ادّعى أحد المحللين العسكريين أن جنود الاحتلال الصهيوني “قتلوا دبّاباتهم” قبل أن تصطادها حماس، في إشارة منه إلى أن الأجواء في قطاع غزة “غير مناسبة” لمعارك الدبابات، بسبب وجود “شوارع وأزقة ذات مبان إسمنتية وارتفاعات عالية” والتي لم يعتد (جيش) الاحتلال القتال فيها خلال حروبه السابقة. لكن هذا الادعاء يشكّل نصف الحقيقة فقط، على اعتبار أن الاحتلال ـ حتى هذه اللحظة ـ لا يزال يقاتل من أجل دباباته وليس باستخدام دبابته التي باتت في دائرة “اصطياد البط”؛ المصطلح الذي ابتدعه “أبو عبيدة” الناطق الرسمي باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
يتفق الجميع على أن الاحتلال الصهيوني ـ المندفع بجنون وتهور ـ يستمر في تخبطه بحثا عن نتائج ملموسة تتحقق على الأرض ردا على الهزيمة التي مُني بها في موقعة “طوفان الأقصى”، غير أن هذا الاندفاع أوقعه في ورطة كبيرة، فلا هو قادر على أن يتقدم ولا هو يقبل بالانسحاب الذي يعني الهزيمة، ولهذا بات يدمر المباني والمنشآت وكل شي له ارتفاع على وجه الأرض ليجعل الأجواء مناسبة لوصول دبّاباته.
لكن (جيش) الاحتلال خلال تنفيذ هذه الخطة الهمجية تسبب في استشهاد الآلاف من المدنيين ما جعله تحت ضغط دولي كبير، إذ بدا أنه مجرد (جيش) يتصرف مثل العصابات الإرهابية، بل وأسوأ منها، وقدراته تكمن في قتل الأطفال والنساء والمرضى. لكن، حين يتعلق الأمر بمواجهة رجال المقاومة فإن هذا الـ(جيش) سرعان ما يصاب بالذعر ويفر من المعركة.
حسم الحروب لا يحقق بالقتل والتدمير..
بعد نحو شهرين ونصف الشهر، لا يزال الكيان الصهيوني يتخبط إعلاميا وسياسيا وميدانيا في قطاع غزة بين جنوبه وشماله، وتتلقى قواته خسائر فادحة، ما جعلها تعوض شعورها بالهزيمة الإستراتيجية في موقعة “طوفان الأقصى” من خلال استهداف سكان غزة، حيث استشهد هناك أكثر من 19 ألف مدني جراء الوحشية الصهيونية غير مسبوقة، لكن الحروب وفق المفاهيم العسكرية لا تحسم بالقتل والتدمير فقط.
وتشير صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقرير لها إلى أن “الخسائر الصهيونية الأخيرة في ساحة المعركة بقطاع غزة تُظهر أن الهدف الشامل لـ(جيش) الاحتلال لا يزال بعيد المنال”، ورأت الصحيفة أن ارتفاع عدد القتلى الصهاينة في النطاق الحضري والبري في غزة حتى في شمال القطاع “يشير إلى تحوّل في تكتيكات الحرب العسكرية”.
الصحيفة نقلت عن المسؤول السابق في الموساد، شالوم بن حنان، قوله إنه “في الأوساط العسكرية والأمنية بدأ البعض يشكك في الإستراتيجية” المتبعة في العدوان. ومن جهتها، تشير صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في تقرير لها إلى أن المعارك لا تنتهي في شمال غزة، كما أن مدينة رفح ودير البلح والتفاح والنصيرات والبريج لم يصلها الـ(جيش) الصهيوني بعد، “وكل ذلك يدفع إلى الاستنتاج بأن نهاية الحرب بعيدة بنحو شهور كثيرة، وأن كل إعلان عن قرب الحسم ضد حماس، وبالتأكيد تدميرها، هو إعلان منفصل عن الواقع ووهم”.
نزيف دبابات.. !
منذ بدء التوغل الصهيوني في قطاع غزة يوم 27 أكتوبر الماضي، دأبت حركة حماس على إعلان إصابة وتدمير عشرات الآليات الصهيونية في فترات قصيرة. ومن أحدث هذه الإعلانات، مقاطع فيديو نشرتها كتائب القسام، يوم الإثنين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر استهدافها لآليات وعسكريين صهاينة، وسحب آليات معطوبة في شوارع مدينة غزة، ومنها دبابة “ميركافا” تلك التي قيل عنها إنها فخر الصناعة العسكرية الصهيونية.
