الكاتب “مُفدي زكرياء”.. التَّقدُّمُ الحضاري للجزائر في عهد الزَّيَّانيِّين (الجزء الثاني)

تتميَّز الكتاباتُ النَّثريَّة للكاتب الموسوعي “مفدي زكرياء” بأنَّها تتضمَّنُ مفاتيح لموضوعاتٍ مهمَّة في التاريخ الجزائري، لا سيما فيما يتعلَّق بالمناطق الجغرافية والأعلام والعلماء.. فنجِده يُضمِّنُ كتاباته، بما فيها أعماله الشِّعرية، أسماءَ شخصياتٍ كانت فاعلةً في زمانها، ولكنها ظلَّتْ مجهولةً في الدِّراسات التاريخية أو الأدبية ولدى النُّخَب الثقافية والقرائيَّةِ الجزائريَّة.

عبقريَّةُ “مفدي زكرياء”..

كان في وِسْع “مُفدي” المناضل السياسي والكاتب الثَّوريُّ أنْ يُجنِّد قلَمه في الكتابة السياسيَّة ومجابهة الاستعمار الفرنسي وملاحقة جرائمه وطغيانه، ولكنه اختارَ إحياء التَّاريخ الجزائري عبر مختلف عصوره، واسْتحضار الموروث الحضاري في مجالات العلوم والآداب والفنون.. ليُسْهِم في ترسيخ الهويّة التاريخية والثقافية والدينيَّة في شخصيَّة الإنسان الجزائري، وهذا الأمرُ نعتبرُه من خصائص عبقريَّة “مفدي زكرياء” في النِّضال بالقلم، إضافة إلى نضاله الثوري ضدَّ البرامج والمشاريع الاستعمارية لطمس الهويَّة الجزائريَّة وتغريب الإنسان الجزائري عن انتمائه الوطني والعربي والإسلامي..

نستكملُ مع القارئ مقالَ “مُفدي زكرياء” حول “النشاط العقلي والتَّقدَّم الحضاري للجزائر في عهد الزيانيين”..

علماءُ الدين

ومنهم الفقيه إبراهيم بن يخلف بن عبد السلام، محمد بن مرزوق بن الحاج التلمساني، الشيخ ابن على الخياط، الفقيه أبو موسى المشدالي، أبو محمد عبد الحق المسناوي، أبو يعقوب النفرسي، العلامة أبو عبد الله محمد بن مرزوق، الشيخ محمد القرشي التلمساني، الشيخ إبراهيم بن محمد المحمودي، الفقيه العلامة سعيد بن محمد العقباني، أحمد بن يحيى الونشريسي، أبو عباس أحمد الجزائري، الفقيه محمد بن عبد الرحمان الكفيف، أبو على بن عمر بن العباس الصنهاجي الحباك، الفقيه المشهور أبو الربيع سليمان بن عبد الرحمان بن المعز الصنهاجي، الفقيه أبو عبد الله محمد عبد الحق بن سليمان اليعفري، محمد بن موسى الوجويجي.. وقد أشتهر، من بين هؤلاء كلهم، أحمد بن محمد بن زكري، محمد السنوسي، محمد بن عبد الكريم المغربلي، ابن مرزوق الحفيد.. وزَخَر هذا العهد الزَّيَّاني بالعلماء والفقهاء، فمَنْ شاء أن يتعرَّف عليهم فليراجع “بُغْيَة الرُّوَّاد” ليحيى بن خلدون، و”البستان” لابن مريم، و”الدُّرُّ والعقْيان” للتنسي، و”نيل الابتهاج” لأحمد بابا.

