أتاحتْ شبكاتُ التواصل الاجتماعي وعوالم الإنترنت للأفكار الهدّامة، التي تستهدف القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية، أن تنتشر بين عموم الناس الذين لا يمتلكون خلفِيات مَعرفيَّةٍ، وغالبًا ما ينساقون، تحت طائلة الانفعال والاستفزاز، إلى مساحات الجدل والنقاش التي تُروّج لتلك الأفكار بشكل أكبر، وتخلق بيئة الشكّ والاضطراب الفكري حول الإسلام واللغة..
أفكارٌ استشراقيَّةٌ هدّامةٌ.. تتَجدَّد
ما يُطرح من أفكار هدّامة في الإنترنت من طرف شخصيات عربية، تُحسب على مجالات الإعلام والكتابة والتأليف، ليست جديدةً بل لها جذورها التاريخية وارتباطاتها بالمشاريع الصهيونية والاستشراقيَّة والاستعمارية. وقد تناولت “الأيام نيوز” في موضوع سابق جانبًا من تاريخ قضية “تشويه” القرآن الكريم من طرف المُستشرقين، وفي هذا الموضوع ستتناول قضية التشكيك في السنة النبوية والطعن في بعض الصحابة الكرام، من خلال “دائرة المعارف الإسلامية”، والغاية هي التأكيد على أنَّ الحملات التي تستهدف السنَّةَ النبويَّةَ من طرف بعض الكتّاب والإعلاميين العرب، ترتكزُ على أعمال المستشرقين في تلك الدائرة.
دائرةُ مَعارفٍ إسلاميةٍ بأقلام غرْبية
قد يُفَهم من تسمية “دائرة المعارف الإسلامية” بأنها موسوعةٌ بلغة عربية من تأليف علماء مُسلمين، ولكن الواقع، كما تقول الباحثة الجزائرية “خليصة مزوز”: “تُعدُّ دائرة المعارف الإسلامية من أكبر الدراسات الاستشراقية عن الإسلام، وهي تُمثّل خلاصة الجهود الاستشراقية خلال القرون الميلادية الثلاثة الأخيرة”، وقد صدرت باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، بدأ تألفيها سنة 1903، وظهرت طبعتها الأولى سنة 1913، غير أن طبعتها المُترجمة إلى العربية ظهرت سنة 1933، ثم توالتْ طبعاتُها المُنقّحة وكذلك طبعاتها العربية. غير أنَّ البدايات الأولى لدائرة المعارف تعود إلى سنة 1745، وهي امتدادٌ للأنسكلوبيديا الفرنسية التي سعَتْ لأنْ تكون مَعجمًا شاملاً للمعارف الإنسانية، كما رأى “صلاح الدين المنجد”، في مجلة الرسالة في الرابع أكتوبر 1943، حول “قصة دائرة المعارف الإسلامية”.
لكلِّ ديانةٍ دائرةُ معارفِها
في بريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول كثيرة، اضطلع علماءُ وكُتّابُ كل دولةٍ بتأليف دائرة معارفها، إلاّ الأمة العربية الإسلامية فقد أضطلع المستشرقون بهذه المُهمّة، وفي هذا الشأن نَشَر المُفكّر “عبد الحليم عويس” (1943 – 2011)، الذي كتب عن “دولة بني حمّاد في الجزائر”، في مجلة “عالم الكتب” سنة 1984، قائلا: “لقد كتَبَ اليهود دائرةَ معارفٍ خاصة بهم، ويقرأها الجميع على أنَّها ترجمةُ الفكرِ اليهودي بأقلام يهودية. ولقد كتب النَّصارى دوائر معارف وليس دائرة واحدة، بأقلامهم.. بل إنَّ كل شعب من شعوب أوروبا له دائرة معارفه المكتوبة بأقلام أبنائه، فهناك دائرة المعارف البريطانية والفرنسية والألمانية وهكذا.. بيْد أننا نحن المُسلمون – وحْدنا – الذين كتب لنا دائرة معارفنا غيرُنا، وهذه قضيةٌ خطيرة تعكس، بجلاء، تخلّفنا الحضاري الخطير، وتُصوِّر مدى إهمالنا لكثير من القضايا الأساسية التي تتعلّق بحاضرنا ومُستقبلنا”.
