المكتبة المنزلية، وتُسمّى أيضا: مكتبة البيت أو المكتبات الخاصة، من الدُّرر الثّمينة التي كانت العائلات تتوارثها، وتعتزّ وتفتخر بها. وخلف كل مكتبة منزلية تتخفّى حكايةٌ حول إنشائها وانطلاقتها الأولى، فهناك من كان يُضحّي بقوت عياله لتأسيسها، وهناك من كان يقتصد في ضرورياته اليوميّة لتشكيل رصيدها، وهناك من اضطرّته دواعي الحياة وظروفها إلى بيع مكتبته.. والحكايا تطول حول المكتبات المنزلية (أو الخاصة) في كتب التراث، وفي سِيَر الأدباء والكتّاب من أقدم العصور إلى عصرنا الحاضر.
اليوم، تحوّلت المكتبة المنزلية، لدى بعض من يقتنون الكُتب، إلى ديكور تزيينٍ للبيت، والمفاخرة برصيدها من الكتب الثمينة التي لا تُقرأ في غالب الأحيان.. وهي تكاد تختفي من بيوت الكثيرين، لأسباب عديدة منها التوجّه إلى القراءة الرقمية، وعدم تناسب أسعار الكتب مع القدرات الشرائية لكثير من عُشّاق القراءة.. أو لضيق البيت وعدم اتّساعه ليستوعب رصيدًا من الكُتب التي تتطلّب عناية خاصة بها، وربّما تضيف إلى ربّات البيوت أعباء أخرى في محاربة الغبار.. الغبار الذي يُعتبر من أخطر أعداء الكتاب المطبوع!
للمكتبة المنزلية أهميّتها الكبرى في حياة العائلة، لا سيما بالنسبة للأطفال، فهي ليست منبعا للمعرفة والثقافة فحسب، بل هي أيضا وسيلة تربويّة لتأسيس علاقة حميميّة بين الأطفال والكُتب، وتنشئتهم على القراءة والبحث والتفكير المنهجي، وتوثيق صلتهم بلغتهم، وتمكينهم من أدوات تذوّق هذه اللغة وجماليتها.. وشؤون أخرى تتعلّق بتكوين شخصيتهم، وبلورة وعيهم مبكرا، وتحصينهم روحيًّا وفكريًا ضدّ أمواج التّغريب والأفكار الهدّامة..
توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الكتّاب العرب، ورصدت آراءهم حول واقع المكتبة المنزلية وآفاقها المستقبلية بعد الانقلاب الذي أحدثه الأنترنت في حياة المجتمعات الإنسانيّة عامة، وفي عادات القراءة، وعلاقة مَن “يجيدون القراءة” مع الكِتاب (الأميّة القرائية)..
ربّما يتوجّب على منظمة “اليونسكو” أن تعيد النّظر في التّعريف الذي وضعته للكتاب عام 1964، ويقول: “مطبوع منشور غير دوري، لا تقلّ صفحاته عن 49 صفحة، باستثناء صفحة الغلاف، يُنشر في بلد مُعيّن، ويكون من المُتيسَّر للجمهور الحصول عليه”. إعادة النّظر لا يستوجبها ظهور النّشر الرّقمي والانتشار الكبير للكتاب الضوئي أو الإلكتروني.. بل يستوجبه غلاء الكتاب وتعسّر الحصول عليه، وهو واقعٌ يناقض ما جاء في التعريف السابق: “المُتيسَّر للجمهور الحصول عليه”.
ومن الطّريف أنّ منظمة “اليونسكو” اختارت الثالث والعشرين من شهر أفريل ليكون يوما عالميًّا للكتاب، رغم أنّ هذا اليوم هو الذي مات فيه بعض الأدباء العالميين، مثل: ويليام شكسبير، ميغيل دي سيرفانتس صاحب كتاب “دون كيشوت”.. فكأنّما “اليونسكو” اختارت الاحتفال بالكتاب في “يوم الموت”.. ولعلّ الثالث والعشرين من شهر أفريل سيكون – يومًا ما – اليوم العالمي لـ “موت الكِتاب”!
أمّا “المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم” فقد اختارت العاشر من شهر مارس ليكون يوم “المكتبة العربي”.. ولا حاجة لاستعراض الواقع المأساوي للمكتبات العربية، وواقع الكِتاب والكُتّاب والقراءة في مجتمعاتنا، وحسبنا أن نتعرّف على مثال واحد هو واقع المكتبة المنزلية التي تحوّلت من كنز يتوارثه الأجيال إلى ديكور للتّزيين!
يوم وصلتُ إلى الرفّ الأعلى في مكتبة أبي!
بقلم: ناريمان علوش – شاعرة وإعلامية من لبنان
لطالما كانت مكتبة أبي محور حديثي في الكثير من النصوص التي كتبتها، مشيرة إلى مدى تأثيرها في بناء شخصيّتي وتحديد اهتماماتي وقِيَمي ومبادئي وأسلوب تفكيري وتوجّهاتي التي سيّرتني إلى عالم القراءة والكتابة. ففي أحد النصوص تحدّثت عن الرّف الأخير منها، حيث كان يضع أبي الكتب القيّمة والذّخائر الفكرية والأدبية المُعتّقة بعيدًا من متناول فضول الأطفال، فكنت أصبو دائما للوصول إليه، محاولة تسلّق الكنبة أحيانًا، وأحيانا أخرى مرتديةً حذاء أمّي ذو الكعب العالي، كما كنت ألجأ في بعض الأحيان إلى جمع الأشياء وتكديسها فوق بعضها البعض محاولةً مدَّ يدي بصعوبة، ولكن من دون جدوى.. وحين رآني أخي قال لي: “سأقترح عليكِ شيئا: إن قرأتِ جميع الكتب في الرُّفوف السُّفلى سأحملكِ على كتفيّ حتى تطالي الرَّف الأخير”.
فرحتُ كثيرا باقتراح أخي، وبدأت بالقراءة حتى مرّ الوقت مسرعا. وحين أنهيت قراءة الرفوف كلّها، مددتُ يدي فلامست الرفَّ الأعلى بسهولة… وأدركت حينها أنَّ أخي كان يعلّمني قصيدة المجاز الأولى..
وفي نصٍّ آخر، تحدّثت عن زاويتي الصغيرة بالقرب من تلك المكتبة المُمتدَّة من مهجر الأدباء إلى النيل والرافدين، حيث كنت أختبئ هاربة من أسئلة أخوَيّ وفضولهما لمعرفة إلى أين يأخذني صمتي وأفكاري.. لم يفهما أبدًا أنَّني كنت ألوذ إلى كلّ لحظة صمت حتى أختلي بأبطال الروايات وأستنطق المعنى عنهم، وأحاول إغواء مخيّلتي حتى تبني لي قصرًا من حبر وورق يجمعني بهم.
لم تكن مساحة بيتنا كبيرة، إلّا أنني لم أشعر يومًا بأنّه صغير نظرًا لكثرة النوافذ المضيئة فيه، والتي تطلّ على الكثير من عوالم الرُّؤى.. فكل كتاب قرأته كان قادرًا على أن يفتح لي عشرات النوافذ، وأن يحملني على بساط الخيال إلى أبعد من الغيمات..
غالبًا ما تحدّثني أمّي عن مدى إدمان أبي على شراء الكتب، فتخبرني بأنّه كان كلّما قبض راتبه الأسبوعي توجّه مباشرة إلى شراء الكتب بما يعادل نصف قيمة راتبه، فتبدأ أمّي بلومه ومعاتبته، وعلى الرغم من ذلك لم يتخلَّ يومًا عن تلك العادة.
من الكتب التي لا أنساها أبدًا كتاب بعنوان “حيص بيص”، كتاب يتحدّث عن خلاصة تجارب الطبقات الشعبية وما فيها من حكمة وموعظة بأسلوب طريف يجذب انتباه الصغار والكبار، وكان أبي قد قرأ ذلك الكتاب عشرات المرات حتى حفظ محتواه حرفًا، فكان يروي قصصه لكلّ زائر يزورنا، إلى أن حفظتها أنا أيضًا، ورغم ذلك كنّا نضحك جميعنا في كلّ مرّة يرويها.
كنت مفتونة بثقافة أبي وأسلوبه في سرد الحكايات وبقوّة ذاكرته التي تجعله يحفظ كلّ الكتب التي يقرأها، فتمنّيتُ حينها أن أكون بثقافته وذكائه، وواظبت على القراءة حتى نمت تلك البذرة الأدبية في داخلي وأزهرت مخيّلتي بنصوص أدبية كثيرة ما زلت أحتفظ بها حتى الآن في دفاتري القديمة ومذكّرات طفولتي.
