“الرجل الغربي فقط هو الإنسان بكل ما تعنيه هذه الكلمة”، وأما غيرُه من الناس فهُم كائنات بشرية لم ترتقِ إلى مرتبة الإنسانية، والرسالة “الحضارية” للاستعمار هي تحقيق الارتقاء بالشعوب المُستَعمَرة من بشرٍ إلى إنسان. هذا هو جوهر الرؤية الاستعمارية التي تبنّتها حركاتُ التبشير المسيحي والاستشراق التي رافقتْ الاستعمار في كثير من البلدان العربية، وجرى تنفيذها في الجزائر بأكثر الوسائل مكرًا وهمجيةً.
الخطر المُحدق بالتّمدّن الغربي
نشر الفرنسي “أوجين يونغ” مجموعة رسائل تحت عنوان “مسائل الشرق”، منها رسالة “استعباد الإسلام: الحرب الصليبية الجديدة” تُرجِمتْ إلى العربية ونُشرت سنة 1928، وزعم فيها الكاتب بأنَّ هناك “سوء تفاهم” بين الإسلام وبقية العالم، وذلك من خلال قوله: “فما هو إذًا سُوءُ التفاهم الفاصل الإسلامَ عن باقي العالم؟ وما هي أسبابه، وكيف السبيل إلى إزالته؟”، وليس يعنينا ما قدّمَه الكاتبُ من إجابات أو مقترحات حلول، بل يعنينا ما تضمّنَه الكتابُ من إشارات تؤكّد بأنَّ الاستعمار هو حربٌ دينيَّةٌ كان هدفُها الأولُ هو القضاء على الإسلام، ومن ذلك قول “أوجين”: “بابا الفاتيكان يُخطّط دون ملل وكلل لحروب صليبية جديدة (آنذاك)”، تحت تأثير فكرةٍ كانت مُسيطرةً على العقل الغربي ومحورها “الخطر المُحدق بالتّمدّن الغربي”. وقد اعتقد الكاتبُ، آنذاك، بأنَّ “الحرب الصليبية”، أو الوجه الآخر للاستعمار، ستكون الأخيرة، ولكن ليس بالشكل الذي يحلّ بعده “التّصالح” مع الإسلام، حيث قال: “أجل إنَّ هذه الحرب ستكون، ولا مَرَاء، الأخيرة، ولكن ليست على الشّكل الذي يتوهّمونه (يقصد السياسيين والعسكريين ورجال الدين الغربيين)، فالكفاح الناشب بين النصرانية والصهيونية من الجهة الواحدة، والإسلام من الجهة الأخرى، سيُفضي إلى شرّ العواقب”.
سؤالُ الأيّام..
تكتسي رسالة الفرنسي “أوجين يونغ” أهميةً كبيرة في فهْم المشروع الغربي المتواصل لهدم الإسلام، ذلك أنَّها كُتِبت في عشرينيات القرن الماضي وركّزت على ثلاث أمور هي: الاستعمار له بعدٌ ديني، والكائن البشري في الغرب هو الإنسان، وتحالف النصرانية والصهيونية لمحاربة الإسلام. فهل انتهتْ تلك الأمور الثلاثة بعد نهاية الاستعمار الغربي الأوروبي في قارتي إفريقيا وآسيا، أم أنها ما زالت مُستمرة بأشكال أخرى؟ لن نُطارد الأجوبةَ عن هذا السؤال، ونكتفي بإلقاء بعض الضوءِ على مشاريع الاستعمار الفرنسي لهدم اللغة العربية وتشويه الإسلام في الجزائر.
جامع كتشاوة.. شاهدٌ عبر الأزمنة
نشر الوكيل العام لأسقف الجزائر القس “سوشيه” كتابا عنوانه “رسائل مفيدة ومُشوّقة عن الجزائر”، جاء فيه عن الجنرال “سيلفان تشارلز فالي” (1773 – 1846)، الحاكم العام للجزائر من 1837 إلى 1840، إنه “يرغب أنْ يسْتتِبّ الدين المسيحي، وأن يحترمه الجميع. إنه يريد أن يضاعف من عدد الصلبان والكنائس في الجزائر. إن مولاي – الملك – يستطيع أن يفعل ما يشاء مع رجل مثل المسيو فالي الذي اختار أجملَ مسجد في قسنطينة ليجعل منه أجمل كنيسة في المستعمرة”.
