المشروع الغربي لكل العصور.. هدْم العربية وتشويه الإسلام (الجزء الخامس)

نَهَج الاستعمار الفرنسي، منذ بداياته، خطةً جعلت الشعبَ الجزائري أمام خيار واحد هو الانسلاخ عن تاريخه وأصالته وانتمائه والذوبان “المُطلق” في الهويّة الفرنسية، أو العيش في كَنف الجهل والأميّة. ولكن الشعب الجزائري نَهجَ الخيار الذي يتوافق مع شخصيته، وهو خيار المقاومة الذي لا يعترف بالمستحيل.

أوهامُ اللغة الحاكمة

قال الدكتور “أحمد بن نعمان” بأنَّ الاستعمار الفرنسي، منذ السنة الأولى لاحتلال الجزائر، عمل على: “جعل الجزائر قطعةً لا تتجزأُ من التراب الفرنسي أرضًا ولغةً وثقافةً ودينًا، وقد انتهج لذلك سياسة الفرْنَسة، وهي إحلال اللغة الفرنسية محلّ اللغة العربية، في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، حتى يُصبح المجتمعُ الجزائري فرنسيَّ اللسانِ والثقافة، وينقطع بذلك عن تاريخه، ويفقد مقوِّمات شخصيته القومية تدريجيًّا، ويذوب في بوتقة الأمة الفرنسية”. فقد جاء في تعليمة مُوجّهة إلى حاكم الجزائر: “إن إيالة الجزائر لن تصبح حقيقة (مملكة فرنسية) إلاّ عندما تُصبح لغتنا هناك قوميةً، والعمل الذي يترتّب علينا إنجازه هو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي إلى أن تقوم مقام اللغة العربية الدارجة حتى الآن”. وجاء في قرار أصدرته الإدارة الاستعمارية سنة 1849 “إنَّ لغتنا هي اللغة الحاكمة، فإنَّ قضاءَنا المدني والعقابي يُصدِرُ أحكامَه على العرب الذين يقفون في ساحته بهذه اللغة. وبهذه اللغة يجب أن تُكتَب جميع العقود، وليس لنا أن نتنازل عن حقوق لغتنا، فإنَّ أهمّ الأمور، التي نعتني بها قبل كل شيء، هو السعي وراء جعل اللغة الفرنسية دارجةً وعامةً بين الجزائريين الذين عقدْنا العزمَ، على استمالتهم إلينا، وإدماجهم فينا وجعلهم فرنسيين”.

لا أميّةَ في الجزائر

اتبع الاستعمار الفرنسي طُرُقًا كثيرةً لجعل الفرنسية هي اللغة “الرسمية” في الجزائر، منها محاربة التعليم الجزائري الذي كان قائمًا، من خلال الهيمنة على المصادر المالية والمادية التي كان يتغذّى منها لتأدية رسالته، لا سيما الهيمنة على أملاك الأوقاف الإسلامية التي كانت تضمن وجود التعليم في كل ربوع الجزائر. وقد كتب الجنرال “فاليري”: “كل الجزائريين تقريبا يعرفون القراءةَ والكتابة، حيث هناك مدرستان في كل قرية”. وجاء في أحد تقارير الجنرال “دوماس”، التي رفعها إلى سلطات بلاده في باريس: “مرّ خلال احتكاكنا بالأهالي أنْ وجدْنا نصف بَنِيهم يعرفون القراءة والكتابة، وأنَّه في كل عرش وفي كل حي هناك مدرسة، إلاّ أنه بعد عشرين سنة من الاحتلال أصبح من الصعب العثور على موظفين يتولّون القضاء”، كما ذكَر بأنه في سنة 1840، كان عدد سكّان مدينة الجزائر 12 ألف ساكن، وبها 24 مدرسة تستقبل أكثر من 600 تلميذ. (هذه تقديراتٌ استعماريَّة كان الهدفُ منها هو إظهار الجزائر وكأنَّها بلادٌ قليلةُ السُّكان. وقد اختلف المُستعمرون أنفسهم في تقدير عدد سكّان الجزائر عموما، بين من قال بأنهم بِضْع مئاتٍ من الآلاف، ومنهم من قال إنهم بضعة ملايين.. وما ذكرناه يندرجُ في سياق الموضوع للاستشهاد وليس للتَّوثيق).

