لا تكاد تخلو منطقة في العالم من الكتابات والرّسوم على الجدران، سواء بشكل فوضي اعتباطي يشوّه جمال البيئة المكانية، أو بشكل مدروس ومُمنهج يضيف قيمة جمالية وثقافية إلى المكان والوسط المجتمعي.. وكأنّ هذا الشكل التعبيري اتّفقت عليه الشعوبُ في مختلف أنحاء المعمورة، وعبر مختلف الأزمنة والعصور، ويُمكن القول بأنّ التاريخ الإنساني ابتدأ عندما “نطقَت” جدرانُ الكهوف والمعابد.. وكشفَت عن أسرار الحياة في الحضارات القديمة البائدة!
ولا نحسب النّشر الرّقمي على الجدران والحيطان في شبكات التواصل الاجتماعي إلاّ امتدادا إلى الكتابة والرسم على جدران الكهوف قبل آلاف السنين! ورغم التطّور المذهل في الكتابة “الرّقمية” على جدران “الفيسبوك” مثلا، فإنها لم تستطع إلغاء الكتابة على الجدران في شوارع الحياة ودنيا النّاس. ويُمكننا القول بأنّ الكتابة على الجدران من المظاهر “الحضارية” التي بقيت متواصلة ولم تنقطع منذ ما قبل التاريخ، ولعلّها ستبقى متواصلة إلى ما بعد التاريخ أو إلى “نهاية التاريخ” بتعبير المفكّر الأمريكي “فرانسيس فوكوياما”، بل نزعم بأنّ الكتابة على الجدران هي حركة التاريخ ذاته، ومتى توقّفت ستتوقّف معها “حركة التاريخ”.. هذه الحركة التي تمنح للتاريخ معنى: المُستقبل!
وسواءٌ كان هذا الشكل التعبيري تنفيسًا شعبيًّا عن أمور سياسية أو اجتماعية أو حتى عُقدٍ نفسية للأفراد، أو كان من العادات اليوميّة للشعوب، فهو بشكل ما يُمثّل جزءًا من الثقافة الشعبية للمجتمعات الإنسانية، وما يهمّنا هو البعد الأدبي لما اعتبرناه “شكلا تعبيريًّا” من حيث طول الجُملة المكتوبة وبلاغتها ومفرداتها ونوع الخطّ الذي كُتبت به، والحِكم التي تتضمّنها الكتابة أحيانا.. إضافة إلى الرّسومات وألوانها وموضوعاتها وغيرها من العناصر التي تستدعي دراستها التقاء علوم: الاجتماع، النفس، التاريخ، الأدب، الفنون..
في سياق هذه الأفكار، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من كُتّابنا العرب تستجلي أفكارَهم وآراءهم حول الكتابة على الجدران، من خلال طرح التساؤلات التالية عليهم:
هل تعتبرون الكتابة على الجدران عنصرا من عناصر الثقافة الشعبية الذي يجب أن يُدرس؟ وهل ترون أنّه يتوجّب تخصيص مساحات جُدرانية لتنظيم هذه الجداريات حتى تكون عنصرا جماليا للبيئة المكانية؟ وهل تعتقدون بأن الكتابة على الجدران يُمكنها أن تكون وسيلة من وسائل التوعية والتثقيف أو نشر مقولات الحِكمة والأمثال والأبيات الشعرية… التي ترتقي بالذّوق الأدبي والفنّي للإنسان؟
وفي سياق قريب، هل يُمكنكم أن تحدّثونها عن تجاربكم مع المجلاّت الجدارية في المدارس ودورها في الكشف عن المواهب والتشجيع على القراءة أو ممارسة الكتابة والتواصل بين تلاميذ المدرسة الواحدة؟
نُشير إلى أن ما نقصده بالكتابة على الجدران، يتضمّن أيضًا الرسوم التي تبلغ أحيانا مستويات فنية راقية جدا.. وماذا عنك أنت عزيزي القارئ، هل لديك رأيٌ في الموضوع؟ لعلّك “خربَشت” على جدران الحياة يوما ما، دون أن تعرف بأن خربشتك لها تاريخ سحيق يعود إلى آلاف السنين.. إذًا من المُجدي أن تتعرّف على ذلك التاريخ، وتعرف أكثر عن الكتابة على الجدران!
قراءة في أحاديث الجدران عبر الزمن
بقلم: نهى عودة – شاعرة وكاتبة فلسطينية في لبنان
يعيش الإنسان بين واقعه وخياله، وما إن تخمر لديه فكرة الحب أو الحرب أو المبدأ أو أفكار سياسية واجتماعية.. يذهب بعيدا فيصرِّح بها ويمنحها شكلا مُورقا على الجدران، ويقول للملأ: أنا هنا، كنتُ هنا ومررتُ بالكثير من الأحداث. وتُعتَبر هذه الظاهرة كنوع من الفن عند البعض بينما البعض الآخر يعتبره تشويها.. لكن الكتابة على الجدران بجميع أحوالها تعكس ثقافة الشعوب وطريقة تفكيرهم وآرائهم. بعض الكتابات على الجدران تُعبِّر عن مشاعر الحب أو الفرح أو الحزن.. وقد تكون كتابات إبداعية تجمِّل الطّرقات وتمنح المارة جمالا لا ينفذ.
يقول الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبين” أن “الغرافيتي يمثّل نوعًا من التعبير السياسي والفني الذي يتحدى الفضاء العام والسلطة”، بينما يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “جان بودريار” أن “الغرافيتي نوع من التمرّد ضد الهيمنة الثقافية والإعلامية”.
الكتابة على الجدران.. عابرةٌ للعصور
إنّ الكتابة على الجدران تعود إلى عصور قديمة جدا حيث يرجع هذا الفن إلى آلاف السنين، امتدّت جذوره وأصوله وطُرق تطوّره إلى أن وصل إلى زمننا هذا كنوع من التعبير لا يكاد يخلو من بلد على سطح الأرض. لقد كان القدماء يكتبون على جدرانهم وينقشون حكاياتهم، وهذا ما رأيناه وعايشناه من خلال علماء الآثار الذين لم يتوقّفوا عن اكتشاف الحضارات ودراسة عوالمهم وماهية طُرق عيشهم. لم يكن الأمر مقرونا بعصرٍ مُحدّد بل مُذ تطوّر الإنسان في طُرق معيشته واستخدام سُبل وجوده وحضوره الإنساني والأغلب تأريخه له.
يُعتبر النّقش والرّسم وصور الحياة اليومية من أبرز وأقدم الأمثلة على الكتابة على الجدران، وهذا يلغي فكرة المرور عليه كفكرة شعب تمرّد هنا، أو عشق هناك، أو كتابة ألفاظ نابية ليس أكثر!
لقد قام الإنسان البدائي برسم ونقش أشكال حيوانات وصور الحياة اليومية على جدران الكهوف. ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك كهوف “لاسكو” في فرنسا، وكهوف ألتميرا في إسبانيا، والنقوش في مصر القديمة فقد استخدم المصريون القدماء الكتابة الهيروغليفية على جدران المعابد والمقابر لكتابة نصوصهم الدينية والسجلّات التاريخية.
وُجدت كتابات ورسوم على جدران المباني في “بومبي” المدينة الرومانية القديمة التي دفنتها ثورة بركان فيزوف عام 79 ميلادية. تضمنت هذه الكتابات رسائل شخصية، شعارات سياسية، ورسوم فكاهية. كما وُجدت نقوش تعود إلى العصور الوسطى حيث كانت تلك النقوش والرسوم على جدران الكنائس والقلاع تعبّر عن أحداث تاريخية أو دينية.
هذه الأمثلة تُظهر أن الكتابة على الجدران كانت وسيلة تعبير معروفة ومستخدمة عبر التاريخ البشري ووسيلة للتعبير عن الحياة كنهجٍ إنساني صحي تطوّر عبر الزمن.
“حمود الصاهود” والجدران الناطقة
يتحدّث “حمود الصاهود”، وهو باحث مُهتم بالأدب العربي والثقافة، في مقدمة كتابه “الجدران الناطقة” وهو “عبارة عن دراسة لظاهرة الكتابة على الجدران في مدينة الرياض”، الذي يعرض فيه تاريخ وأهمية هذه الظاهرة في المجتمع العربي والإسلامي على مرّ العصور، حيث يشير إلى أن الكتابة على الجدران كانت تُستخدم لتزيين القصور وأماكن العبادة، وأن الحضارة العربية والإسلامية قدَّمت إسهامات كبيرة في هذا المجال لا تضاهيها حضارات أخرى. كما يناقش استخدام الكتابة على الجدران في مقاومة الأفكار السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، مثل استخدام “مارتن لوثر” لها لمقاومة استبداد الكنيسة الكاثوليكية. ويستعرض أيضًا كيفية استغلالها للإعلانات التجارية والترويج للأحزاب السياسية ونشر الأفكار المختلفة.
وفي مقدمة كتابه، يقول “الصاهود” أيضا: إن كان (للحيطان آذان) كما سار في المثل، فإن لسانها أقدم، وبيانها أفصح، وهي تجيد الكلام أكثر من إجادتها الاستماع؛ فطالما نطقت بأصوات الناس عبر التاريخ، فكانت صراخ الذي لا يستطيع الصراخ، وتنهيدة العاشق الذي لا يقوى على الكتمان، وكانت الجدران ميدانًا لشكوى الغرباء، وظرف الظرفاء، وعبث الأشقياء، اختلفت مشاربهم وثقافتهم وعصورهم وشخصياتهم وطبقاتهم وأدوات كتابتهم لكن وحّدهم هذا الجدار الذي تسمّروا أمامه، فمنهم من يحفر وينقش، ومنهم من أشعل ناره وأمسك بفحمته، حتى نصل إلى عصرنا الذي شهد تنوعًا كبيرًا في أدوات الكتابة على الجدران، فهذه الظاهرة سلسلة امتدت عبر عصور طويلة، منذ أن عرف الإنسان أن هذا الفعل شكل من أشكال الخلود، فالكتابة والنقوش هي التخليد الأول للصوت البشري”.
كتابة الجدران والرئيس “ياسر عرفات”
القائد الشهيد “ياسر عرفات” (أبو عمار) عُرف بحنكته وفطانته واهتمامه بما يكتب على الجدران، في محاولة منه لاستنباط آراء الناس، وما يدور في فكر شعبه أو حتى الشعوب في البلاد التي استضافت الفلسطينيين في فترة السبعينات والثمانينيات من العصر الحالي، يقول “كريم بقرادوني”، وهو سياسي ومحامي لبناني، “من صبرا إلى الأشرفية، كانت المرة الأولى التي يدخل فيها ياسر عرفات الشق الشرقي في بيروت بلا حرّاس ولا ترتيبات أمنية مسبقة، وخلافا لإحساسي بالتهيُّب كان أبو عمار على درجة عالية من الارتياح. عندما دخلنا الأشرفية أصرّ أبو عمار على أن نقوم بجولة ليرى بأم العين أخبارها الداخلية، في حين كنت راغبا في اعتماد أقصر الطُّرق للوصول إلى المكان الموعد. نزلت عند رغبته وجلنا في الأشرفية ولاحظ أبو عمار شعارات على الحيطان بينها شعار يقول (لا لسوريا)، فقال الياسر لبقرادوني: يا كريم هذه الشعارات لا تفيد، التعبئة النفسية أخطر من التعبئة العسكرية فانتبهوا”.
الكتابة شكل من أشكال التّخريب
يعتبر الكثير من المهتمين بالشؤون التعليمية أن الكتابة على الجدران شكل من أشكال التخريب والمساس بالشارع وحرية الناس ولا سيما عندما تكون هناك عبارات تخالف تطلعات المجتمع وتوجهاته أو ألفاظا نابية، كما أنهم يعتبرونها أملاكا خاصة بالدولة لذلك تطلعوا إلى أسباب الوجود وطرح الحلول باعتبارها آفة تفتك بالمجتمعات.
كما ذهب بعض المهتمين إلى تبنّيها على أنها ظاهرة حديثة الوجود في عوالمنا العربية الإسلامية، وهي سلوكيات غير سوية ومستهجنة، وليست سوى تصرّفات طائشة نتيجة الفراغ الذي يعاني منه العديد من الشباب، وخصوصا المنقطعين عن الدراسة، أو الذين لا يمارسون هواياتهم.
دوافع الكتابة على الجدران عند الرأي المعارض
يقول موجِّه التربية الإسلامية “عاطف محمود” في مقال نشره على موقع “البيان”، “إن عدم اهتمام الوالدين بتربية أبنائهم يؤدّي إلى تنشئة فرد غير ملتزم بالأخلاق وآداب النظافة للمجتمع الخارجي، وبالتالي سيؤثّر ذلك على رفاقه بشكل سلبي، فيسيؤون التصرّف، ولا يحترمون الأنظمة والقوانين. إن وجود مشاكل عائليّة، وعدم المبالاة بمشاعر الأبناء.. ممّا يؤدّي إلى التعبير عن تلك المشاكل بشكل سيء، كالكتابة على الجدران. كما أن وجود مشاكل بين الشباب، يؤدّي إلى اتّخاذ أسلوب الكتابة على الجدران للسبّ والشّتم وتفريغ الأحقاد والكره، وهذا يُعدّ سببا خطيرا؛ نظرا لسوء ما تتم كتابته على الجدران. كما أن هنالك من يذهب للإيقاع بأشخاص آخرين من خلال التشهير بهم، وفضح الأسرار العائليّة نتيجة شحنات مكبوتة داخلهم، تدفعهم للتصرّف بهذا الشكل”.
