المُستشرق المجري الحاج “عبد الكريم يوليوس جرمانوس”.. العالم في قبضة الزَّندقة “الماترياليَّة”.. ولا مُنقِذ إلاَّ الإسلام

“إنِّي – وأنا الرجل الأوروبي الذي لم يجد في بيته إلاَ عبادة الذهب والقوة والسَّطوة الميكانيكيَّة – تأثَّرت أعمق التأثُّر ببساطة الإسلام وعظمة سيطرته على نفوس مُعتنقيه.. إنَّ الشرق الإسلامي سيبقى مستوليًّا على لبِّي بروحانيته ومثله العالية.. والإسلام حافَظ دائمًا على مبادئه الدَّاعية إلى الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الجنس البشري”.. هذه الكلمات قالها المُستشرق المجري “جيولا يوليوس جرمانوس” الذي ولِد عام 1884 في مدينة “بودابيست”.. وقادته الظروف أن يزور ويقيم ويعيش في بلدان عربيَّة وإسلاميَّة عديدة، فتعرَّف على الإسلام واعتنقه، واختار أن يكون اسمه “عبد الكريم جرمانوس”.. وقضى قرابة الخمسين عامًا في خدمة الإسلام والمسلمين إلى أن توفي في السَّابع نوفمبر 1979.

وجَّه ملتقى الفكر الإسلامي، الذي كان يُعقد سنويًّا في الجزائر، دعواتٍ كثيرة إلى الحاج “عبد الكريم يوليوس جرمانوس”، غير أنَّه كان يعتذر في كل مرَّة بسبب تقدُّمه في السنّ ومعاناته من المرض، ولكنه كان يُرسل دراساته إلى الملتقى. وقد أوضحت “مجلة الأصالة” بأن الملتقى الثامن للفكر الإسلامي الذي احتضنته مدينة “بجاية” سنة 1974، وجَّه دعوة للمشاركة “إلى المستشرق المجري الكبير الحاج الدكتور عبد الكريم يوليوس جرمانوس أستاذ التاريخ الحديث بجامعة بودابيست… منذ الملتقى الرابع، كان يعتذر كلَّ مرَّة، ويرسل مقالات ننشرها في الأصالة. وهذه المرَّة أيضًا قد اعتذر برسالة.. أرفقها بدراسة قيِّمة بعنوان: حماية فلسفة التَّشريع الإسلامي”.

ردَّ الحاج “عبد الكريم جرمانوس”، على تلك الدَّعوة قائلاً: “سوف أحضر هنا (ملتقى الفكر الإسلامي) روحيًّا، مع إعلان أفكاري عن حماية فلسفة التشريع الإسلامي، فإنَّني كتبتُ هذه الدِّراسة الصغيرة، باعتقادي العميق، أنَّ الدين الإسلامي ومزاياه الثقافية هي الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم أثناء هذه الأوقات الثقيلة من الورطة الفظيعة، أعنى فساد الأخلاق، الفجور والدعارة في الحياة الجنسية، السرقة والدناءة المخيفة..”.

تُعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر دراسة الحاج “عبد الكريم جرمانوس”، التي حضر بها “روحيًّا” إلى الجزائر، لأنَّه دقَّ فيها ناقوس الخطر لإنذار الغرب من عواقب هيمنة فلسفته الماديَّة على الحياة الإنسانية في مجتمعاته، وأيضًا لأنَّ هذا المستشرق الكبير الذي قاده فكره إلى اعتناق الإسلام، رأى بأنَّ “الدين الإسلامي ومزاياه الثقافية هي الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم..”.

أداة الإنذار بالخطر

الكثيرُ الاهتمامِ والانتباه، والمراقب للأحداث الاجتماعيَّة التي تحدث في أيَّامنا هذه، قد يلاحظ أداة الإنذار بالخطر، خطر التفسُّخ والانحلال الذي يجتاح أوروبا وأمريكا. الكذب والبهتان، والسرقة، والسَّطو على المنازل الآمنة ليلاً، والقتل العمد والاستمتاع بلذَّة المواد المخدِّرة التي تجتمع وتتَّحد بالفساد والفُسوق الجنسي. وكلُّها أشياء قوَّضت مجتمعَ الشُّعوب والأمم.