جيلٌ من العلماء.. انقرض أو تبدّد

ومن الطرق الأخرى، إصدارُ الإجراءات التعسفية والقوانين الجائرة لخنق المؤسسات التعليمية مثل: المدارس والمساجد والزوايا.. وفي هذا الشأن، قال المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله” في كتابه “تاريخ الجزائر الثقافي”: ” بين 1830 وذلك التاريخ (1851) انقرضَ جيلٌ كامل من العلماء والطلبة والوكلاء. انقرضوا أو تبدّدوا نتيجة الحروب المتواصلة، وتقطعتْ بهم السُّبل في المنافي والمهاجر، أفرادا وعائلات: ولنذكر من الأفراد ابن العنابي والكبابطي والسكلاوي وحمدان خوجة، والقاضي عبد العزيز، وعائلة المشرفي وعائلة الأمير عبد القادر وعائلة ابن المرابط الخ … وكثير من الأفراد والعائلات لم تهاجر من الوطن وإنما انتقلتْ إلى الأماكن التي لا يسيطر عليها الفرنسيون مثل عائلة ابن الحفاف، وابن رويلة، وأحمد البدوي والشريف الزهار وسيدي علي مبارك. ونحن لا نذكر هنا إلاَّ العائلات والأسماء العلمية التي كان فيها التدريس والمكتبات.. من جهة أخرى عرفنا هدمَ عشرات المساجد أو تحويلها إلى كنائس ومستودعات أو منحها إلى الجيش والجمعيات الدينية الفرنسية، كل ذلك حرم العلم من مقرّاته ومن موارده أيضا، لأنَّ كل بناية كان لها ريعُها ووكيلها ومُدرّسها”.

“جَان الشريف” و”كارولين زهرة”

في مقابل محاربة التعليم الجزائري، منح الاستعمار الفرنسي حرية الانتشار للحركات التنصيرية التي قامت بافتتاح مدارسها، إلى جانب أعمالها الأخرى. ومن أمثلة ذلك، المشروع التنصيري الاستعماري للأسقف “شارل لافيجري” الذي أعلن، منذ قدومه إلى الجزائر، سؤالَه: “كيف تظل فرنسا في الجزائر أربعين سنة دون أن تنجح في تنصير المسلمين!”. وقد لاقى “لافيجري” دعمًا من الكنيسة البابوية ومن قوى أوروبية كثيرة، وتجاوز مشروعُه بناءَ المدارس التنصيرية إلى محاولة تشكيل مُجتمع جزائري مسيحي من الأطفال الأيتام، لا سيما الأطفال الذين فقدوا أهاليهم في المجاعات. ومن أعماله أنه “اشترى أرضًا واسعة في سهل الشلف منذ 1868 بين مليانة وأم السّنام (الأصنام). وأقام عليها مستوطنتيْن عربيتيْن أطلق على إحداهما اسم (سان سيبريان) وعلى الأخرى اسم (سان مونيك). وفي 2 جويلية 1872، احتفل “لافيجري” بأول زواج بين الشباب الذي كوَّنه وعمّده أو غطّسه، كما يقول القدماء. وكان “لافيجري” يحتفظ بالأسماء القديمة لهؤلاء الشباب، ويضيف إليهم أسماء جديدة، وبذلك أصبح فرنسوَا بن عيسى مُتزوجًا من بنيامين حليمة، وجَان الشريف متزوجًا من كارولين زهرة. وحضر الحفل الأول 300 مدعُوًا من المتفرجين من أجل الدعاية وإشاعة الاندماج والمسخ. وكان المتزوجون الجدد يجمعون بين اللباس الأوروبي واللباس العربي”.