يُضيف الكاتب قائلا: “إن الأسباب الاجتماعية تؤثِّر في شخصية الفرد عند محاولته تقليد أبناء جيله الذين يسلكون ذات السلوكية مع انعدام وجود الرادع الأخلاقي أو القانوني والعقلي لإيقافهم أو الحد من مثل هذه السلوكيات غير الحضارية والتي تعطي انطباعا للمراقبين ومنهم الوافدين عن مدى غياب الذوق الجمالي يصاحبه انعدام أو ضعف للقانون العام في البلد”.
جمهور فتاوى التّخريب والتغيير
يرى قسم كبير من المهتمين بالشأن الاجتماعي أن هذه الظاهرة هي ظاهرة مَرَضية وعليهم معالجتها، ناهيك عن وضعهم الكثير من الآراء وتبنّيها، وإقامتهم للعديد من الندوات حول هذا الموضوع، ومطالبتهم بإعادة توجيه سلوكيات الأطفال من خلال دراسة الدوافع وإعطاء الأشخاص فرصة تفريغ انفعالاتهم والتعبير عن آرائهم حتى لا يضطروا إلى جعل هذه الأماكن منصّات للتعبير عن المكبوت.
وينبغي أن تأخذ المؤسسات التعليمية والإعلامية وجميع المنظّمات دورها في التثقيف ضدّ هذه الظاهرة، وكبح جماح السلوك العدواني الذي يعمد إليه الأفراد من خلال هذه الكتابات التي لا تسمن ولا تغني من جوع وليس لها أثر غير ذلك الأثر التشويهي التخريبي. كما طالبوا بوضع كاميرات المراقبة في الأماكن المُعرّضة لمثل هذه الانتهاكات لرصد مَن يقومون بالكتابة واستقدامهم ومعاقبتهم بغرامات مالية، أو إجبارهم على طلاء هذه الجدران أو تنظيفها كي لا يعاودوا الكتابة مرة ثانية وهي أحد طرق العلاج الناجحة.
أعذب العبارات التي كتبت على الجدران الفلسطينية في الوطن والشتات
عباراتٌ على الجدران عن فلسطين
- اخلع نعليك فترابها من دمائنا
- تقنعنيش بالاحتلال عقلي كله مقاومة
- هذه الأرض لا تتسع لهويتين إما نحن أو نحن
- عزيز أنت يا وطني
- يا وطني الرائع يا وطني
- الشهيد مرّ من هنا
عباراتٌ عن العشق الفلسطيني
- أنت جميلة كوطن مُحرّر وانا متعب كوطن محتل
- ابتسمي فالقمر يحتاج إلى منافس
- في عينيك ثورة
- باقي بقلبك مش راحل وخاوة كمان
- أحبك حب الوطن لدم الشهيد
- عيونك بس تضحكي بيشبهوا حيفا
اسمع نبض الناس من حديث الجدران
هذه الوسيلة التي تعبِّر عن الشعوب وما يدور في رأسها ما هي إلا محبّة أو عتب على قدر محبة الوطن، مهما اختلفنا مع العبارات لكنها تنبض حبًّا وحنينا لأناس عافت الظلم وتعبت منه، وأناس أرادت أن تعبِّر عمّا في قلبها من حب أو غضب، أما أنا فأجمل ذكرياتي تلك التي نقشتها في أماكن مختلفة لتثبيت وجودي وإني أؤمن بهذا الفن وهذه المشاعر وإن لم يعلم حرفي الأول من المكتوب أيّ أحد.
الكتابة على الجدران.. رافد للثقافة العربية والشعبية
بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
هل تُعدّ الكتابة على الجدران رافدا للثقافة الشعبية؟ سؤال وجيه يحاول رصد هذه الظاهرة المنتشرة عالميا، ويبحث عن أسبابها وأشكالها وأهدافها ونتائجها التي تعود على مَن يكتبون أو على المستهدفين بالكتابة.
إذ لا تكاد تخلو منطقة في العالم من الكتابات على الجدران، سواء بشكل فوضوي اعتباطي يشوّه جمال البيئة المكانية، أو بشكل مدروس ومُمنهج يضيف قيمة جمالية وثقافية للمكان والوسط المجتمعي.. وكأنّ هذا الشكل التعبيري تتّفق عليه الشعوب في مختلف أنحاء المعمورة.
والكتابة على الجدران عُرفت منذ آلاف السنين عند قدماء المصريين وما تزال الكتابات منقوشة على جدران معابدهم حتى اليوم، منها نتعرّف على حضارتهم ونقرأ تاريخهم ونتعرّف على انتصاراتهم وانكسارات أعدائهم، حيث سجّلوا أخبار معاركهم وأحداثها في جداريات خالدة، على جدران المعابد وعلى المِسلّات، وكذلك عرف اليونان والرومان الكتابةَ على المعابد، ويبدو أن كل الأمم استخدموا الجدران في التسجيل والتأريخ، وما “حجر رشيد” الذي كتب بلغات ثلاث وفكّ رموزه “شامبليون” فتعرّفنا من خلاله على الحضارة المصرية إلا أثرا من آثار الكتابة على الجدران.
وقد عرف العرب الكتابة على الجدران، ومن أهم ما ألِّف في هذا الباب كتاب “أدب الغرباء” لأبي الفرج الأصفهاني، الذي خصصه لشعر الاغتراب ومواطن كتابته وأهمّها الجدران، وقد ذكر الكثير من الشّواهد المهمة التي تعبِّر فعلا عن ظاهرة الكتابة على الجدران، ونقَل لنا أشكالا من كتاباتهم وأشكال الكتابة وشخصيات الكُتّاب وأسباب الكتابة.
وقد ورد في كتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة الدينوري أنه كُتِبَ على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وتجربة الصديق، وشماتة الأعداء.
ونقوش المساجد والقصور في الحضارة الإسلامية تشهد على أهمية الكتابة على الجدران، حيث كانت تُنقش آيات القرآن الكريم وبعض سوره الكريمة وأسماء الله الحسنى وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أبيات الشعر العربي التي تتضمّن الحكم والمواعظ.
وفي الأندلس ما تزال قصور “الحمراء” في “غرناطة” تزينها قصائد “ابن زمرك الغرناطي” التي صاغها في ملوك بني الأحمر، ويُقال إنه أول ديوان منشور في العالم.
وفي العصر الحديث كتب صديقنا الأديب والناقد الجزائري الكبير الدكتور “علاوة كوسة” كتابا قيما عنوانه: الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي، مع معجم الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة (قديما وحديثا)، صدر عن دار فكرة كوم للنشر والتوزيع ـ ورقلة / الجزائر ـ جوان ـ 2022م، وضم حوالي سبعمائة شاهد شعري شاهدي كُتبت على جدران القبور عبر القرون المختلفة حتى العصر الحديث، وقد تناول فيه التراث الشاهدي الشعري العربي قديما وحديثا، حيث ركّز على أشهر الشعراء والأدباء، كما قدّم في بابه الثاني معجما بأهمّ الشواهد الشعرية على القبور مع ذِكر أصحابها.
والكتابة على الجدران قد تكون نوعا من الدعاية والإعلان عن المنتجات أو السلع أو المعارض المختلفة وتكون عن طريق الشركات المنتِجة أو القائمين بتوزيع هذه المنتجات لجذب الجمهور المستهدف الذي تؤثر فيه هذه الدعاية من غير شك، خصوصا إذا كان البيع بالتقسيط، نظرا للظروف الاقتصادية الطاحنة.
وقد تكون نوعا من الإعلان عن الغضب أو الثورة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعاني منها المجتمعات المختلفة، والتحريض على تغيير هذه الأوضاع سواء بطريقة سلمية أو عن طريق القوة، كما شاهدنا فيما عُرف بـ “ثورات الربيع العربي” في تونس ومصر وليبيا وسورية، بغضّ النظر عن نتائج هذه الثورات.
وقد تكون نوعا من الاحتجاج على السياسات العنصرية التي تنتهجها الدول الغربية المتغطرسة تجاه قضايا المسلمين حول العالم كما حدث في البوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق وسوريا واليمن والسودان وبورما والهند، والقضية الفلسطينية حيث يعاني الفلسطينيون من الاحتلال الصهيوني البغيض القائم على التمييز العنصري واحتلال الأراض بالقوة وانتهاك كافة الأعراف والقوانين الدولية، وقتل الشيوخ والنساء والأطفال والتخريب والتدمير والتّجريف والتّبوير، والعالم كله يشاهد على الهواء وعلى مدى عشرة أشهر ما يمارسه العدو الصهيوني ومن يقفون وراءه من قوى استعمارية ظالمة وبغيضة مُمثّلة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وكل ذلك يثير حفيظة الأحرار في جميع أنحاء العالم حتى في هذه الدول الباغية، فتخرج المظاهرات يوميا في الجامعات والميادين وغيرها، ويعلّقون اللافتات المناهضة للظلم والبطش والبغي والعدوان على الحوائط ويرسمون رسوما تعبّر عن مشاعر السّخط، هذا بالإضافة إلى ما يُنشر على الحوائط الإلكترونية للأفراد والمجموعات في فيسبوك وتويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. وقد تجاوزت الكتابة والرسوم الحوائط لتمتدّ إلى أرضيات الشوارع حيث تُرسم أعلام العدو الصهيوني ومناصريه ويُصوّر مجرموهم من الحكّام ويُداس عليهم بالأقدام.
وقد تكون نوعا من الدعاية الانتخابية للمرشحين سواء للرئاسة أو لانتخابات مجلس الشعب أو الشورى (الشيوخ)، أو المجالس الشعبية المحلية في القرى والمدن والمحافظات، وتنظم القوانين ضرورة إزالة هذه الكتابات سواء كانت على القماش أو على الجدران، ولكن للأسف لا يلتزم أحد بهذه القوانين.
وقد تكون نوعا من الدعاية الأيديولوجية أو الدينية، كالدعوة إلى الالتزام بالصلاة “صلاتك قبل مماتك” أو أداء الزّكوات والصدقات، أو التزام المرأة بالحجاب “الحجاب فريضة إسلامية”، أو الدعاية بواسطة شركات الحج والعمرة.
وقد تكون لأهداف تربوية مدروسة ومُمنهجة، مثل ما يُكتب بواسطة الجهات المعنية كالتربية والتعليم على جدران المدارس مثلا من حضٍّ على طلب العلم أو المحافظة على البيئة المدرسية ونظافتها أو حب الوطن “حب الوطن من الإيمان” أو الدعوة إلى ممارسة الرياضة وصحة الأبدان التي تؤدي إلى صحة العقول “العقل السليم في الجسم السليم”، وهو مما تشترك فيه المدارس والأندية الرياضية، ومثله التّحذير من مخاطر الإدمان، وشرب المُخدّرات وأضرار التدخين، وغير ذلك من الأهداف التربوية السامية.
وقد تكون الكتابة عشوائية وبخطٍّ رديء يشوّه جماليات المكان فتكون قذى في عيون الناظرين، وهذا ما تجب محاربته وإزالته فورا بواسطة المحليّات حفاظا على البيئة ومنعا للتلوث البصري للسكان.
وقد تكون بطريقة مدروسة ومُنظّمة وبخطوط عربية جميلة بواسطة خطّاطين دارسين أو موهوبين، وهي بذلك تسهم في إشاعة ثقافة الجمال بالإضافة إلى تعلّم جماليات الخط العربي التي تفتقر إليها اللغات الأخرى، حيث هناك أنواع من الخطوط كالخط الكوفي والخط الفارسي وخط الرقعة والنسخ والخط الديواني وخط الثلث وغير ذلك من الخطوط التي تُدرّس في مدارس الخطوط العربية، وهي كثيرة في مصر ولعلها موجودة في الدول العربية.
وهي في كل ذلك تشكّل وجدان الشعب وتؤثّر في توجّهاته، وتلعب على مشاعره وعواطفه، وسواءٌ كان هذا الشكل التعبيري تنفيسًا شعبيًّا عن أمور سياسية أو اجتماعية، أو كان لأغراض أخرى اقتصادية كالدعاية للمنتجات الاستهلاكية، أو تربوية كالترغيب في سلوكيات مستحسنة أو التّنفير من سلوكيات مستهجنة، فهو بشكل ما يُمثّل جزءا من الثقافة الشعبية، وما يهمّنا هو بعده الأدبي من حيث طول الجملة وبلاغتها ومفرداتها ونوع الخط.. وربما الحِكم التي تتضمّنها الكتابة أحيانا.. والكلام في هذا الموضوع يطول ويقتضينا تتبّع هذه الكتابات ودراستها من ناحية المفردات والتراكيب والبلاغة في التعبير وتوفر السّجع والجناس والطباق وغير ذلك من وسائل التحسين البلاغي، وكذلك دراسة الخطوط وأنواعها ومدى جودتها ومطابقتها لقواعد الخط العربي، وهذا يتطلب وقتا وجهدا كبيرين.
وقد قام بعض الباحثين المصريين بمثل هذه الدراسة على العبارات التي تُكتب على وسائل المُوصلات كسيّارات الأجرة، وخرج بنتائج مهمة تعكس طبيعة الشعب المصري كالخوف من الحسد “متبصليش بعين رضية، بص للي اندفع فيه” والحرص على كسب العيش بالحلال والفخر بالأبناء “الأمورة سماح” وإعلاء قيم التسامح وإذكاء أخلاق القيادة “القيادة فن وذوق”، “يا تعدي يا تهدي” وغير ذلك.
وهناك دراسة قام بها بعض الباحثين عن “ظاهرة الكتابة على الجدران لدي طلاب جامعة الأزهر”. وهناك دراسة بعنوان “الجدران الناطقة: دراسة لظاهرة الكتابة على الجدران في مدينة الرياض” قام بها “حمد الصاهود”. وهناك مقال بعنوان “الكتابة على الجدران: خربشات تعبث بجمال المكان” لـ “رشا عبد المنعم”.