من الكتب التي جذبتني أيضًا في مكتبة أبي، كتب “جبران خليل جبران” و”ميخائيل نعيمة” و”نزار قباني”… بالإضافة إلى الكثير من الكتب التي تتحدّث عن الأدب الجاهلي وشعراء ذلك العصر.
كنت أعتقد حينها أنّ جميع الناس يُخصّصون في بيوتهم مساحة للكتب، وأنّ المكتبة المنزلية جزء لا يتجزّأ من ثقافة أهل البيت، إلّا أنني مع الوقت اكتشفت أنّ وجودها في بعض البيوت هو مجرّد أثاث وديكور للزينة، هذا إن وُجِدت… لذلك، بعد أن أصبحت كاتبةً، قرّرت أن أكون صاحبة رسالة تدعم الكتاب الورقي، فأسّست “دار ناريمان للنشر”، وسعيت من خلال العديد من الندوات والمشاركات في المعارض إلى نشر التوعية، ودعوة الأهل إلى تشجيع أولادهم على القراءة، وعلى خلق بيئة ثقافية محفّزة في المنزل، تبدأ خطواتها الأولى من خلال إنشاء مكتبة منزلية، وأنا أجزم أنّ رائحة تلك الكتب ستغوي مخيّلات أطفالنا وتدفعهم إلى القراءة، وقد نجحت بتلك الخطوة كأمّ قبل أن أكون ناشرة، فصار ابني مثلي يعشق القراءة.
أختم بقولٍ للفيلسوف الألماني “آرثر شوبنهار”: “لم تمرّ بي أبدًا أيّة محنة لم تخفّفها ساعة أقضيها في القراءة”.
المكتبة المنزلية.. مملكة المعرفة والجمال
بقلم: صقر البعيني – كاتب وروائي ومُمثِّل من لبنان
لعلَّ هذا الموضوع من أهم المواضيع التي طُرحتُ عبر جرديتكم الكريمة، لأنّه يشمل معظم الأمور التي تمَّ طرحُها سابقًا حول القراءة ومدى قوة وجودها أو عدمه، وعن موضوع الكتابة الورقية والكتابة الإلكترونية، وعن أفضلية طباعة الكتب ورقيًّا أم إلكترونيًا، فنجد بأنَّ طرح هذا الموضوع يشمل عدّة مواضيع، فالشكر الجزيل للقيّمين على هذا الطرح الرائع والموفّق.
من ناحية الديكور، فليس أجمل من منظر الكتب وهي مصفوفة على رفوف المكتبات، خاصة إذا كانت مصفوفة بعناية مع مراعاة تناسق ألوان أغلفتها. هنالك أشخاصٌ يهتمّون كثيرًا بالكتب واقتنائها نظرًا لقيمتها ولا يأبهون لألوان الغلاف لأنَّ ما يهمُّهم هو المضمون، وكذلك لأنَّ تغليف الكتب بشكلٍ مُوحّد هي عملية مكلفة ماديًا بعض الشيء. هؤلاء هم الأشخاص الذين يعتبرون الكتاب والمكتبة ضرورية في المنزل لفوائدها الكثيرة، وهم قد ربّوا أولادهم على التعوّد على متعة القراءة والبحث عن مواضيعهم في الموسوعات والمعاجم وليس الاعتماد على “Google Translate” الذي يترجم على هواه حيث لا يُمكن الاعتماد عليه أبدًا إلّا في الوقت الذي يكون فيه الشخص خارج المنزل ويريد ترجمة كلمةٍ أو جملةٍ اضطراريًا.
أمّا الذين يعتبرون المكتبة المنزلية ديكورًا جميلًا في منازلهم وقصورهم، فمُعظمهم من الطبقة المخمليّة التي تريد أن تُظهر بأنَّها مثقفة وليست فقط غنيّة بمالها، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فهذا نوعٌ قد يحفِّز الأولاد أو بعض الضّيوف على النّظر إلى هذا الديكور من الناحية الإيجابيّة، فوجود الشيء خيرٌ من عدمه.
لكن نُلاحظ بأنَّ الجيل القديم هو أكثر من يهتمُّ بالمكتبات المنزلية ويعتني بترتيبها، ذلك ممكن بسبب غياب التكنولوجيا العدوّة اللّدودة للمكتبات والكتب في أيّامهم، ولكن الظاهرة الغريبة هي أنَّ أولادهم أو أبناء الجيل الحالي المنغمسين في التكنولوجيا وموبقاتها يعتبرون بأنَّ هذا الديكور الراقي يأخذُ حيِّزًا كبيرًا في المنزل، لأنّهم ربّما يريدون أن يضعوا طلاء للحائط أو ربّما لوحة تجريدية مكان المكتبة المنزلية، فجلُّ ما يقومون به هو إمّا إهداء الكتب للمكتبات العامة، وإمّا عرضها للبيع وبأسعار زهيدة، فهم لا يبغون الربح من بيعها، بل التخلُّص من المكتبة، ويا للأسف، أنا أقول ذلك لأنّني رأيتُ بأمّ العين تضحية بعض الأبناء بمقتنيات آبائهم وخاصة الكتب والمكتبة المنزليّة.
يعود السبب في القيام بهذا العمل، أي التخلّصُ من المكتبات المنزلية، إلى المناهج التعليمية الجديدة التي تشجِّع الطلّاب على استخدام الإنترنت بدلا من العودة إلى المراجع والكتب المطبوعة، ما يجعلهم يتضايقون من وجود المكتبات المنزلية. كذلك فإنَّ مجهود تلك المناهج لم يقتصر فقط على المكتبات ولكن تعدّاه إلى الآلات الحاسبة، فبدل أن يشغِّل الطالب ذهنه في الحساب، مثلًا، فقد سمحوا له باستعمال الآلة الحاسبة التي كانت تُمنع علينا سابقًا، فيعتاد الطالب على ذلك ويَضمرُ دماغه، لهذا يَعتبرُ هذا الجيل المكتبة المنزلية ديكورًا جميلًا ولكن يُمكن الاستغناء عنه.
لكن وفي كلتا الحالتين، اعتبار المكتبة ديكورًا أم لسعادة الأسرة، فهذا عائدٌ بالطبع للتربية المنزلية، فالذي يرى اهتمام والده ووالدته بالمكتبة قد يتربّى على ذلك ويهتمُّ أكثر فأكثر بالكتب وحاويتها (أي المكتبة).
فأنا شخصيًّا قد تربّيتُ على حبِّ المكتبات في المنزل من خلال المرحوم جدّي الذي كان مولعًا بالقراءة والثقافة، وكان لديه مكتبة صغيرة ولكنّها تحوي دُررًا من الكتب القيِّمة، فآليتُ على نفسي أن أهتم بتجميع الكتب في مختلف المجالات الثقافية والأدبية والعلمية تحضيرًا لإنجاز مكتبة فخمة مرتّبة تليق بتلك المقتنيات الثمينة، وحين نفّذتُ حلمي، وجدتُ بأنَّ هذه المكتبة لا تكفي وصرتُ أوزِّع الكتب على باقي الغرف وأضعُ بعضها الآخر في أدراج مقاعد الصالون وفي مكتبات صغيرة في غرف النوم، فهذا شغفٌ تربّيتُ عليه وسأكملُ ذلك بإذنِ الله.
وعندما كنتُ أرى كيف أنَّ شعوب الدول الغربيّة أو الآسيوية مثل اليابان مثلًا، كيف يهتمّون بموضوع الثقافة والمكتبات، وعندما رأيتُ اهتمامهم بإنشاء مكتبات عامّة في مواقف القطار، تمنّيتُ لو أن هذه الثقافة تنتشر في منازلنا وشوارعنا العامة كي نبثَّ في الناس طاقة إيجابيّة، تحثُّهم على القراءة والاستزادة من تلك المكتبات.
كتبنا مثل أولادنا.. ولكننا نتعلّم منهم
هذه قصتي مع مكتبتي المنزلية
بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر
يطيب لي أن أشكر جريدة الأيام الجزائرية الورقية والإلكترونية على اهتمامها بالموضوعات الجادة التي تُسهم في تشكيل العقل وتعميق الفكر لدى قرّائها الكرام، أملا في بناء جيل جديد يؤمن بالعلم وأهميته والأدب وقيمته في السمو الروحي والرقي الفكري، لتحسين الحياة، والانخلاع من المادية المقيتة التي صارت تلفّنا وتحيط بنا فتحرمنا لذة الحياة ومتعتها.
