انبهر المفكّر المصري “أنور الجندي” بسحر الطبيعة في ولاية “بجاية”، فكتب مقالاً يؤرّخ فيه لرحلته في “الجنّة” الأرضية، وهو في حالة نشوى إيمانيّة عميقة وصلت به إلى القول بأنَّ آيةً قرآنيةً (الرعد: الآية 17) وجدت تفسيرها في منظر باهرٍ جمع بين البحر والجبل والوادي والغابات في جوٍّ مطير. كانت تلك الرحلة بمناسبة الملتقى الثامن للفكر الإسلامي الذي انعقد في “بجاية” من 25 مارس إلى 5 أفريل 1974.
“أنور الجندي” (1917 – 2002) كاتب وأديب موسوعي ومفكّر إسلاميٌّ رصين، قدّم للمكتبة العربية والإسلامية أكثر من ثلاثمائة كتاب في الأدب والتاريخ والتراجم والفكر الإسلامي.. ولعلّ أبرز مُؤلّفاته هي “الموسوعة الإسلامية العربية” التي تجاوزت العشرة أجزاء. وقد شارك في ملتقى “بجاية” بمحاضرة عنوانها “تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الاسلام المعاصر” ستنشرها جريدة “الأيام نيوز” في أعدادها القادمة. لنترك القارئ مع مقال المفكّر “أنور الجندي” الذي نشرته مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1976.
الوزير يُحاضر في الحافلة
ولقد حدَّثنا الوزير “مولود قاسم” عن ثورة “الشيخ الحداد”: هذه الثورة التي استمرَّت إلى عام 1910، وكان “الشيخ الحداد” في الثمانين من عمره وقد جاء إليه “محمد المقراني” الذي قاد الثورة المسلحة ووجد في الشيخ سنده الروحي حيث كان “الحداد”، شيخ الطريقة الصوفية الرحمانية، مقيما في زاويته، قال “المقراني”: جئناك لنعلن الجهاد على فرنسا. قال “الحداد”: إنّ الأمر يتطلَّب إعدادًا واستعدادا. قال “المقراني”: بل في الحين. فوافق الشيخ على مضض، وقال: دعوتك هذه مشؤومة، ولكن سنقوم بها.
وقد كان “المقراني” يظنّ الشيخ “الحداد” من أولياء النِّعمة والمَطمع على النحو الذي عُرف عن بعض رجال الطُّرق، غير أنّه لمّا أزاح الشيخُ الغطاءَ عن الطعام الذي قُدِّم له، لم يكن فيه غير زيت وجبن وشِقّة خبز، وكان هذا كل ما يأكله “الحداد”، هناك تبيَّن “المقراني” أنّ “الحداد” ليس رجل دنيا. واندلعت الثورة وأعلن الجهاد (8 أفريل 1871)، ولمّا قُدِّم للمحاكمة صدر الحكم عليه بالسجن خمس سنوات، فقال: أنتم حكمتم عليّ بخمس سنين وأنا حكمتُ على نفسي بخمسة أيام، ثم مات بعد الأيام الخمسة، ودُفن في قسنطينة بجوار الإمام “عبد الحميد بن باديس” (ربّما الأصحّ القول: الإمام ابن باديس دُفن بجوار الشيخ الحداد، للسبق الزمني).
غاية القول في سقوط الحضارات
ولقد أشار الوزير “مولود قاسم”، بعد أن استعرضَت ندوته في الحافلة، تاريخ “بجاية” وسبب سقوط دولتها، إلى مضمون هامٍّ هو غاية القول في سقوط الحضارات، قال: لقد ذكر ابن خلدون بكل وضوح الأسباب التي مهَّدت لانهيار دولة بني حماد، وهي الأسباب نفسها التي وقعَت بالنسبة لدولة المرابطين وبقايا الزيريين في تونس ونفس أسباب سقوط الموحدين، وهي نفس الأسباب التي قضت على الدولة الفاطمية والعباسية، وبابل وأشور وقرطاجة وأثينا..
تأنَّث الرجال واسترجلت الأميرات وكان ما كان
هذه الأسباب هي الانحلال الذي يعقبه الاحتلال مستشريا، وكيف كان النساء يتصرفن في شؤون الدولة وكان الرجال قد تخنّثوا، يخرجون إلى الصيد، ويستمعون للموسيقى غناءً وحِداء بشعره وخده وما شابه ذلك. هذا هو الوضع الذي كانت فيه دولة الحمّاديين، وهذا هو الوضع الذي كان عليه الموحِّدون بعدهم.
هكذا انقلبت الأوضاع وانعكست، وهذا يؤدّي إلى النتيجة المحتومة، لقد تأنَّث الرجال واسترجلت الأميرات وكان ما كان، وإن كان ليس من الضروري أن يعيد التاريخ نفسه تماما، فعلينا أن نستفيد من ماضينا وماضي الأمم، وإن كانت قد بُنيت قبل أن تلهو، فإنّ خراب بنائها يعقب اللهو مباشرة.
