زوبعةٌ في فنجان، عملَ من الحَبّةِ قبّةً، مَصائِبُ قَومٍ عند قَومٍ فوائدُ، تَمخَّضَ الجَبلُ فولَد فَأرَا، كما تدِينُ تُدان.. من الأقوال الأكثر شُيوعًا على ألسنة النّاس، وهي تندرج تحت مُسمّى: الأمثال. وليس هناك مُجتمع إنسانيٌّ لا يمتلك أمثالاً يستعملها في حياته اليوميّة. ومن أقوى الأمثال حول المَثل ذاته مقولة: “المَثل نبيّ”، تعبيرًا عن قوّته وضرورته في حياة الناس. فما هي الأمثال، وما تعريفها ومفهومها وأنواعها وغاياتها وأهدافها.. وهل يُمكن للشعوب أن تحيا بدون أمثال، أو تتخلّى عن هذا الموروث الإنساني العظيم؟
يُقال: “بالأمثال يتّضح المَقال”، كأنّما المَثل في الحديث كالملح في الطّعام، وربّما أنّ الكلام يصير عاريًّا بدون أمثالٍ تدثِّره وتُزيّنه وتمنح المعاني ملامحَها.. وتراثنا العربي زاخرٌ بكتُب الأمثال التي تؤكّد مكانتَها الكبيرة في حياة الناس، فقد كانت بمثابة الهواء والماء والخبز في الحياة اليومية للمجتمع، يتوارثها الناس جيلًا بعد جيل، ويستعملونها في أحاديثهم لتوضيح أقوالهم أو الزيادة في الفهم أو للسخرية والتهكّم أو للاقتصاد في اللغة والتعبير عن المسألة الكبيرة بألفاظ قليلة موجزة وبليغة.. وغالبًا ما يكون المثل مرتبطًا بحدثٍ مُعيّن أو له قصّة أنتجته، ولكن الحدث اندثر ونُسِيَت القصّة وبقي المَثل سائرًا يتداوله الناس ويوظّفونه في أحاديثهم.
ربّما أنّ الأمثال كانت سائرةً ومُنتشرة بين الناس باللغة العربية الفصحى، ثم اتّجهت إلى اللّهجات العاميّة الخاصة بكل قُطر أو منطقة أو مُجتمع محلّي.. وكثيرةٌ هي الأمثال الشعبية، في مختلف البدان العربية، التي تتقارب معانيها وتتشابه صياغاتها ولكنها تختلف في تشكيل مُفرداتها تبعًا للقاموس اللغوي الخاص بكل بلد أو منطقة.. ومهما يكن من أمر، فإنّ الأمثال الشعبية والفُصحى كانت بمثابة “دستور” لحياة الأفراد والمجتمعات على حدّ السّواء، تشتمل على العِبرة والحكمة والنصيحة وحتى استشراف الأحداث قبل أن تقع.. فالمَثل الواحد قد يكون خلاصة تجربةٍ حياتيّة طويلة تُغني الإنسان الذي يستعمله و”تقتصد” في عمره سنين طويلة ليصل إلى مضمونه في صميم الواقع، كأنّما المَثل هو الكلام الذي يُنحَت معناه من صخرة الحياة!
فهل ما زالت الأمثال تحتلّ مكانتها الكبيرة في حياة الأفراد والمجتمعات العربية؟ وهل يُمكن استثمارها في حياتنا الراهنة، والاسترشاد بما فيها من عِبر وحِكمٍ وشواهد؟ وهل هناك حاجة لإنجاز موسوعات تجمع الأمثال الشعبية العربيّة وتعيد صياغتها بلغتنا الفصيحة لاستثمارها في مجالات الفنون والآداب وما ينفع الناس؟ ثم، ألم يعد في إمكان الإنسان العربي إنتاج الأمثال كما أنتجتها الأجيالُ السابقة، أم أنّ مقولة: “ليس في الإمكان أبدع مِمّا كان” صارت تنطبق على إنتاج الأمثال الشعبية والفُصحى؟
في مدار هذه الرؤية والتساؤلات، توجّهَت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الكُتّاب والأكاديميين فأناروا زوايا كثيرة من المُهمّ أن يعرفها ويطّلع عليها كل قارئ للغة العربية، ففي إمكان كل إنسانٍ أن يستخلص “دستورًا” شخصيًّا من الأمثال، ويستفيد منه في حياته اليوميّة.
وجديرٌ بالإشارة أن أستاذنا الدكتور “شعبان عبد الجيِّد” دعا في مقاله إلى إدراج مادة “الأمثال العربية” في المناهج الدراسيّة، حيث قال: “وكم أتمنى أن تصير الأمثال العربية موضوعًا مقرَّرًا على طلابنا في مراحل التعليم كلِّها، لا يُكتفى فيه بنماذجَ للحفظ والاستظهار، ينتهي أثرُها بعد الامتحان، وربما قبله؛ بل تُدرَس درسًا مفصَّلًا يربط بينها وبين الواقع الذي نحياه والعالَم الذي نضطرب فيه، وتُلقَى الأضواءُ على ما فيها من فلسفة وتاريخ وعلم نفس وعلم اجتماع”.
وأنت عزيزي القارئ! هل تستعمل الأمثال في حديثك اليومي؟ ألا ترى أنها جزءٌ من هويّتنا وأصالتنا، ويجب استثمارها في التربية والتعليم والتّثقيف وفهمِ فنّ الحياة ذاتها.. لما تشتمل عليه من حِكم ومواعظ وفلسفةٍ في فهم الحياة؟ بالتأكيد، يُسعدنا أن نتلقّى منك إجابةً، ولكننا ندعوك أن تقدّم الإجابة لنفسك أولاً، فأنت معنيٌّ بحفظ هذا التراث واستثماره أيضا!
قراءة في الأمثال الشعبية العربية
بقلم: ختام زاوي (كاتبة من تونس)
قد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (سورة: الحشر، الآية: 21)، والآية: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا” (سورة: البقرة، الآية: 26).
عبّر القرآن الكريم عن غرض الأمثال تعبيرًا لم يأتِ في كتاب آخر سماوي أو غير سماوي. لذلك فإنّ ضُروب الأمثال الدائرة على ألسِنة كل أمّة استرعَت عيون العلماء، فمالت قلوبهم إلى استظهارها واستعمالها في مخاطباتهم ومكاتباتهم. شرحوا الأمثال وجمعوها في مؤلَّفات حتى تبقى سالمة من يد الضياع والبلى. فكانت فائدتها غير محصورة في بعض الألفاظ المتناغمة والمرقونة التي يتناقلها الناس، بل هي تحمل في طيّاتها معنى ذهبيًّا وفلسفة وجودية في الغالب كانت مجال بحثٍ وتجربة عند بعض المفكّرين القدامى لما تحتويه من عُمق الأثر عند كل شعب.
فالأمثال الشعبية اليوم تدور كالحلقات من جيل إلى جيل، وتتماسك هذه الحلقات تماسك السلسلة الفقرية في الأجسام. فهي أسلوب حياة وعادة يُشاد بها في الرسائل البلاغيّة، ولا يمكن الاستغناء عنها. غير أنّه من الجدير بالذكر أن علماء اللغة العربية قد عرّفوا الأمثال تعريفات كثيرة، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرناها هي خير بيان لفائدة المثل وخصوصيته في تربية العقول وتنويرها وتنمية القوى الروحية والجسمية.
وفي هذا السِّياق، يتردّد على ألسنة الناس عبارة تقول: “المثل ما ترك شي (شيء) إلاّ وقالو (وقاله)”، وهي تعكس مدى انتشار ظاهرة “ضرب المثل” وتأثيرها العميق في النفوس. وتستحقُّ هذه الظاهرة دراسة مستفيضة من جوانب متعددة؛ فإضافة إلى جانبها المعرفي، حيث يُرصد تأثير الأمثال في بناء ثقافة الشعوب، من المهمّ أيضًا فحص مدى توافقها مع المفاهيم الإسلامية الأصيلة…
في مفهوم الأمثال
إنّنا قد تصفّحنا الدواوين وكُتب الآداب المنظوم والمنثور والمجاميع المعتبرة للأشعار ولم نجد تعريفًا مُلهِمًا وعميقا للمَثل كتعريف “إبراهيم النظام” في قوله المُبسّط: “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكتابة”.
إذّا، الأمثال تشكِّل شواهد ثقافية تعكس القيم السائدة مثل العادات والتقاليد والأعراف، وتؤدّي دورًا توجيهيًّا للسلوك. تعمل كدستور غير مكتوب للعلاقات بين الأفراد، والجماعات كوحدات، والمجتمع بشكل عام. كما تعبِّر الأمثال الشعبية عن نوعيّة الثقافة الشعبية التي تمزج بين مختلف الطوائف وتُظهر فلسفة المجتمع بشكل صريح وطبيعي، وتحمل خبرات ثقافية تراكمّت عبر الزمن من خلال التفاعل والسّمع، وتبرز عند الحاجة.
أمّا من مُستهلٍّ آخر، فقد فُصِّلت الأمثال تفصيلا تفاضليًّا ومُمنهجًا ومُرتّبًا، فلكل فصلٍ خاصيّة وحقيقة كاملة، فمنه ما يتمثّل في الحِكم الدينية والزُّهديات، القناعة وشرف النفس، والتسلّي والتعزّي، والحِكم الدنيويّة، والغزل والشّكر والمدح والعتاب والشكوى، والهجو التوبيخ…
الأمثال الشعبية العربية
وقد أتقن العرب، والحق يقال، توظيف الأمثال خصوصًا في الوصف كوصف البادية وما فيها، يكادون إذا وصفوا ناقة أو بعير أو أرضًا أو جارية وصفوها وصفا دقيقا، لا يكادون يتركون شيئا فيها. كالمثل الذي يصف البعير: “بعير الجمل ما يعيب”، وهذا المثل يُستخدم للتعبير عن الثقة في قدرات شيء أو شخص ما، إذ يُعتبر الجمل حيوانًا ذو قدرات كبيرة ومفيدة، ولا ينقصه عيب.. أو ذلك المثل الشعبي العربي الذي يصف البادية: “البدو لا يتغيّرون إلا من جوع”. هذا المثل يُشير إلى أن حياة البادية قد تكون صعبة وقاسية، وأن التغيير في حياة البدو يكون عادةً مرتبطًا بالأزمات أو الندرة في الموارد.
أو ذلك المثل الذي يقول: “دخول الحمام ليس كخروجه”، يُقال أنّ أصل هذا المثل يعود إلى أحد أصحاب الحمّامات التركيَة قديمًا، حيث قام بتعليق لافتة على الواجهة تُخبر الزبائن أنّ الدخولَ مجانيٌّ، وبناءً على ذلك أقبل الزبائن بأعدادٍ كبيرة وازدحم بهم الحمّام. وكان صاحب الحمام يأخذ ملابسهم عند الدخول، فإذا أرادوا الخروج تفاجأوا أنَّ صاحب الحمّام يطلب منهم الأموال مقابل الخروج، قائلًا أنّ الدخول مجانيٌّ بالفعل لكن يجب الدّفع من أجل الخروج، وأنّهم لن يستلموا ملابسهم إلا بعد الدفع. وعليه، قال الناس هذه الجملة: “دخول الحمام ليس مثل الخروج منه”، ومن ثمَّ صارت هذه الجملة وصفًا دقيقًا لعدم سهولة الانسحاب من الأمور، وأصبَح هذا المَثل من أشهر الأمثال في تراثنا الشعبي.