الكتبُ كنزٌ تتوارثه الأجيال
وموضوع هذا الملف الثقافي هو المكتبة المنزلية التي هي من الدُّرر الثمينة التي كانت تتوارثها العائلات، وتعتز وتفتخر بها، وما تزال كذلك عند كثير من الأسر العريقة في العلم والتي نبغ بعض أبنائها بالجدّ والاجتهاد والإخلاص للعلم والأدب، فتوارثوا العلم والأدب، وإن كان مفهوم المكتبة المنزلية قد تطوّر في العقود الأخيرة تطوّرا ملحوظا، فصار الكتاب الإلكتروني فيها ينافس بقوة الكتاب الورقي ودخل على الخط الكتاب المسموع، وغير ذلك من وسائل المعرفة الحديثة التي ينبغي استغلالها وعدم التنكّر لها حتى لا يفوتنا قطار التقدم ونخسر القديم والجديد معا.
لكل مكتبة منزلية حكايةٌ حول إنشائها
وكل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر ومن ذلك المكتبة المنزلية، فخلف كل مكتبة منزلية حكايةٌ حول إنشائها وانطلاقتها الأولى، فهناك من كان يُضحّي بقوت عياله لتأسيسها، وهناك من كان يقتصد من ضرورياته اليومية لتشكيل رصيدها.. ولعلّي من هؤلاء، فقد بدأت قصتي مع المكتبة المنزلية من مكتبة الفصل التي كنت أمينها بحكم كوني أول الفصل ورائده، وكانت صندوقا خشبيا بسيطا به أرفف للقصص على يسار الداخل إلى الفصل، وكنت أجلس في الصف الأول تحت هذا الصندوق ومعي مفتاحه، فقرأت فيها – منذ المرحلة الابتدائية – قصص الأطفال المُزوَّدة بالصور الملوَّنة والمكتوبة بخط كبير مضبوط بالشكل، لـ “كامل كيلاني” و”عبد الحميد جودة السحار” وغيرهما من رواد أدب الأطفال. وكنّا نأخذ القصة ونعيدها في اليوم التالي، فكان ذلك دافعا لنا على القراءة بالإضافة إلى حصة القراءة التي كنا نتدرب فيها على القراءة الجهرية، ونستعيد ما قرأناه من قصص بأسلوبنا، مِمّا ينمِّي فكرة الاستيعاب التلخيص والارتجال، ويقوم المعلِّم الذي كان معلما حقيقيا بالتصويب والتوجيه، ويطيب لي هنا أن أذكر أستاذي ومعلمي في المرحلة الابتدائية الأستاذ “عبد المجيد عبيد” الذي سبقت له الإعارة إلى الجزائر الشقيقة عقب استقلالها، للإسهام في تعريب مناهجها التعليمية بعد طغيان الفرنسية عليها نتيجة الاحتلال الطويل البغيض.
ولا أنسى دروس التعبير الشَّفوي والتحريري التي كنا نتدرب فيها على الكتابة الإنشائية التي ترفدنا فيه القراءة وسعة الاطلاع والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار التي نحفظها من خلال دراستنا في المدرسة أو قراءتنا في الكتب والقصص.
اقتناء الكتب والمجلات عادةٌ يوميّة
كنا نشتري المجلات الثقافية ونطالعها، ثم انتقلت إلى شراء الكتب منذ عام 1977 حين التحقت بالجامعة ومع تخصّصي في اللغة العربية، إلّا أنّني لم أقتصر على كتب الأدب والنقد والنحو والصرف.. مِمّا يفيد طالب اللغة العربية، بل أدركت مبكرا الدور الرائد لمعلِّم اللغة العربية في المدرسة والمجتمع، فتوسعت في شراء المجلات المختلفة التي تصدر في الدول العربية مثل: السعودية والكويت، بالإضافة إلى المجلات المصرية، الثقافية والإسلامية على السواء.
بالإضافة إلى السلاسل الأدبية والثقافية مثل: عالم المعرفة، كتاب الأمّة، كتب المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، المجلس الأعلى للثقافة، المركز القومي للترجمة، فضلا عن دار المعارف، والهيئة المصرية العامة للكتاب.. حتى إذا جاء معرض القاهرة الدولي للكتاب كان التزوُّد بالكتب من أجنحة الدول العربية مِمّا لا يتيسّر لنا إلّا مرّة كل عام. وكنا نصاحب أصحاب المكتبات من هذه الدول الشقيقة ليزودونا بالكتب النافعة ويزيدون لنا في نسبة الخصم خصوصا في آخر أيام المعرض.
ومِمَّن كان يشجعني على اقتناء أمّهات الكتب من أساتذتي: المرحوم الدكتور “فتحي أبو عيسى” المرحوم الدكتور “رمضان عبد التواب”، وأستاذي المرحوم “الطاهر مكي”، المرحوم الدكتور “إبراهيم الإدكاوي”، أستاذي الدكتور “إبراهيم عوض”، وكل هؤلاء الأساتذة الفضلاء زاروني في بيتي واطلعوا على مكتبتي وأثنوا عليها.
التّضحية من أجل اقتناء كتاب
أمّا زملائي فلست أنسى أخي الحبيب المرحوم الدكتور “إبراهيم محمود سليمان” الذي شهد نُموّ مكتبتي الخاصة وازدهارها، وتنوّع محتوياتها، فقد كنا نفني مدّخراتنا وربما نلجأ إلى الاقتراض في معرض الكتاب وفي غير معرض الكتاب، فقد كان على علاقة طيبة بكل أصحاب المكتبات، وكانوا يتعاطفون معه لكونه مبصرا، فيزيدون لنا في نسبة الخصم إعجابا به وإكراما له، وقد كنت أثناء إعارتي إلى “السعودية” أترك له مبلغا من المال ليشتري لي كل جديد من معرض “القاهرة” الدولي للكتاب وخصوصا من كتب المغرب العربي، وأذكر أننا كنا نتنافس في شراء الكتب حتى لو كانت في غير تخصُّصنا الدقيق.
كما كنت أتّفق مع بائع الجرائد، الذي ربطتني به صداقة، فأترك له هو الآخر مبلغا ليحجز لي ما يصدر من مجلات ثقافية وكتب دينية وأدبية وينقلها إلى بيته حتى إذا حلت الإجازة زرته ونقلت الكتب إلى مكتبتي وصفيت حسابي معه وربما أكرمته جزاء له على صنيعه معي.
وكان أساتذتنا يشجعوننا على اقتناء أمّهات الكتب الأدبية مثل: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، الشعر والشعراء لابن قتيبة، طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، الكامل للمبرد، دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي، يتيمة الدهر للثعالبي، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري، وغيرها من نفائس كتب التراث الأدبي والنقدي والبلاغي.. وكتب التاريخ مثل: تاريخ الطبري.
المكتبة الأندلسية في بيتي
أمّا عن المكتبة الأندلسية فحدِّث ولا حرج كوني متخصصا في الأدب الأندلسي، فهناك: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الأندلسي، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري، الإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب، والبيان المغرب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي، المغرب في حلى المغرب لابن سعيد الأندلسي، بالإضافة إلى “دولة الإسلام في الأندلس” التي ألّفها “محمد عبد الله عنان”..
والمكتبة الأندلسية في التاريخ التي توفّر على تحقيقها ثلة من العلماء أبرزهم: إبراهيم الإبياري، وحامد وعبد المجيد. أمّا دواوين الشعراء، فقد اقتنيت كل ما وقع تحت يدي أو رأته عيني من دواوين من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، لا لكوني باحثا في الأدب فحسب، بل لكوني شاعرا كذلك، كنا نقتني الدواوين القديمة من معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية ومن دار الكتب والوثائق القومية، وكنا نحرص كذلك على اقتناء ما يصدر عن مجمع اللغة العربية من كتب ومعاجم لغوية مثل: المعجم الوجيز، المعجم الوسيط، المعجم الكبير، وغيرها من المعاجم العلمية المتخصصة.