مولود قاسم.. وزير الإسلام
وبمثل هذه المناقشات الجادة المُثرية، مضَت ساعات طويلة بين: بجاية ووادي الصومام مرّة، وبين: بجاية وقلعة بني حماد مرة أخرى، واتّصل هذا بالنقطة الثالثة من مواد الملتقى الإسلامي الثامن التي ركَّزت على دور بجاية الحمادية في الفكر والحضارة الإسلاميين والعالميين وأسباب وآثار انحطاطهما. وتلك سنة طيبة استنّها وزير الإسلام في مختلف المؤتمرات، وهو التركيز فى نقطة هامة من النقط على ولاية من ولايات الجزائر، ومن قبل تناولت الأبحاث: قسنطينة، تيزي وزو، وهران، وفي العام القادم تتركّز الأبحاث على “تلمسان”، ومن خلال هذا يُثرى البحث العلمي تاريخ الجزائر كله بهذه الدراسات المكثفة. وقد وُزِّع علينا هذا الكتاب التاريخي المصور الأنيق عن “بجاية” الذي أثار الانتباه حتى سألني زميلي الصحفي الأستاذ “صبري أبو المجد” عمّا إذا كان لدينا في القاهرة متخصِّصون على هذا النحو!
ولقد كانت هذه هي زيارتي الأولى إلى الجزائر، بعد أن عشت معها بالعلم والقلم والقلب سنوات الكفاح الطويلة وسنوات الثورة الظافرة.
رحلةَ الفكر وعبرة التاريخ وصورة الحاضر
ولا ريب كانت دعوتي لزيارة الجزائر مصدر فرحة روحية كبرى، وكنت عشتُ هذه الملتقيات الإسلامية من قبل بالروح والفكر، فقد أتيح لي أن أطالع ما نُشر من مناقشات ومحاضرات، وعرفتُ كيف تُقدّم إلى الفكر الإسلامي إضافات ذات بال ستكون بعيدة الأثر في دراساته ومفاهيمه.
وقد كان قلبي يخفق وأنا في الطائرة إلى الجزائر بحب عددٍ من الأعلام الذين عرفتهم وأحببتهم وتعلمتُ عنهم من أمثال: الإمام عبد الحميد بن باديس، الشيخ البشير الإبراهيمي، مالك بن نبي، الفضيل الورتلاني، وكنت قد درست الحياةَ الثقافية في المغرب العربي كله (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب) حينما ألَّفتُ كتابي “الفكر والثقافة المعاصرة فى شمال إفريقيا” منذ بضعة عشر سنة، ودرست جهاد جمعية العلماء وفي مقدمة رجالها: ابن باديس، الإبراهيمي، المدني، الميلي، التبسي، وغيرهم من الروّاد..
نعم، لقد وصلنا إلى الجزائر ومنها قصدنا إلى بجاية، ومن خلال رحلة الطائرة كان البحر الأبيض مصاحبًا لنا في نتوئه وشواطئه وجباله على نحو يُسعد النفس ويملأ القلب فرحة لامتداد ذلك الشاطئ الإسلامي حيث يلتقي الجبل بالبحر والسهل بالصخر، وحيث الجبال العالية مكسوّة بالخضرة الدائمة والأشجار الباسقة.
لقد عشت في هذه الأيام رحلةَ الفكر وعبرة التاريخ وصورة الحاضر، ووجدنا الجزائر تبني حياتها من جديد في نشاط وعزيمة قوية، وتتحرّك نحو النهضة والتقدّم في إطار مفهوم الاسلام الصحيح، وقد تعالت صيحة اللغة العربية فبدت على كل لسان.
موسيقى ليلية.. “هدير البحر”
وأعطانا فندق “الحماديين” في بجاية، حيث نزلنا، صورة التجدُّد والمحافظة في إطار واحد، فهو مبني على صورة القلاع التاريخية الإسلامية، وفي داخله تجد النموذج الجزائري الإسلامي القديم: وبالرغم من التقدّم العصري في كل مجال البناء والهندسة والخدمة، أجد أمامي هذه “الغازة” الجميلة المُصمَّمة على الطراز الجزائري القديم، وتحت المادة وعاء من الحوض وهناك الطاقة القديمة والخزنة الخشبية، ولقد أمضيت ليلتي أمس أستمع إلى هدير البحر واصطخاب موجاته وهو يضرب في جدار الفندق الضخم.
أعلام من شرق الأرض وغربها في بجاية
ومن خلال هذا الملتقى، تعرَّفنا على العشرات من الأعلام من شرق الأرض وغربها، نماذج متعددة من اليابان واليمن والهند وإيران ومن إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، كلهم جاءوا يتحدَّثون عن الإسلام ويشاركون في البحث عن حضارته وفكره، ويدلون بدلائلهم من حول الأصالة والمعاصرة.
