الإنسان في الشريعة الإسلامية “الحقيقيَّة” هو المثال الأعلى مستوى والأكثر اكتمالاً للإنسان بالمعنى الذي يُحقِّق رسالته في الحياة والوجود.. وقد انتهج المُستشرق المجري “جيولا يوليوس جرمانوس” (1884 – 1979)، الذي اختار أن يكون اسمه “عبد الكريم جرمانوس”.. وقضى قرابة الخمسين عامًا في خدمة الإسلام والمسلمين، طريق المقارنة بين الأديان والمذاهب الفكريَّة، وكان يؤكِّد على أنَّ الأخلاق والقيم الفاضلة هي القوَّة الكامنة في المُسلمين..
“الإسلام كدينٍ عالمي” هو عنوان الدراسة التي كتبها الحاج “عبد الكريم جرمانوس”، ونشرتها مجلة “الأصالة” الجزائريَّة في الأول من شهر أوت 1971، وقد وجدنا دراسة أخرى بالعنوان نفسه ومنشورة في المجلة ذاتها نُشرت في شهر ماي 1971.. وقد اختارت جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر الدراسة الأولى، مع الإشارة إلى أنَّ الدِّراستين يسيران في الاتِّجاه نفسه، ويضمَّان أفكار الحاج “عبد الكريم” في مختلف كتبه التي أشرنا إليها في مقالات سابقة..
القانون.. حقٌّ إنسانيٌّ
إنَّ القانون – وهو الحق الإنساني حسب تعاليم الإسلام – قد وُلد وتطوَّر في ظلّ الأخلاقيات. فهو الذي يوجِّه الناس، وهو الذي يحميهم، وهو في التَّسليم والاعتراف بذلك، إنَّما ينبع من منبع ومصدر أخلاقي میتافیزیقي، أساسه الدَّعوة الإلهية، حسب ما هو مُثبت في القرآن الكريم، وحسب ما أوصى به وما تبع النبي صلى الله عليه وسلم من تقاليد.
لقد حقَّق العلماء بعد وفاة النبي، وعلى مرّ القرون، نظامًا قانونيًّا مُحكمًا، يُعتبر الكمال المذهل الخارق للعقل الإنساني، وذلك بفضل استنادهم إلى المنبع القانوني من ناحية، وإلى عقل الإنسان وفهمه من ناحية أخرى.. وهكذا كانت الشريعة بمدارسها الأربع المعروفة: الحنفي، الشافعي، المالكي، الحنبلي، التي اشتركت في البناء الهائل العظيم الذي ضبط وقعَّد بانتظام كلَّ لحظة في حياة الإنسان وعمله.
الشريعة الإسلاميَّة أكثر اكتمالاً من القوانين الأوروبية
وحتى قبل أن تصدر نُظم القوانين الأوروبية التي قعَّدت العلاقة بين الدولة وبين الحياة الطبيعيَّة للمجتمع، وقبل أن يُؤخذ الإنسان على أنَّه شخصية ذاتيَّة لا يمكن التدخُّل في تصرفاته الداخليّة والخارجيّة، وأعني بها الروحيَّة والطبيعيَّة، كانت الشريعة – وهي القانون الإسلامي – قد انتشرت وحدَّدت ماهيَّة الإنسان الذاتي الحر، حياته، وظيفته، وهي بهذا السَّبق ومن هذه الزاوية تُعتبر أعلى مستوى وأكثر اكتمالاً من نُظم القوانين الأوروبية.
محاضرات في الشريعة للمجريِّين والألمان..
من العبث أن أحاول تعريف الشريعة، خاصة أمام إخوتي المسلمين. لقد شرحت وفسَّرت الشريعةَ خلال محاضراتي الجامعيَّة للمجريِّين والألمان والهنود سنوات طويلة، وفي بقاعٍ عديدة من العالم أقمتُ سلاسل محاضرات خصَّصتها لتفسير الشَّريعة، وهو ما أعتقد أنَّه من الأهميّة بمكان لإخوتي ورفقاء ديني المسلمين، لأنَّ هذه المعرفة الإسلامية التي كانت تمثِّل العمود الفقري للثقافة الإسلامية، ونقطة الارتكاز الأساسية فيه، ما تزال اليوم هي الحقيقة الحيَّة، على الرغم من أنَّ بعض المسلمين في بعض البلاد قد أخذوا بسياسة العدل الأوروبيّة، مُعتبرين أنَّ الشريعة ما هي إلاَّ شرط أو نصّ، أو حقّ موروث أو حق شخصي، وعلى أساس هذا الاعتبار وسَّعوا من قوانينهم الأرضية استنادًا إلى قوة هذا القانون المفرد.