أو ذلك المَثل الذي يقول: “اقلب الطّنجرة على فمها تطلع الطفلة لأمّها”، حيث يُقال أنّ هناك شاب في بلاد الشام كان يتطلّع للزواج. لكن كلما حاول خطبة فتاة، كان أهلها يرفضونه، ليس بسبب أيّ عيب فيه، ولكن لأن والدته قد أرضعَت الفتاة، نظرًا لأن والدته كانت قد أرضعَت معظم بنات البلدة. لم يجد الشاب أيّ فتاة في بلدته ليتمكّن من الزواج بها، وكل ما تبقّى له هو امرأة بلغّت الخامسة والأربعين من عمرها ولم تتزوج بعد. وبما أنّ هذه المرأة قريبة في العمر من والدته، بدا من غير المحتمل أن تكون والدته قد أرضعتها. لذا، عندما وافقّت المرأة على الزواج منه، سارع الشاب إلى إتمام مراسم الزواج وكتابة العقد. ولكن، فوجئ بعد ذلك بخاله يدخل عليه مسرعًا، ويسأله إن كان قد كتّب العقد. عندما أجابوا بالنفي، تنفس خاله الصعداء قائلاً: “جدّتك تُلقي عليك السلام وتطلب منك ألّا تتزوّج هذه المرأة، لأنها قد أرضعتها وهي صغيرة، لذا فهي خالتك في الرضاعة، وبالتالي تُ حرم عليك أيضًا”، فوجئ الناس بهذا الموقف، وأصبح هذا القول مثلًا شعبيًّا يُستخدم للإشارة إلى أنّ الفتاة تأخذ خصال والدتها، مِمّا يجعلها مع مرور الوقت نسخة تطابقها تمامًا في الشكل والجوهر والأسلوب.
كما يُقال: “القطط بسبعة أرواح”، وهو تعبير ينطبق تمامًا على القطط التي تُظهر قدرة مدهشة على النجاة من السقوط من أماكن مرتفعة. قد تلاحظ أنّ القطة تقفز من ارتفاع عالٍ، ثم تهبط بأقصى درجات المرونة وتستعيد نشاطها وكأن شيئًا لم يحدث. لذا، فقد ألهمت هذه القدرة الفائقة الأجدادَ لتشكيل هذا المَثل الشهير.
الأمثال الشعبية دراسة وتحليل
وهنا نتكلّم على الأمثال الشعبيّة المنتشرة والتي لا تخلو من الحسّ النقدي واللغة السّاخرة والهزلية والتي لها تأثير وحضور في المجتمع، وقد تختلف النماذج من أمثال شعبية ذات قيمة أخلاقية رفيعة وسامية وأخرى منافية للأخلاق الإسلامية، وهذا ما يحثنا للبحث من الزاوية العقائدية. وليس أسهل من إلقاء مَثلٍ يُمتع العامّة لأنه يصيب الوتر الحسّاس من الذوق العام ويلائم ويعبّر عن تقليد الساعة ويتناول الأشياء التي يفكّر فيها الناس ويتحدّثون عنها، وهكذا نجد الأسباب التي أعطتها ذُيوعًا حتى أصبحَت من الأسُس العادية للحياة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان.
ولعل من الأمثال المنافية للعقيدة الإسلامية: “المَكتوب ما منه مَهروب”.. إلا أنّ هذه النظرة تتعارض مع العقيدة الإسلامية التي تؤكد أنّ الإنسان مسؤول عن أفعاله، وأنه يختار طريقه بإرادته الحرة. ففي المنظور القرآني، ما هو “مكتوب” ليس سوى تسجيل لما سيختاره الإنسان بنفسه من أفعال، والله سبحانه يعلم بما سنفعله بناءً على اختياراتنا، دون أن يُجبرنا على اتّباع مسار محدّدٍ مُسبقا.
كما أن هناك بعض الأمثال الشعبية تحمل في طيّاتها معاني تتعارض مع القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية التي تدعو إلى الإيثار والاهتمام بالآخرين. من بين هذه الأمثال: “نفسي نفسي والنجاة من النار”، و”من بعد حماري ما ينبت حشيش”، التي تعكس نزعة الأنانية والانفراد بالمصلحة. كما يُستعمل المثل: “كل عنزة مُعلّقة بكراعيبها”، في سياق التنصل من المسؤولية الجماعية، رغم أنه قد يُستخدم أحياناً للتأكيد على مبدأ العقاب الفردي أو المحاسبة الشخصية، وهو ما يتماشى مع القاعدة القرآنية: ” وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ” (سورة: فاطر، الآية: 18).
ومن الأمثال التي تحمل معانٍ خاطئة هي تلك التي تنطوي على ازدراءٍ للإنسان وتُروِّج لليأس من إمكانية إصلاحه، مثل: “عوّد كلب ولا تعوّد ابن آدم”، و”رَبِّي جَرو ولا تربّي ابن آدم”.. هذه الأمثال لا يمكن قبولها، ليس فقط لأنها تتعارض مع مبدأ التكريم الإلهي للإنسان الذي جاء في قوله تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” (سورة: الإسراء، الآية: 70)، بل لأنها تحمل دعوة سلبية إلى الامتناع عن فعل الخير للآخرين، بحجة أنهم قد لا يقدّرون المعروف. وهذا الموقف يتنافى مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى فعل الخير لذاته، دون انتظار مقابل أو تقدير..
والمثل القائل “لا سلام على الطعام”، يتردّد على الألسنة وكأنه قاعدة خاصة بآداب الطعام، ويظن البعض أنه حديث نبوي، لكنه ليس كذلك، فلم يرد هذا المثل في أيّ من الروايات.. بل إنّ ما ورد من الأحاديث يشير إلى استحباب إلقاء السلام في جميع الأحوال..
أمثالنا الشعبية.. تراجعت ولكنها لا تموت!
بقلم: جنان الحسن (كاتبة من سورية)
حين لم تكن الكتابة والقراءة في متناول الجميع.. سعى الإنسان إلى إيجاد طريقة لنقل الحدث وتاريخ اللحظة عبر الأزمنة والأماكن المختلفة.. والمثل هو اختصار كبير لقصة جادة أو ساخرة أو عبرة عظيمة حدثت لأحدهم فراجت كثيرًا بين الناس لِما فيها من العِبَر الكبيرة أو السُّخرية اللّاذعة مِمّا يجري في هذا العالم، وبشكل عام هي أقرب إلى الطبقة العامة من الناس أكثر ممّا هي قريبة مِمّن هم أكثر رفعة ومقامًا اجتماعيا لذا سُمِّيَت أمثالاً شعبية..
ما هي الأمثال الشعبية؟
الأمثال الشعبية هي مزيج من فلسفة الشعوب وحكمة الأجداد وتغيّر العادات والتقاليد عبر العصور المختلفة، وغالبا ما تكون قريبة من القلب وسهلة التداول بين الناس.. بليغة لغويًّا وساحرة البيان في المعنى..
كيف استمرَّت ظاهرة الأمثال الشعبية ولماذا؟
استمرت هذه الظاهرة منذ نشأتها الأولى قبل آلاف السنين حتى يومنا هذا لأنها انعكاس لثقافات الشعوب ودياناتهم وتقاليدهم بداية.. ولأنّ التاريخ ما زال يعيد نفسه علينا كل يوم بذات بالحُلّة ذاتها.. لم تتغير حياة الإنسان العربي ذلك التغيير القادر على دثر مثل هذا الموروث الشعبي.. ولم نصبح أكثر حكمة من أجدادنا كي نصنع تاريخًا اجتماعيًّا جديدًا يُغيّر وجهَ الحياة، ويُتيح لذلك الموروث أن يتراجع إلى الخلف، تاركًا الساحة خالية لأحداث جديدة تُغيّر وجه الثقافة الشعبية لإنسان اليوم.. يقول “ابن الأثير”: “وضعَت العرب تلك الأمثال لحوادث مطابقة لهذا الحدث مرّت به، فكان المثل كالعلامة لهذا الشيء..”.
أشهر الأمثال المتداولة
من أشهر الأمثال المتداولة بين الناس، نذكر:
– مسمار جحا: يُقال عند الحجج الواهية..
– القَشّة التي قصمَت ظَهر البَعير: يقال عند انهيار الإنسان لسبب بسيط ناتج عن ضغط شديد عليه..
– دخول الحمّام مش زيّ خروجه: يقال عند طَمَع الناس وجشعهم..
– بيدي لا بيد عمرو: قالتها الملكة “الزباء” حين قتلت نفسها قبل أن يسبقها “عمرو” إلى ذلك..
– عاد بخّفَّي حنين: يقال لمن يعود خائبًا من مسعاه..
– على نفسها جنَت براقش: يقال لكل من يجلب البلاء على ذاته..
– رُبَّ رَميةٍ من غير رامٍ: يقال عند حدوث الصّواب من غير قصد..
– عادت حليمة لعادتها القديمة: قيل في حليمة زوجة حاتم الطائي وبُخلها الشديد..
– بيننا ما صنَع الحدّاد: يقال عند العداوة الشديدة..
– اللِّي اختشوا ماتوا: يقال عند فقدان الخجل والحياء..
وغير هذه الأمثلة الكثير الكثير، ولكن ربما أكثرها إضحاكا هي قصة: “مسمار جحا”..
قصة مَثَل
جاء مثل “مسمار جحا” من قصة ظريفة تداولها الناس عنه، وهي أنّ جُحا كان يملك دارًا وأراد أن يبيعها ولكن دون أن يفرِّط فيها كلها، فاشترط على الشاري أن يترك مسمارًا له في جدار الدار. وافق الشاري بحسن نيّة دون أن يفطن إلى ما وراء ذلك. غادر جحا الدّار ثم عاد إليها بعد أيام من انتقال الشاري إليها. فوجئ الشاري بدخول جحا عليه، فسأله عن غايته، فأجابه حجا: جئت لأطمئن على مسماري!
رحب به الرجل وقام بواجب الضيافة على أتمّ وجه. تكرّرَت زيارات جحا وطالت إحداها حتى إنّه فرش عباءته تحت المسمار ونام بحجّة أنه يغفو تحت ظلِّ مسماره، فما كان من صاحب الدار إلا أن أعاد الدار إلى جحا، وفرّ هاربا منه..
فبدأ الناس يتناقلون المثَل بدَل القصة عند استخدام الحُجج الواهية التي لا أصل لها للوصول إلى أهدافهم المطلوبة.
الأمثال في زماننا هذا
رغم عصر الحداثة واندثار هذه الأمثال اليوم بشكل عام وتراجعها إلى الخلف وجهل معظم الأجيال الجديدة لها ولمعناها الكبير، إلّا أنها ما زالت محطّ اهتمام الكثير من الكُتّاب والمؤرِّخين وعلماء الاجتماع، باعتبارها إحدى الوسائل المساعدة في دراسة تاريخ المجتمعات الشعبية والحضارية.. وما زالَت تحظى بثقة الناس من حيث العِبرة التي تحملها إليهم..