وبالإضافة إلى الكتابة على الجدران، فهناك الرسوم التي تبلغ أحيانا مستويات فنية راقية جدا.. وتُعدّ الرسوم على الجدران عنصرا من عناصر الثقافة الشعبية، يجب أن يُدرس مثل الكتابة، لأنه وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي سواء كانت هذه الرسوم لأشكال طبيعية كالبحر مثلا في المدن الساحلية أو الحقول في المدن الزراعية، أو لرموز سياسية أو وطنية فقد تكون لشعار محافظة من المحافظات، أو لزعيم سياسي أو بطل قومي أو لشخصية ثقافية أو بطل رياضي أو عسكري..
ونرى أنّه يتوجّب تخصيص مساحات جدرانية لتنظيم هذه الجداريات حتى تكون عنصرا جماليا للبيئة المكانية؟ خصوصا في الميادين المهمة في العاصمة والمحافظات أو الأماكن السياحية، وتكون الفرصة مواتية في مثل هذه الجداريات لعرض معالم المحافظة بصورة فنية راقية، تلفت الأنظار وتجذب السائحين وتعطي صورة حضارية عن المكان.
وأعتقد أن الكتابة على الجدران يُمكنها أن تكون وسيلة من وسائل التوعية أو نشر مقولات الحكمة المقتبسة من النصوص الدينية والأبيات الشعرية والأقوال المأثورة للحكماء والفلاسفة والمفكرين على مرّ العصور مما ينشر الثقافية بين الناس، حين يألفون قراءة مثل هذه الحكم والأمثال والأبيات الشعرية والأقوال المأثورة التي تحضّ على مكارم الأخلاق وتوسّع مدارك الناس وتنشر قيم التسامح بين أفراد المجتمع.
وعلى ذكر الكتابة على الجدران والجداريات المصورة أو المُجسّمة، وفي سياق قريب، يُمكننا أن نتحدّث عن تجاربنا مع المجلاّت الجدارية في المدارس (مجلات الحائط) ودورها في الكشف عن المواهب والتشجيع على القراءة أو ممارسة الكتابة والتواصل بين تلاميذ المدرسة الواحدة..
فقد لعبت مجلّات الحائط المدرسية التي كنا نشارك فيها ونحن تلاميذ في المدرسة الابتدائية والإعدادية وحتى المدرسة الثانوية دورا بارزا في تكوين ثقافتنا الأدبية والفنية والاجتماعية والسياسية حيث كنا نقوم بتقسيم مجلة الحائط التي كانت تُكتب على فرخ من الورق المُقوّى إلى أقسام تحت إشراف معلّم الفصل أو مُشرف النشاط الثقافي في المدارس، ويُكلّف كل طالب يرغب في المشاركة في كتابة موضوع مُعيّن للعدد، فمثلا هناك حكمة العدد وتكون آية قرآنية كريمة أو حديثا نبويا شريفا أو بيتا من الشعر يحمل معنى قيِّمًا أو حكمة عربية أو مثلا من أمثال العرب، وهناك شخصية العدد وغالبا ما تكون شخصية مجتمعية مؤثّرة سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو دينيا، أو غير ذلك.
فمثلا في التعليم “رفاعة الطهطاوي” أو “علي باشا مبارك”، وفي الأدب: عميد الأدب العربي طه حسين أو العقاد أو المازني أو مصطفى صادق الرافعي أو زكي مبارك أو المنفلوطي أو نجيب محفوظ، وفي العلم هناك: أحمد زويل ومصطفى السيد وفاروق الباز وغيرهم من الأعلام، وفي السياسة هناك: أحمد عرابي وسعد زغلول ومحمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر، وعبد الناصر والسادات وغيرهم، وفي الاقتصاد هناك: طلعت باشا حرب مؤسس بنك مصر وصاحب النهضة الصناعية ببناء الشركات الوطنية الكبرى.
وهناك حوار العدد ويكون مع مدير المدرسة أو وكيلها أو أحد المدرِّسين الأوائل المحبوبين من طلاب المدرسة، وفي الجامعة يكون الحوار مع رئيس الجامعة أو أحد نوابه وخصوصا نائب شؤون الطلاب، أو مع عميد الكلية أو أحد وكلاء الكلية وبخاصة وكيل شؤون الطلاب، أو أحد رؤساء الأقسام أو أحد الأساتذة المحبوبين من الطلاب.. ثم تكون هناك الأخبار التي تهمّ تلاميذ المدرسة أو الكلية أو المؤسسة التعليمية التي ينتمي إليها الطلاب بحسب تخصّصهم العلمي أو الأدبي.
وكل ذلك يتطلب مهارات خاصة من التلاميذ القائمين على تحرير الصحيفة المدرسية التي تُعلّق إمّا في الفصل أو في مكان بارز بالمدرسة يمرّ عليه الطلاب يوميا، مثل مقصف المدرسة أو باب المدرسة الداخلي أو مدخل كل دور من أدوار المدرسة أو الكلية. حيث يقوم بعض الطلاب من هواة القراءة والبحث بكتابة المعلومات المطلوبة التي يتم تكليفهم بها بواسطة معلم الفصل أو مشرف النشاط أو بواسطة المشرف الثقافي لرعاية الشباب بالكلية أو الجامعة، ثم يقوم الطلاب ذوو الخطوط الحسنة بكتابة هذه المواد في أماكنها المخصصة من المجلة التي يقوم بتصميمها الطلاب ذوو القدرات الخاصة في الفن والتصميم بحيث تخرج مجلة الحائط في ثوب قشيب يجذب الطلاب ويلفت أنظارهم.
وقد يتمّ تزويد المجلة ببعض الصور والرسوم التي يقوم بها الطلاب الموهوبون في الرسم أو التصوير، وقد يكون بها قسم للرسوم الساخرة (الكاريكاتير)، وقد تتضمن مسابقة للعدد ترصد لها جوائز تشجيعية للطلاب.
كل هذه الأنشطة تنمِّي عند الطلاب حب القراءة وتشجعهم على البحث في الكتب واستخراج المعلومات من بطونها، كما تنمّي فيهم مواهب التصميم والرسم والتصوير، وغير ذلك من المواهب، ومن هؤلاء الطلاب يخرج بعد ذلك الأدباء والشعراء والمصمّمون والخطّاطون الذين يلتحقون بالكليّات المؤهلة لهم التي تصقل مواهبهم وتنمّي مهاراتهم وتشبع نهمهم وتلبّي رغباتهم، فالموهبة وحدها لا تكفي وإنما لا بد من صقلها بالدراسة، مثل كليات الآداب ودار العلوم والألسن وكلية البنات وكليات اللغة العربية بالأزهر والدراسات الإسلامية وكليات الإعلام والفنون الجميلة والفنون التطبيقية وكليات التربية النوعية وغيرها من الكليات التي يتخرّج منها الطلاب مُؤهّلين لممارسة مهنة الصحافة وغيرها من المهن المتعلقة بها.
ومِمّا لا شك فيه أن الكتابة على الجدران، وصحف الحائط تمثل رافدا للثقافة الشعبية بما تبثّه في الجماهير من قيم إيجابية، وما تقاومه من عادات سلبية وتقاليد بالية لا تتناسب مع العصر وحضارته ولا مع التقدم العلمي، بل وتخالف تعاليم الديانات السماوية.
وما من أحدٍ من جيلنا إلّا وقد جرّب الكتابة على الجدران، خصوصا في فترة المراهقة، كأن يكتب اسمه واسم البنت التي يحبها، بل إننا كنا ننقش أسماءنا على جذوع الأشجار على سبيل الذكرى، وقد كنت أكتب اسمي على أوراق الشجر أحيانا إمعانا في الرومانسية، أما الآن فحائط الفيسبوك يغني عن الجدران في كثير من الأغراض.
كل ذلك مِمّا يجعلنا نهتم بها ونوجّهها الوجهة الصحيحة حتى تؤدي دورها المنوط بها والمستهدف منها على نحو ما بينا، بالإضافة إلى تنمية الذوق الجمالي وإشاعته بين الناس، بدلا من تركها للعشوائية التي تصيب الناس بالتلوث البصري والتشوه الفكري.
ولعلنا نقرر في نهاية مقالنا أن الكتابة على الجدران رافد للثقافة العربية والشعبية معا وهو ما جعلته عنوانا للمقال.
ويطيب لي أن أقدم الشكر آخرا كما قدمته أولا لجريدة الأيام الجزائرية الورقية والإلكترونية والقائمين على تحريرها، والقائمين على ملفها الثقافي الأسبوعي المهم، على طرح مثل هذا الموضوع وغيره من الموضوعات القيمة التي عرضوا لها، والتي تنتظر دورها لتسهم في تثقيف قراء الجريدة على مستوى العالم العربي، كما يطيب لي أنْ أشكر المحرر الثقافي على اهتمامه بالملف وحسن تنسيقه ومراجعته، والعنوانات التي يضعها لتكون صوى على الطريق ترشد القارئ وتأخذ بيده وتختصر له الطريق، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
جداريات في حياتي!
بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد – شاعر وناقد وأكاديمي من مصر
منذ ما يقرُب من خمسين سنة، كنا نجَدِّد طِلاء بيتنا القديم، وكان بيتًا متواضعًا وصغيرًا، مبنيًّا بالطوب اللبِن، مثل كل بيوت القرية في تلك الفترة، اللهم إلا بيتين أو ثلاثة، لكنه كان عامرًا بالحب والرضا والقناعة. وكان والدِي ووالدتي، رحمة الله عليهما، هما اللذان يقومان بعملية الطلاء، وهو أمرٌ كان مألوفًا في تلك الأيام أيضًا. وبعد أن فرغ والدي من بعض النقوش البسيطة في صالة البيت، وكنا نسميها “وِسط الدار”، جاء بعلبة صغيرة من الصفيح، ووضع فيها بعض الطلاء البني الغامق، ثم أحضر عُقلة صغيرة من عود ذرة جاف، نظَّفَها وبَرَاها، وغَمَسها في صفيحة الطلاء، وأخذ يكتب على الجدار الملاصق لباب حجرة الضيوف، وكنا نطلق عليها “المندرة”، أو “المنظرة”، وأخذت أقرأ ما يكتب: “القلب يعشق كل جميل”.
لم أكن أفهم ما تعنيه هذه العبارة على وجه التحديد، لكنها كانت المرة الأولى التي تنطبع في ذاكرتي، مِلءَ عيني ومِلءَ عقلي، كلمات “القلب، والعشق، والجمال”. كان والدي يحفظ كتابَ الله كاملًا، وهو ما جعل خطَّه جميلًا جدًّا، لكثرة ما كان يكتب كلام الله بالرسم العثماني، وفيه من جماليات الخط العربي ما فيه، وكانت العبارة التي كتبها تشدّ الداخلين وتسرُّ الناظرين، وقد عرفت فيما بعد أنها من أغنية رائعة وشهيرة لسيدة الغناء العربي “أم كلثوم”، تحمل الاسمَ نفسَه، “كتبها بيرم التونسي”، ولحَّنها “رياض السنباطي”، ودائمًا ما كانت تذاع في محطات الراديو أيام الحَج، وتملأ البيوتَ بالبهجة والسعادة، والنفوس بالنشوة والفرح، بكلماتها البديعة المعجِبة، ولحنِها المطرِبِ الأخَّاذ، ولا أزال أحفظها كلَّها، كلماتٍ ولحنًا وأداءً، وكثيرًا ما أتغنّى بها إلى يومِ الناس هذا.
وفي مَوسم الحَج أيضًا، وكانت القرية كلُّها تقريبًا تحتفل بالذاهبين إليه والعائدين منه، كان النقّاشون، وهم بسطاء في جملتهم، يتفنّنون، ما استطاعوا، في الرسم على الحوائط الخارجية لبيوت الحجّاج، فيرسمون الكعبة والجِمالَ والبواخر، وأحيانًا الطائرات، ويكتبون أعلاها أو أسفلها آية “ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا”، أو آية “وأذِّن في الناس بالحَجِّ يأتوك رجالًا وعلى كلِّ ضامرٍ يأتين من كلِّ فجٍّ عميق”. ويعبّرون عن فرحة أهل الحاج به ودعاء الناس له، فيكتبون: “حَجٌّ مبرورٌ وذنب مغفور”. ولن أنسى أبدًا أن أحدهم كتبها هكذا: “حجُّن مبرورُن وذنبُن مغفور” وهو ما لم أسمع أن أحدًا علّق عليه، أو قام بتغييره. وأذكر أن هذه الرسوم والكتابات كانت تثير سعادتي طفلًا، وكثيرًا ما كانت تشدّني إليها، فأقف أمامها متأمّلًا، وأتخيّل معها، على قدر عقلي، هذه الرحلة المباركة لحُجَّاجِ بيت الله، وأنا أكاد يمتلئ قلبي ووجداني بصوت “ليلى مراد” وهي تغني بصوتها النَّدِيِّ الشجي: “يا رايِحين للنبي الغالي.. هنيَّا لْكم وعُقبالي”.
حول تلك الفترة كان المُرشّحون لعضوية مجلس الشعب (مجلس النواب الآن) يقومون بحملات دعاية، متواضعة وبدائية، في المدن والقرى، لم يكن يعنيني أمرُهم أيامَها، ولا أظنّه يعنيني كثيرًا الآن، ولكن تعجَّبت من طريقة الدعاية نفسِها؛ حيث كانت تأخذ شكلًا واحدًا على كثير من جدران بيوت القرية، وكنت أتساءل متحيِّرًا: مَن ذلك الرجل القادر على أن يكتب الإعلانات كلَّها بهذه الصورة الدقيقة المتقَنة، التي لا تختلف واحدةٌ فيها عن الأخرى في أيِّ شيء؟! ولم أسترح إلا بعد أن رأيتهم بأمِّ عيني وهم يرسمون هذه الإعلانات الجدارية، فلقد كان معهم “استنسل” مفرَّغ من البلاستيك المُقَوَّى، يثبتونه على الحائط، ويرشونه بالطلاء حتى تنطبع صورته عليه. وأذكر أن هذه الفكرة أعجبتني كثيرًا، فصنعت رسمًا لـ “ميكي ماوس”، نقلته من إحدى المجلات، وظللت أطبعه بألوان المياه على كرّاسة الرسم حتى ملأتها، ثم مللتها وأهملتها ونسيتها بعد ذلك.
