لم يكن “مفدي زكرياء” شاعرًا فحسب، بل كان مناضلاً سياسيًّا قِياديًّا قضى أكثر من سِتِّ سنوات في سجون الاستعمار الفرنسي، وكان رائدًا من رُوَّاد الصحافة الجزائريَّة وأحد أبرز أعْلامها وأوَّل من كَتب عن تاريخها. كما كان مُؤرِّخًا وعالِمًا موسوعِيًّا، وتجلَّى هذا في “إلياذة الجزائر”، وأديبًا كتَبَ الروايةَ والدِّراسات الأدبية في النَّقد والأدب الشعبي..
مُفْدِي.. الأديب والمُؤرِّخ والكاتب المَوْسوعي
وإلى جانب أعماله المَطبوعة في الشِّعر والدراسات التاريخيَّة، تُشير بعض المصادر إلى أنَّ “مفدي” خلَّفَ مؤلَّفاتٍ لم تُطبع، أو لعلَّ بعضها قد طُبِع ولم يأخذ الرَّواج الذي يليق بصاحبها، مثل: “الأدب العربي في الجزائر عبر التاريخ”، “أنتم الناس أيُّها الشعراء” (نقد تحليلي)، “مذكراتي” (سيرته الذاتية)، “قاموس المغرب العربي الكبير” (دراسة في اللهجات المغاربية)، “عوائق انبعاث القصة العربية” (دراسة أدبية)، “ست سنوات في سجون فرنسا”، “حواء المغرب العربي الكبير في معركة التحرير”، “الأدب الشعبي الجزائري عبر التاريخ”، “الثورة الكبرى” (رواية)، “العادات والتقاليد في المغرب العربي المُوحَّد”..
تُشيرُ مصادرُ أخرى إلى أنَّ “مفدي زكرياء” خلَّفَ تُراثيًّا إذاعيًّا مُهِمًّا جدًّا، حيث قام بإعداد برامج إذاعيَّة حول: الأدب الجزائري، تاريخ الجزائر، تاريخ الصحافة العربية في الجزائر. إضافةً إلى كلِّ ما سبَق، فقد خلَّفَ “مُفدي زكرياء” كتابات كثيرة في الصحافة الجزائرية والعربيَّة، قبْل الاستقلال وبعده. وقد اختارتْ “الأيام نيوز” أن تُعيد نشْرَ بعض كتابات “مُفدي” التي تكشفُ عن عبقريَّة هذا العلاَّمة الموسوعي الذي حَكَم عليه “اللَّهب المُقدَّس” و”إلياذة الجزائر” أن “يُحشرَ” في مجال الشِّعر فحسب. وهذه مقالته التي نَشَرها في مجلة “الأصالة” الجزائرية، في نوفمبر 1975، تحت عنوان “النشاط العقلي والتَّقدَّم الحضاري للجزائر في عهد الزيانيين”..
الجزائرُ في قمَّة الحضارة
مِمَّا لا يدعو إلى الشَّك والارتياب أنَّ الجزائر بلغتْ القِّمةَ في الحضارة، وكانت آثارُ هذه الحضارة بارزةً في قُوَّة المُلْك ونظام الدولة والنهضة الاقتصادية، والنُّبوغ العلمي والتَّقدُّم الأدبي، وأصبح الجزائريون أمَّةً مُتحضِّرةً ساهمتْ بقِسطٍ وافرٍ في بناية صرْح التَّمدُّن الإسلامي. وليس من السَّهل أنْ نُحدِّد مدى القسط الذي ساهمتْ به في هذه الحضارة، وأنْ نُميِّز المادةَ الخام التي اختصتْ بها وقدَّمتْها كنتيجة لمجهودها الفردي الجبَّار.
تلمسان مُنطلقُ الفنون
ظهرتْ آياتُ هذه الحضارة في الفنون الجميلة كالموسيقى التي بلغتْ درجةً ممتازة بفضل التفاعل الواقع بتأثير الموسيقى الأندلسية، حيث كانت تلمسانُ نقطةَ انطلاقها إلى سائر أنحاء القُطر الجزائري. والذي تقدَّم بصفة خاصة هو الفن المعماري، فإنَّ الجزائرية قد أدركت شأوًا لم تُدركه فيما تقدَّم من عصورها.