خصوصية فن المثل ودوره في التنوير والمقاومة
بقلم: أ. د. صبري فوزي أبو حسين (أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر)
فنُّ المَثلِ فنٌّ عربي وعالمي عتيق وعريق، لا يُعرَف لنشأته تاريخ مُحدَّد، ولا يوثق له أصل أو مصدر أو مبدع أول، ولا تخلو منه حضارة، ولا تستغني عنه ثقافة، فحيثما وُجدت لغة ووُجِد مُجتَمع، وُجِد القول المأثور والنص المنثور، يصنعه الإنسان في سياقات عديدة، ومقامات متنوعة، ويستدعيه في ظروف متشابهة؛ ليوضح فكرة أو يؤكد حقيقة أو يُجَلِّي قضية. وتُعدّ الأمثال عنصرًا أساسيًّا في تكوين الهويّة والتّراث الثقافيّ للشّعوب، فلكل أمّة أمثال تُميّزها عن غيرها من الأمم، وهو مِن أكثرِ أساليبِ التعبيرِ الشعبيةِ انتشارًا وتأثيرًا، ويعكسُ مشاعرَ الشعوبِ على اختلافِ طبقاتِها وانتماءاتِها، ويجسّدُ أفكارَها وتصوّراتِها وعاداتِها وتقاليدِها ومعتقداتِها ومعظم مظاهرِ حياتِها في صورةٍ حيَّةٍ وفي دلالةٍ إنسانيةٍ شاملة، بحيث صار لكل ضرب من ضروب الحياة مَثل يُستشهد به ويُستدعى؛ فهي بذلك عُصارَةُ حِكْمَةِ الشُّعوبِ وذاكرَتِها.
لفظة المثل لغويًّا
عندما نتدبّر الدلالات اللغوية للجذر اللغوي (م/ ث/ ل) نجد دلالة كلية له عند ابن فارس (ت395هـ) في معجمه “مقاييس اللغة”، هي (المناظرة)، حيث يقول:” الميم، والثاء، واللام، أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء”، ومن الدلالات الجزئية لهذا الجذر: التسوية والمماثلة، الشبه والنظير، الحديث، الصفة، الخبر، الحذو، الحجة، الند، العبرة، الآية، المقدار، القالب، الانتصاب، نصب الهدف، الفضيلة، التصوير، الالتصاق بالأرض، الذهاب، الزوال، التنكيل، العقوبة، القصاص، الجهد، الفراش، النمط، الحجر المنقور، الوصف والإبانة…
وعندما نطالع ما ورَد في معجم “لسان العرب” نجد هذه الدلالات الجزئية، فيقال: هذا مِثْله ومَثَله، كما يقال شِبْهه وشَبَهُه؛ ولا تكون المماثلة إلا في المتفقين. والمثل: الحديث نفسه. والمثل: الشيء الذي يُضرب لشيء مثلاً فيُجعل مثله، وما يُضرب به من الأمثال. ومثل الشيء: صفته والخبر عنه. ويقال: مثل زيد مثل فلان، إنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة: تحلية ونعت. ويقال: تمثَّل فلان: ضرب مثلا، وتمثَّل بالشيء: ضربه مثلا. وقد يكون المثل بمعنى العِبرة، يعتبر بها المتأخرون، ويكون المثل بمعنى الآية، والمثال: المقدار وهو من الشبه، والمثل ما جعل مثالا أي مقدارا لغيره يُحتذى عليه. والمثال: القالب الذي يقدر على مثله. وامتثل القوم فلانًا غرضًا أي نصبوه هدفًا لسهام ملامهم وأقوالهم. وقد مثُل الرجل، الضم، مثالة أي صار فاضلاً، والمثالة: حسن الحال. والأمثل: الأفضل. والطريقة المُثْلى: التي هي أشبه بالحق. والتمثال: الصورة. ومثُل له الشيء: صوَّره حتى كأنه ينظر إليه. والماثل: القائم، والماثل: اللاطيء بالأرض، ومثل: لطيء بالأرض وهو من الأضداد. ومثل يمثل: زال عن موضعه. ومثل بالرجل مثلا ومثلة: نكّل به. والمثلة. العقوبة. وامتثل منه: اقتصّ. وقالوا: مثل ماثل أي جهد جاهد. والمثال: الفراش…
فن المَثل في اصطلاح العلماء
اهتم أسلافنا العرب بتبيين مفهوم مصطلح المثل وتحديده، فقد عرفه “إسحاق الفارابي” (ت 350هـ) بقوله: “المثل ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السرّاء والضرّاء، واستدرّوا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة، وهو من أبلغ الحكمة؛ لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة”، وعرفه “أبو علي المرزوقي” (ت421هـ) صاحب كتاب “شرح الفصيح” بقوله: “جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مُرْسَلة بذاتها، فتتَّسم بالقبول وتَشتَهِر بالتداول فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام”. ويحدّد “الميداني” (ت518هـ) في مستهل كتابه “مجمع الأمثال” مفهوم المثل فيما نقله عن “المبرد” (ت285هـ) قائلاً: “المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول والأصل فيه التشبيه. فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، كقول كعب بن زهير:
كانتْ مواعيدُ عُرقوبٍ لها مَثَلًا — وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
فـ (مواعيد عرقوب) علم لكل ما لا يصح من المواعيد!”.
ويمكننا أن نوجز مفهومنا لفنِّ المَثل بأنه نوع من الأنواع الأدبية العالمية، يدل على مقولة بليغة، فنيّة عميقة أو تعليمية مباشرة، وهي مشهورة، وقصيرة اللفظ، وجيزة النص، وجميلة الأسلوب، فيها حسن تشبيه وإصابة معنى، وجمال كناية، قد تكون جملة أو اثنتين، والمثل قول سائر على الألسنة والأقلام، ومحفور في الذّواكر والعقول، ويشير إلى حادث أو موقف أو حكاية أو أقصوصة، والغالب فيه أن يكون نثرًا، وقد يكون شعرًا، وقد يكون واضحًا مباشرًا، وقد يكون خفيًّا ضمنيًّا، وقد يكون استعاريًّا أو كنائيًّا أو رمزيًّا. ويتداوله الناس من جيل إلى آخر عبر الأزمنة والمكنة، في الوقائع التي تشابهه دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير، ويُلخِّص تجربةً إنسانيّةً عميقةً. وقال أهل الأمثال وصُنّاعها: “الأمثال تُضرَب ولا تُقاس”، أي يؤخذ مضمونها، ولا يعمل بظاهر نصها!
حضور فن المثل في التأليف العربي
لفنِّ المَثل في تراثنا العربي حضور كبير وتأثير منير، وُجِد مع العربي منذ جاهليته الأولى، وتطوّر في زمنه الإسلامي الهادي، وعمل المؤلِّفون على جمع نصوصه وأخباره، وتوضيح غوامضه! في كُتب، منها: جمهرة الأمثال للعسكري (ت نحو395هـ)، ومجمع الأمثال للميداني (ت518هـ)، والمُسْتَقْصَى فِي أَمْثَالِ العَرَبِ للزمخشري (ت538هـ)، ويحكى أنّ الزمخشري بعدما ألّف “المستقصى في أمثال العرب” وقع له هذا الكتاب فأطال نظره فيه وأعجبه جدًّا، ويقال: إنه ندم على تأليفه “المستقصى” لكونه دون مجمع الأمثال في حسن التأليف والوضع وبسط العبارة… ومن المُؤلَّفات الخاصة بدراسة الأمثال في القرآن الكريم: أمثال القرآن للجنيد، وأمثال القرآن لنفطويه، وأمثال القرآن لمحمد بن الحسين السلمي، والأمثال القرآنية لعلي الماوردي، وأمثال القرآن لابن القيم، ومن الكتب الحديثة الجامعة “موسوعة أمثال العرب” لإميل يعقوب. وهي موسوعة صدرت عام 1415هـ في سبع مُجلّدات، وشملت الأمثال العربية التي عرفها العرب قبل منتصف القرن الثاني الهجري، وتقدّم شرحًا لمعاني الأمثال وأصولها ومضاربها..
الخصائص الفنية للمثل
أدرك أسلافنا الخصائص الأسلوبية المميّزة لفن المثل عن غيره من الأنواع الأدبية، فهذا “إبراهيم النظام” (ت221هـ) يقول: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة”. ويشير “الماوردي” (ت450هـ) إلى التأثير النفسي للأمثال فيقول: “وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المُرسَل يبلغ مبلغها ولا يؤثر تأثيرها؛ لأن المعاني بها لائحة والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب الله الأمثال في كتابه العزيز وجعلها من دلائل رسله وأوضح بها الحُجّة على خلقه؛ لأنها في العقول معقولة وفي القلوب مقبولة، وحدّد شروطها في أربعة، أولها: صحة التشبيه، والثاني: أن يكون العلم بها سابقًا والكل عليها موافقًا، والثالث: أن يسرع وصولها للفهم ويعجل تصورها في الوهم من غير ارتياء في استخراجها ولا كدّ في استنباطها، والرابع: أن تناسب حال السامع لتكون أبلغ تأثيرًا وأحسن موقعًا، فإذا اجتمعت في الأمثال المضروبة هذه الشروط الأربعة، كانت زينةً للكلام وجلاءً للمعاني وتدبرًا للأفهام”.
وقد بلغت عناية اللغويين العرب بالأمثال حدًّا كبيرًا، إذ كانت بالنسبة إليهم تُجَسِّد اللغة الصافية للعرب، فأخذوا منها الشواهد. من ذلك قولهم في مَثَلٍ: “شرّ أهرّ ذا ناب”، فابتدأوا بالنكرة، وجرى مَثلاً فاحتُمِل، والأمثال تُحتَمل ولا تُغيَّر، ومثله قولهم في المثل: “شيء ما جاء بك”، يقوله الرجل لرجل جاءه ومجيئه غير معهود في ذلك الوقت. ومن ثم قيل في عصرنا: “بالأمثال يتّضح المقال”، ومن المقال قواعد اللغة نحوًا وصرفًا ومعجمًا!
التداخل بين فن المثال والفنون الأدبية الأخرى
ولفنِّ المثل ارتباط بكثير من الأنواع الأدبية الأخرى لا سيما النثرية منها، وغالبًا ما يرتبط ذكره بذكر فن الحِكمة في المُدوّنات الثقافية، حيث يتفقان في سمات الإيجاز، والصدق، وقوة التعبير، وسلامة الفكرة، وتختلفان في أن (الحكمة) لا ترتبط في أساسها بحادثة أو قصة، أي ليس لها مَوْرِد، وفيها إبداع أسلوبي شخصي، وعناية بالتكثيف الفكري، فهي قول رائع التعبير، موجز مشهور، تصدر عن إنسان له خبرته وتجاربه العميقة في الحياة! ويتضمن موعظة أو نصيحة أو عبرة، ويهدف عادةً إلى الخير والصّواب والرّشد في التصرّف، ويحتوي على تجربة إنسانيّة كبيرة. ومن أبرز نماذج الحِكم: “العلم ضالة المؤمن”، “أغنى الغنى العقل وأفقر الفقر الحمق”. و(القول السائر أو التعابير المثلية أو الاصطلاحية أو المسكوكات اللغوية) مثل الحكمة شكلاً ومضمونًا. وهي تلك العبارات قائمة بذاتها، تثري الكلام وتوضحه، وتصف شخصًا أو حالةً معيّنةً، ويستدعى المثل على سبيل المجاز!