وفي أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كنت في السنة النهائية من المرحلة الابتدائية، وكنا قد انتقلنا إلى المبنى الجديد للمدرسة الابتدائية، بعد أن قضينا سنتين مدرسيتين في أحد بيوت القرية، وسنتين أخريين في الجمعية الزراعية بها، وكان قد جاء إلى المدرسة مدرّسُ رسمٍ نابهٍ، اسمه “أحمد مرسي”، قصير وملتحٍ، ويلبس دائمًا مِعطفًا قماشيًّا (بالطو) أبيض، وكان واضحًا أنه فنان موهوب، وفوجئنا به ذات يومٍ وهو يجهّز أدوات الرسم المختلفة: من ألوان (إكليريك)، وفُرَش متعدّدة الأحجام، للطلاء والرسم والكتابة، وبويات متنوّعة، وسكاكين معجون، وسلّم خشبي مزدوج، وأخذ يغيّر لون الحائط المواجه لمكتب الناظر، في مدخل المدرسة، وشيئًا فشيئًا أخذت اللوحة التي يرسمها تتّضح ملامحُها، وقد استغرقَت منه أيامًا، وكان يسمح لنا بمشاهدته، أو حتى مشاركته ومعاونته، وهو يرسم.
وبعد أيامٍ، لا أذكر عددها، أقيم ما يشبه الاحتفال بإزاحة ما يشبه السّتار، عن لوحةٍ فنية بديعة: صورة للرئيس الراحل “محمد أنور السادات”، في مواجهته صورة لفتاة ريفية جميلة، يلفّها علم مصر، وتتّشح بغصن زيتون، وكان واضحًا أنه يرمز بها لمصر، وفي الخلفية صورة لدبّابات وطائرات، وجندي يحمل مدفع (آر. بي. جي) ثقيلًا، ويصوِّبُه نحو طائرات العدو الإسرائيلي وآلياته، وقد كتب عليها كلمتين اثنتين: “النصر لمصر”. كانت فرحتي بها تلميذًا لا تكاد توصَف، وكانت مناسبة اللوحة، وهي انتصارُنا في حرب أكتوبر المجيدة، لا تزال تفرض نفسها، وتثيرُ في نفوسِنا إحساسًا طاغيًا بالعزة والفرحة والكرامة.
وكثيرًا ما كنت أقف أمامَها منبهرًا ومعجبًا، وحين أعود إلى منزلنا أحاول استرجاعها واستحضارَها، لأرسمها وأقلدها، وقد ظلت هذه اللوحة موجودةً لمدة طويلة، وحين كنت أتردّد على المدرسة الابتدائية في أيّ مناسبة، كنت أقف مليًّا أمام هذه اللوحة، أستعيد مع تفاصيلها ذكريات النصر والطفولة، وما أجملها وأغلاها. لا أدري مصيرَ هذه اللوحة الآن، ولكنني أذكر أن ألوانها كانت تبهت عامًا بعد عام، وبعض تفاصيلها يتداخل ويختفي، ويغيب شيئًا فشيئًا، وهو ما كان يحدث لذكرى الحرب نفسِها، في لوحة المدرسة كما في ذاكرة الوطن.
بعد ذلك بسنةٍ واحدة انتقلنا إلى المرحلة الإعدادية، وقضَيناها في (جِزَيّ)، وهي قرية مجاورة لنا، إذ لم تكن في قريتنا (صَنْصَفْط) أوائلَ الثمانينيات مدرسةٌ إعدادية، وكانت المدرسة في بيتٍ قديم، غيرِ أنيقٍ ولا جذاب، وكان من حسن حظنا أن مُدرّس مادة الرسم، الأستاذ “محيي عرفة” كان شابًّا أنيقًا ووسيمًا، لفتَنا بشَعره الطويل الناعم، وشكله الذي يشبه ممثلي السينما، كان موهوبًا ومتحمِّسًا، ويحبّ مادته كثيرًا، وذات يومٍ طلب منا أن نحضر معنا بعض جذور الغاب، وكانت منتشرة في حقول القرية وعلى طول شاطئ النيل الذي يحتضنها من جهة الغرب، وطلب من كل واحدٍ فينا أن يرسم بالقلم الرصاص جذر الغاب الذي أحضره، ولا أدري كيف جاء رسمي وكأنه صورة طبق الأصل من الجذر الذي جئت به، فأعجبه أيّما إعجاب، وأثنى على لوحتي أمام زملائي، وأمام بعض المدرّسين، وطلب مني أن أكتب عليها اسمي، وكافأني بأن علّقها في صالةٍ صغيرة تقع بين الفصول، وكانت فرحتي بتعليق لوحتي لا حدَّ لها، وبخاصة حين كنت أرى زملائي وزميلاتي يتوقّفون عندها ويطيلون النظرَ إليها.
وذات يوم طلب مني الأستاذ “محيي” أن آتيَ له بإحدي القصائد التي أكتبها، وكان قد عرف أنني أنظم الشعر، وقال إنه سيصنع لنا مجلة حائط، وسوف يكتب كلُّ تلميذٍ مشاركته في المجلة بخط يده، وقد أشتركت فيها بقصيدة وطنية، لا أذكر الآن منها شيئًا، وإن كنت أذكر أنها كانت تزدحم بكل سذاجة البدايات وأخطائها المخجلة، وبحوار صحفيٍّ أجريته وأنا تلميذٌ صغير مع الأستاذ “يحيى خلاف حسن”، ناظر المدرسة آنذاك، وحين نشرت المجلة وعُلّقت في صالة المدرسة، أحسست بفرحةٍ من نوع مختلف، فأنا فيها شاعرٌ وصحفي، وهو ما جعل كثيرين من زملائي يقدّرونني ويعجبون بي، وجعل بعض أساتذتي يتنبأون لي بمستقبل واعدٍ في دنيا الكلمة، وهو ما زاد ثقتي في نفسي، ورغبتي في أن أكون كما يقولون، وأكثر مما يقولون.
أمَّا إخراج هذه المجلة فقد كان عجيبًا حقًّا؛ ففيه خطوط مختلفة، لتلاميذ صغار أكثرهم خطّه رديء، وقلَّ منهم من كان خطُّه جميلًا، ولولا الإخراج الفني والزخرفة والعنوان الذي كتبه الأستاذ “محيي”، لكانت المجلة كثوب بالٍ مُرقّع، وقد رأيت في عينيه حزنًا غاضبًا، أو غضبًا حزينًا، أدركت منه أن المجلة لم تعجبه، وأنها لم تجئ على الصورة التي كان يريد، ولمَّا سألتُه: ولماذا تركتنا نحن نكتب مادتها؟ قال لي: لأنها مجلتكم أنتم، وتعبّر عنكم، وتحمل آراءكم واختياراتكم، والأفضل أن تكون بخطّكم وبأقلامكم. وقد انقطعت عني أخبار الأستاذ “محيي” بعد ذلك تمامًا، وقد سألت عنه كثيرًا، وحين وصلت إلى رقم هاتفه منذ سنتين، واتصلت به، جاءني من الطرف الآخر صوت رجلٍ آخر، نالت منه السنون، فشاخ صوته، وخشُنَت نبراته، وذكَّرته بما كان، فجاراني مجاملًا، واستعاد بعضَ التفاصيل التي لم أحدِّثه فيها، وشكا من جحود الطلاب والزملاء، وأخبرني بأنه سعيدٌ جدًّا لاتصالي به، وتمنَّى عَلَيَّ أن أتصل به مرةً أخرى، وعزَّ عليَّ أن ينتهيَ أحدُ أساتذتي إلى مثل هذه الحال، وبكيت كثيرًا وأنا أكلِّمُه، وبكيت أكثر بعد أن كلَّمتُه!
وفي مدرسة “منوف الثانوية العسكرية” كان الأمرُ مختلفًا، فهي من أكبر مدارس محافظة “المنوفية” وأعرقِها؛ فيها مكتبة كبيرة، تضمّ آلاف الكتب، وفيها مسرحٌ كبير، ومَعملٌ مُجهَّز، ومرسَمٌ واسع. وفي هذا المَرسم، كنا نأخذ حصّة التربية الفنية، تدرِّسها لنا الأستاذة “رجاء”، خِرِّيجة كلية الفنون الجميلة، وكانت نشيطة ومخلصة، تحبّنا وترعانا وتشجّعنا، وقد طلبت منا مرَّةً أن نرسم لوحةً تعبيرية عن فلسطين، فرسمتُ صورة امرأةٍ مقيَّدةٍ بالأغلال، تَلُفُّ جسدَها بالكوفية (الحَطة) الفلسطينية، وبجوارها صورة رجل مصريٍّ يكسر هذه الأغلال بفأسٍ صغيرة، ويقول لها كما كتبتُ في اللوحة نفسها: “اطمئني… فستعودين”. ولا أعتقد أن رسمي كان متقنًا، فلم أكن بارعًا في الرسم ولا متميِّزًا، لكن يبدو أن الفكرة أعجبتها، ففوجئت بأنها علّقتها في مكان بارزٍ بالمرسم، وحين جاءتنا لجنة تفتيش من المديرية، تجوّلوا في المدرسة، ودخلوا المرسم، وتصادف أن فصلَنا كان فيه، وتوقّف بعض الزائرين عند لوحتي، ووجدتُ الأستاذة “رجاء” تشير إليَّ وتناديني، وتقول لهم: هذا هو الطالبُ الذي رسم هذه اللوحة، ولا أدري ساعتها هل كنت فرِحًا أم خجِلًا أم خائفًا، لكن هذا الموقف مَرَّ دون أن يترك في نفسي أثرًا كبيرًا، لا لأنه لم يسعدني، فقد والله أسعدني، ولكن لأنني كنت قد انشغلتُ أيامَها بنظم الشعر وقراءة الكتب، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له.
في هذه المرحلة أيضًا كنت أتردَّدُ كثيرًا على بيت ثقافة “منوف”، وفوجئت ذات يومٍ بأنهم أقاموا معرضًا فنيًّا لرسام ناشئٍ موهوب، اسمه “عماد رزق”، صديقي وزميل مقعدي، وكانت الأستاذة “رجاء” معجبةً جدًّا بموهبته، وتشجّعه وتوجّهه، وتَخصُّه من بيننا بشيءٍ من الرعاية والاهتمام، فلقد كان صاحبَ موهبة كبيرة وحقيقية، وأذكر أنه رسم لوحة كبيرة عن المولد النبوي وأجوائه الروحية والشعبية، فعلّقَتها الأستاذة “رجاء” في واجهة المبنى الغربي من المدرسة، حيث مكتب المدير ومكتب قائد المدرسة.
كان “عماد” رسَّامًا، وكنت أنا شاعرًا، وكثيرًا ما كان يرسم اللوحة فأنظمها، أو أكتب القصيدة فيرسمها، وقد كنا بذلك سابقين لعمرنا، فلقد قرأتُ فيما بعد كتابًا يدور حول هذه الفكرة نفسها، اسمه “قصيدة وصورة” للدكتور “عبد الغفار مكاوي”، يتناول التأثير المتبادل بين الشعر والرسم، وقد ذكر أخي “عماد رزق” نفسه ما كنا نفعله في لقاء تليفزيوني أُجرِيَ معه منذ بضع سنوات، بعد أن صار أستاذًا ورئيسًا لقسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة.
أمَّا في المرحلة الجامعية فلم يحدث من ذلك شيءٌ ذو بال، فلقد كان المبنى القديم لكلية الآداب في “طنطا” عاديًّا جدًّا، لا جمال فيه ولا جلال، شيئًا أشبه بمدرسة ابتدائية كبيرة، مدخله ضيّق قاتم، وفناؤه صغيرٌ خانق، تتناثر فيه بعض الأشجار بغير نظام ولا تنسيق، وليس به من مظاهر الفن ما يشُدّ النظر أو يسُرّ النفس، فلا لوحة ولا صورة ولا تمثال، ولا أدري لماذا لا تحرص جامعاتنا على مظهرها الفني والجمالي، ولو من الناحية المعمارية، حتى في أكثر مبانيها الحديثة التي أُنشِئت بأخرة، ولعلَّ السبب في ذلك أن القائمين على إنشائها وتصميمها، يتعاملون معها، بصورة نفعية (براجماتية)، على أنها وسيلة لا غاية، وأنها مجرد مبانٍ لإلقاء المحاضرات، ومكان لاجتماع الأساتذة والطلاب، وكانت الطامة الكبرى حين لم يكتفوا بإهمال المنظر، بل تجاوزوه إلى إهمال الجوهر، وهما في النهاية وجهان لعُملة واحدة، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون.
بعد ذلك كنت أتردّد على “القاهرة” كثيرًا، وكنت أرى كتابات جدارية كثيرة، معظمها يخلو من أيِّ أثرٍ جماليٍّ أو فني، وكُتِبَت أو رُسِمَت بطريقة عشوائية: إعلانات عن مسرحيات أو أفلام أو عيادات أطباء، وآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأبيات شعرية، بجوارها عبارات تشجيع لبعض الفِرق الرياضية، أو حتى الأحزاب السياسية، وأخرى كتبها عاشقٌ لمحبوبته، يسمّيها باسمها، ويخبرها أنه يحبّها، وأنها لن تكون لأحدٍ غيره. وقد ذكَّرني هذا بما فعلته أنا شخصيًّا حين كنت في مرحلة المراهقة وحفرت اسم من أحببتها على إحدى الأشجار، داخل قلبٍ أصابه سهم، وكنت أتسلل كلَّ يومٍ لأراه، وظللت أحج إلى هذه الشجرة سنواتٍ طوالًا، حتى انطمس الاسمُ ولم يعد له أثر، لا هو ولا الشجرة… ولا حبيبتي!