وذَكر الكاتبُ “منقذ السقار” في كتابه “الاستعمار في العصر الحديث ودوافعه الدينيَّة”: “وقد كانت محاربةُ الإسلام هدفًا أصيلاً للمستعمر، ومن صوَرِه ما ذكره الكاتبان الفرنسيان كوليت وفرانسيس جانسون فقالاَ: لعل العبث بالدين الإسلامي كان هو المجال المُفضَّل لدى القائد الفرنسي في (الجزائر) روفيغو، فقد وقف هذا القائد الفاجر، ونادى في قومه: إنه يلزمه أجمل مسجد في المدينة ليجعل منه مَعبدًا لإله المسيحيين، وطلب إلى أعوانه إعداد ذلك في أقصر وقت ممكن، ثم أشار إلى جامع القشاوة (كتشاوة)، فحوّلوه إلى كنيسة بعد شلالات من الدم، وسُميَّ “كاتدرائية الجزائر”. وأما المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله” فقد قال: “جامع كتشاوة كان من ضحايا الروح الصليبية الفرنسية.. اعتدوا عليه بتحويله إلى كاتدرائية للدِّيانة الكاثوليكية وبمباركة الحكومة والبابوية معًا. وقد قاوَم المسلمون الباقون في مدينة الجزائر هذا الاعتداء على الحرمات الدينية التي نصَّ اتفاق 1830 على عدم المساس بها، ولكنهم تعرضوا إلى القتل والضرب في الجامع نفسه”.
كنائس بأموال الأوقاف الإسلامية
في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تهدمُ المساجدَ، كانت تبني الكنائسَ بأموالها، وأيضا بأموال الأوقاف الإسلامية التي صادرتها، وقد ذكَر المُؤرّخ “أبو القاسم سعد الله” بعض الإحصائيات حول المساجد التي تمّ تحويلها إلى كنائس، من خلال ما كتبه “جورج ايفير”، سنة 1913، حيث قال: “بين خمسة وستة مساجد أصبحتْ مخازنَ، وإنَّ من بين الـ 80 (ثمانين) مسجدًا وزاوية التي كانت بالعاصمة سنة 1830، هُدِم منها ستة وستون بين 1830 – 1832 فقط. وأنَّ هناك مسجدًا سُلِّم سنة 1832 إلى السيد لكروتز ليصنع فيه الأَسِرَّة العسكرية”.
لم يقتصر هدمُ المساجدِ، أو تحويلها عن مقاصدها، على الجزائر العاصمة فحسب، بل امتدّ الأمرُ إلى كل المُدن الجزائرية، وفي هذا يقول “سعد الله”: “واستمرتْ بعد ذلك عمليةُ هدمِ المساجد، وتحويلها إلى كنائس للنصارى وبيع لليهود وثكنات للجيش والشرطة وإصطبلات للخيل والدّوَاب. وتعرضتْ المدنُ الجزائرية الأخرى لما تعرضَّتْ له العاصمة (الجزائر) حيث ذكر أحد رؤساء الأديرة والنائب العام لمطران الجزائر، فقال ما يلي: (إنَّ الحاكم الإفرنسي – فالي – هو رجل عميق الإيمان، صاحبُ ذِمَّةٍ وضمير، يحكم الجزائر كالملك المنفرد بحكمه. هذا هو الرجل الصالح للمستعمَرة. فهو يبغي تثبيتَ دعائم الدين، وفرْض احترامه في كل مكان. ويريد أيضا مضاعفة الصلبان والمعابد في الجزائر. كما أنَّ صاحب السيادة (ملك فرنسا) بإمكانه تنفيذ إرادته مع أيّ رجل كان. وقد اختار أجْملَ مسجد في قسنطينة ليجعل منه أجمل كنيسة في المستعمرة. وهو مسجد صالح باي”.