نصيحة عمومية إلى أهل الحَضَر والبادية

كما قامت فرنسا بافتتاح بعض المدارس وفقَ شروط معيّنة، ليس من أجل تعليم الجزائريين، ولكن لأهداف أخرى تتعلّق بمشاريعها الاستعمارية الاستيطانية. وقد استعانت ببعض النُّخَب الجزائرية، منهم من قام بتأليف الكتب التعليمية التي تُمجّد اللغة الفرنسية وتُقصي اللغة العربية، مثل كتاب “دروس تطبيقية في اللغة العربية”، الذي طُبعَ في الجزائر سنة 1891، وجاء فيه خطابٌ مُوجّهٌ إلى التلاميذ، يقول: “إن اللغة الفرنسية هي لغتكم الأم، لقد بدأتم في الاستماع إليها منذ وُلِدتم”. ونقرأ في جريدة “المُبشّر” مقالاً كتبه أحد الجزائريين، في 25 جويلية 1867، بعنوان “نصيحة عمومية لأهل الحضر والبادية”، جاء فيه: “وبعدُ، لما كثر من الناس في هذا الزمان يتراخون عن التعليم بخلاً بأنفسهم وكسلا، أردتُ أن نوقظهم بنبذة في فضل العلم وشرفه.. كي يبلغوا ما يُكمّلهم للرتب الإنسانية”، ثم يواصل كاتب المقال مُحدّثًا عن فضل اللغة الفرنسية قائلا: “صارت اللغة الفرنسية وكتابتها في هذه الأعصر وسيلةً لا غنى عنها في العلوم على اختلافها، وسائر الصنائع والفنون.. ولا يتأتّى الإنسان أن يُنكر براعة أهل فرنسا في جميع هذه الفنون، مع صناعة غريبة اخترعتها، فلا يُمكن الوصول إلى ما ذكرها إلاّ باللغة الفرنسية وكتابتها” (المُبشّر هي صحيفة فرنسية ناطقة بلغة عربية ما بين الفصحى والعاميّة).

واش نعملوا في المدرسة؟

من المُجدي تقديم بعض النماذج عن النصوص العربية التي كانت تُقدّم إلى التلاميذ الجزائريين في المدارس الفرنسية، وهي نصوصٌ وُضِعت حسب لهجة كل منطقة جزائرية، وكانت اختيارية، لأنَّ اللغة الرسمية كانت الفرنسية. ومن أمثلة تلك النصوص، نذكر نصًّا عنوانه “واش نعملوا في المدرسة”، ورد في كتاب “الطريق المباشرة لتعليم العربية” من تأليف المُدرّس “ج. دو سبارمي”، نُشر سنة 1907، جاء في النص: “في المدرسة نتعلموا نَقْراوا ونكتبوا ونحسبوا ونصَوْروا ونْغَنِّيوْ، الشيخ يدبّر علينا واحْنا نصّنتوا ليه، الشيخ يسقصي فينا واحنا نجاوبوا، الشيخ يعطي لنا خدمة واحنا نخدموا. الشيخ إذا يعلّي صوتوا واش تعملوا؟ نسكتوا. وإذا الشيخ يعايركم، تستحِيوْ، وإذا الشيخ يعاقبكم، تبكيوْ، وإذا الشيخ يشكركم، تفرحوا، الشيخ يورّي الحاجات والتصاور، والتلاميذ يشوفوا، الشيخ يفسر لهم الكلمات والتلاميذ يفهموا، الشيخ يحكي لهم الحكايات، والتلاميذ يضحكوا”.