الانضباط والصّرامة في ملتقى الفكر الإسلامي
ومجال الحوار مفتوح، فما تنتهي محاضرة باحثٍ فيهم حتى يُفتح باب التعليق والتعقيب، فتُضاء كل المصابيح وتتكشّف كل الحقائق، وهناك رجال فى الجزائر يقظون حذرون لا يتركون خطأ أو انحرافا دون أن ينهوا عنه، وأذكر فى مقدمتهم: الشاذلي مكي، أحمد حماني، رشيد بن عيسى، هؤلاء ركائز من النواحي التاريخية والفقهية والدراسات الحديثة، أمَّا الوزير فإنّه يقظٌ لا تفوته كلمة ولا يتجاوز عن الحق مُتحدِّثٌ أمامه، بيده الضوابط التي تكفل حماية البحث من الانحراف، وردّه إلى الأصالة إذا أعوزه الأمر.
ولقد تحدَّث المتحدثون عن حضارة “بجاية”، وقالوا كلّ ما عندهم عن علوّها وسقوطها. ولكنهم غفلوا عن حقيقة أساسية، فلم يلبث إلّا أن تقدّم إلى المنبر – الوزير مولود قاسم – بعد أن انتهوا ليكشف هذه الحقيقة، ويصحح الموقف ويضعه في الإطار الصحيح.
لقد كانت رحلة الملتقى الإسلامي الثامن بعيدة الغور فى آماد التاريخ وفي أعماق الفكر وفي آفاق البحث جميعا، وكانت ثروة ضخمة للمفكر والباحث والمؤرخ والصحفي من خلال اثني عشر يوما من العمل الدّائب والنّظر المتّصل على نحو لم نشهده في كثير من مؤتمرات البحث أو ندوات الدرس…
قصيدة للشاعر مفدي زكرياء..
ملحمة تاريخية عن بجاية
“أمجادنا تتكلّم: ملحمة تاريخية عن بجاية”، قصيدةٌ ألقاها الشاعر مُفدي زكرياء في الملتقى الثامن للفكر الإسلامي الذي انعقد في بجاية من 1 – 12 ربيع الأول 1394 هـ – 25 مارس إلى 5 أفريل 1974. وهي تجمع بين جمال الطبيعة وجلال التاريخ، وتتضمّن إشارات وأسماء إلى أعلام وعلماء ومناطق وأحداث.. في بجاية.
(بجاية) المجد، ونبع الجمال — ومنتدى الفكر، ومهد الجلال
(يا ابن علناس) صنعت البقا — وغصت في الآباد، فوق الخيال
قالوا: بناها الروم.. هبهم بنوا — والروم لا تبني سوى للزوال
أنت الذي شيَّدت ما لم يزل — يطاول الدنيا، ويغزو المحال
لولا (بوليمات) وما أرجفوا.. — عن (التواتي) شدت صرح الكمال
قم (یا ابن حمديس) وساجل بها — شعري، فإني مغرم بالسِّجال
أنت الذي صوَّرت ألواحها — بريشة من كبرياء الجمال
وصفت من إلهامها قصة — تسمو بذكرى عظماء الرجال
واهتزت الدنيا لإليــاذتي — فلم أدع للاّحقين المجال
ویا (ابن خلدون) ألست الذي — جمعت فيها بالجنوب الشمال
(بسكرة) مدت (لسرتا) یدا — فباركت (بجاية) الاتصال
شروحات لما بين قوسين
ابن علناس: الناصر بن علناس الحمادي الملك الذي أسس مدينة بجاية سنة 460 هجرية. وكانت تسمّى آنذاك بالناصرية. وكان قد فكّر حماد في تعزيز حصن آشير بحصن آخر فكان قلعة بني حماد، وذلك عند ما غلبه زيري بن عطية المغراوي سنة 350. وزيري هذا من بقايا ملوك مغراوة الذي غلبهم بلغين.
بوليمات: الجزيرة الصغيرة الساحرة التي تقع على مسافة ثلاثمائة مترا من البحر. التواتي: فقيه مشهور بالعرافة، وتقول الأسطورة أن الناصر بن علناس قد التجأ إليها (بوليمات) في أواخر أيامه وما فيها، كما تنبأ بذلك سيدي التواتي.
ابن حمديس: الشاعر الفحل عبد الجبار بن حمديس الصقلي شاعر بلاط الملك المنصور بن الناصر بن علناس.
إلياذتي: إلياذة الجزائر التي تقع في ألف بيت وبيت.
ابن خلدون: المؤرخ الجزائري المشهور كان أولاه أبو عبد الله محمد الحفصي حجابته وهو أرقى منصب آنذاك.
ركز ابن خلدون في أيام ازدهاره ببجاية صلة وثيقة بما يسمّى “مثلث الحواضر”: بسكرة وقسنطينة وبجاية. ولعب في تدعيم هذه الوحدة دورا هاما. وحياة ابن خلدون سواء في بجاية أو في غيرها مليئة بالمغامرات، وفى آخر المطاف سئمت نفسه أخطار المغامرة ومال إلى الدرس، مُعرضًا عن الوظيف والسياسة.