المُفسِّرون

وأشهرهم الشيخ عبد الرحمان الثعالبي المولود بمدينة الجزائر سنة 786 هجرية والمتوفى 875 هجرية. هاجر إلى تونس ثم إلى المشرق لأخْذ العلم، فنبَغ في الفقه والحديث، وقد أشتهر على الخصوص بتفسيره للقرآن الكريم وله عدة تآليف أخرى غير ذلك، وضريحه لا يزال مثابَةً للصالحين والصالحات، يحج إليه الجزائريون من جميع أنحاء الجزائر. ومنهم أيضًا الشيخ محمد المغيلي له تآليف عدة، منها: البدر المنير في علوم التفسير. ومنهم محمد السنوسي الذي شرَع في تفسيرٍ كبيرٍ، لكنه وقَف عند قوله تعالى (أولئك هم المفلحون). ومنهم العقباني، وابن زاغو وقد فسَّر معظم آيات القرآن.

علماء التاريخ

أشهرهم، يحيى بن خلدون أخو المؤرخ المشهور مؤلف كتاب “بُغْية الرُّواد في ذِكْر الملوك من بنى عبد الواد”. ومنهم محمد بن عبد الله التنسي مؤلف كتاب “نظْم الدر والعقيان في بيان شرف بني زيان”. ومنهم أبو العباس أحمد قاضى قسنطينة مؤلف كتاب “الفارسية في مبادى الدولة الحَفْصيَّة”.

وأمَّا أصحاب الطبقات فقد أشتهر منهم، أحمد الغبريني (644 – 714 هجرية) مُؤلِّف عنوان “الدِّراية فيمن عُرِف من علماء المائة السابعة ببجاية. ومنهم ابن قنفذ السَّالف الذِّكْر له “وفيات” تُنسَب إليه. ومنهم أحمد يحيى مُؤلِّف كتاب التَّراجم المعروف بـ “وفايات” الونشريسي.

علماء الرياضيات والحساب

أشتهر منهم الرياضي الكبير محمد النجار. ثم على ابن أحمد المشهور بابن الفحام كان عالمًا بالحساب والهندسة والميكانيكا، وله عدة تآليف وقد ابتكر أنواعا كثيرة من الآلات، وهو الذى أخترع ساعة المنجانة المشهورة بالمغرب العربي كله، والتي سبَق أن قال عنها يحيى بن خلدون: “وخزانة المنجانة ذات تماثيل اللُّجين المحكمة، قائمة المصنع، بأعْلاها أيْكةٌ تحمل طائرًا فَرْخاه تحت جناحيه، وبصدرها أبوابٌ مُجوَّفة، عددُ ساعات الليل الزمنية يصاحب طرفيْها بابان مجوَّفان، يبرز فوق جميعها نجمٌ أكمل يسير على خط استواء سيْرَ نظيره في الفلك، ويُسائِر أوَّلَ كل ساعة بابُها المُرتجُّ فينقض من البابيْن الكبيرين عُقابان بفم كل منهما صنْجةٌ صفراء يُلقيها إلى طِسْت من الذهب الأصفر مُجوَّف بوسطة ثقب يفضي به إلى داخل الخزانة فيَرِنُّ، وينهش الأرقمَ أحدُ الفرخيْن فيُصفِّر له أبوه، وهناك يفتح بابُ الساعة الراهنة، وتبرز منه جاريةٌ كأظرف ما أنت راءٍ بیُمْناها إضْبارة فيها اسمُ ساعتها مَنظومًا، ويُسراها موضوعة على فِيها كالمُبايِعَة بالخلافة لأمير المؤمنين”. وقد أجرى الملوك لابن الفحام هبة سنوية تُقدَّر بألف دينار على اختراعه لهذه المنجانة المسحورة. وهذه الساعة تشبه الساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى شرلومان ملك فرنسا إلاَّ أنَّها أحسن وأروع، وقد اندهشتْ أوروبا للساعة الشبيهة بالمنجانة والتي يَدَّعي ابتكارَها “كان راد ازیبودوس”، وقد صنعها بمدينة ستراسبورغ بعد مائتي سنة من وفاة ابن الفحام، وهذا فخر للجزائر لا يشاركها فيه أحدٌ.