ويوم الجمعة 15 ديسمبر الجاري، أعلن المتحدث باسم كتائب القسام أن عناصر المقاومة استهدفوا 100 آلية صهيونية في الأيام الخمسة الأخيرة. وفي الجمعة 8 ديسمبر، أكد المتحدث ذاته تدمير 135 آلية كليا أو جزئيا خلال 72 ساعة بجميع محاور القتال في قطاع غزة.
الخبير العسكري اللواء ماجد القيسي، مدير برنامج الأمن والدفاع بمركز صنع السياسات الدولية، أرجع ما وصفه بـ”نزيف الدبابات” إلى الأجواء البيئة البرية غير المناسبة في غزة لمعارك الدبابات، والتي لم يعتد الـ(جيش) الصهيوني على القتال فيها خلال حروبه السابقة، موضحا لموقع “سكاي نيوز عربية” الآتي:
قال الخبير إن المدرعات تحتاج مساحة للمناورة، وساحة رمي، وإلى رصد، لأنها مهيأة لإحداث فعل الصدمة، لكن عندما تكون في مناطق مبنية وشوارع وأزقة ذات مبان إسمنتية وارتفاعات عالية ستفقد خاصيتي الرصد والرمي، وتصبح هدفا سهلا للخصم، ويمكن اصطياد هذه الدبابات بمفرزة تتكون من 3 أشخاص فقط.
وأضاف الخبير: “يمكن استخدام هذه المدرعات في حصار المدن، وليس داخل المدن، لأن استخدامها يحتاج إلى حماية، وبالتالي هم قتلوا دباباتهم قبل أن تقوم حماس باصطيادها، ذلك أن الإفراط الزائد في استخدام القوات المدرعة والآلية في المناطق المبنية ساعد أيضا في إفقاد القوات المدرعة خاصية الصدمة”. غير أن النقطة المهمة كذلك ـ يوضح الخبير ـ تكمن في أن الـ(جيش)الصهيوني لايمتلك خبرة القتال في المناطق المدنية والحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، والفيديوهات التي نشرتها حماس تظهر هذا.
الموت يترصّدهم من فتحات الجدران المهدمة
كلام اللواء ماجد القيسي يبدو صحيحا نسبيا لو كنا نتحدث – على سبيل المثال ـ عن العملية الروسية في أوكرانيا، حيث شاهدنا الدبابات تدخل مدنا عامرة بالمباني. لكن في غزة، الأمر مختلف، فآليات الكيان الصهيوني لم تدخل أي منطقة من القطاع إلا بعد أن سوّتها بالأرض.
أما مسألة الخبرة، فمردودة من منطق أن أغلب جيوش العالم لا تخوض حروبا فعلية، فهل يعني هذا أنها جيوش فاشلة؟ مثلما هي حال الـ(جيش) الصهيوني الفاشل والذي لم يفعل شيئا منذ زرع الكيان بالمنطقة سوى خوض الحروب من خلال قتل المدنيين وقصف المباني وتهديمها بكل الطرق.
القتال في المناطق المبنية ـ يقول الخبير وهو مدير برنامج الأمن والدفاع بمركز صنع السياسات الدولية: “يمتاز بعدم وجود حدود لخطوط التماس، لأن كلا طرفي (الصراع) متداخل مع الآخر وبمسافات قريبة جدا، ولايمكن التكهن أين يوجد المقاتلون الفلسطينيون”.
وللتوضيح أكثر حول مسألة “القتال في المناطق المبنية” ، يمكن العودة إلى تاريخ 6 ديسمبر يوم نشرت كتائب عز الدين القسام صورا من المعارك التي خاضها مقاتلوها ضد قوات الاحتلال في مدينة الشجاعية شمالي قطاع غزة.
في ذلك الفيديو ظهر مقاتلو القسام وهم يتحركون بين أبنية مهدمة ومعهم قذائف محمولة على الكتف قبل أن يرصدوا 3 دبابات صهيونية كانت على مقربة من عمود دخان كبير، وقام المقاتلون باستهداف تلك الدبابات من داخل بناية مهدمة، ثم استهدفوا جرافة كانت تمر في المكان، قبل أن يقصفوا عددا آخر من الدبابات.
وكانت عملية الاستهداف تتم عبر فتحات ضيقة جدا داخل بنايات مدمرة ومن مسافة أمتار قليلة، وتحدث إصابات مباشرة، وجرى استهداف دبابة واحدة في أحد الشوارع الضيقة وبشكل مباشر.