سكنٌ خاص بمكتبتي
أمّا كتب الدراسات الأدبية والنقدية، فقد اقتنيت منها ما استطعت من مؤلَّفات النقّاد من مختلف الدول العربية، ويكفي لبيان اتساع مكتبتي المنزلية أنّها تشغل شقّة كاملة في بيت والدي ـ يرحمه الله ـ وقد كان صاحب فضل ومُحِبًّا للقراءة، وكان يلتهم الكتب التهاما، وكان يشجعني على اقتناء الكتب وأنا طالب ويزيد في مصروفي، ويساعدني حتى بعد أن عُيِّنت معيدا بالجامعة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، إلى حين وفاته يرحمه الله، وهو الذي أشرف بنفسه على تأسيس المكتبة في شقّتي بالقرية، فاللهم أجزه عني خير الجزاء هو ووالدتي وزوجي الدكتورة “كريمة ريحان” التي عانت معي كثيرا سواء في “مصر” أو أثناء إعارتنا في “السعودية”، في شراء الكتب الذي كان يؤثِّر على مصروف البيت خصوصا ونحن في بداية حياتنا، أو في حملها معي من الخارج، أو في ترتيب المكتبة والإشراف على نقلها من مسكن إلى آخر على مدى أربعة عقود، وكان يساعدها في ذلك إبناي أحمد ومحمد وأخواي عبد القادر ونادر وأبناء إخوتي فجزاهم الله عني وعن طلاب العلم خير الجزاء.
مكتبةٌ منزلية في خدمة الجميع
والحمد لله، أنِّي لا أضنّ على طلّابي بنفائس ما تحتويه مكتبتي من مصادر تراثية نادرة ودواوين شعرية محققة تحقيقا علميا، وكتب معاصرة، ويشهد بذلك كل من أشرف على رسائلهم، ومن يعرفونني ويسمعون بمكتبتي.. وكذلك لم أبخل على زملائي في القسم أو في الكلية أو حتى في الجامعات الأخرى داخل “مصر” وخارجها.
حكاية من التراث
وإذا كانت المكتبة المنزلية قد تحوَّلت اليوم لدى بعض من يقتنون الكُتب، إلى ديكور تزييني، وللمفاخرة برصيدها من الكتب الثمينة رغم أنهم لا يقرؤونها.. لأسباب عديدة منها التوجّه إلى القراءة الرقمية.. فتحضرني هنا قصة عن اهتمام الأندلسيين بالمكتبات الخاصة في بيوتهم ولو كان ذلك على سبيل الزينة، فقد كان أمراء المسلمين في الأندلس وخلفاء “بني أمية” وبخاصة “عبد الرحمن الناصر” وابنه “الحكم المستنصر” من عشّاق الكتب والمكتبات، وكانوا يرسلون من يشتري لهم الكتب من المشرق، حتى لقد ظهر كتاب “الأغاني” في الأندلس قبل ظهوره في الأندلس حيث اشتراه “الحكم المستنصر” بألف دينار. ومن طريف ما يُروى أنّ عالما أندلسيا رأى رجلا يشتري كتابا ويغالي في سعره، والعالم يرى أنّ قيمة الكتاب لا تساوي ذلك الثمن، فلمّا سأله قال إن عنده مساحة خالية في مكتبته على مقاس هذا الكتاب.
الأطفال وعالم القراءة
ولن نعدم الفائدة، فللمكتبة المنزلية أهميّتها في ربط الأطفال بالقراءة وتأسيس علاقة حميميّة بينهم وبين الكتاب.. فقد أسهمت مكتبتي المنزلية في بناء شخصية أبنائي وتشكيل أفكارهم، وتوسيع مداركهم وإن كانوا قد توجهوا إلى الدراسة العملية في الهندسة والصيدلة إلّا أن صلتهم بالكتب الأدبية والقصص لم تنقطع، وكذلك بالبحوث العلمية والأدبية أثناء دراستهم الجامعية وبعدها، وهم يحرصون على نقل هذه الصّلة إلى أبنائهم، حيث انتقل أثر مكتبتي المنزلية من أبنائي إلى أحفادي، الذين أهتم بربطهم بالمكتبة والكتب حسب أعمارهم، فأقوم بشراء مجلات الأطفال التي تصدر في “مصر” وبعض الدول العربية، وأتابعهم في قراءتها، وأشجعهم بإقامة المسابقات بينهم إيمانا مني بأهمية القراءة في توسيع مدارك الأطفال وانفتاحهم على كافة الأفكار والثقافات، وتقبّل الآخر وحسن التعامل معه، مِمّا ييسّر لهم سُبل العيش في الحياة الحديثة، وكذلك أشجعهم على قراءة قصص الأطفال وأبرزها قصص الأنبياء، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصص الصحابة والتابعين، وقصة العرب في إسبانيا (الأندلس)، وغير ذلك من ألوان القصص لـ “عبد الحميد جودة السحار” و”عبد الرحمن رأفت الباشا” و”أحمد بهجت”، وبعض القصص والمسرحيات الحديثة لأصدقائي من كُتّاب الأطفال وأبرزهم الأديب والكاتب المسرحي “عبده الزراع” والأديبة “نوال مهنى” والكاتبة “ثريا عبد البديع” والكاتبة “رانيا أبو العينين” والدكتورة “غالية الزامل” والشاعر “أحمد سويلم” والشاعر “أحمد فضل شبلول” والشاعر “محمد الشرقاوي” وغيرهم، وبالطبع شعر “أحمد شوقي” للأطفال والذي قام بطباعته مستقلا الشاعر الكبير “أحمد سويلم”.
رجاء أخير
وفي ختام كلمتي، أطالب وزارات التربية والتعليم بعودة مكتبة الفصل والاهتمام بمكتبات المدارس، وكذلك وزارات الثقافة في البلاد العربية، بالإضافة إلى المكتبة المنزلية.. فنحن أمة اقرأ، والله وحده المستعان.
قراءة في القراءة والكتاب والمكتبة المنزلية
بقلم: مروى فتحي منصور – روائية وكاتبة من جنين – فلسطين
أهمية المكتبة المنزلية
المكتبة المنزلية من أهم مشارب الإنسان الثقافية وبين رفوفها تتشكل شخصية الأطفال واتجاهاتهم وقيمهم، وهي اللّبنة الثقافية الرئيسة للأسرة المثقفة، وعلى الفرد الواعي منا أن يحسن اختيار الكتب التي توضع بين أيدي أطفاله ومناسبتها لأعمارهم، والقيم المُتوقّعة منهم في مجتمعاتهم. وعليه كذلك جعلها فاعلة متفاعلة، تأخذ من غيرها وتعطي إلى غيرها، وهي جزء من تاريخ الأسرة، وتحمل ذكريات اقتنائها للكتب من المعارض الدولية، وفيها تشكيل جمالي لا يقلّ عن أيّ نمط من أنماط التّشكيل الجمالي الإنساني من عمران وحدائق وديكور وأزياء.. تُضفي رونقا على المكان وهيبة، وتحفيزا على تنظيم المعارف المتفجرة في الشبكات الالكترونية والمنصّات الرقمية في ورق من جهة، وتُجوهِر الإبداع والابتكار وتحتفي به.
العلم والثقافة بين الأمس واليوم
ولا يقتصر اكتساب المعرفة على المؤسسات والمراكز التعليمية، ولا تقتصر عملية التثقيف على المكتبات العامة والمنزلية، فإيقاع الحياة متسارع يوما بعد يوم مع تزايد الانفتاح عبر قنوات التواصل الاجتماعي، والعالم الرّقمي المتعدّد الوسائط، والمخرجات بين مرئية ومسموعة ومقروءة ورقيا أو إلكترونيا. ولا يستطيع الفرد منّا العيش منعزلا عن تلك المستجدّات مهما كان عمره وبيئة تنشئته وظروفها. وتتغيّر الأحكام الصادرة من قبل الأشخاص والنقّاد حول حجم الثقافة ونوعيتها التي يكتسبها الإنسان خلال يومه، فقد تغيب عن الفرد شهرا لتجده أصبح إنسانا مُتعدّد الرُّؤى والمشارب، وكأنّه حُسِّن بالذكاء الصناعي، وقد تبدو العبارة للفكاهة لكنها واقعية إلى أبعد حدّ..
اختلف شكل التعليم، منذ قرون، فلم يعد الطالب له مضطرا لاعتزال الحياة والسفر إلى معلِّم يستقي منه مختلف العلوم والتخصّص فيها. ولم تعد الحياة التعليمية بشكلها المعتاد في القرن الماضي، حيث يعتزل الطالب لتلك الحياة مجتمعَه وحياته الاجتماعية للتّركيز عليها، ولا تجده إلّا وراء مكتبه وخلف رفوف مكتبة جامعته.. اليوم أصبح الطالب متفاعلا في مجتمعه على كل الأصعدة، يطالع عشرات الكتب الرقميّة وهو في طريق عودته من الجامعة أو على حاجز نصبته سلطات الاحتلال على مدخل مدينة فلسطينية.