إنَّ فلسفة التَّشريع التي ظهرت لتقرر المستقبل في العالم الإسلامي كالقضاء والقدر، والتي جاءت لتصون وتحفظ سلامة العقل واستقرار المجتمع الإنساني قد سقطت في ألـم وحزن، لأنَّها عجزت عن أن تنجز واجباتها. ففي دولٍ كثيرة، قادت فكرة تخفيف الألم بالنسبة لقسوة وعنف الهواية الإنسانية.. قادت القانونيين إلى نسيان تعاليم القانون الروماني التي تقول: “العقاب يُنفَّذ ليس من أجل الجريمة، لكنه من أجل ألاَّ تُقترف جرائم أخرى”.

إنَّ فكرة الإنذار والتَّخدير، وفكرة الوقاية، إنَّما تكمن في كل شريعةٍ وَقورة معتدلة. إنَّ تخفيف الإثم والأذى قد أحبط رغبةَ العقول والمفكرين عند القانونيين الغربيين في أيَّامنا هذه.

الزَّندقة الماترياليَّة سبب التفسُّخ والانحلال

إنَّ الجريمة والإجرام في العالم الغربي قد فاقت كل حدٍّ ممكن للسُّلطة. وقد نتعرَّف على السبب بسهولة إذا ربطنا بين علاقة ارتفاع نسبة الجريمة والتفسُّخ والانحلال بصفة عامة بظهور اللاَّدينية المادية أو الزَّندقة الماترياليَّة.

قدرةٌ تأمُّلية فكرية قد أبدعت أعاجيب في حقل الابتكارات التقنيَّة والفنيَّة، لكنها مع ذلك لا تستطيع أن تخالف حدود العقل أو الفكر، كما أثبت ذلك وبرهنه في حينه “هربرت سبنسر” في فصلٍ من كتابه “فوق معرفة البشر”.

إنَّه لمن دواعي الأسف أنَّ النتائج المذهلة في العلم الخالص، واستعمالاتها وتطبيقاتها في الحياة العمليَّة، قد جرَّدت بطريقة أو بأخرى الرُّجولةَ من الإدراك. وليس هذا فحسب، بل إنَّها عرَّتها من الاعتراف والتَّسليم بالحقائق الدينيَّة والروحيَّة للكون والجنس البشري، ومن الجوهر الذي يهدي قوة الأخلاق. والأخلاق – مرَّة أخرى – لا تستطيع بأيَّة حال من الأحوال أن تنفصل عن الإيمان المطوي بأحكام الدين.

إنَّ الكلمة اللاَّتينية نفسها تعني: “عبد رقيق”، حيث الإنسان ملتصقٌ بأحكامٍ للاعتراف بقوَّة عليا تنظِم كل ظاهرة في الكون. إنَّ المفكِّرين المسلمين قد بلغوا مرتبة أسمى بإعلانهم الشُّمول الفلسفي، وبتعليمهم القدرةَ الكلية للألوهيَّة التي جرّبت آثارها في كل عالم من عوالم الكون الخلقي. لقد ثبت بالتفكير المنطقي وبالخبرة العملية التقنية أنَّ المجتمع تقوم أساساته على الأخلاق كما علَّم بذلك الإلهام السَّماوي.

بين التَّشريع الغربي.. والشريعة الإسلامية

إنَّ فلسفة التَّشريع الغربي قد أقامت عقيدتها ومعتقداتها على فكر إنساني متأثِّر باعتبارات سياسيَّةٍ فقط، بينما الشريعة الإسلامية قد انبثقت من الإيمان والاقتناع بأنَّ الكون ما هو إلاَّ خلق منسَّق منتظَم للروحيَّات الأخلاقية. أساس العقيدة هو الوحي، وتنفيذها مبني على أساس قانون استدلالات واستنتاجات منطقيَّةِ التَّفكير، وعلى شرح وتفسير مجتمع دنیويٍّ زائل وأحوال ماديةٍ.