زرعوا الدّمار وحصدوا الفشل
خلال العقود الأولى للاستعمار، استقوتْ حركاتُ هدْمِ المساجد وتشييد الكنائس وحملات التنصير، ولكن كل ذلك باء بالفشل الذريع، فالقس “بافي”، الذي كان عميد الكلية الكاثوليكية بمدينة “ليون” الفرنسية قبل أن يستلم أسقفية الجزائر، بذل جهودًا جبّارة من أجل “الدعاية للكنيسة بين المسلمين وتنصيرهم عن طريق الصَّدَقات والمُداواة والورشات ونشر اللغة الفرنسية”، ولم يجْن إلاّ الخيبة في المدن الجزائرية، فتوجّه إلى المناطق النائية والمعزولة، وقد “طلب من الحكومة إرسال رجال الجزويت (اليسوعيين) إليه. ويبدو أن الحكومة لم تشجعه على ذلك في أول الأمر، فاعتمد على وسائله الخاصة. وفي سنة 1853 أخذ “بافي” نفسه يهاجم الإسلام ونبيَّ الإسلام. فقال عن القرآن الكريم إنَّه عاجزٌ عن تلبية حاجات الإنسان، واتهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالكذب والاخْتِلاق، وبتقليد المسيح – عليه السلام – وتحريف الإنجيل” (كما قال سعد الله). وأمّا القس والمستشرق الفرنسي “بارجيس”، الذي كان أستاذا للغتين العبرية والكلدانية بكلية اللاّهوت بباريس، وعضوًا في الجمعية الآسيوية لسان حال المستشرقين، فقد كان يخشى من الإسلام على “مستقبل” المسيحية في الجزائر، ولم يكن راضيًا عن كل الهدم الذي طال المساجد، ولم تقنعه عشرات الكنائس التي تمّ تشييدها ومدارس التنصير وغيرها، وفي هذا قال “سعد الله”: “ورغم تقدُّم العمل الكنسي فإنَّ بارجيس، مثل بافي أيضا، كان يخشى على مصيره، فقد انتقدَ موْقفَ الدَّاعين إلى التسامح، وقال أن الفرنسيين إذا بقوا على هذا المنوال الذي دام ثماني عشرة سنة 1830 – 1848 فإنَّ المسيحيين في الجزائر سيختفون ويعتنقون دين النبي (محمد) المزيف، في نظره. كما انتقد القساوسة المائة الذين كانوا بالجزائر ولم يتسرّبوا إلى نفوس أهل البلاد”.
الجزائر أقوى قلاع الإسلام
من المُجدي التنبيه إلى أن الجزائر تعرّضتْ إلى أطول وأخطر وأشرس استعمار استيطاني، ومُورس على شعبها أفظع الجرائم ضد الإنسانية، من الإبادة الجماعية للسكان إلى أشكال التعذيب الأكثر توحّشًا، إضافة إلى المشاريع والبرامج التي استهدفتْ فكْرَ الإنسان الجزائري وروحه وقلبه، ولكن كل ذلك انتهى إلى الفشل الذَّريع، وانتصر الشعب الجزائري في النهاية. وإذا سلّمنا بأنَّ الاستعمار كان بُعده الأول دينيًّا، ثم ارتبط بالصهيونية وتحالف معها، فلماذا سلّطَ الغرب هذا النوع من الاستعمار على الشعب الجزائري تحديدًا، ولم يُسلِّط عليه “نظام” الانتداب أو الحماية الذي يسمح بهامش كبيرٍ من “الحرية” في الإعلام والتعليم والتكوين العسكري..؟ وماذا لم واجه شعبٌ عربيٌ آخر ما واجهه الشعب الجزائري على امتداد قرن وثلث قرن من الزمان، هل كان سيصمد ويُحافظ على هويته وأصالته ودينه ولغته؟ سنترك الإجابة للقارئ، ونكتفي بالتذكير أن الكتابات الأوروبية والأمريكية، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت تؤمن بأنَّ الجزائر هي أقوى قلاع الإسلام وأكثرها حصانةً ومناعةً، والإنسان الجزائري الأصيل يمتلك شخصية متفرّدة ومتميّزة في عناصرها وتكوينها، وليس من باب الفخر والاعتزاز نكتب هذا، فالتاريخ يشهد، ويشهد الحاضر أيضا، لمن كان مُنصفا ويتقنُ قراءةَ “الأيّام”.