علماء الحسابِيَّات

ومنهم ابن قنفذ مؤلف كتاب “حط النقاب عن وجوه أعمال الحساب”، وقد شرح أيضا “تلخيص ابن البنا”، وله أيضا “بغية القارض في الحساب والفرائض”. ومنهم العلاَّمة القنصادي المشهور مُؤلِّف الكتب الآتية: كشف الجلباب عن علم الحساب. كشْفُ الأنوار وكشف الأسرار عن علم الغبار. قانون الحساب. شرح ابن ياسمين في الجبر والمقابلة، وله فيه مختصر مشهور. وقد أشتهر القنصادي بطريقة خاصة في الحساب ابتكرها. ومنهم سعيد العقباني له شرح على قصيدة ابن ياسمين في الجبر والمقابلة، وقد عثرنا على شرح آخر لمقدمات الجبر والمقابلة منسوبٍ إلى العلاَّمة محمد السنوسي. ومن هذا كلِّه نتبيَّنُ مدى اتساع الحركة العلمية الرياضية ومدى تضلع الجزائريين في الحساب والجبر والمقابلة والهندسة والميكانيكا.

علماء الفَلك

وقد اشتهر منهم محمد الحباك، له شرْح قيِّمٌ لأرجوزة “السنوسي” المعروفة بـ “بُغْية الطُّلاَّب في علم الإسطرلاب، وله رسالة أخرى بهذا الاسم وقد نظم رسالة السفار في علم الفلك، توفي سنة 867 هجرية. وللقنصادي شرْحٌ على رِجْز ابن الفتوح في علم النجوم، ومن تآليف ابن قنفذ: “سراج الثِّقات في علم المِيقات” وكتاب “تيسير المطالب في علم الكواكب”. ونحن لا نستطيع تقْدير قيمة هذه الكتب ولا تحديد منزلتها العلمية، حيث أنَّها إلى الآن لا تزال خامًا لم تُدرَس دراسةً فنيَّةً مضبوطة.

إشعاعٌ حضاري انطفأ بعد أربعة قرون

هذه مظاهر العظَمة في دولة شامِخة عمَّرتْ زُهاء أربعة قرون ثم انهارت على يد الحسن آخر بني زيان الذي جلَس فوق الفوضى العامة والاضطراب الشامل وتحالف الأعداء ضد الزيانيين.. ومن أكبر أسباب انهيار الممالك ظهورُ العسف والجُور، وقد أظهر الحسن آخر بني زيان من ظلم الرعية والجور والاعتساف ما أدى بالرعية إلى الانتقاض عليه، وما دفع مجلس العلماء للإفتاء بخلعه. وهكذا ذهب الحسن مع عائلته الى وهران، ثم خرج منها إلى الأندلس، واعتنق دين المسيحية. وهكذا تم ملك بنى زيان بأكبر فظيعة ارتكبها ملوكها، بدأتْ باستمالة النصارى وانتهت بالدخول في دينهم.

الطَّمَع الأشْعبِيُّ يَسُوق إلى النِّهاية

والذي جنى عليها بصفة خاصة هو الطمع الأشعبي الذي كان دأْبُ أفراد العائلة المالكة، فأخذوا يتواثبون على بعضهم بعضًا، ويستنجدون الأعداءَ على أبناء الوطن وذوي القربي، ولم يرْوِ التاريخ أنَّ دولة إسلامية نالها من جرَّاء هذا الخور العقلي والانحراف السياسي ما نال بني زيان، ولولا ذلك لعمَّرتْ طويلاً، ولَكانت أكبر دولة إسلامية في دنيا العرب.

