بكل وضوح ودون مقدّمات، يعلن الرئيس «عبد المجيد تبون» أن الجزائر ستتعاطى مع أي تدخّل عسكري أجنبي في النيجر على أنه يستهدف الجزائر وأمنها، ذلك أن الجزائر تسعى إلى إيجاد أرضية توافقية لجمع الإخوة الفرقاء في النيجر، وتقريب وجهات النظر فيما بينهم، لمباشرة حوار وطني معمق يُفضي إلى توقيع اتفاق شامل ونهائي، كما كان الشأن بالنسبة إلى دولة مالي.
تعتبر الجزائر قضية استقرار النيجر قضية حاسمة، ليس بسبب ما يمكن أن تسبّبه الحرب في هذا البلد من أعباء أمنية وإنسانية على الحدود فحسب، وإنما بسبب التهديد المباشر للاستراتيجية الاقتصادية التي وضعتها حيّز التنفيذ منذ أعوام، والتي يأتي على رأسها مشروع خطّ أنابيب الغاز العابر للصحراء، والذي يربط نيجيريا بالجزائر فأوروبا مرورا بالنيجر.
النظام المغربي يستفيق في “بيت الخلاء” بإيعاز من فرنسا طبعا، ويحاول استدراك الوقت الضائع بطلب الانضمام إلى منظمة «إكواس» التي تديرها فرنسا عن بعد ـ من خلال بعض “حلفائها” الأفارقة، مثل الرئيس العاجي «الحسن واتارا» ـ وذلك لدعم مواقف المنظمة التي سارعت إلى إطلاق سيل من التهديدات القاضية باستعمال القوة، وتجييش المنطقة وتعبئة عشرات الآلاف من الجنود للهجوم على النيجر، وهو الطلب الذي لم ينل الإجماع داخل المنظمة، على الأقل من قبل جمهورية الرأس الأخضر ونيجيريا اللتين تخندقتا إلى صف الجزائر التي ترفض منطق القوة والحرب جملة وتفصيلا.
طبعا، ليس من باب نشر السلم ودعم الاستقرار، تحرّك النظام المغربي البائس، فهو أصلا نظام وظيفي لا سيادة له ولا حرمة، يحترف العدوان ويمتهن الغدر، مُحتل، يغتصب أرضا ليست أرضه وظلما وعدوانا، إذًا، فقد تحرّك نظام المخون بمهماز باريس التي تديره كيفما تشاء، خدمة لمصالحها من جهة، ومن جهة أخرى حتى يتمكن من تخفيف ضغط الداخل المتزايد بسبب الإفلاس الشامل الذي يخيم على اقتصاد مملكة المولى، للعام الثاني على التوالي.
إن “جنة التطبيع” التي وعد بها نظام المخزن شعبه لم تأت أكلها ولن تأتيه، لأن الطرف الآخر هم الصهاينة الذين لا يحفظون ودا ولا يصونون عهدا، إذِ المهم لديهم أنهم أقنعوه بأن تفجير الوضع في النيجر يعني تأمين الجهة الغربية للقارة الإفريقية، حيث يعمل المخزن جاهدا لإقناع نيجيريا بقبول إنجاز مشروع أنابيب نقل الغاز، عبر كل من: البنين، غانا، ساحل العاج، غينيا، السنغال، موريتانيا، دولة الصحراء الغربية المحتلة فالمغرب ثم إسبانيا، وهكذا يتمّ ـ حسب مخطّطهم ـ تعطيل (خط نيجيريا/ النيجر/ الجزائر) الذي هو الأقرب والأسهل والأقل كلفة.
فرنسا دون مخالب
أما فرنسا التي مارست كل أنواع المكر والخداع لسرقة الأفارقة واستنزاف خيراتهم، لم تعد بتلك القوة المهيمنة كما كان عليه الأمر في زمن مضى، فقد أصبحت تتلّقى الضربات تلو الضربات من الشمال ومن الشرق ومن الجنوب الشرقي، وحتى من وراء البحار، وعرفت علاقاتها بالمملكة المتحدة منعطفا “خطيرا” غداة اختيار حكومة صاحبة الجلالة تفعيل مخرجات اتفاق «بريكسيت» وخروجها من دائرة الاتحاد الأوروبي، وهو الخروج الذي زعزع الثقة بين الدولتين.