هذا الفيديو ـ وغيره من الفيديوهات ـ يشير إلى أن (جيش) الكيان لا يستطيع ـ مثلما أوضح الخبير سالف الذكر لموقع “سكاي نيوز” – أن يقاتل “في المناطق المبنية”، ولكنه حتى بعدما نجح في اختصاصه الأول المتمثل في هدم المباني، بقي عاجزا عن القتال، لأن تلك المباني المهدمة سيستخدمها رجال المقاومة في استهداف آليات الاحتلال تحت عنوان “اصطياد البط”.
حرب عبر شاشات البلازما
معروف أن قادة الاحتلال مصابون بهوس “التكنولوجيا” فهم ينظرون إلى أن كيانهم الصغير المحاط بالأعداء يستفيد من وضعيته هذه، لابتكار أسلوب حماية وهجوم قائم أساسا على الذكاء الصناعي ومختلف مقدرات التكنولوجيا، ولهذا عملوا على نسج هذا الكيان بإحكام شديد، داخل منظومة القبة الحديدية.
غير أن هذه العقيدة قائمة على الثقة الزائدة في إمكانات العقل اليهودي، وكيف يمكن أن يصل إلى نظام عبقري لحل جميع المشكلات إلى حد تخيل حروب دون جنود يمشون على الأرض، وهو ما يُعرف من باب السخرية بـ “بلازموت”، في إشارة إلى الحرب عبر شاشات البلازما داخل غُرف التحكُّم، حيث يجلس القادة يُباشرون الهجوم من غرف مريحة ومُكيَّفة.
سقوط الوهم
هذا المنطق لا يمكن أن يكون مجديا مع الحروب الطويلة حيث أرقام الضحايا مرتفعة، وهو بالضبط ما تدركه المقاومة التي اقتحمت فجر السابع من أكتوبر غرف التحكم لدى الكيان حيث الأيادي الطرية تحرك مقابض آلية، خلال مراقبة الحدود. وفي اللحظة غير المتوقعة تداعى الوهم التكنولوجي بضربة واحدة اسمها “طوفان الأقصى”.
الرد الصهيوني جاء متسرعا وفوضويا، ومدفوعا بروح الانتقام، ما سمح للمقاومة بأن تجرّ الكيان إلى استخدام قوته الهائلة ضده، فقد انخرط الاحتلال في القصف العشوائي وتدمير البنية التحتية الفلسطينية وتحدي الدعوات العالمية لضبط النفس، وكل هذه العوامل عززت موقف المقاومة وأضرت بالاحتلال في الداخل والخارج، إذ تحولت كل أفعال سلطة الكيان إلى نيران صديقة: ميدانيا وإعلاميا وسياسيا.
مات الكثير من الجنود الصهاينة بنيران صديقة، وانقلبت السردية الصهيونية على نفسها بسبب تعاظم الأكاذيب ـ وهذا نوع من النيران الصديقة على المستوى الإعلامي ـ ناهيك عن أن سلطة الكيان دفعت حلفاءها إلى توجيه نيران النقد ـ وهي نيران صديقة ـ لحكومة سلطة الاحتلال وأغلبها من المتطرفين.
الاستنزاف البارد
وبذلك، تعد مقولة “اصطياد البط”، التي تحدث عنها أبو عبيدة، تلخيصا للإستراتيجية العامة للمقاومة التي ترتكز على الصمود في الميدان، واستنزاف الـ(جيش) الصهيوني، وتكبيده خسائر فادحة في المعدات والأفراد، وفضح ممارساته الوحشية، والضغط على المجتمع الإسرائيلي نفسيا وسياسيا بورقة الأسرى والقتلى، والانفتاح – بالمقابل – على أي هدنة أو وقف لإطلاق النار وإطلاق الأسرى والمحتجزين بالشروط المناسبة.
وتدرك المقاومة أيضا أن سلطة الاحتلال ليست مستعدة للحروب الطويلة والخسائر الكبيرة والتعبئة العامة المستمرة، وليست مستعدة أيضا لحروب الشوارع والمواجهات المباشرة، إذ تقوم نظريتها الأمنية أساسا على الحروب الخاطفة والاستباقية، بالإضافة إلى المواجهة من وراء شاشات البلازما، كما أن أساليبها الوحشية أصبحت ـ وبشدة ـ محل رفض وإدانة من المجتمع الدولي.