القيمة الأدبية والفكرية للأمثال
يُعدّ فنّ المَثل أحد أوجه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، بجوار أوجه الإعجاز الكثيرة الأخرى، فأمثال القرآن الكريم تقوم على أسلوب مبتكر، لا يجد الناظر فيها، والسامع شبيهًا له فيما يُعرَف من كلام العرب وأساليبهم، وقد جاءت غاية في الوضوح، وعالية في البلاغة.
والمثل أحد فنون البلاغة النبوية؛ فقد قرّر دارسو البلاغة النبوية أنّ الأحاديث النبوية الشريفة تمثل ذِرْوة البيان البشري، والبلاغة الإنسانية مبنى ومعنى، مضمونًا وشكلًا، فكرةً وأسلوبًا، فقد حوت من جوامع العلم، وجواهر الحِكَم، وغرائب الأمثال، ونوادر التشبيه ما لم يَحوه كلام بليغٍ ولا حكيم، مع سهولةٍ فائقة، وعذوبةٍ رائعة، وحيويةٍ بالغة، جعلت في الكلمات روحًا يسري كما تسري العصارة في الأغصان الحيّة، وهذا ما نوَّه به كبار الأدباء والبلغاء في مختلف العصور، مثل “الجاحظ” (ت255هـ) في “البيان والتبيين”، و”أبي الشيخ الأصبهاني” (ت369هـ) في كتابه “الأمثال في الحديث النبوي” قديمًا، والأستاذ “مصطفى صادق الرافعي” (ت1937م) في الجزء الثاني من كتابه “تاريخ آداب العرب”، عن (القرآن الكريم والبلاغة النبوية) حديثًا! وقد تضمن العهد القديم سِفْرًا كبيرًا عُرِف باسم (سِفْر الأمثال)، واقتصر على الأمثال والحكم الجارية مجراها، وقد نُسبت الكثرة المطلقة من محتوياته لسليمان عليه السلام!
ويوجز “ابن المقفع” (ت142هـ) القيمة الإخبارية والإعلامية لفن المثل بقوله: “إذا جُعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث”، وتقول العرب: “الأمثال مصابيح الكلام”.
وقال “أبو هلال العسكري”: “ولمّا عرفت العرب الأمثال تتصرّف في أكثر وجوه الكلام وتدخل في جلّ أساليب القول، أخرجوا في أوقاتها من الألفاظ ليخفّ استعمالها ويسهل تداولها، فهي من أجلّ الكلام وأنبله وأشرفه وأفضله، لقلة ألفاظها وكثرة معانيها ويسير مؤونتها على المتكلّم من كثير عنايتها وجسيم عائداتها، ومن عجائبها أنها مع إعجازها تعمل عمل الإطناب، ولها روعة إذا برزت في أثناء الخطاب والحفظ الموكل بما راع من اللفظ وندر من المعنى”.
والأمثالُ مصدرٌ لكثير من القصص القصيرة، والقصيرة جدًّا، فكل مثل مأثور له مضرب أي أقصوصة قيل أثناءها، وقيل في ظلالها! وتكون الأمثال إيجابية إذا كانت توضح حقيقة، وترسم حالة، وتستخلص خبرة إنسانية، وترشد إلى السلوك الحق في حياة المرء، فما أجملها، وما أنبلها، وما أطيبها! لأنها تُحدث تنويرًا للسّامع من خلال تقديم حالة ماضوية تشبه حالته الآنية، وتدفعه إلى طريق مستقيم، وإلا كانت الأمثال سلبية سيئة ممقوتة ذات تأثير ضار!
دور المثل في المقاومة الفلسطينية
تمثّل الأمثال ذاكرة للشعوب، ومنارة للبشر، توثّق التراث، وترصد العادات وتعلن عن التقاليد، وتوضح القيم والأخلاق، ومن يطالع “موسوعة الأمثال الشعبية الفلسطينية” للباحث “محمد توفيق السهلي”، يقف أمام الكثير من الأمثال الشعبية التي تعكس قيمة الأرض عند الفلسطينيين وأنها كالعِرْض، وتدعو إلى التشبث بالأرض وأنها أساس الكرامة البشرية، وتحثّ على التمسك بالوطن والحرص عليه والدفاع عنه، وأنّ الإنسان بلا وطن يعيش في غابة ويكون عرضة للكلاب والذئاب والضباع والثعالب وسائر المفترسين! وهو ما يفسّر صمود الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال ودفاعه عن أرضه وتمسكه بها. وأقف هنا مع ثمانية أمثلة مشهورة سيَّارة في ألسنتهم عن رباعية (الأرض والعرض والإنسان والكرامة)، هي:
– (الأَرْضُ كَالعِرْضِ)، فهو مَثَل يعبِّر عن قيمة الأرض في نفوس الناس والأبناء، وأنها غالية مثل العرض الذي لا يمكن التّفريط فيه، مهما حدث.
– (الأرض لا بتنحرق ولا بتنسرق)، فهو مَثَل آخر عن قيمة الأرض لدى الشعب الفلسطيني، وأنها ثابتة وتنتظر عودة أصحابها مهما طال الزمان، فالأرض باقية دائمًا.
– (الأرض بالشبر؟ قالوا: لأ، الأرض بالظفر)، فهو مثل آخر يدل على أهمية الأرض وأنها ليست تقاس بالشبر، لأن الأرض لها مكانة عالية وغالية في قلوب الشعب الفلسطيني.
– (الزَّرِع لَلزَّرَّاع، وِالأرض لأهِلها)؛ فهذا المثل يدل على أن الأرض تظل لأصحابها أبد الدهر، مهما كثُر وتتابع عليها الزارعون؛ فهي ملكهم في النهاية وهذه حقيقة لا يمكن أن تتغير.
– (اثنين يوجبوا الموت: الأرض وِالعَرض)، فهذا المثل يوضح أن الأرض غالية وعالية المكانة مثل العرض لدى الأنسان فيجب على الشخص أن يدافع عن الأرض والعرض حتى ولو مات دفاعًا عنهما.
– (بَيَّاع أرضُه، ضاع عَرضُه)؛ فهذا المثل يذمّ الشخص الذي يبيع أرضه؛ لأنها تعادل أنه باع عرضه مما يجعله في مكانة دنيا فهو ذليل.
– (إللي ملوش جَذِر، بمُوت قَهِر)، فهذا مَثَل يشير إلى أهمية الأرض لدى الإنسان، وأنه يجب أن يكون لديه أرض مهما كان حجمها، حتى يكون له أساس وجذور في الحياة.
– (إللي ما عندُه عَطَن، ما إلُوه وطن)، فهذا المثل يضرب أنه يجب على الأنسان أن يمتلك قطعة أرض خصبة يزرعها وتعطيه الخير الكثير؛ لأن الذي ليس لديه عطن أخضر ليس له وطن أو أرض له.
فما أجمل هذه الأمثال المُقاوِمة، التي تنور الإنسان، وتغرس فيه حب البلاد والعباد والمُقدّسات، وما أحوج الأجيال الشابّة إلى حفظها وحسن تذوقها وتدبرها، والتَّربِّي على مفهومها الطيِّب البنَّاء!
الأمثال.. تُراثٌ مُهمَلٌ وحِكمةٌ غائبة!
بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد (كاتبٌ من مصر)
حين كنا طلَّابًا في الصف الأول الثانوي، درَسنا المثَلَ فيما درسناه من فنون النثر في عصر ما قبل الإسلام، إلى جانب الحكمة والخطبة والوصيّة، وعرَفنا أنه قولٌ بليغٌ موجز، سار على ألسنة الناس، وذاع وانتشر على مرِّ العصور، لا يُعرَفُ في الغالب مَن قائله، وله موردٌ، وهو المناسبة التي قيلَ فيها ابتداءً، ومضرِب، وهو الحالة التي تشبه تلك المناسبة التي قيل فيها أولَ الأمر، وكانوا يقدِّمون لنا بعض الشواهد التي توضح هذا التعريف، كقول العرب: أسمع جعجعةً ولا أرى طحنًا، الحرُّ حرٌّ وإن مسَّه الضُّر، إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، لا تلد الحيةُ إلا حية، قبل الرِّماء تُملَأُ الكنائن، مقتل الرجل بين فَكَّيْه، كأن على رؤوسِهم الطير، ويلٌ للشجيِّ من الخلي.
أيامها كان من عادتي أن أبدأَ من الكتاب المدرسي ولا أنتهي عنده، ولا أكتفي به، وكان من حسن حظِّي أن بائع الجرائد والمجلات كان على مرمَى حجرٍ من المدرسة، وكنت أعرِّجُ عليه يوميًّا قبل أن أذهب إليها، وأشتري منه كتابًا أو اثنين، وربما أكثر، على قدر ما يحتمل جَيبي، وما كدت أرى عنده كتاب “الأمثال الشعبية” للأستاذ “محمد قنديل البقلي”، حتى التقطته بسرعة، وحين عدت إلى البيت، عكفت عليه، وذرعته من أوله إلى آخره في جلسة واحدة؛ ليس لأنه في حجم كف اليد ويقع في أربع وستين صفحة فحسب، ولكن لأنه كان سهلَ اللفظ، شائقَ الأسلوب، حسَنَ الترتيب والتبويب، وكان فيه من المعلومات الكثيرة والطريفة ما أغراني بقراءته والفراغ منه، وكانت والدتي رحمةُ الله عليها، وهي سيدةٌ أمية، تعجب مني حين كنت أقرأ لها منه بعض الأمثال التي تعرفها والتي تجهلها، وتقول لي بنظرة عينيها: إنك صرت كبيرًا وخبيرًا بشئون الحياة والبشر؛ كأن من وعَى “الأمثالَ” في صدره، أضاف أعمارًا إلى عمره.
وأزعم أنها كانت على حق؛ فحين كان يتصادف أن أجلس مع أبي وأصحابه، ويَرِدُ على لسان أحدهم مثَلٌ من الأمثال التي قرأتها، كنت أحسُّ أنني أعرف ما يعرفه الكبار، وكان يحدث أن يقول بعضُهم نصف المثل الأول فأندفع وأكمله؛ فإذا قال: الغني غنوا له، قلت: والفقير ايه يعملوا له، وإذا قال: في الوش مراية، قلت: وفي القفا سِلَّاية. ولم أكن أعلم أنه اكتفى بما قاله لعلمه أن الآخرين يعرفون بقيته، لكنهم، والحق يقال، كانوا لا يُخفون إعجابهم بي ولا تعجبَّهم مني.