الثقافة بالذكاء الصناعي
الذكاء الصناعي جعلك لا تذهل لتبوغ مفاجئ لأيّ موهبة تظهر على أيّ طفل، أو أيّ تحوُّل ظاهري أو شكلي أو جوهري لأيّ فرد، وهذا ينطبق أيضا على الثقافة.
فهل تسأل أيّ مثقف اليوم: ما هي مشارب ثقافتك؟ قد تجده متأثرا بفيلسوف أو شاعر أو أديب.. لكن هو لا يدرك ذلك، هو يقطف ثمار المعرفة والأدب والفن من هنا وهناك في بستان المعرفة المتفجِّر عبر المنصّات الرقمية العنكبوتية، ويتأثّر بها دون أن يدرك، ودون أن ينفق المال الكثير على اقتناء الكتب، ودون أن يضع جدولة سنوية للكتب التي سيقرأها من مكتبته، وقد يجد عشرات الكتب وصلت إليه عبر الإهداء، وتمرّ عليها الأحوال الزمنية حولًا بعد حول ولا يتغيّر على حالها إلا نفض الغبار عنها من وقت إلى آخر للحفاظ على الإطار الجمالي لـ “لوحةٍ تراثية” في المنزل ألا وهي المكتبة المنزلية.
وعلى النقيض تماما تجد الأقلية مِمَّن يهتمون بتنمية المكتبة المنزلية، وقراءة كل كتاب يوضع فيها، ويختارون كتبها بعناية شديدة، ويفتخرون بها، وينقلون هذه الثقافة لأبنائهم، ويرفضون الكتاب الالكتروني والمحتوى الرقمي على تعدّد أشكاله ومصادره.
الثقافة المنشودة
ومع أنَّ لكل طرف مبرِّراته التي يدافع عنها بتطرّف شديد أحيانا وفقا للإيجابيات والسلبيات، إلّا أنّ المعرفة العلمية والتنمية الوجدانية هي المطلب الأساسي.. فماذا يهمُّني مثلا إن كانت ثمرة اللّيمون قُطفت من مزارع متخصِّصة يشرف على زراعة شجرها مهندسون زراعيون، أم كانت من حديقة منزلية، أم كانت من أحراش عامة؟ المهمّ أن تكون الثمرة صحية أستطيع أن أشعر بخصائصها بحواسي كافة، وأتفاعل معها وأستفيد منها..
ولا تعدو الطريقة التي استقى منها الأديب والمثقف ثروته اللفظيّة وتمكّنه الأدبي والفني مهمّة بالنسبة لي إن لم تنصهر كل مهاراته المكتسبة ببركانه الوجداني العاطفي الصادق الخاص، لأنّه لن يتجاوز كونه رقما أو إضافة مقولبة في عالم الذكاء الصناعي الرقمي أو الورقي، أمّا المثقف الذي يملك رؤية وبرمجة وجدانية وإنسانية، مهما اختلفت طريقة إخراجه وإنتاجه للفنون المعرفية الإنسانية، فإنّه سيشكّل حالة من الصعب تجاوزها وهو المثقف الحقيقي الذي ننشد، ففنجان القهوة في خلفية المكتبة المنزلية لا تجعل منا مستسلمين لصفتك كأديب أو فنان أو مثقف، فقل لي ما إنتاجك المعرفي وثمار عقلك وتأثيرك على محيطك؟ أقول لك من أنت.
توصيات ومقترحات
ولأنَّ قدرات الإنسان وإمكانياته متباينة، فإنّه من ذكاء المنظومة الثقافية توجيه هذه القدرات وإدارتها، فأولئك الذين يرتادون المكتبات العامة ويقتنون الكتب المنزلية ويدخلون في حالة صداقة حميمة معها مستغنين عن صحبة البشر وضوضاء الإمكانات التكنولوجية الحادة الإيقاع هم كنز عظيم، يمكن التّواصل معهم حول مطالعاتهم عبر لقاءات مرئية والاستفادة من آرائهم وتقويمهم لأهمّ الكتب التي قرأوها وينصحون غيرهم في ذلك مع إعطاء ملخّص عنها، وفي هذا توظيفٌ للتكنولوجيا والإعلام في خدمة الكتاب المقروء وإيصاله إلى أكبر عدد من المهتمين، في توليفة تكاملية رائعة، ناهيك عن إطلاق منصّات رقمية عربية واسعة النطاق والآفاق لتلخيص أهم الكتب العربية التراثية والمعاصرة، وتسليط الضوء على مضمونها بغضّ النظر عن نقدها علميا وأدبيا، وفتح باب التصويت عليها وإبداء الرأي فيها.. الأمر الذي يشجع على القراءة والنقد ويسلط الضوء على كثير من الأعمال، ويحرّك المشتريات لهذه الكتب وغيرها، مِمّا يُنوى تلخيصه أو ترجمته أو نقده.
ومن جهة أخرى، الاهتمام بعقد النَّدوات والمؤتمرات والأمسيات الأدبية والحلقات العلمية التي تتناول أهم الكتب الأكثر مبيعا في معارض الكتب الدولية والحاصلة على جوائز، وتلك التي لاقت استحسانا جماهيريا رقميًّا بالتحليل والنقد.
وبرأيي الشخصي، فإنّه لا يفلح مثقف أو أديب أو باحث أكاديمي يتّسم بالفوضى واللامبالاة حيث أتى، ولا يُستساغ من ناقد أو أديب لا يعرف إن أهداه أحدهم كتابا أم لا، ولا يتذكَّر عنوانه حتى، أو لا يعرف أين وضعه..
فليس المهمّ فقط هو اقتناء الكتب، وتعبئة المكتبات المنزلية بها، فما الضّير من عملية جرد سنوية للكتب التي تم قراءتها وامتصاصها كليا ولم تنشأ علاقة روحية بينها وبين القارئ من أن يعاد توزيعها بين القرّاء أو تُهدى بدورها إلى مكتبات عامة ومدرسية؟
وما الضّير من إشعار المنظومة الثقافية بوصول كتاب مُهدى من أديب أو باحث أو ناشر على مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من الذوق والاحترام والإعلام والترويج لهذا العمل الأدبي ولو بكلمات قليلة أو بإبداء الحماسة على الأقل لقراءته؟ فإذا كان المثقف يعتزّ درجةً بمكتبته المنزلية المترامية الأطراف، فإن الأديب والباحث قد صرف عصارة روحه وبنات فكرة وجذوة وقته في إعداده ونشره وتوزيعه على القرّاء، أفلا يستحق منك بعض الاهتمام وقراءة الكتاب والكتابة عنه ولو بالمجمل قراءة انطباعية على أضعف تقدير؟ وإن لم تسعفك ظروفك على ذلك عاما بعد عام، بإمكانك تصدير الكتاب إلى المكتبات العامة بعد إبلاغ من أهداه لك بذلك، لتتيح المجال لغيرك من القرّاء بقراءته وتقديره ونقده.
ومن التوصيات التي نأمل ألّا نتجاوز هذا الموضوع دون علاجها ألَا وهي فصل كتب الأطفال وأدبهم عن كتب اليافعين وعن كتب الراشدين، وإرشاد الطفل إلى الاختيار المناسب والاهتمام بمكتبته الخاصة وتنظيمها وفق آلية مريحة له، وفرض الرقابة الجادة على المكتبات المدرسية، وفرز الكتب حسب المراحل العمرية، لكي تكون المكتبة مكانا آمنا للطفل، تتجنّب الصدمة الثقافية والمعرفية التي يجابهها الطفل اليوم في أوقات خلوته وفراغه وفي أوقات اكتسابه لثقافته، عند تصفحه للمنصّات الرقمية على هاتفه الجوّال، ضامنين ابتعاده عن كل فكر مسموم ومحتوى محموم مثير لأعصابه مرهقا لوجدانه وعقله.
نحن بحاجة إلى مكتبة في كل بيت!
بقلم: روند الكفارنة – قاصة من الأردن
المكتبة هي المكان الذي تُجمع فيه الكتب، بينما تُعدّ مكتبة المنزل هي المكان الذي تنتهي إليه الكتب التي اقتناها أفراد العائلة، تبدأ المكتبة بما يستهوي الآباء والأمهات.. وأعرف شخصيا من تجربتي مع مكتبة والدي أنّ الكتب تتراكم منذ زمن دراسة الأب والأم لتخصصاتهم، وتمرّ بفترة ما يفضلونه من كتب والتي تكون روايات وشعر وكتب مسليّة بطبيعة الحال وبعض الكتب الدينية التي تشير إلى قراءتهم، ثم تتشعّب الحياة وتصبح العائلة مُكوّنة من أفراد جُدد ووافدين لهم رغباتهم وتطلعاتهم، فتدخل بالضرورة قصص الأطفال واليافعين، ثم تصبح روايات الجيب زائرا جديدا، وبعدها مرحلة يتم الانتقال فيها إلى كتب المترجمات والروايات العالمية..