ولا شكَّ أن هذه فوضى غيرُ مقبولة، ولا حتى معقولة؛ وليس من المنطق أن نترك كلَّ واحدٍ يصنع ما يشاء كيفما يشاء، فالحرية تقترن بالمسئولية، والفن يُشترَط فيه النظامُ والجمال، لقد قرأت دراساتٍ كثيرةً عن فن الجرافيتي (Graffiti)، ولست هنا لعرض تاريخه ومراحل تطوره، منذ عصر الكهوف حتى الآن، وهو في أبسط تعريفاته: “فن الكتابة أو الرسم على الجدران الخالية بعبارات، ورسومات تلفت الأنظار، وتخاطب عقول الجماهير، والحكومات، وتحرك مشاعرهم نحو قضايا معينة كمواجهة التدخين، أو التلوث، أو أحيانًا آراء تجاه قضايا اجتماعية، أو سياسية مُحدّدة كمناصرة اللاّجئين أو دعم شرائح معينة. وهو ما يمكن اعتباره رسالة ووسيلة سهلة ومجانية للتعبير عن الرأي، ولكن بطريقة غير مرغوب فيها، أو بدون موافقة صاحب المكان، وهو ما قد يمثّل اعتداء على حقوق الغير، وعملاً ضد القانون في كثير من دول العالم”.
لقد قيل إن الجرافيتي، أو لغة الجدران “وفن الشوارع” كما يحلو للبعض أن يسمِّيَه، قد اتسّعت دائرته مع كثرة الثورات والمظاهر الاحتجاجية حول العالم، حيث تُغنِي الصورةُ عن ألف كلمة، ولا تحتاج لإنجازها غيرَ قليلٍ من الوقت والجهد، وهو وسيلة غير مكلفة للتعبير عن الآراء السياسية على أوسع نطاقٍ ممكن، لكنه قد يتحوّل إلى شيءٍ آخر غير الفن، وغير الحرية، وهو ما يستلزم ضبطَه وتنظيمَه، حتى يكون له قواعدُ ويَجريَ عبرَ ضفاف، فتحدَّد له أماكن مُعيّنة، يرسم فيها فنانون محترفون أو موهوبون، وتقام له معارضُ فنية تُبرِز ملكاتِهم وتُظهِرُ أفكارَهم، دون أن يخرجوا على قوانين الدولة، أو يخالفوا أصولَ الفن!
تاريخ أدب الكتابة الجِدارية
بقلم: أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر، مصر
إن (الكتابة، والكاتب، والأدب) ثلاثية إنسانية خالدة، وهي أساس كل حضارة، ورافد كل ثقافة، وما من أمة إلا لها نصيب من هذه الثلاثية، وآثار دالّة على حضورها، وقد تتبّعتُ في مقالتي: (تَطوُّر الكِتابة والأدب في ظِلال الحضارةِ المِصريةِ العتيقة)، المنشورة في مجلة “الهلال” المصرية، هذا التطوّر لِفنَّي الكتابة والأدب في أبرز حضارات العالم الأولى! ومن أراد مزيد تعمق في ذلك فليراجع “موسوعة مصر القديمة” المُكوّنة من ثمانية عشر مجلدًا للدكتور سليم حسن (1893-1961م)، وكذا كتابه (جغرافية مصر القديمة)، وكتابه (الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة)، وكتاب “فجر الضمير” الذي وضعه الأستاذ “برستد” في عام 1934، والذي “هو في الواقع مؤلّف يدلّل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل في مصر شعَر الإنسانُ لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكوَّنت الأخلاق النفسية.
وقد أخذ الأستاذ “برستد” يعالج تطوّر هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 قبل الميلاد؛ فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية التي وصلتنا عن العالم القديم إلى الآن، هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم. وبذلك يكون الأستاذ “برستد” قد هدم بكتابه القيِّم هذا، الأكذوبة الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين!
وما من إنسان إلا له قصة مع الكتابة بكل وسائلها، سواء الكتابة الورقية، أو الكتابة الجِدارية، أو الكتابة الرَّقمية، لا سيما في مرحلة الطفولة، حيث يميل الطفل في كل إنسان إلى إخراج خيالاته أو طُموحاته في قالب كتاباتٍ أو(شَخبَطاتٍ) أو رُسومات على أيّة مادة قابلة للرّقم مثل الورق أو الجدران أو التراب على الأرض أو الرمل على الشواطئ أو في الصحاري، أو صفحة الوورد، أو غير ذلك من المواد القابلة للرّقم والصياغة.
مفهوم أدب الكتابة الجِدارية
هي النصوص الأدبية الكِتابية الموجزة التي تتّخذ من الجُدران مقرًّا أو شاهدًا لها، وتمثل بالنسبة إلى مبدعها خاطرًا سريعًا أو هدفًا مكثّفًا أو غاية مقصودة أو وعظًا مدعوًّا إليه أو تأريخًا مسجّلاً، أو غير ذلك من المقاصد الإعلامية والثقافية الجماهيرية والشعبية، ولا تخلو من نزعة أسطورية أو خرافية أو فكاهية، وقد تختلط فيها الأجناس سردًا وشعرًا، خطابًا ورمزًا، وتُعدّ هذه النصوص من الآداب المهمشة أو المغمورة!
وقد جاءت الكتابة الجِدارية منذ القدم معبِّرة عن واقع الإنسان ووجدانه، وتطوّرت مع تطوّر حياته ومتطلّباته على مرّ العصور، وكان يتمّ معالجة الأسطح الجدارية المختلفة من خلال الموضوعات الدينية أو التاريخية أو الأسطورية أو الاجتماعية وغيرها، وكأنّ هذا الشكل التعبيري تتفق عليه الشعوب في مختلف أنحاء المعمورة. وسواءٌ كان هذا الشكل التعبير تنفيسًا شعبيًّا عن أمور سياسية أو اجتماعية، فهو بشكل ما يُمثّل جزءًا من الثقافة الشعبية، وما يهمّنا هو بعده الأدبي من حيث طول الجملة وبلاغتها ومفرداتها ونوع الخط.. وربما الحِكم التي تتضمّنها الكتابة أحيانا..
وهذه الكتابات تمثل المادة الخام لما أسمِّيه (أدب الكتابة الجدارية)، ويقترح الناقد الجزائري “يوسف وغليسي” تسمية (أدب المنقوشة)، ويمكن أن نطلق عليه مصطلح (الأبيجراما الجدارية)، وتُعدّ الكتابات الجِدارية – كما يرى الدكتور علاوة كوسة – عادة عربية قديمة، وتراثًا ثقافيًّا غنيًّا وثمينًا، وسجلّات توثيقية ومصادر تاريخية، وإرثًا إنسانيًّا لم يطله التزوير والتّحريف..
وعندما يقترن هذ الأدب الجِداري برسوم وتصويرات يتحوّل إلى ما يُصطلح عليه بـ (الفن الجِداري أو الجِداريات)، ويُعبِّر عن لون متأنق من الفنون التشكيلية، له انتشار كبير في تاريخ الإنسانية قديمًا وحديثًا وآنيًا، وقد مرّ عبر العصور المختلفة بمراحل كثيرة، منها المرحلة الدينية العقدية التي كانت تتغيّأ الإرشاد والوعظ، أو المرحلة التأريخية التسجيلية التي تهدف إلى تخليد الذكريات أو المناسبات أو الأحداث الفريدة لأعاظم الملوك وانتصاراتهم، أو المرحلة الزخرفية التي تتغيّأ التّجميل والتزيين للمكان، والإمتاع والإبهار لحواس الإنسان الإدراكية! ويذكر الدكتور “مختار العطار” في كتابه (آفاق الفن الإسلامي، طبع سنة 1999م) أنّ المؤرخين اتفقوا على أن الجداريات الإسلامية أول ما ظهرت كانت من فن التصوير الإسلامي ومنها الجداريات التي تزيّن مبنى ” قبة الصخرة ” فى مدينة القدس وهو أول بناء إسلامي ضخم أمر بتشييده سنة 691 م الخليفة الأموي “عبد الملك بن مروان”، وتزيّنت الجدران الداخلية بصور من الفسيفساء الزجاجية الملوّنة لأشجار وأوراق وثمار بأسلوب واقعي مُبهر، وتشتمل على كتابات مثل: بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله. إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما..
وقد بلغت الرسوم الجِدارية أحيانًا مستويات فنية راقية جدًّا.. وجاءت رافدًا من روافد الثقافة الشعبية، والحكومات المُتحضِّرة تعمد إلى تخصيص مساحات جُدرانية (حول المدارس والجامعات والميادين والمواقع التاريخية)؛ لتنظيم هذه الرسوم الجِداريات حتى تحقّق لمسات جمالية للبيئة المكانية، إضافة إلى وظيفتها في التوعية والتنوير عن طريق كتابة مقولات الحكمة الآسرة، والأبيات الشعرية الفلسفية السيَّارة!
ومن أمثلة الكتابات الجِدارية السحيقة التاريخ (الكتابة الهيروغليفية)؛ فقد كانت كتابة إشارية ورمزية، تشمل ما في الطبيعة من إنسان وحيوان ونبات وماء وشمس وغيرها من الظواهر الطبيعية، كَتب بها المصريون على البُرديات وجدران المعابد والأهرامات.. والنصوص الدينية جميعها، وكانت مقدسة، وخاصة بالطبقة العليا، وكان تعلُّمها صعبًا وكان مُتعلِّمها يُسمّى كاتبًا؛ وكان يحظى بمنزلة عالية ورفيعة عند المصريين، ويرتقي في أعلى المناصب! وقد كُتبت النصوص المصرية القديمة على الحجر والفخار والعظم والنسيج والكتان وغيرها من المواد الكِتابية. وهي تمثل الأدب المصري الفرعوني القديم سواء منه النوع الديني، أو القصصي، أو التهذيبي، أو المدحي، فمن (الأدب الديني) نصوص الأهرام وكتاب الموتى، وما نقش على جدران المعابد والمقابر، وأيضا الأناشيد والترانيم مثل ما خلّفه لنا “أخناتون” في وصف الخشوع للآلهة، وقد خلّف المصريون من ذلك الأدب الكثير.
وفي جنس (الأدب القصصي) نجد القصص الخيالية، أو الحقيقية. مثل قصة الفلاح الفصيح، وقصة مجلس الملك خوفو، والملك نفر كارع، والقائد ساسينيت، والفلاح الفصيح، وقصة سنوحي، وحكاية الملاح التائه… وفي جنس (الأدب التهذيبي) نجد تعاليم ووصايا يُنصح بها بطريقة حسنة، يقولها “فرعون” أو المُعلِّمون أو الآباء والأمهات أو الحكماء، ومن أبرز تلك التعاليم ما تركه الواعظ (بتاح حتب) في عهد الدولة القديمة، والكاتب (آني) في عهد الدولة الحديثة.
وفي جنس (أدب المديح) نجد مَن يبرع فيه (سنوسرت الثالث)، وكان يقصد به في أغلب الأحيان إلى تمجيد “فرعون” وأعماله وبطولاته وإنجازاته وتسجيلها؛ لتبقى خالدة على مدى العصور؛ فقد استخدم الفراعنة الكتابة في جميع شئون حياتهم، في المشاعر الدينية على جدران المعابد والأهرامات، واستخدمت في الشئون العامة والأوامر الملكية، واستخدمت في التعليم والأدب والتثقيف عصرئذٍ!
ومن أدب الكتاب الجدارية في الأدب العربي الحديث ما نُسب إلى “إبراهيم عبد القادر المازني” (1889-1949م) قوله متفكِّهًا وقد أوصى أن يُكتب على قبره:
أيهـا النـاظـري قبـري — اتـل ما خـطّ أمـامـك
ها هنا ترقد عظامي — ليتها كانت عظامك!
وتكاد توجد ظاهرة في الثقافة الشعبية اليوم تتّخذ من جدران وسائل المواصلات الخاصة والعامة (مثل: التكاتك، التروسيكلات، الباصات، الموتوسيكلات، عربات نقل صغيرة ومتوسطة وكبيرة، بل وعربات نقل خاصة) قالبًا للكتابة المُعبِّرة عن خواطر خاصة أو هموم شعبية واجتماعية عامة! ومن يبحث في “جوجل” عن (نصوص من كتابات على التكاتك) أو (خذوا الحكمة من على ظهر التكاتك)، يجد ما نصوصًا حِكمِية مثل: (رميت همومي في البحر طلع السمك يلطم)، (تأخدوا كام وتبطلوا كلام)، (إمسك لسانك يعلى مكانك.. وخلي سكوتك يوجع أكتر من كلامك)… إلخ.
تصنيف الكتابة الجدارية
وما يهمّنا هنا ما يُسمَّى الكتابة الجِدارية؛ إذ لا تكاد تخلو منطقة في العالم من الكتابات على الجُدران، ويمكن تصنيفها إلى نوعين أدبيين هما:
الكتابة الجِدارية السُّريالية
وهي التي تصدر من أشخاص غير طبيعيين، وتخرج منهم بشكل فوضوي اعتباطي، من شأنه أن يشوّه جمال البيئة المكانية، ويسيء إلى عين المُشاة والنُّظار وينفّرهم ويزعجهم! وهذه الكتابة تحتاج إلى دراسة مُعمّقة من متخصّصين في علمي: النفس والاجتماع، وإلى رعاية وتوجيه وتطوير من قبل المتخصصين في مجال الفنون الجميلة!