وأنا كطالب في جامع الأزهر الشريف منذ أربعين عامًا، كنت توَّاقًا بتشرُّب تعلُّم الشَّريعة.. لقد اندمجتُ في الرُّوح المنطقيَّة للتفكير، وفي التصوُّر الإنساني في واجبات المرء، تجاه خالقه، وفي القدرة الكليَّة لهذا الكون، وفي واجبات الإنسان نحو أخيه الإنسان.. كل المظاهر والسِّيمات قُعِّدت على أساسٍ من الأخلاق. إحساس العرفان بالجميل، وإحساس الحب، وإحساس العهد والالتزام كأساس اجتماعي.

إنَّ التصوُّر المادي لحياة الجلَبة والصَّخب من أجل العدل والإنصاف – سواء استحقَّت الحياة ذلك أم لم تستحقه – فإنَّ الرؤية الدينيَّة تقود إلى تحقيق الواجبات، ذلك هو الفرق الرئيسي الأساسي بين الزهو والخيلاء، وبين عقيدة تبجيلٍ وتوقير..

الإسلام – كما هو مُسجَّل في القرآن – هو وحي سماوي ضد فكرة عدم استئناف الوجود. والحديث الذي يسلِّم نُظمًا وقوانين إلى الجنس البشرى للحياة العمليَّة هو دليل كافٍ واعٍ خلال هذه الحياة، حتى يكون التصرُّف على أساس من الروحيَّات الأخلاقية للكون والدنيا..

إنَّ الشَّريعة الإسلامية ترتكز على الأخلاق. ولقد تطوَّرت في مطابقةٍ وانسجام بأسباب إنسانيَّة وخُبرات عمليَّة. إنَّها تنظِّم سلوك الفرد من أسمى وجهة نظر لصون المجتمع، وحمايته بسلامة العقل والطمأنينة والاستقرار، بدون انتهاك الحُرمات عبر الحصول على حقوق شخصية ذاتيَّة. إنَّها تنشئ انسجامًا تامًّا بين الحقوق والواجبات عند الفرد وعلاقته بحُكَّامه، كلاهما موضوع لدستور أخلاقي.

إنَّ شريعة الغرب الحديثة تميل إلى تخفيف آلام الآثام والجرائم إلى مدى إلغاء أو إبطال العقاب. بعض مشرِّعي القانون يذكرون الإنجازَ الصَّارم لجزاء جريمة السرقة، وعلى سبيل المثال: القضاء على اليد الآثمة.

إنَّني في خبرتي وتجوالي أثناء حياتي المبكرة في عدد من الدول الإسلامية، لم أقابل أحدًا ممَّن قطِعت أيديهم، كما أنَّني لم أسمع عن حادثة سرقة ارتكِبت في المتاجر أو الأسواق الشرقيَّة.. وأنا شاهد عيان في تركيا، ومصر، وسوريا، والعراق.. على أنَّ أصحاب المتاجر والحوانيت تركوا أكشاكهم مفتوحةً أثناء أوقات تأدية فريضة الصلاة، فقط كانوا يتركون لافتةً تقول أنَّ صاحب المتجر غير موجود. إنَّ العقاب العادل المنصف الذي كان يعلَن بواسطة القاضي كان كافيَّا ليَحول دون مجرم جديد لجريمة من مثل هذه الأعمال.

وجهة نظرٍ أخلاقيَّة

ومن وجهة النَّظر الأخلاقية، فإنَّ الأحكام في الشَّريعة قد قعَّدت بالنسبة للإذن بتعدُّد الزوجات، لكن هذه الأحكام كانت تكتسب حقها وشريعتها بدقَّةٍ بالاشتراطات الشَّرعية التي نظَّمت الأخلاقيات السائدة، وبالنسبة للحياة الأسريَة في معقوليَّة اجتماعيَّة. إنَّ إمكانيَّة الزواج بأربع مع التَّساوي في الحقوق ليست رأيًا فصلاً، لكنها اعترافٌ وتسليم بالحقيقة والواقع الناشئ عن الطبيعة الإنسانيَّة. إنَّ الشريعة بهذا إنَّما تحافظ وتراقب طهارةَ ونقاء حياة الأسرة، بينما نجد الاختلاط والاتِّصال الجنسي غير الشرعي واللاَّمحدود للشهوة الجنسية الآن ينتشر في وضح النهار في الدول الغربية، ويقود إلى هلاك المجتمعات.