إلى فترة طويلة، ظننت أنّ الكتاب الذي أقتنيه في مكتبة المنزل خاصّتي يجب أن يتوافر به شروط معيّنة، فهو كضيف زائر يمرّ من خلال فحص دقيق، لأنّه سيكون بالضرورة جزءًا مهمًّا من تشكيل وعي أبنائي وسيساهم في تشكيل قناعاتهم، فالمرء (نتاج ما يقرأ) هذا ما قلته يوما عندما سألني صحافي في لقاء حول أهمية القراءة للكاتب؟
القراءة ليست فعلا خالصا، بل يتشعّب إلى غيره مثل التفكير وتغيير القناعات، لذا كان لزاما عليّ انتقاء من أحاورهم حين أنشأت مكتبة بيتي، ولكنك ستبقى تتأرجح بين ما تقتنيه بحب ورغبة وتمحيص، وكتب اقتنيتها صدفة لتجاوز شهرتها الآفاق، وهناك فرق شاسع بين ما اقتنيته تحت ضغط مواقع التواصل الاجتماعي، وكتاب اقتنعت بآراء كاتبه وقدرته على تحدّي قدرتك على التفكير فاقتنيته عن قناعة. ومهما حاولت أن تختار الكُتب عن قناعة، لأنّك ستقع في فخّ: “طالما أعجب الجميع، بالضرورة سيعجبني”، ولكن المفارقة أنّه ربما ستجد أنّ “حَكي السّرايا يختلف عن حكي القرايا” وأن الكتاب الشهير الذي نفخ فيه القرّاء بسيطي التوجّه كبالون، ليس إلّا مجموعة من الأقوال المُجمّعة الفارغة على الأغلب من المعنى الذي يتضمن الهدف والقيمة.
إنّ الاهتمام بمكتبة منزلية يجعل المهمّة تتجاوز الديكور، ففي العديد من التّصميمات الحديثة تُعدّ المكتبة مكمِّلا للمظهر الاجتماعي الذي يعكس رُقي المالك للمنزل، وتُعدّ المكتبات مجرد قطعة لتزيين مكتب المنزل، وربما لا تحظى تلك الكتب بقارئ يقلب صفحاتها.. الكتب التي تتراكم على رفوف المكتبة، تتكئ على بعضها بحزن، لأنَّ لا يد ستمتد لتفرج عن أفكارها الماسورة داخل طيّاتها وربما لم تصادف روحا تعرف كيف توظف ما فيها من أفكار فتغدو حيّة وتتنفس.
على الصعيد الآخر، تعجبني المكتبات البوهيميّة التي تكوّنت نتيجة قراءة مالكها للعديد من الكتب والتي تراكمت في زوايا البيت حيث يجلس وينام ويأكل صاحبها، يترك آثاره هنا وهناك، يقرأ الكتاب بنهم، يختاره لأنّه عقد اتفاقا غير معلن بأنّه سيقرأ الكتاب ويفكر فيما قرأ، ويبني جسورا خفيّة بينه وبين الكاتب، ويعارض ما قرأه ويعترض عليه، ويفكر كثيرا فيما وجده في هذا الكتاب.. المكتبة البوهيمية قد يصنعها صاحبها من خزانة قديمة أو حتى من بقايا خشبية لخزانة يصفُّ كتبَه عليها والتي قد لا تكون متّسقة بالضرورة إلى حد ما، فتجد المحامي لديه مكتبة منزلية تحوي كتبا في الفلسفة والأدب والسياسة، لا يستعرض معظمها بقدر ما يحاول أن يحمي كتبه من عبث الأيادي، وإذا سُئل عن أيّ كتاب، سيخبرك عن عنوانه ومكانه، وربما يضنّ عليك باستعارة بعضها. تجد أنّه يوجّه ابنه إلى كتاب قرأه أو ابنته إلى عبارة لافتة في كتاب اقتناه، فيتحقق المأمول من هذه المكتبات، ألّا وهي الثقافة والتغيير الذي نجد أنَّ كل مَن كتب أو قرأ، دعا إليه.
في وقت مبكر، نجد أنَّ الدول انتبهت إلى أنّ الكتب أصبح سعرها عاليا مقارنة بالدخل في الوطن العربي بالذات، فقامت مجموعة من المبادرات التي تساعد في بناء هذه المكتبات المنزلية بأسعار في متناول اليد، هذا إذا عرفنا أنّ الطلاب في المدارس والجامعات هم الفئة المستهدفة من هذه المشاريع، مثل مكتبة الأسرة في الأردن ومصر وهي مبادرات واعدة تُحسب لهذ الدول. على الجانب الآخر هناك مساهمين آخرين في مكتبة المنزل، وربما “سور الأزبكية” أشهرها، فقد وصلت شهرته إلى جميع الدول العربية، حيث تُباع فيه الكتب المستعملة (وانا اعترض على كلمة مستعملة فالكتاب مهما تقادم، سيظل يحتفظ بقيمته الأولى، فالاستهلاك يعني تآكل القيمة، ولكن كلما قرأنا الكتابَ ازدادت فرصته في تحقيق وظيفته المرتجاة).. “سور الأزبكية” ساهم في التخفيف من أعباء شراء الكتب.
كامرأة، كانت المكتبة عبئا جديدا أضيف إلى أعبائي في تنظيف البيت، فالكتب تبدو كمغناطيس يجذب الغبار.. إلى فترة معيّنة، قرّرت أن اتّجه نحو القراءة الإلكترونية، وقررت الاشتراك في تطبيق أستطيع منه اقتناء أيّ كتاب إلكتروني، ولكن بعد مرور فترة أصبحت أشعر بغربة مع حالة القراءة، فأنت لا تستطيع ثني ورقة الكتاب لتعرف بأيّ صفحة وصلت، لا تستطيع أن تلمس الورق وتضع بصماتك عليه، بل لا تستطيع أن تخطّ بقلم الرصاص رأيك فيما كتبه الكاتب، لذلك ففقدت جزءًا مهمًّا من متعة القراءة ألا وهي مجاراة الكاتب وصنع نسخة لي من الكتاب، وبالطبع ستغدو العودة إلى الكتاب الذي كنت أفضّله، وشعور الاقتناء والملكية الذي يشعرني باكتفاء.. عدت باقتناع هذه المرة إلى الكتاب الورقي مدفوعة باقتناعي أنّ تجربة القراءة الورقية يعني بالضرورة أنّ الكاتب والقارئ يتشاركان في فعل الكتابة معا.. وتبقى القراءة الإلكترونية عبئا على العينين، والذي يتطلّب جهدا مضاعفا لقراءة الكتاب، ولكن يبقى ملاذا إذا أردنا التخفيف من عبء الكتب الورقية.
المكتبات في العادة لا تكون فعل ترف، والقراءة تدعم الإنتاج بالضرورة، حيث تُصنَّف الدول العربية الأكثر فقرا في إنتاج الكتب وقراءتها، ولكن كل كتاب يشتريه القارئ يساهم في طباعة غيره ويدفع عجلة عملية الطباعة والكتابة، ووجود مكتبة في كل بيت يعطي لأهل البيت فرصة سانحة للاطلاع على حضارات أخرى وتجارب إنسانية، بل إنّ معظم من أعرفهم بدأوا مشروع المكتبة المنزلية كجزء من المظهر اللائق، ولكن انتهى بهم في ليالي الشتاء الطويلة إلى أسرى الروايات والكتب التي اقتنوها والتي تخلق عادة القراءة.. وربما يشيع هذا الأمر أكثر كلما كان القارئ أصغر سنا، فوجود مكتبة في البيت يعطي الأطفال انطباعا مفاده أنَّ الكتاب شيء مهم يستحق الاقتناء والذي بالضرورة سيفضي، إذا ترافق مع بعض التشجيع، إلى خلق جيل قارئ.