الكتابة الجِدارية الفنية
وهي التي تصدر من أشخاص أسوياء مُبدعين، وتخرج منهم بشكل مدروس ومُمنهج، يضيف قيمة جمالية وثقافية للمكان والوسط المجتمعي، وتمتِّع الجمهور النُّظَّار وتجذبهم جَذبًا إلى ما فيها من دلالات وقيم…!
كتاب جزائري رائد في قراءة الكتابات الجدارية
في تراثنا العربي الوسيط اهتمام بجمع الكتابات الجدارية ودراستها، وأهمها كتاب (إخبار الأخيار بما وجد على القبور من الأشعار) لـ “أحمد بن خليل اللبودي” (ت869هـ)، والذي قام بتحقيقه ودراسته الدكتور “الحبيب محمد سالمان”، وهو كتاب طريف في بابه ظريف في أقواله وأخباره، وطبع سنة2017م. هذا إضافة إلى ما وردت الإشارة إليه في موسوعات أدبية تراثية ضخمة مثل موسوعة “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” لـ “أحمد بن المقري التلمساني” (ت986هـ)، وكتاب “الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني” لـ “أحمد بن سحنون الراشدي” (من أبناء النصف الثاني من القرن الثامن عشر)، وكتاب “تاريخ الآداب العربية: 1800 – 1925م” للأب “لويس شيخو”، و”كتاب القبور” لـ “الحافظ بن أبي الدنيا القرشي” (ت281 هـ)، وكتاب “شواهد قبور من الإسكندرية” لـ “خالد عزب” و”شيماء السايح”، وكتاب “طرائف على شواهد القبور” لـ “عبد الرحمن بكر” سنة 2021م، وغيرها.
ومن الدراسات الأكاديمية والنقدية الفذة للأدب الجداري، والصادرة حديثًا سنة 2022م، كتاب “الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي” للناقد الجزائري الحبيب “علاوة كوسة”؛ فقد ضمّ سبعمائة شاهد شعري شاهدي، وأعاد في هذا الكتاب قراءة الأشعار المكتوبة كشواهد ونقوش على القبور والأضرحة المترامية في كثير من الأقطار العربية، وذلك من منظور الإجراء النقدي الذي يتيحه نشاط النقد الثقافي، ويُعدّ أول كتاب نقدي خالص لوجه الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة!
وعرّف الدكتور “علاوة كوسة” مصطلحه (الشعر الشاهدي) بأنه الذي اتّخذ من شواهد القبور والأضرحة بيوتًا لأبياته، ونقش في ذاكرة “الشعرية العربية” شاهدًا على شاهد، وظل جسرًا شعريًّا بين الأموات والأحياء، فأحيا الأرواح الشاعرة والأجساد الشاغرة وهي رميم! وإن كنت أرى أن اصطلاح: (الكتابة الجِدارية) أهم من اصطلاح (الشعر الشاهدي)؛ لشهرته وذيوعه! ولكونه مباشرًا في الدلالة على هذا النوع الأدبي العالمي العتيق!
وتوقّف الدكتور “علاوة كوسة” عند نسقين بارزين في المتون الشاهدية، وهما: نسق “الخلود” ونسق “الفحولة”. وقد جاء الكتاب في بابين اثنين، الأول بعنوان “الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي قراءة في الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة”. ووسم “كوسة” الباب الثاني بـ “معجم الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة قديما وحديثا”، وذكر فيه أن من لكتابات والنقوش الشعرية في الدواوين الشعرية للشعراء: إبراهيم أفندي الأحدب، ابن شهيد الأندلسي، أبي البحر جعفر بن محمد الخطي، أبي الطيب المتنبي، أبي القاسم الشابي، المعتمد بن عباد، بدوي الجبل، بطرس كرامة، حافظ إبراهيم، صالح مجدي بك، عبد الله البردوني، عمر أنسي، محمد شهاب الدين المصري، محمد مهدي الجواهري، محمود درويش، محمود صفوت الساعاتي، مريانا مراش الحلبية، معروف الرصافي، ناصيف اليازجي، نزار قباني، نقولا الترك، وردة اليازجي… وقد اتّسم خطاب هذه النصوص الجدارية بالإيجاز والتّكثيف وبالحسّ البلاغي التأمّلي الوامض، المضغوط، الشذري الحاد والرامز، وكان هذا الخطاب معادلا موضوعيا لمعاناة الذات الإنسانية.
كما أن الكتابات الشاهدية اتّخذت وسيلة لحفظ اللغة العربية في مواطن بعيدة عن منبتها، كما هو الشأن بالنسبة إلى الكتابات الشاهدية الأندلسية كما يقرّر الدكتور “علاوة كوسة” في كتابه الماتع.
تجربة طفولية صحفية
في مقالتي (كشكول إبداعي لطفل مصري) تحدّثتُ عن تجربة كتابة مجلة للطفل المصري (نشأت المصري)، تمثّلت في كشكول مؤرَّخ في أعلاه بسنة 1958م، وفي غلافه الأمامي عبارة بخط عتيق نصها: (خواطر، تأليف، ذكريات)، وبعدها عبارة: (العدد الأول من مذكراتي).. وإن قراءة سيميائية في هذا الكشكول لتدلّ على أن الفتى (نشأت) ذو خط جميل منسق، وذو قدرة على التعبير اللغوي السليم الواضح، وأنه مثقف، يتابع بعض المجلّات، ويسجّل منها بعض المقتبسات التي تبنيه، يبدأ هذا الكشكول بقصة، وإن شئت قلت رواية قصيرة، معنونة بـ (بعد الفراق: حب وانتقام)، ثم مسرحية قصيرة بعنوان (خريج في إجازة) ثلاثة مشاهد، ختم نهايتها بشعر!
ثم نفاجأ في الكشكول ببعدٍ جديد في شخصية الطفل (نشأت) هو بُعد الصحفي الصغير، فنقف على مشروع مجلّة مقترحٍ من خيال الفتى “نشأت” ومن جهده، بعنوان (فنار الثقافة)، وهي مجلة تشتمل على مقتطفات ثقافية وأدبية منوعة، فيها العلمي، وفيها السياسي، وفيها البعد العالمي، والبعد العروبي، وفيها الرسم الكاريكاتيري! وتجد فيما بعد إعلانًا عن العدد القادم من مجلة “فنار الثقافة” الذي لم يتم!
وإنّ من يطالع مجلة “فنار الثقافة” يلحظ الرؤية الشمولية لوظيفة الصحف والمجلات، والرؤية التكاملية لما ينبغي أن تكون عليه ثقافة المثقف! فكان الفتى “نشأت” هو مدير التحرير، وهو المحرر، وهو المُصفّف الطباعي لها، وهو الرسام الكاريكاتيري، وهو الشاعر، وهو الزجّال بهذه الصحيفة الطفولية المخطوطة! إنه مؤسسة صحفية كاملة في شخص طفل طموح، يريد أن يكون فكان!
ومن يطالع البروفة الأولى للعدد الأول من مجلة “فنار الثقافة” يجد الفتى “نشأت” يخصِّص قسمًا للأزجال، فنقف على ثمانية أزجال، بعناوين: (عالم الرجل، الأمة العربية، جمهوريتنا العربية، مراتك عملالك، هنا الجزائر، التلميذ الخيبان، بورقيبة والشعب، من وحي الطبيعة)… وهذه الأزجال دالّة على البعد الوطني والعروبي في شخصية “نشأت” المصري! حيث يفرح لحادث الوحدة العربية، فيما عُرف بـ (الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر سنة 1958م). يقول الفتى “نشأت” في تجربته “جمهوريتنا العربية”:
الجمهورية العربية — فيها عز وحرية
والدنيا إيه هيه — من غير الحرية
قامت قومة الأحرار — في شدة وعزم وفخار
يطرد غريب الدار — عشان فيهم ناس أشرار!
وفي تجربته هنا الجزائر يقول الفتى “نشأت”:
بشاير بشاير — هنا الجزاير
الشعب الثائر — أبو دم فاير
جهاد طويل ونضال — مات فيه أحرار أبطال
ويبِّن من هذين النصين مدى حب مبدعنا (نشأت المصري) لمفردات العزة والحرية والجهاد والبطولة والعروبة..
الكتابة على جدرانٍ صارخة
بقلم: إسراء نزال – كاتبة ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين
لماذا صارخة؟ عندما قالوا لنا “للجدران آذان” لم تكن جملةً عابرة، بل الجدران هذه الصامتة صرخَت كثيرا منذ العصور القديمة حتى اليوم، بماذا صرخت وعن ماذا تحدَّثَت الجدران؟!
يظن الكثير من الناس أن عادة الكتابة على الجدران هي عادة حديثة شاذة عن الأخلاق العامة، لكن في حقيقة الأمر فإنّ للجدران فضلا على البشرية، فهي الوسيلة الوحيدة التي مكّنت المصريين القدامى من تدوين حكمتهم ونقشها على جدران المعابد.. السومريون والبابليون نقشوا بالكتابة المسمارية على الجدران، ومن ثم اللغة الهيروغليفية التي انتقلت إلى الشعوب حتى اليوم وهناك من قد تمكّن من تعلمها وتحليلها، كيف؟ من خلال تدوين مصر القديمة هذه الكتابة الهيروغليفية على الجدران! أي لولا الجدران لما تمكّنا من معرفة الحضارات القديمة وفهم عمق حضارات الوطن العربي، وكيف كانوا يتطبّبون، وأسرار كثيرة تدور حول حضاراتنا القديمة دُوّنت عبر الجدران التي عبّرت بصرخة وصل صداها إلينا رغم آلاف من السنين الفاصلة بين يومنا وأمس حضاراتنا التي دوّنت على جدران المعابد والقصور والكهوف.
قد تتساءل لماذا على الجدران؟ لأنه لم يكن في الحضارات القديمة أيّ وسيلة للكتابة أو النقش أو الرسم سوى الجدران، بسبب غياب اختراع الورق، إلى أن اكتشف المصريون ورق “البُردي”، ومع ذلك بقي فن الكتابة على الجدران مرافقا للحضارات والإسلامية منها، وجوامعها تشهد على ذلك، وذلك لجمالية تجمع بين حرية كاتبٍ وناقشٍ ورسّام وبين جدار كبير مداه يصل إلى حضارات لم تأت بعد لكنها ستفهم كيف كانت الحضارات التي سبقتها من خلال جدار هو وسيلة تواصل أبدية بين حاضر الآن وماضٍ بعيد جدا.
ما الذي حلّ بهذا الفن الذي كان حلقة الوصل بيننا وبين الحضارات القديمة؟ وقع في كارثة الحداثة التي لا تعني الآن تطوّرا أخلاقيا نحو الأفضل، بل العشوائية الفظّة! فقد ظهر في هذا العصر الحديث “فن الجرافيتي” (Graffiti)، ويعود أصل هذه الكلمة (Graffiti) إلى اللغة الإيطالية من الكلمة “غرافيو” (graffio) والتي تميل في معناها إلى الكتابة العشوائية.
ولو عدنا الى سبب ظهور هذا الفن في كل دولة ومنطقة منذ القرون الحديثة الماضية حتى اليوم، سنجد أن سبب انتشار هذا الفن تقف وراءه أسباب سياسية ودينية وغيرها يتمّ التعبير عنها، كما فعل “مارتن لوثر” عندما ثار ضد الكنيسة في ألمانيا. وخلال ستينات القرن الماضي انتشر هذا الفن في الولايات المتحدة الأمريكية وارتبط بالاحتجاج على الفقر ورفض العنصرية والواقع، وهكذا حتى اليوم ارتبطت الكتابة على الجدران برفض الواقع!
لكن ما حصل في بلادنا العربية شيء ما مُغاير مُنفِّر للعامة وليس كما في دول الغرب التي عملت على فرض قوانين تمكِّن المُؤهَّل من الرسم في الأماكن المحددة لذلك، وإلّا عُوقب الفاعل بتهمة الاعتداء على أملاك عامة أو خاصة! فالوطن العربي يشهد عشوائية في هذا الفن، ولو بحثتم في الأمر لوجدتم أن أغلب الكُتّاب ينقلون رؤية شعوبنا العربية اتجاه هذا الفن الذي أصبح مرفوضا بسبب تحوّله من فن تعبيري إلى فن هابط بكل المقاييس، فليس من المقبول أن نشاهد عبارات لا أخلاقية أو فنا هابطا لا يعبِّر عن ثقافتنا وحضارتنا على كل الجدران، حتى جدران المعابد لم تسلم من التلوّث الذي يصيب ثقافتنا، والأسباب وراء كل ذلك سأختصرها بكلمة واحدة: “فوضى”.
فوضى في التواصل ما بين الأهالي وجيل الشباب، فوضى في التواصل ما بين مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية والثقافية وجيل الشباب، فوضى في فهم الأسباب التي جعلت جيل الشباب ينشر غضبه ورفضه للواقع من خلال الكتابة والرسم على الجدران، فوضى في رغبة المسؤولين في احتواء الشباب العربي الذي بعدما ملأ الجدران بعباراته الرافضة للواقع، انتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي فأصبح عبر جداره الإلكتروني يعبِّر عن نفسه، مِمّا زاد من صعوبة استيعاب شبابنا العربي، ورغم أهمية أمر شبابنا واحتوائهم عبر إيجاد وسائل يمكن من خلالها تفريغ طاقاتهم، إلّا أن الأمر الآن أخشى أن يكون قد خرج من أيدي المسؤولين عن الأمر سواء كان الأهالي أو مؤسسات الدولة، لأن قوى الظلام تعمل على استهداف الشباب بحيث أن الوعي الجمعي للدول العربية غير قادر على مواجهة هذا الاحتلال الذي اخترق واقع الشباب العربي، ويلزم الأمر قرار قائد عربي عروبي تحتاج قوته الى سنين طويلة لبسط سيطرتها. ومع ذلك، هنالك ما هو أهم من ذلك الآن، لأنه من الظلم إيقاع خطأ فوضى الكتابة على الجدران على الشباب العربي وحدهم، فإن كانوا فاقدين للحس الفني فأين رسّامو الوطن العربي من نقل ثقافتنا وحضارتنا من خلال فنّهم عبر الجدران؟ لقد فقدنا السبب الحقيقي الذي أخرج فكرة الإنسان القديم إلى العلن عبر جدران تنطق بحضارة إنسان؟!