إنكار الوحدانيَّة.. هدمٌ لكلّ نُظم العلوم الطبيعيَّة
من الطبيعي أنَّ نُظم القوانين الغربية بالنسبة للتّكوينات الإنسانية إنَّما تتغذَّى من منبع الفكر الإنساني. هذا الفكر الذي يتغيَّر من وقت إلى آخر حاملاً فوق كتفيه عذاب الإنسان ومتاعبه وطابع الأمواج المتقلِّبة في حياة المجتمع، وهو بهذا الشَّكل في الحقيقة يكون مؤقَّت الفعاليَّة والشرعيَّة، دائم التغيُّر، ممَّا يجعل العلاقات المتَّصلة بعضها البعض، متعارضةً متناقضةً.
ومن رأي الشَّريعة أنَّه إذا عرفنا هذا التَّناقض عن طريق المنطق وحدة، وإذا ما دقَّقنا النَّظر في بحثها، فإنَّنا سنضع أيدينا على نُظم الحياة وقواعدها المكتملة التي يمنحها الفكر للإنسان. إنَّ المنطلق الأساسي في نظام الشريعة هو أنَّه لا بدَّ من وجود خالقٍ لهذا الكون عامة، هذا اقتناعٌ لا مجال لمناقشته، لأنَّه حقيقة أوليَّة تعادل الحقيقة الأوليَّة عند العلوم الطبيعية، التي لا تؤكِّد أو تدحض عقل الإنسان، والتي بإنكارها تُهدم كلّ نُظم العلوم الطبيعيَّة.
والخالق هو السَّبب الأول، وهو المُسبِّب الأول الذي يستمدُّ منه العالم أجمع امتداده. لكن هذا السبب الأول (والنوع العالي)، العقل ليس بمستطيعٍ فهمه أو الإمساك به أو التَّقرير بشيء فيه، وهو مع ذلك له من القوة التأثيريَّة في الأرض جمعاء الكثير، وبما يؤثِّر كل لحظة فيها. وهو في الوقت نفسه، الإلهيَّة التي تفوق تصوُّر الإنسان وعقله وإدراكه، وهو أيضًا النِّظام الأخلاقي للأرض جمعاء.
حكمُ الأرض بقوّة أخلاقيَّةٍ
لقد قرَّر ذلك المفكِّرون العرب وعلماء المعتزلة: أبو هذيل محمد العلاف (توفي عام 226 هجرية)، النظَّام (توفي عام 231 هجرية)، بشر بن المعتمر معمر بن عباد، ثمامة بن أشرس (توفي عام 213 هجرية).. لقد حاول كل هؤلاء المفكِّرون – بمساعدة من منطق أرسطو – أن يقرِّبوا بين التَّعبير الإلهي وخصائصه وتأثيره على سِيَر العالم أجمع وبين قوة الإنسان وتفكيره، وقد وصلَت أبحاثهم وتجاربهم إلى النتيجة التالية: وهي أنَّ الألوهيَّة بالنسبة لعقل الإنسان لا يمكن التعرُّف إليها، لكن وجودها لا يمكن إنكاره.
تكوَّن من أعمال وتصرُّفات علماء الدين على مرَّ القرون، وبفضلٍ من الشريعة، فقهُ المذاهب الأربعة. وهو قانون مُحكمٌ نجده بين أيدينا الآن، وقاعدته أن يحكم الأرض عامة بقوة أخلاقيَّة، وضمن سبيل التعرُّف على هذه القوة الأخلاقية بالقرآن وبوصايا النبي صلى الله عليه وسلم وحسب ما يفسِّره العقل من تفسيرات وفهمٍ وإدراكٍ. وفي هذا، تقود الشَّريعة الإنسان إلى التعرُّف على كيفيَّة حفظه لجسده وممارسته له حتى يبقى سليمًا مُعافى، وكيف يمكن أن يتطهَّر روحانيًّا عند الصلاة عندما يقف خاشعًا أمام ربِّه، وهي كلُّها أشياء لها مغزاها ومعناها حتى لا تكون حركات لتحريك الفم أو مظاهر خارجيَّة، وإنَّما هي في الحقيقة تعمُّقٌ خالص وإغراقٌ في شيء.. وهو ما يعني الاقتناع بأنَّنا مسؤولون مسؤوليةً تامّة عن كل أعمالنا وأفكارنا وتصرُّفاتنا أمام الناس، ثم أمام الله.
الطَّهارة من الإيمان
هذا الوجود الذي يكوِّن القوة الأرضيَّة والسماويَّة في كل مكان، هذا الإرشاد والتَّوجيه يتأكَّد ويتقرَّر في كل زمان وفي كل تكوين تاريخي وفي كل حركة اجتماعيَّة.. وهو في الوقت نفسه، يتضمَّن السلوك الإنساني للمرء تجاه أخيه، كما أنَّه يؤثِّر في التطهُّر الجسدي وفي التطهُّر الروحي أيضًا.