بعيدًا عن “المُبارِكين”
بعيدا عن الذين “باركوا” دائرة المعارف الإسلامية منذ ظهورها أوّلَ مرة إلى غاية ظهور كتاب “موجز دائرة المعارف الإسلامية” باللغة العربية الذي جاء في مقدمته: “وتعتبر دائرة المعارف الإسلامية ذخيرةً حقيقية للمعارف الإسلامية تحتوي على أكثر من تسع آلاف مادة مُرتَّبة ترتيبًا أبجديًا، تتراوح في الطُّول ما بين خمسين الى خمسين أَلف كلمة للمادة الواحدة حسب أهميتها في سياق الحضارة الإسلامية، وتُمثِّل هذه المواد، في مجموعها، تغطية شاملة لكل جوانب الحضارة الإسلامية، بدءًا من أصول الدين الحنيف، ومرورًا بالأدب الإسلامي ،وتراجم حياة الشخصيات الإسلامية الكبرى، كما كتبها أشهر المستشرقين في القرن العشرين”.
قريبًا من السّاخِطين
قريبا من الذين استنكروا هذه الدائرة وحذّروا من أخطارها، مثل مجلة “المنار”، التي كتبتْ سنة 1934 مقالات بعنوان “دائرة المعارف الإسلامية ومفاسدها”، جاء فيه: “اسمٌ مُخادعٌ كَسُورٍ له بابٌ، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَله العذاب. هو معجمٌ لفّقَه علماءُ الإفرنج المُستشرقين لخدمة ملّتهم ودُوَلهم المُستعمِرة لبلاد المُسلمين، يهدم بها معاقل الإسلام وحصونه، بعد أن عجز عن ذلك دعاةُ دينهم، بالطَّعْن الصَّريح على كتاب الله العزيز ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلّم، وبعد أن عجز عن ذلك من حرّفوا القرآن منهم بترجماته الباطلة، والذين شوّهوا تاريخ الإسلام بمفترياتهم”.
قالوا.. الحديث والسنّة شيءٌ واحدٌ
بعيدا عن أولئك، وقريبا من هؤلاء، فقد نشر كثيرٌ من الباحثين الجزائريين دراسات علمية تناولت الدّور الهدّام للمستشرقين، لا سيما في دائرة المعارف الإسلامية، وركّزوا بشكل كبير على تشويه القرآن والتشكيك في السنة النبوية والطعن في الصحابة الكرام. فقد جاء في الدائرة فصلٌ بين السنة النبوية والحديث الشريف، فقد قال المستشرق “بيرل”: “إنَّ المُحدّثين يرون أن الحديث والسنّة شيءٌ واحدٌ”، ومن تعريفاتها، ما قاله المُستشرق “غولد زيهر”: “السُّنة: هي جوهر العبادات، وتفكير الأمة الإسلامية قديمًا، فهي العادات المُقدّسة والأمر الأوّل”، ويقول في موضع آخر: “فكرة السنّة يُمكن إدراجها بين الظواهر التي سمّاها سبنسر بـ (العواطف القائمة مقام غيرها)”، ويُضيف قائلا: “وقد نقلَ العربُ فكرةَ السنّة إلى الإسلام، الذين أوْهموهم بمخالفة سنّتهم القديمة”. ومن الصحابة الذين ركّزت “دائرة المعارف الإسلامية” على إثارة الشبهات حولهم، نال الصحابي الجليل “أبو هريرة” النصيب الأوفر.