هل الفن الآن يعبّر عن ثقافة عربية أصيلة؟ هل السائح الغريب عن تراب أوطاننا سيتمكّن من فهم ثقافتنا عبر جدراننا؟!
أنا لست في صدد وضع حل لمشكلة الهبوط الفني الأخلاقي الذي نراه عبر الجدران، قدر ما أريد التأكيد أن روعة وجماليّة هذا الفن تمكن في السبب الحقيقي لخروجه ألا وهو “التعبير عن ثقافة وحضارة شعب المنطقة”، تماما كما بدأ البابليون والمصريون القدامى، فقط في هذه الحالة يكون لهذا الفن احترام بين العامة التي لا تعرف عن الفن شيئا، فالفن الخارج من الروح العربية إلى الروح العربية وغير العربية سيكون له وقع يوضّح الغاية من ورائه دون نفور.
وبشكل مختصر بسيط مُعمّق، يكمن حلّ المشكلة بإعادة الوعي العربي إلى العربي، وإعادة ذاكرتنا العربية إلى حاضرنا لبناء مستقبلنا، وهذا يتطلّب سنين طويلة للتخلّص من عولمة الثقافة، وإعادة تفعيل دور الإعلام الثقافي والأخلاقي، والتخلص من كل أنواع الاستعمار التي عملت على إعادة تشكيل لروح وشخصية وذاكرة وبصيرة ووعي الشاب العربي.
في الختام، رغم مأساوية واقع فن “الجرافيتي” في الوطن العربي إلّا أن الفنانة التشكيلية الأسكتلندية “جين فرير” تقول أنّها لا تستطيع أن تصدّق أن العالم يحتفل بذكرى سقوط جدار “برلين” بينما تتابع “إسرائيل” بناء هذا الجدار في فلسطين، والعالم غير مبال!
وأذكِّر القارئ والباحث بالفن الذي ينقش على الجدران أن هناك جدار الفصل العنصري في فلسطين، فقد رسم الشعب الفلسطيني وخطّ ما يُعبّر عن واقعه وروحه التواقّة إلى الحرية، وتأريخ نضال الشعب الفلسطيني، والتعبير عن معاناته التي لم تتوقف منذ ما قبل النكبة، بل ابتعد الرسامون عن الفن التقليدي وعمدوا إلى نقل فنّهم بشكل يرى من خلاله العالم الذي يحتفل بسقوط جدار “برلين” كيف أن هذا الجدار هو قيدٌ آخر يُفرض على الشعب الفلسطيني..
هناك جدار يطلب ريشة وقلم كل فنان تماما كجدار “برلين” الذي بدأ سقوطه عام 1989 حتى عام 1991، إلّا أن المفارقة أن الاقتراب من جدار الفصل العنصري مُخاطرة قد تساوي رصاصة، في حين أنه أكثر جدار يمكنه احتواء غضب كل شاب وفنان يريد كلا منهما إخراج ما يجول في روحه الرافضة لواقع مرير هو احتلالٌ للروح.
في البدء كانت الكتابة على الجدران!
بقلم: جنان الحسن – كاتبة من سورية
من الظواهر المنتشرة بكثرة بين العامة وتحديدا بين الفئات العُمرية الصغيرة سنًّا حتى مرحلة المراهقة، ظاهرة الكتابة على الجدران..
كانت الجدران يوما ما هي الموطن الأول للكتابة عبر التاريخ، حين كانت هي الوسيلة الوحيدة التي عرفها الإنسان قديما للحديث قبل أن يتعلّم الكلمات ونطقها.. وكان الأخرون والعالم فيما بعد يتعرّفون على رواية الفرد منهم وقصته من خلال الرسوم والنقوش التي يخطّها على الجدار..
وانتقلت عبر التاريخ إلينا وإلى شعوب أخرى عاشت قبلنا، ومن خلالها استطعنا التعرّف على حضارات قديمة مرّت عبر التاريخ ثم اندثرت.. أمّا اليوم فقد تغيّر الحال بعد أن اكتشف الإنسان اللغة واستخدمها في التعبير عمّا يدور حوله كتابةً وطباعة على الأوراق وفي الكتب.. لذا نستطيع القول بأنّ النقوش على الجدران قد استُبدلت بالكتابة والتي بدورها قد أخذت طابعا أخر حين اختلفت نواياها وأهدافها..
أشكال الكتابة على الجدران
وبغضّ النّظر عن أنها باتت سلوكا خاطئا نظرا لتوفّر البديل المستعمل في الكتابة، إلّا أنها تُعد وسيلة تعبيريّة عن الحالة النفسية للفرد بحسب تصنيفات أطباء النفس.. هي ترجمة لانفعالات الفرد، وقد تكون عبارات مسيئة أو رومانسية أو مقولة عميقة المعنى تدلّ على معاناة شخص مُعذّب بالحنين والاشتياق أو بالفراق، أو ربما يعيش كاتُبها قصّةَ حبٍّ جميلة.. أو ربّما تحمل الكثير من الفكاهة، مثلا: تناقل الناس أنّ أحدهم قد كتب يوما على جدار شارعهم (لا تطلعي بكره من البيت جاي أخطبك)، فلم تغادر أيّ فتاة من سكان ذلك الشارع بيتها في اليوم التالي انتظارا للعريس المجهول..
ونعود إلى حالة الكتابة على الجدار ونقول بأن شخصنة هذه الحالات جعلت منها حالة دخيلة على مجتمعنا العربي المحافظ الذي يُعنى بتقديس الأسرار الفردية.. لكنها في موضع آخر قد تأخذ منحى مختلفا تماما، وقد تخدم المجتمع أو كاتبها أو من تشير إليه بشكل كبير. فقد نجد بأنها أحد الوسائل التي اعتمدها السياسيون في معاركهم الانتخابية.. فما إن يقترب موعد الانتخابات حتى تمتلئ الجدران بالصور والعبارات من أمثال: انتخبوا فلان الفلاني، أو صوت الشعب الكادح، وغيرها من الجمل التحريضية والتشجيعية.. فنجدها هنا قد شكّلت حالة إعلان خاصة، وكذلك حين توضع في خدمة مُنتَج ما: غذائي أو تجميلي أو غيرها من السلع..
كما ويحسب لها أنها شكّلت رأس حربة في الثورات التي قامت حول العالم.. حيث كانت الجدران تغصّ بالأقوال المأثورة لزعماء النضال الحر في العالم والتي تغذّي الحماس والصمود في نفوس الشعوب.. وقد تأخذ طابعا ثقافيا بسيطا لدى العامة حين تكون أشعارا وحكما مأثورة يتناقلها بُسطاؤهم.. وبهذا نحن نصنّفها بأنها حالة تعبيريّة تختلف في المظهر عن الرسم على الجدران والتي تصنّف بأنها وضع تجميلي وثقافي بآن معا..
الرسم على الجدران
يمتاز فنّ الرسم على الجدران بقدرته الكبيرة على تسليط الضوء على القضية التي يطرحها بقوة، ربّما لأن اللون قادر على العبور إلى أفكار وأنظار العامة أكثر من الكلمة، وقادر على توجيه رسالته بأسرع وأسهل أسلوب..
وتاريخ الرسم على الجدران أيضا قديم جدا بدأ أيضا بالخربشة العشوائية، وانتهى بأروع الصور الجمالية، بدءًا من العصور الرومانية القديمة واليونانية وفي الصخور القديمة في إسبانيا ومنها إلى الكنائس الإنجليزية القديمة، لينتقل ببساطة وسلاسة إلى عصورنا الحديثة ليغدو فيها ظاهرة شعبية وفنا مجانيا لا تدفع المال كي تتفرّج عليه..
فأنت اليوم تتعثّر بلوحات فنية رائعة وقيّمة لفنانين يحترفون الرسم في الأنفاق وتحت الجسور ومحطات الحافلات والقطارات والشوارع الواسعة ولا تحتاج فيها لغة كي تفهمها.. معاناة الإنسان ذاتها تفسّرها أو رؤيته الجمالية لها.. فالرسومات تتحدّث عن ذاتها بموضوعها وبالقضية التي تتناولها..
أهمية الرسم على الجدران
استقطب هذا الفن الكثير من المهتمّين والمتابعين، فنجد مثلا إن فن الشوارع قد ساعد إحدى الجمعيات الخيرية وهي جمعية “أولي يونغ” البريطانية في حملة تبرّعات كبيرة لمشروع طبي للأطفال بمشاركة نخبة من الفنانين العالميين من كافة أنحاء أوروبا الذين تمّ دعوتهم للانضمام إلى هذا الحدث الفريد من نوعه..
وعلى الرغم من الانتشار السريع لهذا الفن إلا أنه برأي العديد من فنّاني الشوارع ما يزال يعاني من سمعة سيِّئة، وإن بدأ في السنوات الأخيرة يأخذ شكل حالة أكثر قبولا لدى المتابعين..
هذا، ولا يتقاضى فنّانوا الشوارع أجورا مقابل أعمالهم.. إذ أنها تشكّل بالنسبة لهم قضايا اجتماعية مهمة وحالات إنسانية اضطرارية.. وما زالت الكثير من الدول تسنّ قوانين لمعاقبة هؤلاء المنتهكين لجُموديّة الجدران وبثّ روح الحياة فيها، متجاهلين أن بعضها بلغ درجة من
الرقي والجمال والإبداع لا حدود له حين وجد قوانين تنظّمه مثل اللوحة الجدارية لسقف كنيسة “سيستين” بواسطة الرسام العالمي “مايكل أنجلو” والتي جرى إنجازها ما بين عامي (1508 – 1512) في مدينة “الفاتيكان” وتُعدّ واحدة من أشهر وأجمل اللوحات الجدارية في العالم..
في النهاية
لا ننسى أن نعيد التنويه هنا إلى أن الحضارات القديمة لم تُعرف ولم تُقرأ سوى من الكتابات والنقوش التي عُثر عليها في الصخور والمدافن، والحضارة الفرعونية أكبر مثال على ذلك..
إذًا يمكننا القول بأنّ للأمر سلبيّاته وإيجابيّاته، وما بين العشوائية القبيحة والتنظيم المدروس ربّما أمكننا الوصول إلى صيغة مؤثِّرة إيجابا على المجتمعات والجماهير بكافة فئات أعمارهم ومستوياتهم..
ثقافة الكتابة على الجدران في فلسطين..
غدًا إضراب شامل
بقلم: أ. علاء أبو جحجوح – كاتب وقاص فلسطيني من غزة
ثلاث كلمات قد تزيد أو تقل، ذات أبعاد من حيث المضمون، يُبنى عليها الكثير من المواقف النظرية والعملية، التي خدمت عصور متعددة، ذات ثقافات مختلفة في مجتمعات متنوعة، هذه الكلمات أو الشعارات سواء كانت قديمة أو حديثة، تتبع حدثاً ما أو تصنع حدثاً، أو تخلّد اسمًا أو حكمةً أو شعارا، يهدف إلي ترسيخ الهدف الناضج في ظاهرة ما، عبر وسائل وأسلوب مختلف كان منها الكتابة والرسم على الجدران، التي استخدمت في نشر ثقافات العالم قديما وحديثا، بطريقة مقصودة منظمة، أو عفوية غير منظمة، لإيصال الثقافة المجتمعية، بكافة أشكالها، مما يحقق الهدف المراد إيصاله، لإثبات عظمة هذه الحضارات، الكنعانية والفرعونية والرومانية واليونانية، بما كانت تمتلك من قوى في كافة المجالات، التي أدت إلى ازدهارها عن غيرها من الحضارات، وأظهرت ذلك عن طريق الكتابة أو الرسم على جدران حضارته، بلغته السائدة وأسلوبه الخاص به ورموزه المتّبعة في زمانه ومكانه، لتوثيق ما كانت عليه الشعوب من عظمة حضارتهم، لتكون هذه الجدران ذات يوم هي الدليل والبرهان على إنجاز هذه الحضارات من حيث الثقافة والمعرفة وعاداتهم وتقاليدهم وتوثيق تاريخهم، وأسمائهم وطقوسهم الخاصة في مناسباتهم الدينية والوطنية والاجتماعية وغيرها.
ولكن هذه الثقافة أو الظاهرة (الكتابة على الجدران) عبر العصور حتى يومنا هذا، تجد من يعارضها ويتّهمها بأنها ظاهرة غير حضارية ومنهم العكس، أخذت أشكال مختلفة بين الأجيال، للتعبير أو التنفيس عن حالة المجتمع في مختلف قضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعاطفية وأخيرا الدينية، بشكل جماعي أو فردي، سواء أكان ذلك في الخفاء بعيدا عن الأعين أو أمام الجميع في وضح النهار، فهاتان الطريقتان ترجعان إلى الهدف من الكتابة المراد إيصالها إلى المجتمع أو من يقوده بطريقة لائقة أو غير ذلك..