بعد فترةٍ، ومع تعقُّد صلتي بالناس، صرت على يقينٍ من أن الأمثال توشك في معظمها أن تكون حقائق مطلقة، ومنها ما ينطبق على أكثر الذين أخالطهم وأحتك بهم؛ وفيها تفسيرٌ موجزٌ ومختزلٌ لطبائع البشر وأحوالهم، مما يَصِحُّ أن نُدخِلَه في “علم النفس الاجتماعي”، وهي بهذا تُغني المرء عن عيش سنوات وقراءة مجلدات، إذا أحسن فهمها ولم يبالغ في تطبيقها. وقد تأكد لي ذلك حين قرأت كتاب “الأمثال العامية” للعلامة المحقق “أحمد تيمور باشا”، وكثيرًا ما أعود إليه وأراجعه وأفيد منه، وطالعت تعليقاته على كل مثل، ومنها: “تِعاتِب الدِّنِي تِكبَر نِفسُه”، أي: الدنيء لا يُعاتَب، لأنَّ العتاب يَزيدُه كِبرًا وتعاظمًا. الزاني ما يْآمِن على مْراتُه”، لأنه بسوء سيرته يحملها على الاقتداء به، ويسهِّل على نفسِها التفريط. “عساكر الكِرا ما تضرَبش بارود”، أي: الجندي الذي يُكرَى على الحرب لا يُحارَب، لأنه لا يحارب دفاعًا عن حوزته، فهيهات أن يتقدم أو يطلق بارودة إذا تُرِك وشأنَه. يُضرَب للفرق بين عمل المدفوع بالرغبة وعمل المدفوع بالترغيب. وفي معناه قولهم: “غُزّ الكِرا ما يحاربوش”، وقريبٌ منهما قولُهم: “كلب يْجُرُّوه للصيد ما يِصطاد”. “الغجرية ست جيرانها”، الغجر: طائفة معروفة يُقال لهم: النَّوَر أيضًا. والمراد بالغجرية هنا: الشريرة السليطة اللسان المتخلِّقة بأخلاق الغجر. وكونها سيدة جيرانها لتطاولها عليهم بالبذاءة، واتقائهم شرَّها بالسكوت والمداراة، وبئست هذه السيادة. “بفلوسك بنت السلطان عروسك”، الفلوس يريدون بها النقود، والمعنى: بمالِكَ تفعل ما تشتهي، حتى لو أردت التزوُّجَ ببنت السلطان لاستطعت.
كانت الأمثال العامية هي الأقربَ إلى نفسي وإلى أذني، وكان كبار السن، وبخاصة من النساء، يستشهدون بها في أحاديثهم، ويقولونها في مواقفَ تنطبق عليها، وهو ما تراجع كثيرًا بمرور الأيام، ونشأت أجيالٌ مقطوعة الصلة بماضيها، القريب والبعيد، ترى في الأمثال دليلًا على ثقافة عتيقة، ترتبط في أذهان كثيرين بالفقر والجهل، آن لها أن تنزاح لتفسح الطريق لثقافة أخرى، لها تعبيرها الخاص عن خبراتها وتجاربها وطبيعة معيشتها، وهو ما جعلني أتابع “الأمثالَ” في مظانها ومصادرها، وأطالع الكتب التي جمعتها والدراسات التي تناولتها. وكان عليَّ أن أبدأ من البداية، من مفهوم المثل وتعريفه.
جاء في كتاب “الكليات” لـ “أبي البقاء الكفوي” أن المثلَ اسمٌ لنوعٍ من الكلام، وهو ما تراضاه العامة والخاصة لتعريف الشيء بغير ما وُضِع له من اللفظ، يُستعملُ في السرَّاء والضراء، وهو أبلغ من الحكمة… ويُسمَّى الكلام الدائر في الناس للتمثيل مثلًا لقصدهم إقامة ذلك مقام غيره، والشرط في حسن التمثيل هو أن يكون على وَفق الممثَّل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل، في العِظَم والصغَر والخِسَّة والشرف، وفي كلام العرب: “أسمع من قُراد، وأطيشُ من فَراشة”، و”أعزُّ من مخِّ البعوض”، ونحو ذلك. وقال “ابن السِّكِّيت”: “المثَلُ لفظٌ يخالف لفظ المَضروب له ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبّهوه بالمثال الذي يُعمَلُ عليه غيرُه”.
وقال “إبراهيم النظَّام”: “يجتمع في المثَلِ أربعةٌ لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية؛ فهو نهاية البلاغة”. وقال “ابن المقفع”: إذا جُعِل الكلامُ مثلًا كان أوضح للمنطق، وآنقَ للسمع، وأوسعَ لشعوب الحديث. وقد وصف “ابن عبد ربه” الأمثال بأنها: وَشْيُ الكلام، وجوهر اللفظ، وحَلْيُ المعاني؛ فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسِر شيءٌ مسيرَها، ولا عمَّ عمومَها، حتى قيل: أسيَرُ من مثل، وقال الشاعر:
ما أنت إلا مثَلٌ سائرُ — يعرفُه الجاهلُ والخابرُ
ويقول العلامة “أبو السعود” في تفسيره: “والتمثيل ألطفُ ذريعةً إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلةً إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع سَورة الجامح الأبي، كيف لا؟ وهو رفْعُ الحجابِ عن وجوه المعقولات الخفية، وإبراز لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشيِّ في هيئة المألوف”.
هذا، وتوشيع الكلام بالأمثال مما يزيده نصوعًا ووضوحًا وبيانًا، ويخلع عليه حلة من الروعة والجلالة، ويجعله إلى الأذهان أسرع، وبالقلوب ألصق، وبالنفوس أعلق، وحسب الكاتب أو الخطيب أو المتكلم أن يرصِّعَ قولَه بمثَلٍ من الأمثال ليتجلَّى فيه الحسن كاملًا، والبيان رائعًا، والجلال غير منقوص؛ فيأخذ بمجامع القلوب، ويملك الأسماع، ويختلب الألباب.
واضحٌ من هذه التعريفات أن القدماء قد غلَّبوا الجانب اللغوي والأدبي على الجانب الموضوعي، ولم يحاولوا النظرة الاجتماعية، باعتبار أن هذه الأقوال وليدة الطبقة الخاصة، وهي طبقة المثقفين، كما أنها لم تكن تستخدم، في الغالب الأعم، إلا في التحلية الأسلوبية. حقيقةً لقد اشترط بعضهم الشيوع والذيوع بين الناس، ولكن الذيوع عندهم لا يعني سوى الذيوع بين طبقةٍ معيَّنة. وهو ما سوف يختلف عند المحدثين.
يرى الدكتور “إبراهيم أحمد شعلان”، في كتابه عن “الشعب المصري في أمثاله العامية”، أن المصدر الحقيقي للأمثال، في كلِّ العصور وفي كلِّ مكان، هو الشعب، فالشعب هو الذي يصوغ هذه الحكمة، وهو الذي يعطيها القوة الدافعة للانتشار، كما يعطيها صكًّا بالبقاء أو الفناء، لذلك نجد أن التعريفات مهما اختلف زمانُها ومكانُها، فإنها تتفق إلى حدٍّ ما ولو في بعض العناصر، ذلك لأن الأصلَ واحدٌ والتربة تكاد تتشابه؛ فمصدرُها الشعب وتربتها الشعب.
ويذهب الأستاذ “أحمد أمين”، في “قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية”، إلى أن الأمثال نوعٌ من أنواع الأدب يمتاز بجودة اللفظ وحسن المعنى ولطف التشبيه وجودة الكناية، وهو هنا يتابع “النَّظَّامَ” فيما سبق أن نقلناه عنه، ولا تكاد تخلو منها أمة من الأمم. ومزيَّةُ الأمثال أنها تنبع من كل طبقات الشعب، وليست في ذلك كالشعر والنثر الفني؛ فإنهما لا ينبعان من الطبقة الأرستقراطية في الأدب. وأمثالُ كلِّ أمةٍ مصدر هامٌّ جدًّا للمؤرخ الأخلاقي والاجتماعي، يستطيع كلٌّ منهما أن يعرف كثيرًا من أخلاق الأمة وعاداتها ونظرتها إلى الحياة، لأن الأمثالَ عادةً وليدةُ البيئة التي نشأَت عنها.
أما “موسوعة التراث الشعبي العربي” التي حرّرها الدكتور “محمد الجوهري” فنقرأ فيها أن المثَلَ يعبِّر عن حقيقة مألوفة، صيغَت في أسلوبٍ مختصرٍ سهل، حتى يتداولَه جمهورٌ واسعٌ من الناس، وفيه خاصيّتان أساسيتان، هما الطابع التعليمي من حيث الموضوع، والاختصار والتركيز من حيث الأسلوب. ويرى “ألكسندر كراب” أنه ليس بوسعنا أن نعتبر المثل، رغم شيوعه بين الناس، إنتاجًا جماعيًّا، بل لقد صُنِع كلُّ مثَلٍ ذات مرة، وفي مكانٍ ما، وزمن ما، وصاغه عقل فردٍ مجبول على صياغة الحِكَم والأمثال، بينما يراه دارسون آخرون أنه ناتجٌ جماعي، فهو يصوِّرُ عادات اجتماعية ومعتقدات دينية عفى عليها الزمن أحيانًا، أو هو قصص تفسر أصلَها على حدِّ زعم المدرسة الأنثروبولوجية.
ويخبرنا الدكتور “شوقي ضيف” في كتاب “الفن ومذاهبه في النثر العربي”، أن الأمثال تجري في لغة التخاطب وأحاديث الناس اليومية العادية، وقلَّما نمَّق أصحاب هذه الأحاديث لغتَهم أو حاولوا أن يوفروا لها ضروبًا من الجمال الفني البديع. ومن ثَمَّ كان كثيرٌ من الأمثال الجاهلية يخلو خُلُوًّا تامًّا من المهارة البيانية، وكانت طائفة منها تخرج على الأصول الصرفية والنحوية، ومن أجل ذلك قالوا: إنه يجوز فيها من الحذف والضرورات ما لا يجوز في سائر الكلام.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الأصلَ في الأمثال أن لا تكون مصقولةً ولا مصنوعة، لأنها من لغة الشعب، وقلما نمَّق الشعب في لغتِه، غير أنه كثيرًا ما تصدر الأمثال عن الطبقة الراقية في الأمة: طبقة الشعراء والخطباء، ولا يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيِّدٌ مشهورٌ أو خطيبٌ معروفٌ، إلا وتضاف إليه جملةٌ من الحِكَم والأمثال، وقد حققت لها هذه الطبقة ضروبًا من عنايتها العامة بفنها. وهذا هو مصدر الاختلاط في الحِكم على الأمثال، فبينما نجد أمثالًا غيرَ مصقولة، نجد أخرى تفنَّنَ أصحابُها في صوغها وإخراجها في أسلوبٍ بليغ، على شاكلة تلك الأمثال: إن البُغاث بأرضنا يَستنسِرُ، وراء الأكَمَةِ ما وراءها، لا تكن رطبًا فتُعصَر ولا يابسًا فتُكسَر، لا تكن كالعنز تبحث عن المُدية، المِكثارُ كحاطب الليل، المَنيَّةُ ولا الدنيَّة.