المُستشرقون.. فقهاءٌ في الإسلام
كما تناولت “دائرة المعارف الإسلامية” مسألة إجلاء اليهود عن المدينة المُنوّرة بكثير من التحريف والتزييف لتصويرهم في موقع الضحيّة، وتحميل المسؤولية إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم. إضافة إلى مسائل كثيرة تتعلّق بكتب الحديث، لا سيما صحيح البخاري، وإثارة الجدل حول علاقة كثير من الأحاديث بالشؤون السياسية في عصور متقدّمة. ويُمكن إجمال القول بأن المُستشرقين تحوّلوا إلى فقهاء وعلماء في الدين الإسلامي. وقد أوْجز الكاتب “مصطفى السباعي” الأهداف “العلمية” للمستشرقين في دائرتهم من خلال النقاط التالية:
– التشكيك بصِحِّة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلّم
– إنكارُهم أنْ يكون الإسلام دينًا من عند الله
– التشكيكُ في صحة الحديث النبوي الشريف
– التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي
– التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي
أهدافٌ هدّامةٌ للعقل العربي
إضافة إلى تلك الأهداف، ذكر “السباعي” مجموعة أخرى من الأهداف ذات الطابع الديني والسياسي، ولها أبعاد تدميريَّة هدّامة، من قبيل: تشكيك المُسلمين بقيمة تراثهم الحضاري، وأنَّ الحضارةَ الإسلامية منقولةٌ عن الحضارة الرومانية. وإضعاف روح الإخاء بين المُسلمين وتعميق الهوّة وترسيخ الشقاق والفُرقة بينهم، وإحداث قطيعة بين العربي ولغته والمُسلم ودينه، ونشْر فكر التشكيك في الأمة العربية. ولعل هذا ما نراه بدأ يتجلّى في عوالم الإنترنت، من خلال تبنّي الأفكار الهدّمة لدائرة المعارف الإسلامية من طرف بعض الكُتّاب والإعلاميين العرب.
الجزائر في “موجز دائرة المعارف الإسلامية”
لن نُغادر تلك “الدائرة” قبل أن نَسُوق بعض ما جاء فيها عن الجزائر، فهي تعتبر الفتح الإسلامي للأندلس استعمارًا، وفي المقابل ترى الاحتلال الفرنسي للجزائر فتْحًا، فقد جاء في “موجز دائرة المعارف الإسلامية”: “وكان فتح الجزائر والقضاء على الدولة التركية من عمل فرنسا”، كما جاء فيها “وتبلغ مساحته 2191464 كيلو مترًا مربعًا”، أيْ مَنْقوصٍ من المساحة ما يُعادل مساحةَ دولةِ “الحاكم” الذي أشْرف على ترجمة وطباعة هذا الدائرة الموجزة. وفي موْضعٍ آخر، نجد أن المساحة هي “919595 ميلاً مربعًا” وإشارة في الهامش تقول: “وفي 1967 أعلنت الجزائرُ الحربَ على “إسرائيل”، وقطعت العلاقات مع الولايات المتحدة ووثقت علاقاتها بالاتحاد السوفيتي”.
افتراءٌ على الأمير “عبد القادر”
وفي موضعٍ آخر من “موجز دائرة المعارف الإسلامية” نجد كلامًا عن الأمير عبد القادر يقول: “يؤمن المُتطرِّفون بأنَّ عبد القادر هو سيِّدُ الخَلْق مطلقًا.. أما المعتدلون فيقولون كان كذلك أثناء حياته فقط، ومن هؤلاء ابن العربي الذي ينظر إليه كمثال للخليفة الذي أظهر نفسه ومارس سلطاته العليا.. ومثل هذا الخليفة في نظر ابن العربي لا يخضع للوحي المُنزّل على محمد صلى اللَّه عليه وسلم، ولكن هناك نظرية تقول إن عبد القادر يمارس تصاريفه في قبره كما كان يمارسها في حياته”. ولا ينسى المُترجمون العرب الذين اعدّوا هذا “الموجز” الإشارةَ بأنهم عدّلوا في المادة الأصلية وهذّبوها قليلا، كما أشاروا إلى أنَّ هذا الأمر “.. يبدو أنَّه مجرد أسطورة”، فهو يبدو فقط وليس أسطورةً وتلفيقًا لا يقبل الجدال.
دعوة إلى “دائرة معارف جزائرية”
لو تعمّقنا في “دائرة المعارف الإسلامية” الأصلية والمُوجزة، على حدّ السّواء، سنجدها مُشبَعة بمثل هذه الأكاذيب والافتراءات والتزييف للحقائق التاريخية والجغرافية، وقد اكتفينا بإضاءة القليل منها ليس من أجل فضْحها والتحذير منها، ولكن للتساؤل حول الباحثين العرب الذين يعتمدونها مصدرًا لأبحاثهم ودراساتهم، وأيضا للتساؤل عن أهميّة وجدوى أن يقوم العلماء العرب والمُسلمون بإنجاز “دائرة معارف إسلامية” بأقلامهم؟ كما ندعو أن تتجنّد الأقلام الوطنية إلى إنجاز “دائرة معارف جزائرية” بلغات مُتعدّدة وتقوم بنشرها ورقيًّا وإلكترونيًّا.