وهو ما يعلِّمه الإسلام عند ما يقول.. “الطَّهارة من الإيمان”. وفي التَّعاليم الأخلاقيَّة للإسلام کوحيٍّ، نراها تحفظ المجتمعَ من الذُّنوب التي تسبِّبها البراءة المطلقة والتمرُّد والعناد وشدَّة الشَّكيمة. فتعاليم الإسلام تحرِّم بشدَّة تعاطي الخمرَ وتعاطي أيّ نوع من أنواع المخدِّرات أو المنوِّمات لأنَّها – بتحكيم العقل الإنساني – تعني شروعًا في الاعتداء على حياة الإنسان نفسه. وهذا المنع في الإسلام يمكن أن يكون مثلاً لكلِّ الشعوب وكل المجتمعات، ومجسِّدًا في قوانينها ومقرِّرًا، على اعتبار أنَّ هذا المنع إنَّما يسبق ويتقدَّم على تأثير المخدِّر أو المنوِّم قبل أن تحلَّ الجريمة.
الأسرة مقدَّسةٌ في الإسلام
والإسلام يحافظ على سلامة الأسرة ويحرسها. وهو يعاقب بشدَّة على تحطيم الحياة الزوجيَّة وتدهورها، وكذا على الفسق والفُجور. فحياة الأسرة عند الإسلام مقدَّسة، وهي مثل الهرم، شاهقة عالية لا تمَسُّ، حيث يعلن الزوج فيها زوجته ورفيقة حياته كأمٍّ لأولاده وكملاك حارس تقف إلى جانب زوجها تؤيِّده وتعضده.
ويتبع الإسلام في ارتداء الملابس والهندام حِكمًا أخلاقيَّة تؤيِّد وجهة نظره، ويضمن الحياة والعفَّة، والحجابُ يجسِّد هذا الرَّمز، وهو يعني أنَّه لا يجب على النساء أن يوقظن بتصرُّفاتهن من خلال سُترة طائشةٍ مستهترة الرَّغبةَ الحسيَّة بطريقة خاطئة حتى لا تصيب طهارة المجتمع بالعدوى.. لقد أثَّرت الموضوعات الغربيّة عند النساء والرجال سواءٌ بسواء بشكلها الفاضح على السلوك الإنساني بما أفسد التوازن الأسرى، فضلاً عمَّا فجَّرته من أضرار وتخريب داخل المجتمعات والدول.
يعاقب الإسلام بشدَّة وفي سموٍّ على السّرقة والانتهاك وقطع الطريق، ولهذا نادرًا ما تُقترف أمثال هذه الذُّنوب في الدول الإسلامية.
الحريَّة العلميَّة في الإسلام
والإسلام كدينٍ لا يقيِّد المؤمن به ـ على اعتبار أنَّ المؤمن لا بدّ أن يؤمن بشيء – لا يقيِّده بألاَّ يعرف قوانين الطبيعة، أو يكفّ النّظر عن عملها وكيفيَّة تشغيلها نتيجة خبرته الشخصية وتجاربه وأفكاره.. وعند ما كانت شعوبُ أوروبا تتلمَّس طريقَها في غابة الجهل، كان العلماء المسلمون يبحثون بالعربية في العلوم الطبيعية.. في الجبر والحساب والكيمياء والفلك والطب، كاشفين أسرارَ الفلسفة، عاملين على نشر تعاليمها في حرية. لقد كان المدرِّسون في مدارس المساجد الإسلامية على أعلى مستوى علمي، وكانت تعاليمهم هي الأساس الذي سارت عليه أوروبا عندما نهضَت من سباتها مؤخّرًا.
إنَّ الإسلام لا يعرف الفروق أو الدَّرجات بين الإنسان – ليس الغني أو القويّ من هو في الدَّرجة الممتازة عند الله سبحانه وتعالى، لكنه هو العالم المفكِّر الذي يجد طريقه الحرَّ في بحوثه الحرّة ليضيء بها القوانين الأخلاقيَّة، ويفتح مجال التعرُّف عليها، وهو في هذا يوضح متطلَّبات الحياة وتجاربها في تناسق وانسجام.
والإسلام لا يعرف كذلك طبقة القساوسة أو الخاصة. لكن تعاليمه تقول بأنَّ على كل مسلمٍ أن يعرف قوانين الإسلام واتِّجاهاتها الأخلاقية، وعليه أن يقف، وبوازعٍ من نفسه أمام الله سبحانه وتعالى، خاشعًا خاضعًا دون وساطة.
