مسؤولية المثقف في المجتمع
إن المثقف كان وما زال حجر الزاوية في بناء المجتمعات ونهضتها. فهو العين الساهرة التي تراقب تطورات المجتمع، والعقل المفكّر الذي يسعى إلى صياغة الأفكار والحلول التي تسهم في تحقيق العدالة والتنمية. إن مسؤولية المثقف تتجاوز مجرد المعرفة ونقلها، إذ إنه يتحمّل عبء نشر الحقيقة وتعزيز القيم الأخلاقية والعمل بمقتضاها في مواجهة تيارات الجهل والانحراف. ومع التطور السريع الذي تشهده وسائل الإعلام والتكنولوجيا، ازدادت التحديات أمام المثقفين الحقيقيين في أداء رسالتهم، لا سيما مع ظهور ظاهرة “المؤثِّرين” أو “الإنفلونسرز”، وهم أشخاص استغلّوا وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق الشهرة والانتشار على حساب القيم والأخلاق.
في السنوات الأخيرة، أصبح هؤلاء المؤثّرون، الذين يعرضون حياتهم الشخصية أمام العامة دون مراعاة خصوصية أو مسؤولية، يمثلون تهديدًا حقيقيًا للبنية الثقافية والأخلاقية للمجتمع. فهم يقدّمون محتوى يروّج، عن قصد أو غير قصد، لأفكار وسلوكيات هدّامة تؤثر سلبًا على استقرار المجتمعات وتماسكها.
رسالة المثقف التاريخي ودوره الحقيقي
إن للمثقف مسؤولية كبيرة في توعية مجتمعه وتنمية وعيه الجماعي. ففي الماضي، وتحديدًا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان للمثقفين دور بارز في مقاومة الظلم والهيمنة، إذ ساهموا في الدفاع عن قضايا الأمة الكبرى مثل التخلص من الاستعمار، ومواجهة الأنظمة القمعية بما تفرضه من قيود سياسية ودينية وفكرية. آنذاك، كان المثقف يشكل رمزًا للنضال والتنوير، حيث عمل على ترسيخ القيم الإنسانية المشتركة مثل: الحرية، والعدالة، والمساواة، والحب بين أفراد المجتمع.
أما اليوم، فقد تطوّر دور المثقف مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الوصول إلى الجماهير أكثر سهولة وسرعة. إلا أن هذا التطور جاء بثمنٍ باهظ، إذ أصبح أيّ شخص يمتلك كاميرا ومنصّة قادرًا على تقديم نفسه كمثقف أو مؤثِّر، رغم افتقاره إلى أدوات المعرفة الحقيقية والخبرة اللازمة. وهذا التحوّل أدّى إلى بروز تأثير سلبي في أغلب الأحيان، إذ تُرك المجال مفتوحًا للمعلومات المضلِّلة والمحتوى السطحي.
المثقفون المزيفون وأثرهم السلبي
المثقف المزيّف هو الشخص الذي يفتقر إلى المعرفة الحقيقية والمبادئ الأخلاقية والقانونية، ويستغلّ الوسائل الحديثة لنشر أفكار مغلوطة وأهداف هدّامة. وتتجلّى خطورة هؤلاء في عدة جوانب رئيسية:
-1 تشويه الحقائق:
يعمد المثقفون المزيّفون إلى تحريف الأحداث التاريخية، وتفسير النصوص الدينية والمجريات السياسية بأسلوب مليء بالمبالغة أو القصور، مما يؤدي إلى إحداث بلبلة فكرية وتشويه للمعاني الأصلية.
-2 نشر الفوضى الفكرية:
يُغرقون المجتمع بسيل من الأفكار المتناقضة أو المتكررة، مما يربك الأفراد ويُعطل قدرتهم على اتخاذ قرارات واعية ومستنيرة.
–3 ترسيخ ثقافة الأكاذيب:
يعتمدون على إثارة العواطف واستغلال الأحداث بأسلوب تلاعبي يهدف إلى حجب الحقائق الحقيقية وإظهار ما يتماشى مع أهوائهم الشخصية، مما يؤدي إلى تدهور القيم الأخلاقية وانعدام الثقة في المحتوى المنشور.
استشراف الخطر وسبل المواجهة
إن الخطر الحقيقي للمثقفين المزيفين يكمن في قدرتهم على الوصول إلى شرائح واسعة من الناس، خاصة الشباب الذين يشكلون الفئة الأكثر تأثّرًا بوسائل التواصل الاجتماعي. ولمواجهة هذا التحدي، يجب اتخاذ الخطوات التالية:
-1 وضع معايير أخلاقية للمؤثرين:
يجب على الدول والمؤسسات وضع قائمة بمعايير أخلاقية واضحة تُلزم المؤثرين باتباعها عند تقديم المحتوى، بما يضمن حماية المجتمع من التأثيرات السلبية.
–2 تفعيل المساءلة القانونية:
يمكن لهيئات المجتمع المدني لعب دور فعّال في مراقبة المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم شكاوى ضد المؤثرين الذين ينتهكون معايير التأثير الأخلاقي أو القوانين الإعلامية.
–3 دعم المثقفين الحقيقيين:
ينبغي توفير منصّات خاصة للمثقفين الحقيقيين الذين يحملون رسائل هادفة ومؤثرة، بالإضافة إلى تقديم برامج تدريبية ترفع من قدراتهم التقنية والعلمية، ليتمكّنوا من إيصال أصواتهم بشكل أفضل وأكثر تأثيرًا.
كلمة أخيرة..
ختامًا، إن المثقف الحقيقي ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو حامل شعلة التنوير والإصلاح، وهدفه الأسمى هو تحقيق نهضة فكرية وأخلاقية في مجتمعه. على النقيض، المثقف المزيف هو من يسعى لهدم أسس المجتمع بنشره للأكاذيب والتضليل، واستغلاله للمعلومات بطريقة لا تراعي القيم والمبادئ الأخلاقية.
التصدي لهذا الخطر يتطلب تكاتف الجهود التعليمية والعلمية والاجتماعية، لضمان بناء مجتمع قائم على الوعي والصدق والأصالة، لا على المغالطات والأفكار الهدّامة. فالمجتمعات التي تسعى للنهوض والازدهار يجب أن تتّخذ من الحقيقة أساسًا ومن المثقف الحقيقي قائدًا لمسيرتها نحو مستقبل أكثر إشراقًا.