وأخيرا، إنَّ المكتبة المنزلية التي يبذل فيها الآباء والأمهات مجهودا حقيقيا لتكوينها، ويتم ذلك بمشاركة الأولاد إذا كانوا في سنٍّ يسمح لهم باقتناء الكتب.. وتُبنى على أسس تهدف إلى تنمية ميول للقراءة، هذه المكتبة ستكون كنزا حقيقيا للأهل والأولاد على حد سواء، وستساهم في خلق جيل واعي مدرك لأهمية القراءة والكتاب، لذا نحن بحاجة إلى مكتبة في كل منزل.
الكتاب مثل الرّغيف في البيت
بقلم: شَوقِيّة عروق منصور – شاعرة من فلسطين
عندما نقرأ أنَّ العربي في شتى الأوطان العربية لا يقرأ في السنة سوى دقائق أو عدة ساعات معدودة، نشعر أنّ القطار التاريخي للمعرفة والثقافة قد تركنا وسار على سكك الشعوب الأخرى التي عرفت أنّ المعرفة قوة، والقراءة هي وقود العقل.. وليس من باب الصُّدف أن تلك الشعوب تخترع وتكتشف وتُبدع وتنال الجوائز العالمية، ونحن في حالة ضعف وتقوقع وتردُّد وخوف.
والأسوأ عندما نرى عند إصدار كتاب في الدول الغربية يُباع بآلاف النسخ، وفي الدول العربية عند إصدار كتاب لا يُباع منه إلّا بضع نسخ والباقي يوزّعهم الكاتب مجانا، حتى أصبح الكاتب رمزا للفقر، (حسب قول الجاحظ: أدركته حرفة الأدب).
كانت وما زالت المكتبة المنزلية جزءا لا يتجزأ من عالم الأسرة، وتدل على الاهتمام الثقافي، وفي الوقت نفسه هي الفخر والاعتزاز لرب العائلة للجو الثقافي الذي يزرعه في أسرته، ويسعى لكي ينشأ أولاده عليه.. مع العلم أنّ نسبة كبيرة من أولياء الأمور لا يهتمّون بهذا الموضوع حتى أنّهم لا يسعون لدى وزارة الثقافة لإقامة مكتبة عامة في القرية أو المدينة التي يقطنون فيها.
في ظلّ احتلال وسائل التواصل الاجتماعي لحياتنا، والغزو المعرفي القادم من الدول المهيمنة سياسيا وثقافيا علينا، يكون التحدي والمواجهة ضرورة مُلحّة، وليس الاستسلام لتلك الثقافات التي تأخذنا إلى مناطق تجعل منّا أناسا فاقدي الهوية ونعيش في ضياع ونرضخ للواقع المكتوب كأنه “لعنة القدر” علينا، مع العلم أنّنا نعرف بأنّهم جعلوا عدم معرفتنا وعجزنا عناوينا للسيطرة وفرض النفوذ!
من أين نبدأ السؤال المعرفي الذي كان يردّده الفلاسفة، وقد جعله المفكر المصري “خالد محمد خالد” عنوانا لكتابه.. وأنا أؤكد أنّ البداية من المكتبة المنزلية، من جعل الكتاب إلى جانب الرغيف حتى يصبحا تؤامًا الحياة (الرّغيف والكتاب)، فعندما يفتح الابن عينيه ويرى في بيته مكتبة، تتّسع الرُّؤى في عقله وينضج يوميا.. مع أنّ في واقعنا اليوم للأسف، هناك من يعتقد أنّ ديكور البيت يكون مكتملا بالأثاث العصري الذي يُبهر ويقنع الزائر.. إذا أصحاب البيت على درجة من الثراء، ويغيب عن بالهم أنَّ هناك شيئا مفقودا يشكل الأهمية الكبرى ويرفع من درجة منسوب وعيهم وثقافتهم في الحياة، وهي المكتبة..
وتبقى المكتبة المنزلية بقيمتها وجدواها، ليست ترفا استعراضيا بل هي خطوة نحو حياة مستقبلية قوية جريئة ومثقفة.. ومثلما قال “أرخميدس”: “أعطني مكانا أقف عليه، وأنا أحرِّك لك الدنيا”، وأقول.. فكِّر بإقامة مكتبة في بيتك، وسترى كيف تتحرّك الدنيا والحياة والنجاح من حولك..
الكتاب فردٌ من العائلة
بقلم: د. عبد الفتاح العربي – أديب وإعلامي من تونس
إنّ خبراء التربية ينصحون بأهمية غرس حب القراءة لدى الناشئة، حتى تصبح عادة تتمّ ممارستها والاستمتاع بها، وتكون القاعدة الأولى لبناء المثقف العضوي.. كذلك أثبتت البحوث العلمية أنّ هناك ارتباطا وثيقا بين القراءة بوعيٍ والتقدم العلمي، كما أنها مفيدة في جميع مراحل الحياة، لأنّها تفتح نافذة توسِّع دائرة الخبرات والبحث والنمو بأشكاله، وتفتح أمام القارئ أبوابَ الثقافة المتعددة والكونية، وتحقِّق له التسلية والمتعة، وتكسبه حصيلة لغوية كبيرة وتجعله يتحدّث ويكتب بشكل أفضل، وتعطيه قدرة على التخيّل وبُعد النظر، وترفع مستوى الفهم والوعي والمحصلة المعرفية لتعميم الوعي الإدراكي المجتمعي.
لذا يجب علينا في المنزل أن نكون قدوة أمام أبنائنا وأنفسنا، فإذا لم يكن البيت غنيا داعما للقراءة مملوءا بالكتب، فإنَّ الارتباط بالقراءة سيكون احتمالاً ضعيفا، وعليه فإنّ غرس حب القراءة فـي الصغير قبل الكبير ينطلق من الأسرة التي عليها أن توفِّر الأساليب والأدوات التي تحقق ذلك، ومن أهمها المكتبة المنزلية أو مكتبة الأسرة، وخاصة في ظل انتشار الأنترنت والألعاب الترفيهية والفضائيات والوسائل الأخرى التي صارت تجذب.. وتُبعد القارئ عن حبه لقراءة الكتاب، مِمّا خلق نوعا من العزلة وعدم الألفة بين القارئ والكتاب.
ويمكن القول إنّ الكتاب ما زال يمثِّل أحد رموز التراث الثقافي وسجِّل الأمة الواعي على مرّ العصور، وهو الوعاء الذي يحفظ الفكر البشري ويرتقى به في عصر دخلت فيه الشبكة المعلوماتية (الأنترنت) والمصادر الإلكترونية بأشكالها في صراع معه في رحلة إثبات الذات والبقاء. وإذا كان الكتاب يعاني من مشكلات عديدة في هذا العصر، فإنَّ المكتبة المنزلية تُعتبر حقيقةً الملاذ الآمن له؛ لأنّه يجد فيها اهتماما ورعاية من أفراد الأسرة، والإقبال عليها واستخدامها بعناية مع تقدير أهميتها، لذا يسميها البعض “ذاكرة الأسرة”، فالفرد الذي ينشأ في أسرة توافرت لديها مكتبة منزلية يكون مواطنا مؤثِّرًا في حياته المستقبلية داخل مجتمعه.
تعتبر المكتبة المنزلية في عصرنا الحديث ضحيّة العصرنة ما بين كثرة الكتب التي أصبح فيه الكتاب سلعة وليس قيمة ثقافية وعلمية، وما بين العزوف عن قراءته لأسباب عديدة منها غلاء الأسعار ووجود الكتب مجانا على الأنترنت.. ولكن دون جدوى لخواء الرغبة لدى القارئ العربي خاصة، بينما كان في الماضي من المفاخر أن تكون لك مكتبة قيِّمة مُختارة بعناية للكتب وللكُتّاب.
هذا الجيل يتخلّص من المكتبة، بعد وفاة الوالدين، مع جملة التّركة، لأنّه لا يعي معنى الكتاب وقيمته.. وحتى أنَّ الكتاب تربَّى في ذلك البيت وأكل معهم وسمع كلامهم وصراخهم ضحكهم.. ثم يُباع ومعه أسرارهم.
لكن هنالك من يعرف قيمة المكتبات المنزلية للعائلة ويحافظ عليها ويحدِّدها ويزيد من رونقها ومحتواها ويبوِّبها.. فتصبح كنزا حقيقيا حتى أغلى من المنزل وأثاثه! تصبح المكتبة المنزلية مربِّيَة كل جيل العائلة لما فيها من مراجع ثمينة، وتصبح ملاذا للبحث، ويتخرّج على “يديها” دكاترة وباحثين ومتخصصين في مختلف مجالات الفكر والعلوم..
