الخطر الصهيوني.
الفنان الملتزم دائما ما يكون له ميل سياسي أو إيديولوجي، أين ترى نفسك في عالم السياسة والتحزب في تونس؟
في الحقيقة ليس لدي أي انتماء حزبي مباشر لكنني أتعاطف مع الأحزاب التي تدعو إلى تحرر الإنسان والمجتمع وأحمل فكرا قوميا عربيا، لكن ليس بالشكل الدوغمائي.
الفن الملتزم طريق صعب، كيف صمدت تجربة محمد بحر الفنية في ظل انتشار الفن التجاري الربحي؟
خلال تجربتي التي تتجاوز الأربعين عاما، دائما ما أتذكر قصة «سيزيف» فأنا دائما أواجه الصعاب وأصارع من أجل البقاء ومن أجل أن تصل تجربتي إلى الجمهور الواسع في ظل ما واجهته من عراقيل أغلبها تعلقت بالجانب المادي حتى لا يلقى فني رواجا، لأنه بفعل الزمن يصبح المتلقي يبحث عن موسيقى ذات جدوى لذلك يحتاج الفنان إلى الدعم المادي لتصل رسالته الفنية إلى الجمهور.
أتذكر أنه في محطات معينة تم منعي والتضييق على العديد من وسائل الإعلام في تونس وحتى المهرجانات حتى لا تمرر فن محمد بحر، تلك المرحلة أحسست أنني أخوض حرب من أجل البقاء.
تم منع تمرير فن محمد بحر وصده عبر التعتيم والإقصاء في تونس خلال الثمانينات والتسعينات، واختلف الأمر بعد الثورة لكن، بقى المعوق الوحيد أمامي هو البعد عن الوطن إذ لم أتمكن من تلبية الدعوات الكثيفة التي وجهت لي في عديد المناسبات والمهرجانات لكن يمكن القول أن الفن الملتزم تحرر في تونس مع الثورة.
هل فكرت يوما في مراجعة نمطك الفني؟
لم أفكر في مراجعة قناعاتي رغم ما اعترضني من تحديات في مسيرتي الفنية التي أعتبرها شاقة وصعبة والتي تميزت بجانبين مختلفين بتغير المكان حيث وجدت بتنقلي للعيش في فرسنا أرضية أكثر للحرية، وعملت في وضع أعتبره مريح لكن في المقابل وجدت نفسي بعيدا عن جمهوري الأصلي الحقيقي وهو الجمهور التونسي ثم العربي لكن من جانب آخر تمكنت من التنقل بحرية إلى عديد الدول وخاصة الأوروبية وسجلت أسطواناتي.
الأغنية الملتزمة لم تصل بشكل كبير إلى الجمهوري العربي الواسع لأن بعض الأنظمة وأساسا الخليجية لا تقبل الخطاب الذي يحمله هذا النوع من الموسيقى لأنها تخاف أن تحرّك السواكن.