والإسلام، إلى جانب العلوم الطبيعيَّة التي سبق ذكرها، قد أبدع أدبًا ضخمًا تتجلَّى عظمته في إنتاجات الشِّعر والنَّثر التي أصبحت مثلاً وأنموذجا يُحتذى به في الماضي، ولا زالت باقيةً حتى اليوم تخدم شعوب العالم المثقَّفة.
التَّحرُّر من قيود الجسد
وفي نظام العالم الإسلامي وُلدت الرغبةُ والاشتياق إلى العالم الرُّوحي الذي انبثقت منه أصلاً. فقد حاول النَّاسكون والمتقشِّفون الذين عزفوا عن غرور الحياة وخيلاء الأرض، وارتفعوا عن مظهرها الخارجي، أن يتخلَّصوا من قيود الجسد، وهؤلاء هم الصوفيَّة الذين أرادوا أن يتَّحِدوا بأرواحهم مع الألوهيَّة. وهم في تجلِّيهم وتطوُّرهم اللَّدني عرفوا أنَّ الإخاء والمحبَّة.. هي القوة العظيمة في العالم كلِّه، ورفعوا من هذه الخاصيَّة في أشعارهم وأعمالهم.
وأقدمُ هذه الأعمال الصوفيَّة الروحانيَّة من تأليف أبو طالب المكي بعنوان “قوت القلوب”، ومن تأليف عبد الحق سبعين بعنوان “أسرار الحكمة المشرقية”، عمر بن الفارض كتَب “نظم السلوك” و”خمرية” وهي شعر رمزي مُتجلٍّ كتبَه عندما ظهرت أمامه روح صلى الله عليه وسلم. ثم “ابن العربي” ومؤلَّفَيه: “الفتوحات المكِّيَة”، و”فصوص الحِكم” حيث يكتب عن رؤيا صوفيَّة غامضة.
لقد هاجم العلماء الغوامضَ الصوفيَّة في البداية. وظلَّ هذا الهجوم حتى كتَب “الغزالي” كتابه “إحياء علوم الدين” الذي أعلن فيه عن سموّ بصيرةِ النَّفسِ، وحطَّم الجسر القائم بين العلماء والتصوًّف.. إنَّ نظرية “الغزالي” تكمن في فلسفته.. التي وصل فيها إلى التَّعبير عن الخوف عند الإنسان، وهو قد أحسَّ بالوحدة عنده. وهذه المعرفة في تعلُّقه بشخصية محبوبة مفكِّرة يمكن أن ينادَى عليها في يأسه وقنوطه فتستجيب لندائه ورجائه، وهي التي تعمُّ رحمتها في الأرض والسماء دون حدود.
ما الذي اكتشفه “ابن خلدون” في مقدّمته؟
إنَّ مقدّمة “ابن خلدون”، أحد كبار عباقرة الإسلام، قد قرَّرت هذه الحقيقة، وهي أنَّه طالما تنمو وتترعرع شجرةٌ من بذرة فلا بدَّ من أن تثمر الشجرةُ ثمارًا، وهي العلاقة نفسها بين المجتمع الإنساني وبين التطوُّر. وهذه القوانين تتحقَّق ضمن التطوُّر في مختلف بقاع الأرض.. في نظام الحياة اليوميَّة، في التَّركيب الجيولوجي للأرض، وكذلك في حياة المجتمع الإنساني أيضًا.
كل شيءٍ يتحرَّك ويستمرّ ولا يتوقَّف دون مسبِّبات أو مقدِّمات، ولا يوجد شيء دون نتائج أو عائدة. لكن هذا العقد والارتباط ليس ميكانيكيًّا ولا يعمل من تلقاء نفسه، لكنه هو الوعي الإنساني وهو إرادة الإنسان نحو التطوُّر والاستمرار.
ليكن أمام كلِّ مسلمٍ طريق سلَفه في ظل وعيٍ كامل منه.. لتكن أمامه دائمًا حياة السَّالفين وأعمالهم، وليحسَّ بواجبه نحو تمجيد هذه الحياة وهذه الأعمال، تمامًا كتعاليم الإسلام، سواءٌ بسواءٍ، التي تمجِّد الحقوق والواجبات.
لقد وجد “ابن خلدون” هذه التعاليم الأخلاقية في استمرار قوّة المجتمع وسمَّاها “عصبيَّة”. فإذا ما تراخت أو تباطأت هذه الواجبات أو نال منها أو من احترامها وتقديرها شيءٌ، خفَّض من الاعتقاد، وأصاب قوةَ المجتمع بالضُّعف والاضمحلال. لنكن فخورين بأعمال أسلافنا المسلمين.. ولنتابع بكلِّ قوانا أعمالَهم، حتى نرعى هذه “العصبيَّة” بمزيد من التَّقدير والإجلال، وحتى ندخل في عصر الإسلام الذهبي مشاركين فيه بنصيبٍ جليل.