ووفقا للمعطيات التي نشرها الـ(جيش) الصهيوني على موقعه حتى يوم الخميس 15 ديسمبر الجاري، بلغ عدد قتلاه 445 عسكريا، بينهم 119 ضابطا من مختلف الرتب (منهم 5 برتبة عقيد و8 برتبة مقدم و43 برتبة رائد)، حيث ينتمي 60 من القتلى إلى فرق النخبة.
وتؤكد المقاومة على لسان المتحدث الرسمي لكتائب القسام أن عدد القتلى أكبر بكثير مما يعلنه (جيش) الاحتلال الصهيوني، وترجح المقاطع المنشورة عن الحرب وما ينشره الإعلام الصهيوني ذلك، وكذلك ما يرصد من قتلى وجرحى في المستشفيات، إذ أفادت صحيفة “هآرتس” بأن عدد الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية بلغ حتى 12 ديسمبر الحالي 4591 جريحا.
ويرى خبراء عسكريون أن الخسائر الحقيقية للـ(جيش) الصهيوني قد تصل إلى عشرة أضعاف الأعداد المصرح بها رسميا بناءً على متابعات ميدانية لأطوار الحرب ووقائعها اليومية.
كما تشير التقديرات إلى أن (الجيش) الصهيوني فقد مئات الآليات من مختلف الأنواع، من بينها أكثر 90 دبابة ميركافا التي تعد فخر الصناعة العسكرية الصهيونية، مما يمثل نحو 20% من ترسانة الكيان من هذه الدبابات. وقد أوقفت “تل أبيب” فعليا بيعها لبعض الدول، بينها قبرص، وفق موقع “آفيابرو”.
وتظهر العمليات الميدانية أن شوارع غزة وبناياتها المهدمة وركامها تحولت إلى متاهة معقدة وفخاخ مميتة للـ(جيش) الصهيوني، في حين تطبق المقاومة تكتيكاتها القتالية التي توعدت بها (جيش) الاحتلال، وتستخدم مخزونها من الأسلحة ومعرفتها بالميدان وشبكة الأنفاق المعقدة لاستنزاف الكيان بشكل يومي، في وقت يزداد فيه التوتر والتخبط الصهيوني، ويرتفع معه عدد القتلى بالنيران الصديقة بمن فيهم الأسرى.
السّقوط.. حتمي
وفي المقابل، ما زالت المقاومة وحركة حماس محافظة على بنيتها العسكرية والتنظيمية كاملة، وقدرتها على الضبط والربط والسيطرة، والمباغتة والأداء القتالي بالوتيرة والتنويع نفسيهما في العمليات القتالية، وبقيت محتفظة بقوتها الصاروخية، وتواصل قصف العمق الصهيوني حتى من داخل المناطق التي أعلن الاحتلال السيطرة عليها.
كما أن المقاومة ما زالت تحتفظ بالأسرى والمحتجزين، وخصوصا العسكريين والضباط منهم، كورقة أساسية للضغط العسكري والسياسي والنفسي على سلطة حكومة الكيان والمجتمع الإسرائيلي، وتعززت أيضا بيئتها الحاضنة والمؤيدة في قطاع غزة والضفة الغربية على عكس ما كانت تخطط له سلطة الكيان، وفق آخر استطلاعات الرأي.
ومهما كان “الرد” الصهيوني قويا، فإن هذه القوة ظهرت على مستوى القصف الوحشي للمباني والمرافق وقتل الأطفال والنساء دون أن يتعرض (جيش) الاحتلال للردع من المجتمع الدولي. أما على مستوى تحقيق إنجازات ملموسة ـ عسكريا وسياسيا ـ فهذا ما لم تسمح المقاومة للاحتلال بالوصول إليه، ناهيك عن أن الأفعال الإجرامية تتسبب في مأساة كبرى بقطاع غزة لكنها لن تحسم الحرب مطلقا.
وتظهر مجلة “ذا نيشن” في تقرير حول الحرب في قطاع غزة ونتائجها الحالية أن هناك تشابهاً مع ما حدث للولايات المتحدة في حرب فيتنام، مستدلّة على ذلك بمقولة وزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنغر في عام 1969، حين قال: “لقد خضنا حربا عسكرية وخاض خصومنا معركة سياسية، سعينا للاستنزاف الجسدي، وسعوا إلى إنهاكنا النفسي، وتبعا لذلك فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: (مقاتلو حرب العصابات يفوزون إذا لم تخسروا، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر”!