وقد عَنى الملوكُ بتشييد القصور والمَعالم، وإنشاء البنايات والمَجامع والمدارس والأسوار وإحداث المُدنِ والقرى، وأعظمُ قصرٍ بتلمسان، قصْرُ “المشور”، وهو بلاط الملوك من “بني زيان”، كان من أجْمل القصور الإسلامية وأرْوعها، وكان جديرًا بدولة عظمى كدولة الزَّيانيِّين، وقد اعتنى الملوك بتوسيعه وتنميقه. ومن مباني النُّزْهة “البِرْكة” العظيمة التي كانت قُرْب تلمسان في بسْتانٍ بَديعٍ كان من أجْمل مُنتزَّهات تلمسان، ومنها “الملعب الكبير” الذي كانت تتسابق فيه الخيولُ في محافل مشهودة وفيه يقول محمد القيسي:
وبملعب الخيل الفسيح مجاله — أجلى النَّواظر في عِناق المَحفل
فبحلبة الأفْراس كل عشيَّة — لعب بذاك الملعب المستسهل
فترى المَجلى والمُصلى خلفه — وكلاهما في جرْيه لا يأتل
هذا يكِرُّ وذا يفِرُّ فتنثني — عطفا على الثاني عنان الأول
من كلِّ طرْفٍ كلُّ طرْف يُسْتبى — قيْد النَّواظر فتْنة المُتأمِّل
ومِنْ مُنتزَّهاتها، وادي “صفصيف” الذي كانت البساتين تحُفُّ بضفَّتيْه، و”كُدْية العشاق”، و”غدير الجورة”، و”ساقية الرومي” وتُسمَّى اليوم بساقية النصراني، وجبل ” لالاَّ ستي”، و “جنات الوريط” وشلالاتها الساحرة وفيها يقول “ابن خميس”:
وإنْ أنس لا أنسى الوريط ووقْفة — أصافحُ فيها روضةً وأُنافح
ويقول:
لساقية الرُّومي عندي مَزِيَّةٌ – وإنْ رغمتْ تلك الرَّوابي الرَّواشِح
ويقول القيسي:
وبِرَبْوة العشَّاقِ سَلْوةُ عاشقٍ — قتلتْهُ ألْحاظ الغزال الأكْحل
بِنَواسِم وبَواسم من زهرها — تُهديكَ أنفاسًا كعُرْف المَنْدَل
وكانت المعالم التلمسانية ذات صبغة محلية في معمارها ولو كانت مقتبسة في الغالب من المعمار الشرقي والمعمار الأندلسي، وقد فصَّل ذلك تفصيلاً “جان مارسي” في كتابه “معالم تلمسان العربية”.
الحركة العلمية بين المساجد والمدارس
أمَّا الحركة العلمية، فإنَّ التعليم بتلمسان كان ينقسم الى قسميْن، قسمٌ يزاول بالمساجد، وقسم يُعطَى بالمدارس. وكانت كل المساجد في القرى والمداشر والمدن تُعْنى بحفظ القرآن والحديث كمادة أُولى أساسية، ثم يُدرَّس النَّحو واللغة والفقه والأدب. أمَّا المساجد الجامعة فإنَّها شبْه كُليَّات تُدرَّس بها العلوم الإسلامية كالفقه وأصوله، والحديث ومصطلحه والقرآن وتفسيره، واللغة والنحو.. أمَّا المدارس فإنَّها تقرب من الجوامع في المنحى والأسلوب، وتزيد عليها بتدريس العلوم الرياضية والعقلية، وقد أسَّسها، إمَّا الزيانِيُّون أو بنو مرين، فالتي أسَّسها الزيانيون هي:
المدارس الزَّيَّانِيَّة والمَرينِيَّة
مدرسة “ابني الإمام”: وهما أبو يزيد عبد الرحمان وأبو موسى عيسى من أهل “برشك”، أخذَا العلمَ بتونس ثم ذهبَا إلى المشرق، فزارَا الشَّام والحجاز ومصر وأخذا العلم عن أقطابها ثم رجعَا، فأسَّس لهما أبو حمو بن زيان مدرسةً عُرِفتْ بهما، يدرِّسان بها علوم الكلام وعلوم اللسان..