إنَّ تحريم المخدّرات، من أمثال الخمور وأنواع أخرى، من وسائل التَّخدير والتَّخبيل ذات القدرات المؤثِّرة على العقل والذِّهن، يدعو إلى الاحترام.. إذ هو تحذيرٌ للأخلاقيات التي تفسد مجتمعَ الغرب الذي يَعتبر نفسه قادرًا على حماية نفسه بنفسه ضدَّ قطّاع الطريق العام، واللُّصوص، والقرصنة السياسيَّة الزائفة.

الخطأ في المُمارسة وليس في الشَّريعة

إنَّ الشَّريعة – أذا أدرِكت بحقٍّ وعدل، وإذا انتُفع بها وبتعاليمها – فإنَّها تظلُّ المحرِّك والدليل الذي يقود إلى تنظيم سلوك الإنسان روحيًّا وماديًّا. فإذا ما أخطأنا المرمى بتجارب خطرة وأسلمناها وعزوناها إلى البيئة المسلمة، فإنَّ المسؤولية لا تقع على عاتق الشَّريعة، بل إنَّها تكون أخطاء هؤلاء المسلمين الذين ارتكبوها، والذين تخلُّوا عن الطريق القويم عبر أحلامهم بالافتتان والهيام وراء كل شيء عصري أو غربي، فسقطوا ضحايا لكل الرَّذائل والنَّقائص المُهلكة التي تمثل الحياة العصرية.

الكتابة عن الإسلام من قلب المدنيَّة الغربيَّة

إنَّني أكتب هذه السُّطور من قلب المدنيَّة الغربيَّة، مُحاطًا بآلاف الكتب والمجلَّدات الغربية والشرقية، ومُزودًّا بحياة طولها تسعة وثمانون عاما بين الخبرة الغربية والشرقية.. أتشرَّب المعلومات والمعرفة المفيدة، كما أتشرَّب الأحداث المؤذية في الكيان الإنساني في كُرتنا الأرضية..

إنَّني بحكم كوني المجري المسلم الوحيد والحاج، أحثُّ بجسارة وشجاعة كل إخواني المسلمين للحفاظ على الأخلاق التي هي عقائدنا الروحية في ديننا الإسلامي.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
الجنائية الدولية ترفض إلغاء أو تعليق مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت ميناء طنجة.. استقالات جماعية رفضا لنقل معدات حربية للكيان الصهيوني الصين تمنح واردات أمريكية إعفاءات من الرسوم وزير الاتصال يدعو إلى ترقية الإعلام الرياضي والابتعاد عن التهويل والتضخيم شراكة جزائرية-صينية جديدة لدعم الابتكار في الطاقات المتجددة انطلاق التسجيلات الأولية لتلاميذ السنة أولى ابتدائي عبر المنصة الرقمية سفارة السعودية بالجزائر تحذّر أسعار النفط تتجه لتكبد خسائر أسبوعية رئيس الجمهورية يعاين صرحًا رياضيًا جديدًا خلال زيارته لبشار وزارة الثقافة..إنجاز مركز طبي اجتماعي للفنانين الجزائر توقع اتفاقية شراكة مع مدرسة براغ العالمية للسينما الجزائر توقّع عقدين لتصدير منتجات غذائية نحو السوق السعودية بقيمة 5 ملايين دولار سنويًا رفع التجميد عن مشاريع الصحة وتكوين سنوي لـ 1050 طبيباً في هذه التخصصات رزيق يستقبل مسؤولاً أوروبياً لبحث آفاق الشراكة الاستراتيجية توقيع اتفاقية شراكة بين الوكالة الوطنية للنفايات وشركة "سيال" إيداع 4 أشخاص الحبس بتهمة المضاربة في البطاطا رسميا.. هذا موعد بيع الأضاحي المستوردة للمواطنين حماس تُحذّر من كارثة إنسانية غير مسبوقة بغزة الجزائر وسلوفينيا توقعان مذكرة تفاهم في مجال التعليم العالي والعلوم عطاف يُستقبل بهلسنكي من قبل الرئيس الفنلندي