لقد ترك العربُ تراثًا ضخمًا من الأمثال، وهو ثروة أدبية وعقلية لا نجد مثلها عند أية أمّة من الأمم، وقد طالعتُ في معجم “المورد” مجموعة كبيرةً من الأمثال الإنجليزية (proverbs) فكدت أقول: “هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا”. ولذلك عُنِيَ علماء العرب، من أدباء ولغويين ومؤرخين ومفكرين، بجمع تلك الأمثال وتفسيرها ودراستها، فوضع “المفضل الضبيُّ” كتاب “الأمثال”، ووضع “أبو هلال العسكري” كتاب “جمهرة الأمثال”، ووضع “أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني” كتاب “مجمع الأمثال”، وهو ستة آلاف مثَلٍ ونيف، وهو المرجع الأكبر في هذا الموضوع.
أمَّا الأمثال العاميّة فقد كانت أوفرَ حظًّا، ووجدت من عناية المهتمين بجمعها ودراستها ما ضمن لها البقاء في صحائف الكتب، وإن لم يضمن لها الذيوع على ألسنة الناس، أو حتى يعيدها كما كانت، وقد ذكر الدكتور “إبراهيم أحمد شعلان”، في الجزء الأول من “موسوعة الأمثال الشعبية المصرية” عددًا كبيرًا من الكتب التي عُني أصحابُها بجمع الأمثال العامية ودرسها، من بينها: “أمثال المتكلمين من عوام المصريين” لـ “محمود عمر الباجوري”، و”أمثال العوام في مصر والسودان والشام” لـ “نعوم شقير”، و”مجمع الأمثال العامية” للشيخ “محمد شكري المكي”، و”الأمثال العامية” لـ “أحمد تيمور”، و”حدائق الأمثال العامية” لـ “فايقة حسين راغب”.
ومن العجيب أن في كتاب “العقد الفريد” لـ “ابن عبد ربه” طائفة غير قليلة من الأمثال التي لا تختلف في مبناها ولا معناها عن الأمثال السائرة بيننا حتى الآن، ومنها: تباعدوا في الديار وتقاربوا في المحبة = ابعدوا حبة تزيدو محبة، كما تدين تُدان = دايِن تُدان، إذا زلَّ القدر عميَ البصر = ساعة القضا يِعمى البصر، الغائب حُجته معه = الغايب حِجته معاه.
ومن حسن الحظ، كما يقول الأستاذ “محمد قنديل البقلي”، أننا نجد في كتابٍ مصري، يرجع إلى القرن التاسع الهجري، وهو كتاب “المستطرَف من كل فنٍّ مستظرَف”، بابًا خاصًّا بالأمثال المصرية، جمع فيه مؤلفُ الكتاب عدة أمثالٍ تبلغ نحوًا من ثلاثمائة وخمسين مثلًا، إذا قرأناها فسنجد أنها تتفق في كثيرٍ من ألفاظها مع ما ينطق به رجلُ الشارع اليوم، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على أن هذه الأمثال كانت موجودةً قبل القرن التاسع للهجرة، وأنها بقيَت على حالتها، يرويها الشعبُ جيلًا بعد جيل، ويأخذها الصغيرُ عن الكبير بدون تغيير يُذكَر، لا لشيءٍ إلا لأنها ما زالت تمثل الحياة المصرية بالرغم مما أصاب حياتَنا من تغيير وتطوّر، وهذا يدلُّ من ناحيةٍ أخرى على أن مصر تتمتع بمَيزة المحافظة وبحب الجديد في الوقت نفسِه.
ومن طريف الأمثال التي قرأتُها في كتاب “الأبشيهي”: إذا أبغضك جارك حول باب دارك، إذا كان صاحبك عسل لا تلحسه كله، أيش أنت في الحارة يا منخل بلا طارة، الفشر والنشر والغدا خبيزة، إذا وقعت يا فصيح لا تصيح، بدَل لحمتك وقلقاسك هات لك شَد على راسك، تزاوروا ولا تجاوروا، تبات نار تصبح رماد لها رب يعدِّلْها، جور القط ولا عدل الفار، حاجة لا تهمك وصِّي عليها زوج أمك، حبة قرض تخرب أرض، خبزه بلا إدام ويعزم الجيران، صام سنة وفطر على بصلة، غابت السباع ولعبت الضباع، قالوا للعرب ارحلوا حملوا المناسف، ما شِلتك يا دمعتي إلا لشدتي، نسيت يا فلاح ما كنت فيه كَعبَك المشقق والوحل فيه، لا أخوك ولا ابن عمك تشق توبك على أيش؟.
ومن تتمّة القول وكماله، بل وجمالِه أيضًا، أن أشير إلى كتابين تناولا الأمثال في القرآن، أولهما للأستاذ “أبو الوفاء محمد درويش”، وصدر منذ خمسٍ وسبعين سنة، ولا أعرف له طبعةً غير التي عندي، تناول فيه ثمانية وعشرين مثلًا، ضربها الله للناس لعلهم يتفكرون، من بينها مثلُ المنافقين: “مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ”، ومثَل الذين كفروا: “وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ”، ومثل المشرك: “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”. أمَّا الكتاب الثاني فهو “الأمثال في القرآن” للدكتور “محمود بن الشريف”، وقد صدر في سلسلة “اقرأ”، وبين يديَّ طبعته الرابعة، وأترك للقارئ أن يعود إليه لينتفع بما عرض له من موضوعات.
وقد ذكر “الأبشيهي” في كتاب “المستطرف”، جملة من أمثال كتاب الله الموجزة التي تُعجِز كلَّ بيان، ومنها: “الآن حَصْحَصَ الحق”، “أليس الصبحُ بقريب”، “لِكُلِّ نبأٍ مستقر”، “ما على الرسولِ إلا البلاغ”، “لا يكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعَها”، “لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تسؤْكم”، “ولتَعلَمُنَّ نبأَه بعد حين”.
ومن هذه الأنوارِ البيانية كانت البلاغة النبوية في إيجازها الحكيم وحكمتها الموجزة، وكان من أمثال الحديث النبوي السائرة: نية المرء خيرٌ من عمله، مَطَلُ الغنِي ظُلم، الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق، اطلبوا الخير من حسان الوجوه، إياك وما يُعتَذَرُ منه، سيد القوم خادمهم، الوحدة خيرٌ من جليس السوء، الندم توبة، انتظار الفرج عبادة، نِعمَ صومعةُ الرجل بيتُه، الأعمالُ بخواتيمها.
وبعد، فإننا نعيش في زمنٍ غاب فيه صوتُ العقل، وغامت فيه أنوارُ الحكمة، كَثُرَ فيه السّفهاء ممّن يَهرِفون بما لا يعرفون، وقلَّ فيه العلماء من أولي التجارِب والبصائر والنُّهى، ووجب على الأمة أن تراجعَ نفسَها وترجعَ إلى تاريخها وتستعيدَ شخصيتها، وكم أتمنى أن تصير “الأمثال العربية” موضوعًا مقرَّرًا على طلابنا في مراحل التعليم كلِّها، لا يُكتفى فيه بنماذجَ للحفظ والاستظهار، ينتهي أثرُها بعد الامتحان، وربما قبله؛ بل تُدرَس درسًا مفصَّلًا يربط بينها وبين الواقع الذي نحياه والعالَم الذي نضطرب فيه، وتُلقَى الأضواءُ على ما فيها من فلسفة وتاريخ وعلم نفس وعلم اجتماع.
هذه خُطوةٌ أولى، وهي بدايةٌ على كلِّ حال، وطريقُ الألف ميل يبدأ دائمًا بخطوة واحدة!
سياحةٌ في رحاب الأمثال العربية
بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كُتّاب مصر)
المَثَل في اللغة: المِثْل وهي كلمة تسوية، وهو الشبيه والنظير، والجمع أمثال. والمثل: العِبرة والآية والحُجّة، ويقال: أقام له مثلا أي: حجة، والمثل: الحديث، يقال: “بسط له مثلا” أي حديثا، والمثل: الأسطورة على لسان حيوان أو جماد، كأمثال “كليلة ودمنة”. والمثل: القول السائر أي: الفاشي الممثل بمضربه، ينقل ممّا ورد فيه إلى مشابهه من دون تغيير، والجمع أمثال.
والمَثل فنٍّ من فنون الكلام، يمتاز بخصائص ومقوّمات تجعله جنسًا قائما بذاته من الأجناس الأدبية، قسيمًا للشعر والخطابة والقصة والمقالة والمقامة وغيرها.
والأمثال مرآة صادقة لحياة الأمم والشعوب، تعكس خبراتها وتجاربها، وتكشف عن جوانب شتى من عاداتها وتقاليدها وأخلاقها ومعتقداتها، بل كثيرًا ما تعبِّر عن أدقّ مجريات حياتها اليومية، وهي بهذا تمتاز على سائر الفنون الأدبية.
وتخلع الأمثال على الكلام روعة وبهاء، وتكسبه فخامة وقبولا، تجعله يصافح المسامع، ويلامس القلوب، ويقع في النفوس موقعًا كريمًا، وقد فطن لذلك علماء البلاغة فهذا “أبو هلال العسكري” يقول في مقدمة كتابه القيّم “جمهرة الأمثال”: “ثم إني ما رأيتُ حاجة الشريف إلى شيء من أدب اللسان، بعد سلامته من اللّحن، كحاجته إلى الشاهد والمثل، والشذرة والكلمة السائرة، فإن ذلك يزيد المنطق تفخيما، ويُكسبه قبولا، ويجعل له قدرا في النفوس، وحلاوة في الصدور، ويدعو القلوب إلى وعيه، ويبعثها على حفظه”.
وقال “ابن عبد ربه” صاحب “العقد الفريد” عن الأمثال وقد عقد لها بابا في كتابه “هي: وشي الكلام، وجوهر اللفظ، وحلي المعاني، تخيَّرتها العرب، وقدّمتها العجم، ونُطق بها في كل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عمّ عمومها، حتى قيل: أَسيَر مِن مَثل” (العقد الفريد لابن عبد ربه 3/ 36).
وفي المثل اختصار للفصاحة، وتمثيل للبلاغة في أجمل صورها، وقديما عُرِّفت البلاغة بأنها الإيجاز، وما ثمة أوجز من المثل.
ويمكن تعريف المثل بأنه قول موجز سائر، صائب المعنى، تُشبّه به حالةٌ حادثة بحالةٍ سالفة، وهو ما انتهى إليه الدكتور “عبد المجيد قطامش” في كتابه “الأمثال العربية، دراسة تاريخية تحليلية”، (دار الفكر بدمشق عام 1408هـ/ 1988م).
وللمثل مَورد ومَضرب، فأمّا (مورد المثل) فهو الحالة التي قيل فيها المثل ابتداء، وأما (مَضرب المثل) فهو إطلاقه واستعماله في الحاجات والمواقف المتجدّدة التي تشبه الحالة الأولى.
وهناك أمثال حقيقية وأمثال غير حقيقية وردت على لسان الحيوان كقولهم على لسان الثور الأحمر: أُكِلت يوم أُكِل الثور الأسود، وقولهم على لسان الحيّة: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك، وقصص هذه الأمثال موجودة في كتب الأمثال العربية القديمة.