المكتبة المنزلية بنت أجيال، وشكَّلت فكر شخصيات أدبية وسياسية وفكرية.. ونهل منها الكثيرون، إلى درجة أنها كانت حاسمة في سياسات دولٍ لما فيها من رموز الفكر من الماضي والحاضر.
اقتناءُ الكتب ثقافةٌ وتربية
بقلم: وليد عبد الحميد العياري (شاعر وكاتب من تونس)
أصبحت المكتبة المنزلية في زمن الأنترنت والثقافة الرقمية عبارة عن ديكور للعائلات الثرية تزيّن بها رواق البيوت، وتضع فيها أصنافا من المجلدات والكتب حتى يراها الضيوف فيظنون أصحابها من أهل العلم والمعرفة والثقافة والفكر والأدب، والحال أنّهم يتباهون بما تحتويه من كتب قيّمة ومخطوطات فقط لا غير.
لكن هذا لا ينفي وجود أناس يقدِّرون قيمة الكتب ويدعون إلى المطالعة والبحث، ومن هذا المنطلق وجب تأسيس علاقة تواصل وحميميّة بين القارىء والكتاب، وحثّ الأطفال على المطالعة، والأخذ بناصية العلوم والمعارف من خلال القراءة. وفي “تونس” مثلا، سعت الدولة إلى تنظيم بطولة وطنية للمطالعة ترصد لها سنويا جوائز عينية ونقدية، وقد نجحت في ترغيب الأطفال والكهول وكل شرائح المجتمع في المطالعة.
يقول المتنبي:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ — وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
أمّا “الجاحظ” فيقول:
أوفى صديق إن خلوتُ كتابي– ألهو به إن خانني أصحابي
لا مفشيًا سرًّا إذا أودعته — وأفوز منه بحكمة وصوابِ
ويقول “الجاحظ” أيضا: “الكتابُ هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والمستميح الذي لا يَستريثُك، والجار الذي لا يَستبطِيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمَكر، ولا يَخدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب”.
إذًا الكتاب لا ضرر فيه فهو واحة غذاء للفكر والمطالعة، تمكِّن القارىء والباحث والتلميذ والطالب من اكتساب المعارف وتحسين جودة الكتابة والتعبير الشفوي والكتابي.
هنالك عشقٌ خاص للكتب من طرف الشعراء والروائيين والباحثين، في المقابل هنالك عزوف عن القراءة من كثيرٍ من أرباب الأموال والأثرياء.. لأنّه ببساطة ليس لهم الوقت للمطالعة، واقتناؤهم للكتب يُعتبر من باب التّباهي والافتخار، عكس البعض من الطبقة المتوسطة أو الفقيرة التي تسعى إلى ادّخار الأموال وتحرم أبناءها من بعض الحاجيات في سبيل الظّفر برواية أو مجموعة قصصية أو كتاب في الفلسفة أو علم نفس أو غيرها من مجالات المعرفة..
فشراء الكتب من عدمه يُعتبر ثقافة، والمكتبة المنزلية تُعتبر ديكورا عند البعض وعند البعض الآخر كنزا ثمينا لا يقدر بثمن، ومن هذا المنطلق وجب تنظيم ملتقيات ومنابر تلفزيونية تحثّ على المطالعة، وبالتالي تأسيس المكتبات المنزلية لتحقيق التوازن أو المعادلة الصعبة بين الكتاب والحاسوب.. فحين تقرأ كتابا تعيش أحداثا.. وتسيح في عالم مختلف، وتصبح لك مَلكة تفكير وتخيّل متميّزة. فالمكتبة المنزلية أصبحت ضرورة، ففي القراءة يمكن أن يحقّق القارىء سعادة ولو حينِيَّة أو آنية.. ويُمكن القول: يوجد في الكتب الورقية ما لا يوجد في مواقع الإنترنت.
هل تسعى الدول والحكومات العربية إلى تأسيس مكتبات في كل القرى والمدن والسّعي إلى خلق جيل جديد يقرأ ويدعم الكتاب في زمن الرقمنة والغربة الروحية والفكرية والاغتراب والغزو الثقافي والفكري؟ ففي “تونس” – مثلا – هنالك منظَّمات المجتمع المدني وبعض رجال الثقافة.. يسعون إلى تأسيس نواة مكتبة في كل قرى وأرياف “تونس”، وإن شاء الله تُعمَّم هذه الفكرة عربيا وعالميا.
المكتبة المنزلية.. ملاذ للروح وغذاء للعقل
بقلم: أيمن قدره دانيال (كاتب وشاعر من سوريا)
المكتبة المنزلية تلك الرفيقة الصامتة التي تحتضن بين جنباتها أرواح الكتب، لم تكن يومًا مجرد قطعة ديكور بل كانت ولا تزال مصدر إلهام وسعادة للأسرة، إنها تحفة فنية تُرسم بألوان الحروف والكلمات، وتُثري العقل وتُشبع الروح. لقد كانت منذ العصور الغابرة كنزًا يُحفظ ويُورّث من جيل إلى جيل، فهي شاهد على عظمة الأجداد وفخر الأحفاد، تُعلِّم الصغار قبل الكبار، وتُعتبر رمزًا للثقافة والانتماء.
وهي حكاية من التاريخ العربي تروي حكايات العلماء والأدباء العرب الذين كانوا يُقدّرون قيمة الكتاب والمعرفة أكثر من أي شيء آخر، فمنهم من كان يُضحّي بماله ويقتصد في معيشته ليُغني مكتبته الخاصة بأثمن الكتب وأندرها، ومن الأمثلة على ذلك: الحكيم اليمني الذي باع كل ما يملك ليشتري كتابًا نادرًا، مؤمنًا بأنّ العلم يُعادل الحياة.
إن المكتبة المنزلية في جوهرها، تُعدّ ملاذًا للروح وغذاءً للعقل، وهي تُسهم في تنمية الوعي والإدراك وتُعزز من قيم البحث والاستقصاء فهي تُعلم الصغار قيمة الكلمة وتُرسخ في الكبار حب الاطلاع والتعلم المستمر، وفي زمن تتعدّد فيه وسائل الإلهاء، تظل المكتبة المنزلية بمثابة جزيرة الأمان التي تُقدم لنا العزلة الهادئة والرفقة الصادقة في رحلة البحث عن المعرفة.. ويمكننا القول إن المكتبة المنزلية لم ولن تفقد قيمتها ما دام هناك من يُقدّر الكلمة ويُدرك أهمية العلم، فهي ليست مجرد حائط أو قطعة من الأثاث، بل هي جوهر البيت الذي يُنير العقول ويُدفئ القلوب ولذا يجب أن نحافظ على المكتبات المنزلية كجزء لا يتجزأ من حياتنا، لتظل شعلة تُضيء درب الأجيال القادمة نحو مستقبل مشرق بالعلم ونور المعرفة.
إن وجود المكتبة المنزلية يُعلم الطفل كيف يُقدِّر الكتاب ويُعامله برفق واحترام، فهو يتعلم أن يُعيد الكتاب إلى مكانه بعد الانتهاء منه، وكأنه يُعيد وضع زهرة جميلة في باقتها، وبهذا ينمو الطفل وهو يُدرك أهمية النظام والعناية بالأشياء الثمينة. كما أن المكتبة المنزلية تُعزّز من قدرات الطفل اللغوية والتعبيرية، فهي تُشبه البحر الذي يُغذي نهر اللغة في عقل الطفل، وتُساعده على تكوين جُمل وعبارات تُشبه اللؤلؤ المنثور، ومع كل كتاب يقرأه، يزداد رصيده من الكلمات والتعابير، ويُصبح قادرًا على التعبير عن أفكاره ومشاعره بوضوح وجمال.
ومن الجدير بالذِّكر أنّ المكتبة المنزلية تُعلّم الطفل الصبر والتركيز، ففي عصر السرعة والتشتت، تصبح القدرة على الجلوس بهدوء والانغماس في قراءة كتاب، مهارة ثمينة وهي الصبر الذي يتعلمه الطفل أثناء القراءة، ويُمكن أن يُساعده في جميع جوانب حياته.
وتبقى المكتبة المنزلية مصدرًا للإلهام والإبداع، فهي تُشجع الطفل على التفكير خارج الصندوق وتُحفزه على كتابة قصصه الخاصة ورسم أحلامه على ورق أمنياته الصغيرة. وبهذا تُصبح المكتبة المنزلية ليست مجرد مجموعة من الكتب، بل هي مرسم للخيال ومنصّة لإطلاق العقول الشابة نحو آفاق لا حدود لها..