فظاهرة الكتابة أو الرسم أو هما معا، أكثر انتشارا بين فئة الشباب أو بين شريحة كبيرة من الأفراد في الفترة العمرية الممتدة من بداية الطفولة إلى نهاية مرحلة المراهقة، وقد تُلازم الإنسان لفترة زمنية طويلة، ولها – الكتابة – أهدافها العشوائية غير المنظمة، أو ذات هدف مراد تحقيقه بهذه الوسيلة بأسلوب لائق للمجتمع.. فبدأت تتسّع هذه الظاهرة غير المحمودة مرّة والمحمودة مرة أخرى بين الباحثين فيها أو المهتمّين بها، فكل واحد من الاثنين له أسبابه ودوافعه ونتائجها، بين مُؤيد ومعارض لهذه الظاهرة والثقافة المنقولة بين المجتمعات المتحضرة والمتخلفة.. فأخذت فترة الستينيات والسبعينيات خاصة في الدول العربية انتشارا لظاهرة الكتابة أو الرسم على الجدران، رغم وجود من يحاربها من مبدأ الحفاظ على جمال البيئة، وأنها أسلوب غير مُتحضّر، ولها سلبياتها من حيث العشوائية التي تمسّ العادات والتقاليد في المجتمع، والتّشكيك في الحالة النفسية لمن يمارس هذه الظاهرة في ظل تقدّم وتطوّر الوسائل الحديثة للتعبير أو التنفيس عن حالة مجتمعية أو خاصة!
وإن كنت مع أحد الرأيين بين مؤيد أو معارض لظاهرة الكتابة على الجدران.. أصبحت النظرة حولها تتغيّر من عام إلى آخر، نحو الإيجابية وتطوير مفاهيمها وأهميتها، واستغلالها في قضايا تخدم المجتمع، بطريقة أكثر حضارية لا تعرف الفوضى، والتحكّم في الانفعالات المرتبطة بالبيئة المحيطة بالفرد، في جميع المناسبات الفرحة والحزينة..
ولا تخلو ثقافة أو ظاهرة الكتابة والرسم على الجدران من المؤسسات الحكومية والخاصة في مجالات عدّة مثل: التربية والتعليم والصحة والأندية الرياضية والثقافية والفنية، فقد أخذت الكتابة والرسم على الجدران مكانة عالية خاصة في مجال التربية والتعليم في تقديم النصيحة، والمعرفة والمعلومة للطالب في كافة المراحل التعليمية، وخروج جدران المدرسة عن الشكل التقليدي، إلى لوحة فنيّة، تخدم أهداف التربية والتعليم في المجتمعات وثقافتهم، وقد تم اكتشاف معظم المواهب الطلابية من خلال هذه الظاهرة، ولم تخلُ المؤسسات الأخرى في خدمة المجتمع من الكتابة الإرشادية التوجيهية ذات العناوين الهادفة .
من جماليات هذه الكتابة على الجدران في فترة الثمانينيات في المجتمع الفلسطيني فترة الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، ظاهرة انتشرت في المجتمع الفلسطيني، ولعبت دور المواجهة ضد الاحتلال، من حيث الشعارات الوطنية التي تؤكّد الحق الفلسطيني على أرضه، ومواجهة كل ما هو ممنوع من الاحتلال، وإبرازه على الجدران بطريقة الكتابة أو الرسم بما يخدم مقاومة العدو، وأهداف الثورة الفلسطينية المنطلقة، فكانت جدران المجتمع الفلسطيني، ذات دلالات، وشعارات وطنية، وتوجهات، ورسائل موجهة إلى العدو.
ومن هذه الكتابات: غصن الزيتون، قبّة الصخرة، القدس عاصمة فلسطين، كي لا ننسى تاريخنا، غدا إضراب شامل..
ومن الرُّسومات: علم فلسطين، قبة الصخرة، الكوفية، إشارة النصر، الثوب الفلسطيني، شجرة الزيتون، ياسر عرفات..
وعلى الرغم من بساطة جدران البيوت، تحوّلت جدران الحارات الفلسطينية إلى كتاب مفتوح من تاريخنا الحديث المعاصر ومواجهته مع العدو إلى لوحة فنية مفتوحة تحمل تراثنا..
فظاهرة الكتابة على الجدران تزداد نهوضا ونضوجا من عام إلى عام، بين أجيال تجاوزَت سلبياتها، وجعلت لمدنها شكلاً من أشكال الإبداع والمعرفة بما يخدم المجتمع وثقافته السائدة، وكما تحلو المدينة ومرافقها بالشجر، تحلو أيضا بالكتابة والرسم على الحجر.
إطلالة على تاريخ الكتابات الجدارية وفن الغرافيتي
بقلم: ختام زاوي – كاتبة من تونس
إنّ الكتابات الجدارية أو الحائطية هي الكوة التي نستطيع أن نصوّر بها الأشخاص والأشياء والمعاني ونمثّلها شاخصة أمام من نخاطبه وتستثير مشاعره. لكن تعريفها ككل المعاني عسير. ومن أسباب صعوبة التعريف أن الكلمة تُستعمل في أنواع مختلفة من العمليات العقلية، أي أنها تستعمل فن الخيال كعنصر أساسه المدركات بالنظر..
ومن المُسلَّم به أن الفن، بحكم طبيعته، لا يستطيع أن يصوّر الحقائق كما هي تصويرا تاما بل لا بدّ أن يخرج عنها قليلا أو كثيرا.. أي أن الفنان أو الرسام لا يستطيع أن يكتب أو يرسم تفاصيل الشيء جميعها إنمّا يتخيّر منها ما يُعدّ موضع التأثير…
وبعبارة أدقّ، يُعدّ هذا الفن اقتباس ومضات أو كلمات مترابطة ذات صبغة أدبية أو شعرية مصحوب بفكرة لها غايات خاصة يرمي إليها الفنان.. ونحن نرى أنّ لكل منهما من الأهمية ما لا يقلّ عن الآخر.. فلا بدّ في الكلام البليغ أن يكون ذو لفظ عذب ومعنى حلو.. وليس بصحيح أن المعاني ملقاة في الطريق أو على الجدران ليس لها ثمن أو قيمة أو فيها مطلب، بل هناك من المعاني ما لا يصل إليه إلّا الذهن الدقيق والعقل الذكي العميق..
كما يجب أن يكون فنّان الجداريات قويا في فكاهته وعاطفته ومأساته، والفكاهة هي ما يستثير الضحك، والعاطفية هي ما يستثير العاطفة الرقيقة، والمأساة ماي ستثير الانفعال الحاد الحزين. والفكاهة من أعظم مواهب العبقرية والتي تُستخدم في التشهير بالعيب والفضيحة، وتستخدم السخرية أحيانا بدل استخدامها للعطف..
وكلّما تعمّقنا في ميدان هذه الدراسة دهشنا للتنوّع العظيم غير العادي في الآراء النقدية وهو موضوع على غايات التشويق، لأن تاريخ الجداريات في مفهومه المتنوّع يحتوي تاريخ التغيّرات الواقعية والتحوّلات الإنسانية.. وإذا حلّلت، وجدت أنها تتغلغل إلى أعماق المزاج وتقترن اقترانا شديدا بالعناصر الفكرية والخلفية التي تنقد المجتمع وتستبيح القضايا والقيم التي يبدو ضبطها صعبا واستئصالها يبدو مستحيلا..
مفهوم الجداريات
“غرافيتي” الجداريات! والغرافيتي تعني نحت وتسوية وصياغة شكل ما، في الإغريقية نجد كلمة: (Graphein) التي تعني: يكتب، يرسم، يلوّن، أما في اللاتينية فأصلها يعود إلى مفردة (Graphium) وتعني: يخربش، يخبش ويكشط، في حين نجدها في اللغة الإيطالية مشتقة من كلمة (Sraffito) وتعني: كتب، أو خدش، أو َخرب..
وقد عُرِّب هذا المصطلح باسم “غرافيتي”، وعُني به الرسم أو الكتابة على الجدران باستخدام رموز وإشارات ترتبط ارتباطا وثيقا بالجماعة التي ينتمون إليها وبعاداتهم وتقاليدهم، ويُطلق عليها أيضا مصطلح “فن الشارع” من قبل “ألن شوارتسان” عام 1985، واستخدمه للإشارة إلى كافة أشكال التّعبير الفني في المناطق الحضارية والتي وُلدت من ثورة “الغرافيتي”. لذلك يمكن اعتبار “الغرافيتي”: الكتابة أو الرسم على الجدران الخالية هي رسالة مُشفّرة يخاطب بها المبدع عقول الجماهير والحكومات، وهي ذات دلالات مُضمَرة موُجّهة إلى فئة مُعيّنة مقصودة..
من الكتابة على الجدران إلى الغرافيتي
“غرافيتي” فن حديثٌ لكن جذوره تعود إلى عصور ضاربة في القِدم، فقد عرف الإنسان البدائي الكتابة الحائطية بداية من الجبال والكهوف، حيث نقش وكتب وخربش.. وقد اعتمد على مواد طبيعية مثل الأتربة المُلوّنة والعظام المتفحّمة وبقايا الشحوم..
مع اعتبار تلك الرسومات أو الكتابات مُعبِّرًا على حياته اليومية، بل إنها كانت نافذة استطعنا منها أن نلمس بعض مظاهر حياتهم وعاداتهم وبياناتهم وأفكارهم مثل: حضارة المايا، تيكال، الآزتيك،
والحضارة الآشورية، والحضارة البيزنطية، والطّاسیلي بالجزائر، الأكاكوس والمساك في ليبيا، لاسكو ومغارة شوفي في فرنسا، ألماتيرا في إسبانيا، الفيكينغ في إيرلندا، سيرا دا كابيفارا في البرازيل.. وتُعدّ الحضارة الفرعونية من أقدم الحضارات التي بحث العلماء في آثارها خاصة داخل الأهرامات وقبور الفراعنة، حيث اعتمدوا على تحليل الكتابات الصُّوَرية..
أما عن المفهوم الحدث “غرافيتي” (graffité) فهو مفهوم مُستحدث في اللغات الأوروبية.. حيث تعدَّدت الأساليب الفنية في عصرنا الحالي وتنوّعت بين استخدام الألوان الزيتية والأكريليك والبخّاخات بأنواعها والصبغات والموزاييك، وتعدّدت أهدافها، ودخلت في مجال التصميم الداخلي والخارجي، فزيّنت البيوت والمساحات والساحات العامة، وطليت بالورنيش لحمايتها من الأشعة فوق البنفسجية. مع استخدام أصباغ وبخّاخات لونيّة للنّقش على الجدران والتي ارتبط ظهورها وتطورها بحركة الـ “هيب – هوب”، بالإضافة إلى الرّاب والـ “دي جي”. ومع تطور هذا الفن، بدأ بعض فناني الغرافيتي بعرض أعمالهم الفنية في صالات خاصة..
الغرافيتي عند الغرب
إن كل المخترعات التي يسّرت لنا سُبل الحياة المادية لم تخل من انعكاسات معنوية باتت فيها العنصرية العرقية قضيّةً في حضارة الغرب، وهي حرب قائمة من أجل الكرامة، لا من أجل التوسّع و”الفتح”.. ففي القرن العشرين، اضطُهِد أصحاب البشرة السوداء في أمريكا فاختاروا الفن رسمًا وغناءً وسيلة احتجاج على وضعيتهم البائسة حينها، حيث تُعتبر البداية الفعلية للغرافيتي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في “نيويورك”، خلال السبعينيات من القرن الماضي. كان الأفارقة الأمريكيون يستخدمون هذه الحركة للتعبير عن معاناتهم من الفقر والعنصرية. وفي الثمانينيات، أصبحت حركة الأدب الغرافيتي حركةً عالمية بفضل ثقافة “الهيب هوب”. وبدأ الانتشار في أوروبا بداية من إنجلترا وفرنسا، ثم شمل المدن الكبرى الأخرى في القارة العجوز..
الغرافيتي عند العرب
من نتائج الحضارة الحديثة وآثار التعليم الشامل والموحّد.. ظهر الغرافيتي في الوطن العربي كسائر البلدان، حيث جاء بصيغة لم يسبق إليها أحد سوى دول العالم الثالث والتي عانت من الاحتلال بمختلف أشكاله، وقد عُرف باسم “الجرافيتي النضالي”، والذي جاء كنوع من الاحتجاج والمقاومة، حيث كان الجرافيتي في مصر في تطوّر من كونه فنًا تعبيريًا محدود الانتشار إلى أداة نضالية معبرة عن روح المقاومة والتغيير.. رغم أن فن الجرافيتي كان موجودًا منذ الستينيات، حيث بدأ يظهر على الجدران بشكل متقطّع مع رسائل رمزية، فإن تأثيره كوسيلة للتعبير عن الاحتجاج والمقاومة لم يتجلّى بشكل واضح إلا مع الأحداث السياسية الكبرى..
أما بعد “ثورة الياسمين” في تونس، فقد تطوّر وضع فن الجرافيتي بشكل كبير، حيث بدأ يتلقى دعمًا وتشجيعًا متزايدا. حيث لاحظ فنانو الجرافيتي مثل “SK-One” و”Meen-One” تغييرًا ملحوظًا في نظرة المجتمع إلى فن الغرافيتي، فقد أصبح يُعتبر جزءًا مهّمًا من المشهد الثقافي، خلافًا للوقت الذي سبق الثورة عندما كان يُنظر إليه باعتباره فنًّا سياسيًّا خالصا.
تجربتي مع الغرافيتي
لطالما وقفتُ الساعات والأيام.. أتأمّل لوحات جدارية وأضرب رأسي بيدي لأفقه ما فيها من جمال.. مرغمة على فهم أسرار هذا الإبداع فقد كانت المثلثات والدوائر والمكعبات داخل بعضها البعض وكأنها تصف روح الحضارة.. رموز تخاطب الدين والأدب وكأن كلاهما يضيء في مشكاة واحدة.. أشعار غزلية تليها رسوم بهلوانية تليها آيات قرآنية..
فعلا، إنه اختلاطٌ جمالي متكامل ومُتقن يُصوِّر تنوّع وتعقّد الذات الإنسانية على مرّ الأحقاب والأزمان…