ذلك أن فرنسا ظلت تعتقد بأن الوحدة الأوروبية هي صناعة فرنسية خالصة، وأيّ مساس بها يعد مساسا بالسيادة الفرنسية، إضافة إلى ما تعانيه العلاقات البينية من تشنجات مزمنة بسبب انسياب المهاجرين “غير الشرعيين” عبر بحر المانش، وهو الوضع الذي بلغ مستوى تبادل التهم وتوتّر العلاقات الدبلوماسية بين لندن وباريس.
وأما على الجبهة الشرقية، فقد طفت إلى السطح خلافات حادّة مع الجارة ألمانيا، خاصة ما تعلق منها بالقوانين الضريبية داخل بيت الاتحاد، وقضايا المهاجرين وطريقة دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وهي الخلافات التي أعادت إلى الواجهة ذكريات الحرب العالمية الثانية وتاريخ المواجهات السيادية بين البلدين، فلا شيء أبدا ينطلق من فراغ.
الإيطالية «جورجيا ميلوني» ألهبت العلاقات البينية مع فرنسا بتوجيه اتهام صريح لها باستغلال ثروات الأفارقة، وترك روما تصارع لوحدها في تسيير أزمة المهاجرين واللاجئين والفارين من جحيم الفقر الإفريقي الذي سببته فرنسا، فقد جعلت «ميلوني» العلاقات بين البلدين تمرّ بفترة جمود وصلت حد تبادل “الشتائم”، في سابقة لم تعرفها أوروبا منذ الحرب العالمية، أضف إلى ذلك خلافات البلدين حول قضايا أوروبية داخلية وما تعلّق بالسياسة الأوروبية تجاه الشأن الليبي والسوري، بعدما اعترضت باريس على مشروع روما القاضي بتحويل إيطاليا إلى قطب جهوي للطاقة وموزّع رئيسي للغاز القادم من الجنوب، خاصة بعد التقارب الإيطالي الجزائري.
غير بعيد من إيطاليا، تركيا على الضفة الأخرى وجسر الوصل بين آسيا وأوروبا، تتأزم علاقاتها هي الأخرى مع فرنسا، على خلفية الاستفزازات المتكرّرة من قبل هذه الأخيرة حيال قضية مجازر الأرمن التاريخية، وكذا الدعم المتواصل والحثيث من قبل باريس لعناصر حزب العمال الكردستاني الانفصالي، أضف إلى ذلك تصادم مصالح البلدين في ليبيا وفي السودان وحتى في ملف سوريا.
تراث من الانكسارات
لقد وجدت باريس نفسها فجأة في مواجهة الانقلابات الإفريقية التي لم يخف منفذّوها عداءهم إلى فرنسا، بقيادة جيل جديد من الساسة والعسكريين، فهموا جيدا منطق فرنسا المهين في تعاملها مع بلدانهم ومع شعوبهم، وإضافة إلى كل هذا الكم الرهيب من الانكسارات، ينبعث الملف الروسي مثقلا بإهانات متتالية لباريس، حيث ما فتئ «بوتين» يوجه الصفعات لـ«ماكرون» بصورة ممنهجة ومتواصلة منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لتجد فرنسا نفسها ضمن دول الطابور الثاني خارج الإطار التفاوضي، وذلك لارتعاش مواقفها واضطراب تصريحاتها، وها هي الآن تواجه تضييقا روسيا عليها سياسيا وعسكريا في مناطق نفوذها وهيمنتها التقليدية في دول إفريقيا.
الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى لم تعد تعير تقديرا كبيرا لفرنسا، وقد ظهر ذلك جليا في قضية “السطو” على صفقة الغواصات التي كانت فرنسا قد برمجت تصديرها إلى أستراليا، وفق عقد وقع العام 2016م، بقيمة 66 مليار دولار أمريكي مع مجموعة «نافال غروب» المملوكة للدولة الفرنسية، يقوم على بناء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء، تحت اسم «أتاك كلاس»، إلا أن أستراليا قامت بفسخ العقد وتعويضه بعقد مع الولايات المتحدة لتزويدها بغواصات تشتغل بالطاقة النووية، وهي الحادثة التي جعلت فرنسا تقوم باستدعاء سفيري كل من الولايات المتحدة وأستراليا.