وتراثنا العربي زاخرٌ بكتُب الأمثال التي تؤكّد المكانة الكبيرة للأمثال في حياة الناس، فقد كانت بمثابة الهواء والماء والخبز في الحياة اليومية للمجتمع، يتوارثها الناس جيلا عن جيل، ويستعملونها في أحاديثهم لتوضيح أقوالهم أو للزيادة في الفهم أو للسخرية والتهكّم.. وغالبا ما يكون المثل مرتبطا بحدثٍ مُعيّن، ولكن حكاية الحدث اندثرت وبقي المثل سائرا يتداوله الأفراد.
ويُقال: “بالمثال يتّضح المقال”، فقولهم “يداك أوكتا وفوك نفخ”، يُضرب لمن يجني على نفسه ويعرضها للهلاك، ومورد المثل أن رجلا أراد عبور نهر على زقٍّ، فنفخ فيه ولم يحكم إغلاقه، فلما توسّط النهر خرج الهواء من الزق، فغرق، فاستغاث برجل فقال له هذا المثل.
وقد ضرب الله الأمثال في القرآن الكريم، وقال سبحانه وتعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا” (سورة: البقرة: آية 26)، وقال عزّ من قائل: “كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ” (سورة: الرعد، آية 17)، وقد ورَد المَثل في القرآن الكريم مُفردًا ثلاثًا وستين مرة، وورد مُضافًا للضمير المفرد ثلاث مرات، ولضمير الجمع ثلاث مرات، كما وردت كلمة الأمثال معرفة ومجموعة إحدى عشرة مرة، كما وردت مضافة للضمير ثمان مرات، وكل ذلك دليل على اهتمام القرآن بضرب الأمثال، حتى يتّعظ اللاحق بحال السابق.
وقد ألِّفَت كُتب في أمثال القرآن الكريم، قديما وحديثا.
ومن آيات القرآن الكريم الجارية مجرى الأمثال:
1ـ الآن حصحص الحق: وتستعمل لظهور الأمر بعد خفائه أو الشك فيه.
2ـ قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان: تستعمل في اليأس من الرجوع في الحكم أو العمل.
3ـ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله: أي مدبر الشر يقع فيه، أو ما نقوله نحن: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
4ـ لكل نبأ مستقر: وتضرب للنص على أن لكل شيء غاية.
5ـ قل كل يعمل على شاكلته: تستعمل في دلالة العمل على طبيعة صاحبه.
6ـ كل نفس بما كسبت رهينة: تستعمل في تحمل الإنسان نتيجة عمله.
7ـ ما على الرسول إلا البلاغ: تستعمل في المرء يقوم بواجبه من غير تقصير، وما عليه بمن يستجيب أو يُعرض.
8ـ الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين: تستعمل في عدم فائدة التوبة بعد فوات الفرصة.
9ـ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى: تستعمل للجماعة يبدون كالمتفقين وأهواؤهم مختلفة.
10ـ ولا ينبئك مثل خبير: تستعمل للمرء يعرف الشيء أكثر من غيره.
11ـ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها: تستعمل في الاكتفاء ببذل غاية الجهد.
12ـ فاعتبروا يا أولي الأبصار: تستعمل في لفت النظر إلى مواطن العبرة والتبصر.
13ـ ضعف الطالب والمطلوب: تستعمل لبيان ضعف المتكبر الجاهل.
14ـ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم: تستعمل للقوم يفقدون خيرا لا يستحقونه.
وكل هذه الأمثال ليس فيها لفظ المثل وإنّما اتخذها الناس أمثالا لصدق دلالتها وحسن تعبيرها في المواقف التي تُساق فيها على نحو ما بيّنا.
كما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرب الأمثال اقتداء بالقرآن الكريم، ومن الأمثال التي وردَت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى” وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لرجل اجتهد في العبادة حتى هجعت عيناه، أي غارتا، فلما رآه قال له: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ثم ساق المثل، والمنبت هو الذي يجدّ في السير حتى ينقطع، فلا يكمل المسير، فلا هو قطع طريقه ولا أبقى دابته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير…” وغيرها من الأحاديث النبوية الشريفة التي ضرب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال.
ومن أمثال العرب: (إن العوان لا تُعلم الخِمرة)، والعوان: المرأة التي سبق لها الزواج، والجمع: عون، والعوان من الحرب: التي قوتل فيها مرة بعد مرة، كأنهم جعلوا الأولى بكرا، والخِمرة كيفية لبس الخِمار، ويضرب هذا المثل للرجل العالم بالأمر المجرب له.
ومن أمثالهم: (أكل عليه الدهر وشرب)، ويُضرب لمن طال به العمر، قال الشاعر:
كم رأينا من أناس قبلنا — شرب الدهر عليهم وأكل
وقولهم: (جوّع كلبك يتبعك)، ويضرب في معاشرة اللئام وما ينبغي أن يعاملوا به، وأول مَن قال ذلك ملك من ملوك “حمير”، كان عنيفا على أهل مملكته، يغصبهم أموالهم ويسلبهم ما في أيديهم، وكانت الكَهَنة تخبره أنهم سيقتلونه، فلا يحفل بذلك، وقد سمعَت امرأته أصوات السائلين فقالت: إني لأرحم هؤلاء لما يلقونه من الجهد، ونحن في العيش الرغد، وإني أخاف عليك أن يصيروا سِباعا وقد كانوا لنا أتباعا، فردّ عليها بهذه الكلمات التي صارت مثلا.
وقولهم: (كل فتاة بأبيها معجبة)، ويضرب في إعجاب المرء بما يخصّه من عمل أو عشيرة.
وقولهم: (صدرك أوسع لسرّك)، ويضرب في الحضّ على كتمان السرّ، ويقال: مَن طلب لسرّه مَوضعًا فقد أفشاه، وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسرّ؟ فقال: أنا لَحده.
وقولهم: (ترى الفتيان كالنّخل، وما يدريك ما الدَّخل)، ويضرب لروعة المظهر مع سوء المخبر، والدَّخل: العيب الباطن.
وقولهم: (قبل الرماء تملأ الكنائن)، ويضرب لأخذ الأهبّة للأمر قبل وقوعه، والكنائن جمع كنانة وهي خريطة تُجعل فيها السِّهام.
وقولهم: (لا تُعدم الحسناء ذامًّا)، ويضرب لعدم خُلوّ الجمال والكمال من علّة.
وقولهم: (لو ذات سوار لطمتني)، ويضرب للكريم يظلمه دنيء أو لئيم.
وقولهم: (الحرب خدعة)، ويضرب للاحتيال للوصول إلى الغاية.
وقولهم: “إنْ كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا)، ويضرب للتحدّي والمقارعة.
وقولهم: (لو كرهتني يدي ما صحبتني)، ويضرب للأنفة وعزة النفس.
وقولهم: (أَحشفًا وسوء كيلة؟!)، ويضرب للشيء الفاسد من غير ما وجه.
وقولهم: سبق السيف العذَل، ومقتل الرجل بين فكيه، والعود أحمد، وتسمع بالمُعَيدي خير من أنْ تراه، واستنوق الجمل، والبلاء مُوكل بالمنطق، والحديث ذو شجون، والسعيد من وعظ بغيره، ولكل جواد كبوة، ومن أشبه أباه فما ظلم وغيرها.
وقد ازدهرت الأمثال في الشعر في العصر العباسي، ومن أشهر الشعراء الذي صاغوا شعرهم نتيجة خبرتهم الحياتية وضمنوه خلاصة تجاربهم العميقة وثقافتهم الواسعة: أبو تمام، أبو الطيب المتنبي، أبو العلاء المعري، أبو العتاهية. وفي العصر الحديث برع أمير الشعراء “أحمد شوقي” في صياغة الأمثال، ومعظم ما نتمثّل به في الفصحى من شعر المتنبي قديما وأحمد شوقي حديثا.
ومن الأمثال الشعرية التي شاعت في الكلام وتمثّل بها الناس قول “معن بن أوس”:
أعلِّمه الرّماية كل يوم — فلما اسْتًدَّ ساعده رماني
وقول الصمة “القشيري”:
تَمتَّع من شميم عرار نجد — فما بعد العشيّة من عرار
وقول الشاعر:
والمستجير بعمرو عند كربته — كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقول الشاعر:
يا باري القوس بَرْيًا ليس يُحكمه — لا تظلم القوس أعط القوس باريها
ومن أطرف ما ورد في الشعر العربي قصيدة ذات الأمثال لأبي العتاهية التي بلغت نحو أربعمائة بيت، في كل بيت منها مَثلٌ أو أكثر، ومنها على سبيل التمثيل:
حسبك ممّا تبتغيه القوت — ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا — مَنْ عرف الله رجا وخافا
إنَّ القليل بالقليل يكثر — إنَّ الصفاء بالقذى ليكدر
ومن أمثال المتنبي الشعرية قوله:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا — كنقص القادرين على التّمام
ومن حكم المعري الشعرية وأمثاله السائرة:
خفف الوطء ما أظن أديم الأر — ض إلا من هذه الأجساد
ومن أمثال شوقي الشعرية قوله:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم — لم يُبْنَ ملك على جهل وإقلال
وقوله كذلك:
وما نيل المطالب بالتمني — ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
ومن أمثال حافظ إبراهيم الشعرية قوله:
لا تحسبن العلم ينفع وحده — ما لم يتوّج ربُّه بخلاق
ولما كانت الأمثال سائرة باللغة العربية الفصحى، فقد اتّجهت إلى اللغة العاميّة الخاصة بكل قُطر أو منطقة.. وكانت بمثابة “دستور” لحياة الأفراد والمجتمعات العربيّة، تشتمل على العِبرة والحكمة والنصيحة وحتى استشراف الأحداث قبل أنْ تقع.. فالمثل الواحد قد يكون خلاصة تجربة حياتية طويلة تُغني الإنسان و”تقتصد” في عمره سنين طويلة ليصل إلى مضمونه!، ولهذا يحرص العوامّ على ترديدها، وقد كانت جدّتي لأبي يرحمها الله رائعة في ضرب الأمثال التي كانت ترويها عن أبيها يرحمه، الله قائلة: الله يرحمك يا با، كان يقول: وتسوق المثل، وممّا أحفظه عنها: كثر الذرية تقل الميراث، وقولها: خد الحلو واقعه قباله، إن فرغ ماله يكفيك جماله، وقولها: خد من التل يختل.
وما زالت الأمثال تحتلّ مكانتها الكبيرة في حياة الأفراد والمجتمعات العربية، ويُمكن استثمارها في حياتنا الراهنة، والاسترشاد بما فيها من عِبر وحِكمٍ وشواهد.
وقد ساق معجم المنجد في اللغة والأعلام خمسا وأربعين صفحة تحت عنوان: فرائد الأدب في الأمثال والأقوال السائرة عند العرب (المنجد في اللغة والأعلام ـ دار الشرق ـ بيروت ـ ط السابعة والعشرون ـ ص 970 ـ 1014).
