يعد قطاع المناجم من أهم القطاعات الكلاسيكية التي تشكل ركيزة أساسية لتطور أي بلد. هذا القطاع، بطبيعته، يتطلب استثمارات ضخمة تتجاوز مليارات الدولارات، مع فترات استرداد طويلة قد تصل إلى 10 سنوات أو أكثر. لهذا السبب، ليس من السهل على أي مستثمر الدخول إلى هذا المجال؛ إذ إن حجم الاستثمار المطلوب يجعله محصورًا على الشركات الكبرى ذات الإمكانيات المالية والتقنية العالية، والتي تتعاون بشكل مباشر مع الحكومات للحصول على ضمانات كافية.
في الجزائر، على الرغم من الإمكانات الهائلة التي نمتلكها، لم نرَ اهتمامًا كبيرًا من المستثمرين المحليين في هذا المجال، خاصة الخواص. هذه المشاريع، بطبيعتها، تتطلب دراسات جدوى دقيقة، وضمان توفر احتياطيات من المواد الخام تكفي لفترة تتجاوز 20 عامًا. منذ تأميم المناجم في 6 مايو 1966، أولت الجزائر اهتمامًا كبيرًا بالصناعات الاستخراجية، وأطلقت مشاريع كبرى مثل مصنع الحجار، إلا أننا بحاجة إلى المزيد من التوسع لتحقيق الاستفادة القصوى من هذا القطاع.
الجزائر غنية بمواردها الطبيعية، وهذه حقيقة تؤكدها الدراسات الجيولوجية والبحوث المنجمية. تنوعنا الجغرافي من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، يجعلنا قادرين على أن نصبح مركزًا عالميًا في الصناعات المنجمية. إن التركيز على هذه الموارد قد يرفعنا إلى مصاف الدول المؤثرة في الصناعة الدولية، خاصة مع ما يوفره هذا القطاع من مواد أولية مهيأة صناعياً، سواء للسوق المحلية أو للتصدير.
أشير هنا إلى الارتباط الوثيق بين توفر المواد الأولية المجهزة صناعياً وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. هذه المواد تشكل مدخلات أساسية للصناعات المختلفة، مما يعزز من جاذبية الجزائر لتكون وجهة للاستثمارات الكبرى. على سبيل المثال، بين عامي 2021 و2023، تمكنت الجزائر من إنجاز 26 مشروعًا للبحث المنجمي. هذه المشاريع استهدفت استكشاف تسع مواد منجمية مهمة كانت الجزائر تستوردها من الخارج. هذه الأرقام تؤكد وجود إمكانات ضخمة غير مستغلة يمكن أن تتحول إلى فرص استثمارية ضخمة.
ما نحتاجه الآن هو خارطة مفصلة (Cartographie) للمناطق الغنية بالموارد المنجمية، مع وضع بطاقات تقنية توضح الإمكانات المتاحة في كل منطقة. هذه الخطوة ستساعد في جذب استثمارات أجنبية ومحلية، من خلال شراكات استراتيجية مع القطاع العام.
وعندما نتحدث عن قطاع المناجم، لا يمكننا تجاهل الدور الكبير الذي تلعبه الاستثمارات الأجنبية. الإمكانيات المالية والتقنية المطلوبة تجعل الشركات العالمية الكبرى هي اللاعب الأساسي في هذا المجال. في الجزائر، شهدنا تحولًا كبيرًا في هذا السياق، خاصة منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون رئاسة البلاد.
أبرز الأمثلة على ذلك هو مشروع غار جبيلات، الذي يعد واحدًا من أكبر مناجم الحديد في العالم باحتياطيات تفوق 3.5 مليار طن. المشروع الذي انطلق رسميًا يهدف إلى استخراج 50 مليون طن سنويًا ابتداءً من عام 2026، مع تشغيل خط سكك حديدية بطول 950 كيلومتر يربط بين المنجم وبشار. هذا المشروع من شأنه تلبية احتياجات السوق المحلي وتعزيز الصادرات خارج قطاع المحروقات.
كما يمثل مشروع الفوسفات المدمج بشرق البلاد استثمارًا ضخمًا بقيمة 7 مليارات دولار، بالتعاون مع شركاء صينيين. هذا المشروع خير مثال على التعاون الدولي الناجح الذي يدفع الى تعزيز مكانة الجزائر لتكون مصدرا رئيسا للفوسفات على المستوى العالمي.
بالرغم من هذه الإنجازات، ما زالت هناك تحديات كبيرة تواجه قطاع المناجم في الجزائر. أولها هو غياب خرائط تفصيلية للمناطق الزاخرة بالموارد المنجمية، بالإضافة إلى الحاجة لدراسات جدوى دقيقة تشمل توقعات الإنتاج والعوائد الاقتصادية.
الدبلوماسية الاقتصادية أيضًا تلعب دورًا مهمًا في جذب الاستثمارات الأجنبية. يجب أن نستفيد من العلاقات الدولية لعرض مشاريعنا الكبرى وجذب المستثمرين. تجربة مشاريع مثل منطقة غار جبيلات ومنطقة بلاد الحدبة توضح أهمية التنسيق الدبلوماسي في تحقيق النجاح.
لتطوير قطاع المناجم، يجب على الحكومة أن تضمن سيطرتها على رسم السياسات الاستثمارية، مع تقديم التسهيلات اللازمة للشركات الكبرى. على سبيل المثال، تقديم عقود امتياز طويلة الأمد يمكن أن يشجع المزيد من الاستثمارات، مع ضمان تحقيق المصالح الوطنية.
إذا نجحنا في تحويل إمكاناتنا المنجمية إلى مشاريع استثمارية ناجحة، فإن الجزائر ستكون مصدرا للمواد الخام، ولاعبًا رئيسيًا في الصناعة العالمية. هذا التحول يمكن أن يضعنا في مصاف الدول المؤثرة اقتصاديًا خلال العقدين المقبلين.
قطاع المناجم يمثل فرصة ذهبية للجزائر لتقليل الاعتماد على المحروقات وتنويع اقتصادها. يجب أن نستغل هذه الفرصة برؤية استراتيجية وتعاون وثيق بين الحكومة والقطاع الخاص والشركاء الدوليين. بهذا الشكل، يمكننا تحقيق قفزة نوعية نحو اقتصاد أكثر تنوعًا.