ويلوحُ لنا إذا نحن تعمَّقنا في التحليلَ أنَّ أسباب سقوط الدولة الزيانية ترجع إلى أسباب عنصرية وأسباب سياسية. فأما العنصرية فهي الحرب ما بين مختلف القبائل.. وأما الأسباب السياسية فهي سُوء تَبصُّر أفراد الأسرة وتقاتلهم، ثم سطو بني مرين تارة، وبني حفص تارة أخرى، حتى ضَعُفت كل من الدول الثلاث وتغلغل الإسبان في أجزاء الدولة المغاربية، فاستولى على الجزائر وإفريقية.

ومِنْ غير شك أنَّ من أهم الأسباب التي أدَّتْ بسرعة إلى تقويض البناء الشامخ الذي شيَّده ياغمراسن الأول هو موالاة الزيانيين للإسبان وظهور الدولة التركية التي وإن اكتسحتْ الدولةَ الزيانية إلاَّ أنَّها حمضتْ الهلالَ من تعصُّب الصليب، إذ كانت أوروبا في أشد أزمات الهستيريا من التعصُّب الأعمى ضد المسلمين، فكانت تتوثَّبُ على الممالك وتُجهِز عليها بحملاتها الصليبية الهوجاء. أَلَم تكن حرب “الكونت والكوديتي” إلاَّ حربًا صليبية من الطِّراز الأول، نعم تقلَّص ظِلُّ الدولة بعْدَ أنْ بلغتْ أسمى درجات الحضارة، ولكنها تركتْ معالم حضارية وعلمية وأدبية وفنية لن تمحوها أيدي الحَدَثان. ولن تزال الجزائرُ تفتخر بهذه الأمجاد مدى السنين والأحقاب.

وهكذا كانت النهاية المحزنة للدولة الزيانية نتيجةً حتمية للذين يكفرون بنعم الله ويَبْغونها عوجًا وفسادًا. “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (سورة النحل: الآية 112).

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
في دهاليز سلطة محكومة بقبضة الدم والفساد.. عين الكاميرا تطارد نتنياهو عزلة جوية وهزائم متتالية في الميدان.. "إسرائيل" تخسر السماء والأرض "مكسب تاريخي لا رجعة فيه".. الشعب الصحراوي يدشّن مرحلة جديدة في نضاله ضمن مقاربة تحديث أنظمة الدفع الالكتروني.. إلى أين وصلت الجزائر في مسار التحوّل الرقمي؟ صاحب مقولة: "ميهمّش خليهم يضربوا".. وداعا يا أيقونة الشجاعة والثبات الفلسطيني قوجيل: "نعتز بصوت الحق الذي يصدح به دبلوماسيونا" عطاف: الجزائر تسعى إلى إقامة شراكة متوازنة مع الاتحاد الأوروبي تبون يتسلّم أوراق اعتماد 4 سفراء جدد لدى الجزائر ملف الفساد بمطار قسنطينة.. الوزيرين الأسبقين بدوي وبوضياف أمام المحكمة العليا 56 شهيدا بالقطاع.. حزب الله يشن "أكبر هجوم" صاروخي على حيفا وباء الملاريا والدفتيريا.. إرسال كميات معتبرة من اللقاحات إلى الولايات الجنوبية “سوناطراك” تشارك في منتدى سانت بطرسبرغ الدولي للغاز منطقة اللبونة جنوب لبنان.. اشتباكات عنيفة بين مقاتلي حزب الله وقوة صهيونية مجمع “إيفيكو” الإيطالي يعرض مشروعا لتصنيع السيارات النفعية بالجزائر تعاون جزائري إيطالي في مجال البحوث والحفريات الأثرية محروقات.. توقيع مذكرة تفاهم بين وكالة النفط وشركة قطرية تعليم عالي.. فتح الترشيحات لنيل درجة أستاذ استشفائي مميز وأستاذ مميز غارات "إسرائيلية" جديدة على ضاحية بيروت الجنوبية الأغواط.. حجز أزيد من 5 قناطر لحوم مجمدة منتهية الصلاحية مخيمي البريج والنصيرات.. 25 شهيدا في قصف الاحتلال الصهيوني وسط غزة