جحا وعزْرَيْن

وفي كتاب “مدرسي” آخر، نقرأ نصَّ “جحا وعزرين (عزرائيل)”، جاء فيه: “جحا حفر قبرًا في المقبرة، وساعة ساعة كان يجي يُوقف عليه، قالوا له الناس: أَجْحا هذا القبر لاش؟ قال لهم بْغِيتْ نديرها بعزرين باش ما يساولي شي، وما يْسُوطْني بشي برزمتو. قالوا له: كيفاش؟ قال لهم: نهار اللي نموت ويجي يحوّس عليا ما يصيبني شي. قالوا له: كيفاش ما يجبرك شي؟ واجبهم: على خاطر كيشوف القبر قديم، يقول: مولاه مات ذاك الزمان وساولته وعذبته. ذيك الساعة يْقِيلْني وأنا نسلك منه. قالوا له: هذي حيلة! الله يزيدك في قلة العقل والهبال”.

عربيةٌ من اليسار إلى اليمين

مُحاربة اللغة العربية، في سياق الحرب على الإسلام، بتغليب اللهجات العامية، وصلت إلى حدّ وضع قواعد “نحوية” لتلك اللهجات، وكتابتها بالأحْرف اللاتينية من اليسار إلى اليمين. إضافة إلى حملات التشويه ونشر الأفكار الهدّامة بأنَّ العربية صارت لغةً ميّتةً لا تصلح للعلوم والمعارف. وقد رافق مشاريع هدم اللغة العربية في الجزائر، مشاريعٌ أخرى منها محاولات نشر التنصير الذي لا يعني إدخال الجزائريين في المسيحية بل يعني، بالدرجة الأولى، إخراجهم من الدين الإسلامي. ومن المشاريع أيضا ظهور “الفقه الاستشراقي” الذي أنتج تفاسير للقرآن الكريم بما يخدم الغايات الاستعمارية، وكُتبا كثيرةٌ في علوم الدين الإسلامي.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
في دهاليز سلطة محكومة بقبضة الدم والفساد.. عين الكاميرا تطارد نتنياهو عزلة جوية وهزائم متتالية في الميدان.. "إسرائيل" تخسر السماء والأرض "مكسب تاريخي لا رجعة فيه".. الشعب الصحراوي يدشّن مرحلة جديدة في نضاله ضمن مقاربة تحديث أنظمة الدفع الالكتروني.. إلى أين وصلت الجزائر في مسار التحوّل الرقمي؟ صاحب مقولة: "ميهمّش خليهم يضربوا".. وداعا يا أيقونة الشجاعة والثبات الفلسطيني قوجيل: "نعتز بصوت الحق الذي يصدح به دبلوماسيونا" عطاف: الجزائر تسعى إلى إقامة شراكة متوازنة مع الاتحاد الأوروبي تبون يتسلّم أوراق اعتماد 4 سفراء جدد لدى الجزائر ملف الفساد بمطار قسنطينة.. الوزيرين الأسبقين بدوي وبوضياف أمام المحكمة العليا 56 شهيدا بالقطاع.. حزب الله يشن "أكبر هجوم" صاروخي على حيفا وباء الملاريا والدفتيريا.. إرسال كميات معتبرة من اللقاحات إلى الولايات الجنوبية “سوناطراك” تشارك في منتدى سانت بطرسبرغ الدولي للغاز منطقة اللبونة جنوب لبنان.. اشتباكات عنيفة بين مقاتلي حزب الله وقوة صهيونية مجمع “إيفيكو” الإيطالي يعرض مشروعا لتصنيع السيارات النفعية بالجزائر تعاون جزائري إيطالي في مجال البحوث والحفريات الأثرية محروقات.. توقيع مذكرة تفاهم بين وكالة النفط وشركة قطرية تعليم عالي.. فتح الترشيحات لنيل درجة أستاذ استشفائي مميز وأستاذ مميز غارات "إسرائيلية" جديدة على ضاحية بيروت الجنوبية الأغواط.. حجز أزيد من 5 قناطر لحوم مجمدة منتهية الصلاحية مخيمي البريج والنصيرات.. 25 شهيدا في قصف الاحتلال الصهيوني وسط غزة