المدرسة الجديدة أو “التَّاشْفينيَّة”: أسسها أبو تاشفين ابن أبي حمو الأول، وقد تفنَّن في تشيِيدها وزخرفها حتى أصبحتْ قصْرًا من أعظم قصور الملوك، وكانت تشتمل على عدة بنايات ورِواقات، وقد حضَر في حفلة افتتاحها علاَّمة عصره “أبو موسى عمران المشدالي” وهو من أقطاب عصره في الفقه المالكي.
المدرسة “اليَعْقوبيَّة”: أسَّسها أبو حمو موسى الثاني، بَناها للعلاَّمة أبي عبد الله محمد بن أحمد الشريف. وقد تأنَّق في تزيينها وبهْرجِتها وانتهى من بنائها يوم 5 صفر 765 هجرية، وحضَر الخليفة أبو حمو موسى الثاني حلقةَ الدَّرْس الافتتاحي الذي قام به الشريف أبو عبد الله.
وأمَّا المدارس التي أسَّسها بنو مرين فهي:
مدرسة العباد: نسبة إلى قرية العباد، وقد أسَّس هذه المدرسة أبو الحسن المريني.
مدرسة الجزائر: أسَّسها أبو الحسن المريني بمدينة “جزائر بني مزغنة”، وكان هذا النوع من التأسيس حديث العهد بالمغرب العربي.
العلوم وكُتُب التَّدريس
والمدرسة عبارة عن مَسْكن للطلبة يتخذونه مَثابَةً ومُستقرًّا يأكلون فيه ويشربون، وهناك يتعلَّمون عن الأساتذة مختلف الفنون، وقد بقي أغلبُ هذه المدارس وعلى الأخص مدرسة العباد التي تعرف اليوم بمدرسة “سيدي أبي مدين”. وما من شك في أنَّ لهذه المساجد والجوامع أثرٌ عميقٌ في الازدهار العقلي والتطوُّر الفكري الذي شاع بالجزائر ما بين القرن الثامن والعاشر. وأسلوبُ التعليم بتلمسان لا يختلف عن الطريقة العربية المألوفة من الإلقاء والشَّرح، وكان مِحْور التَّدريس يدور حول الكتب الآتية:
1 – في التفسير: لامية الشاطبي، تفسير بن عطية، الثعالبي، الكشاف للزمخشري، أنوار التنزيل للبيضاوي، التهذيب للبيهقي، الاستذكار للدارمي.
2 – في الحديث: الصِّحاح السِّت وعُمْدة سيرة النبي صلى الله عليه وسلَّم لمحمد بن إسحاق، الروضة للكباري، أُرْجوزة الحديقة.
-3 في الفقه المالكي: المُوَطَّأ للإمام مالك، التمهيد لابن عبد البر، المُدوَّنة للإمام سحنون، التمهيد للبرادعي..
4 – في النحو واللغة: كتاب الإعراب عن شواهد الأعراب لابن هشام، مُغني اللَّبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام أيضا، الإيضاح للفارسي، كتاب النحو لسيبويه، الألفية والتسهيل لابن مالك، والكافية لابن الحاجب..
5 – في الأدب: كتاب الإيضاح للقزويني، دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، الأنموذج للزمخشري، المصباح والمُغرِب للمطرزي، الحماسة لابي تمام، المعلقات السبع وديوان المتنبي، كتاب الأغاني لأبى الفرج الأصفهاني، العُمدة لابن رشيق القيرواني، زهْر الآداب للحصري. وقد تخرَّج من مدارس تلمسان طائفةٌ مُمتازة من العلماء على اختلاف فنونهم ومَناحِيهم.