ومع أزمة النيجر، فضلت الولايات المتحدة التخندق إلى صف الجزائر، من خلال موقفها الداعي إلى الحوار ورفض أي تدخّل عسكري في المنطقة، وقد جاء هذا الموقف في ذات الوقت الذي تسعى فيه فرنسا إلى حشد حلفائها في منظمة «ايكواس» وانتظار الدعم الدولي الذي يمنحها الشرعية لتنفيذ تدخلها العسكري، لكنها تلقت صفعة أخرى برفض أمريكي لخيار اللجوء إلى القوة، بل أرسلت واشنطن سفيرا إلى «نيامي» في عز الأزمة الراهنة، كدليل قاطع على انفتاحها للتحاور مع نظام حكم المجلس الانقلابي الجديد، وقد جاء الموقف الأمريكي موازاة مع زيارة الوزير «أحمد عطاف» إلى واشنطن بدعوة من نظيره الأمريكي.
الجزائر والحضن الإفريقي
صمتت فوهات المدافع قبل اشتعالها، وهدأت الأوضاع قبل انفجارها، فهل انتهت فرنسا الدولة المحورية التي أشعلت حرب سوريا، وهدمت ليبيا، وعبثت بلبنان واستعبدت إفريقيا، فقد انقلب الجميع ضدها، وأضحت قاب قوسين أو أدنى من الانزواء داخل عزلة سياسية لم تعشها منذ ثورتها التاريخية العام 1789م، ذلك أنّ دولةً بنيت أساساتها بدماء الأبرياء ودموع العزل، لجدير بها الانهيار والسقوط.
الجزائر متمسكة بمواقفها التي أكسبتها الاحترام والتقدير، وهي التي كانت قد نبهت العالم إلى مأساة الهجرة الاضطرارية باتجاه أوروبا، كما كانت قد حذرت من نتائج عملية «برخان» الفرنسية، والتي تُلقِي بظلالها هذه الأيام على النقاش البرلماني الفرنسي، وتَلقَى الكثير من الانتقادات اللاذعة، إلى درجة أن حَمَّلها البرلمانيون مسؤولية النتائج الكارثية الحاصلة في الميدان الآن، على اعتبار أنها كانت سببا مباشرا في تأجيج مشاعر الحقد والكراهية تجاه فرنسا وسياساتها في دول الساحل الإفريقي.
وحتى لا ينهار الحزام الأمني في المنطقة، كانت الجزائر قد استبقت الأحداث بأن أنشأت “لجنة الأركان العملياتية المشتركة” العام 2010م، والتي ضمّت الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر، ثم أعقبتها بـ”اتفاقيات الجزائر للمصالحة في شمال مالي” الموقّعة ـ عام 2015م ـ لذا، وبحسب الملاحظين، فإن الانسحاب أو بالأحرى الطرد الفرنسي من دول الساحل، يشكّل في حدّ ذاته انتصارا حقيقيا للجزائر الطامحة إلى استعادة عمقها الشرعي في المنطقة، دون أن يحدث ذلك فراغا أمنيا لصالح الإرهاب.
وبالتالي، فإن الجزائر تسعى إلى وساطة ـ في النيجر ـ تزكّي مساراتها واشنطن، وكذلك إلى تبديد المخاوف الناشئة عن زيارات الرئيس تبون إلى موسكو وبكين، لتؤكد بأنها لم ولن تتحوّل إلى المعسكر المعادي للولايات المتحدة الأمريكية كما لن تكون مسايرة لسياساتها، فقد شهد بهذا الرئيس «ريتشارد نيكسون» أمام الرئيس «هواري بومدين» بقوله: “نعلم بأن الجزائر التي ضحت بملايين الشهداء من خيرة أبنائها ثمنا لحريتها لا يمكن أن تكون تابعة لأحد..”.