وقد قدر الله لي أن أكون ضيفًا أسبوعيًّا لمدة ستة أشهر تقريبا من شهر أبريل 2012م، على برنامج بإذاعة وسط الدلتا عن الأمثال العامية، بعنوان: “قصة مَثل”، فكانت المذيعة الأستاذة “منال الطوخي” تطرح المثل ويتّصل المستمعون لبيان معنى المثل ومورده ومضربه، وفي النهاية تقول: معنا ومعكم د. بسيم عبد العظيم لبيان معنى المثل، وقد جمعتُ من ذلك كتابا تربو صفحاته على المائة، وأعددته للطبع، وربما يُشجِّعني هذا الموضوع على الاهتمام به وطباعته، وقد كنتُ أقارن المثل العامي بنظيره من المثل الفصيح وأحيانا أقارنه بمثيله من الأمثال في الدول العربية أو بالأمثال العالمية.
وهذه أمثلة مما تناولته في كتابي: “في رحاب الأمثال الشعبية”:
(صاحب بالين كذاب، وصاحب ثلاثة منافق، وصاحب زوجتين أعزب). ويقابله في الفصحى: ذو الوجهين كاذب ودجّال، ومن أكل بالاثنين اختنق، وصاحب الصنائع السبع لا يتقن أيّ صنعة.
ومن الأمثال الحديثة: (كثير الكارات، قليل البارات).
– وهناك من الأدباء من يكتب الشعر والقصة أو الرواية والمسرحية ولكنه لا يجيد إلا فنًّا واحدًا يطغى على بقية الفنون، أو لا يتقنها جميعًا، وقَلَّ من يجيد أكثر من فن.
– وأرباب الصنائع والحرف قد يشغلون أنفسهم بأكثر من عمل في وقت واحد، فلا يستطيعون الوفاء فيشتهرون بالكذب حتى إن بعضهم ليقتني أكثر من آلة للعمل ويُسمّونها عدة الشغل.
ويقول المثل العامي: (كل واحد عقله في راسه يعرف خلاصه) أو (عقلك في راسك تعرف خلاصك) يعني: (حياتك من صنع أفكارك).
ويضرب المثل في الحضّ على الاعتماد على النفس، وقديمًا قال الشاعر العباسي أبو العتاهية:
كلٌّ يحاول حيلة يرجو بها — دفع المضرة واجتلاب المنفعة
وهذا المثل متداول في كثير من الدول العربية بصيغ قريبة ومتشابهة.
– فهو في الجزيرة العربية “كل حول نفسه” أي أنّ كل شخص يدور حول مصلحة نفسه ويسعى لها.
– وفي العراق “كلمن عقله براسه يعرف خلاصه”.
ويضرب للاستعانة بالعقل في حلّ المشاكل، وغالبًا ما يُساق عند الفوضى والفتن وتخلّي كل شخص عن احتمال تبعات غيره، فكأنما يريد قائله أن يقول: إنَّ كل مُبتلى ببلوى عليه أن يعالج بلواه بنفسه وعلى مسؤوليته دون الاتكال على الآخرين.
ويُقال أيضًا: “كلمن يقدح بزنادو”، والزناد: حديد يُضرب على الصّوان فيُحدث شرارة تحرق خرقة بالية يشعل بها، ويضرب في أن المفروض على كل رجل أن يقضي حاجته بنفسه.
ويقال أيضًا: “كلمن يعبي أبخرجو”.
وفي سوريا ومصر يقال: “عقلك في راسك تعرف خلاصك” و”عقله براسه يعرف خلاصه”.
وقريب منه في مصر “أبوك وجدك ما ينوبك غير كدك”، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
إنَّ الفتى مَنْ قال ها أنذا — ليس الفتى مَنْ قال كان أبي
وذكَر الميداني: “كن وصي نفسك” و”كل امرئ يحتطب في حبله”.
ويقول المثل العامي: (اللي يغزل كل يوم ميّة، يعمل في السنة زعبوط وطاقية)
وهناك رواية تقول: يعمل في السنة زعبوط ودِفيَّة، وأنا أفضل هذه الرواية الثانية لأنَّ الزعبوط والطاقية يُلبسان على الرأس أما الدفيَّة فهي تستر كل الجسد وتمنحه الدفء، فالدفية هي العباءة وهي باللهجة المصرية التي لم تعد مستعملة، فقد كنت أسمعهـا من جدّي يرحمه الله.
والمَثل يبيّن لنا أهمية العمل مهما كان، وخصوصًا العمل اليدوي، فقد كان أجدادنا وحتى آباؤنا يقومون بغزل صوف الأغنام، ثم يقومون بنسجه على صورة طواقي وبلوفرات وشيلان للرجال والنساء كانت تُشيع الدفء في أجسامنا ونحن صغار، أما اليوم فللأسف انقرضَت هذه العادات وكادت تندثر تمامًا.
وقد أعلى الإسلام من قيمة العمل، يقول تعالى: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” (سورة التوبة: الآية: 105). ويقول رسولنا الكريم: “من بات كالاًّ من عمل يده بات مغفورًا له”. وكان الأنبياء جميعًا يعملون بأيديهم، فنوح عليه السلام كان نجّارًا وقد صنع الفلك أو السفينة.. وداوود كان حدّادًا وكان يصنع الدروع التي تُستخدم للقتال، قال الله تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (سورة: سبأ، الآيتان: 10 و11).
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا “كان في مهنة أهله، فقد كان يرقّع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته”. وقد شارك الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، كما شارك في حفر الخندق بيده، وقصّته صلى الله عليه وسلم في سفره مع الصحابة وقد ذبحوا شاة فقال: “وعليّ جمعُ الحطب” فقالوا: نكفيك يا رسول الله فأبى ذلك وقال: “أكره أنْ أتفضّل عليكم”. وقصته مع مَن جاء يسأله، فأمره بالعمل، وباع أثاث بيته البسيط في مزاد قام عليه بنفسه، واشترى قدومًا وعمره بيده وطلب منه الاحتطاب.
وفي الحديث النبوي الشريف: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل”.
والصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون ويتاجرون، وسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه كان يحتطب على كتفه وكان واليًّا في عهد معاوية، ويقول: “أفسحوا الطريق لأميركم”.
وسيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه كان يغرس فسيلة وقد أسن، فلما سُئِل عن ذلك قال: “وما عليّ إن أخذتُ أجرها وانتفع بها غيري”.
وسيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يصنع الأواني أو السِّلال من خوص النخيل ويتكسّب ثلاثة دراهم في اليوم، يشتري بأحدها خوصًا لليوم التالي، وينفق الثاني، ويتصدّق بالثالث، ولما أرسل له عثمان مالاً أنفقه في سبيل الله وفضّل عمل يده.
ويقول المثل العامي: (نص البلد ما تعجبني، يا ترى أنا أعجب مين؟).
يمكن إهداء هذا المثل بداية لهواة النقد الدائم أو المستديم في مصر الآن، وكل فيلسوف أو متفلسف يحسب نفسه هو الخبير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوحيد وعلى كل الناس أن تتّبع رأيه، حتى وإن كان رأيه خطأ من وجهة نظرهم.
فالتنوع سُنّة الله في الخلق، فالناس ليسوا لونًا واحدًا، ولا عقلاً واحدًا، ولا مزاجًا واحدًا، وإنما هم مختلفون. والله يقول: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (سورة: هود، الآية: 118). ويقول مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ” (السورة: يونس، الآية: 99). ويقول كذلك سبحانه: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (سورة: البقرة، الآية: 256). ويقول سبحانه أيضا: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (سورة: الكافرون، الآية: 6).
هذا كلام الله تعالى لنبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم وتوجيهه له في أعلى قمة في حياة الإنسان وهي الإيمان به سبحانه.
ويوجه رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك في قوله تعالى في خطاب المخالفين: “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (سورة: سبأ، الآية: 24).
ولهذا كان المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم لا يستأثر بالرأي دون أصحابه، بل كان دائم الشّورى لهم كما وجّهه ربّه، قال تعالى: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (سورة: آل عمران، الآية: 159).
وكان من بعده الصحابة الكرام من الخلفاء الراشدين يشاورون ويقبلون النصيحة ويعملون بها، فالحكمة ضالّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.
وقد اعترضت امرأة على عمر بن الخطاب فقال: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”، فلم تأخذه العزّة بالإثم، ولم يستبدّ برأيه ويركب رأسه، كما يفعل الحكّام المستبدون في كل زمان ومكان.
وهكذا أيضًا كان علماؤنا الأجلاء وفقهاؤنا الكرام حيث كان أحدهم يقول: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، حتى إنَّ أحدهم ليقول: “ما جادلتُ (ناظرتُ) أحدًا إلا تمنّيتُ أنْ يُظهر الله الحق على لسانه”.
فهذه هي ثقافة الاختلاف التي اختفَت من مجتمعاتنا ومدارسنا وجامعاتنا وحتى من بيوتنا للأسف الشّديد، وهي تحتاج إلى وقت لكي تعود، ورحم الله القائل: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”، فأين هذه العظمة من: الهوى المُتّبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه؟
وقد قدّر لي أن أقوم بتدريس مادة الأدب الشعبي لطلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة المنوفية وطلبة التعليم الأساسي بكلية التربية بالجامعة نفسها منذ حوالي ثلاثين عاما، وكنت أدرِّس لهم المثل الشعبي وأقارنه كذلك بكل ما يقع تحت يدي من أمثال في القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف أو الأمثال الفصيحة أو أبيات الشعر العربي قديمه وحديثه، فكنت أجد في ذلك متعة أيّ متعة، وأظن أنَّ طلابي كانوا يستمتعون بهذه الثقافة الرفيعة التي يوفّرها لهم المثل حين يتم تدريسه بهذه الطريقة التي حرصتُ عليها لمدة ثلاثة أعوام قبل سفري إلى المملكة العربية السعودية.
ونحن بحاجة لإنجاز موسوعات تجمع الأمثال الشعبية العربيّة وتعيد صياغة بلغتنا الفصيحة لاستثمارها في مجالات الفنون والآداب وما ينفع الناس، وهناك كُتب بالفعل في عدة دول عربية قام مؤلفوها بجمع الأمثال الشعبية وتصنيفها، ومن أشهرها كتاب “الأمثال العامية” المرحوم “أحمد تيمور باشا”، و”موسوعة الأمثال الشعبية الفلسطينية” لمحمد توفيق، و”موسوعة الأمثال الشعبية في الوطن العربي” لمحمد الراوي، و”معجم الأمثال الشعبية في مدن الحجاز”، و”موسوعة حكمة الأمم: 17000 من الحكم والأمثال والأقوال المأثورة”.
وقديمّا، ألّف العلماء في أمثال العامّة، مثل كتاب “غاية الأرب في معاني ما يجري على ألسن العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب” للإمام “أبي طالب المفضل بن سلمة”، وهو يتضمّن ما تقوله العامة من كلام العرب على سبيل الأمثال.
ولما كان لكل زمان أهله ورجاله، فإنَّ بإمكان الإنسان العربي إنتاج الأمثال كما أنتجتها الأجيالُ السابقة، من واقع حياته التي يحياها والتي تختلف عن حياة السابقين عليه، ولكن هذه الأمثال والأقوال المأثورة تحتاج إلى وقت كي تنتشر وتذيع على الألسن، ومن هنا تنتفي مقولة: “ليس في الإمكان أبدع مِمّا كان”، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي ممّا يسهم في الإسراع بانتقال الأمثال والأقوال الشعبية المأثورة في بلدان الوطن العربي عبر الأفلام والمسلسلات وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي.