المُستشرِقةُ الألمانيَّةُ “زيغريد هونكه” في الجزائر.. من الاستلاب إلى استرجاع الإنِّيَّة (الجزء الثالث والأخير)

اشتهرت المُستشرقةُ الألمانية الدكتورة “زيغريد هونكه” (1913م – 1999) بأنَّها صديقة العرب، واستطاعت من خلال كتابها “شمس الله تسطع على الغرب” أن تُساهم في تصحيح صورة العالم العربي والإسلامي في عيون المُجتمعات الغربية، تلك الصُّورة التي اجتهَد مستشرقون كثيرون في تشويهها وتزييفها في إطار السياسات والبرامج الاستعمارية الهادفة إلى تحطيم نفسيَّة الإنسان العربي وإحداث القطيعة بينه وبين أصالته وتراثه، أو في إطار الدِّعاية إلى الحضارة الغربية بأنَّها حضارةٌ مُبدِعةٌ خَلاَّقة، ولا فضْل للعرب والمُسلمين فيما وصلت إليه البشريَّةُ من تقدُّمٍ حضاري سوى في نقلِ وترجمة كُتُب اليونان والهند وغيرهما.

لم تُفرِّق “زيغريد هونكه” بين مفهومي الثقافة والحضارة في مَعرض دفاعها عن المُنجزات الحضارية للأمَّة العربية الإسلامية، حيث قالت: “إنَّ عظَمَة هذه الثقافة وأسباب خُصوبتها تَكمُن في أنَّها لم تقتصر على تقليد الأجنبي تقليدًا أعمى، بل في نَفيِ روحها الخاصة في هذا الأجنبي وبعث الحياة فيه من جديد من تلقاء ذاتها”. وأضافت في موضِعٍ آخر من مقالها: “وهذه الحضارة التي ختَمَت بطابعها المُوحِّد إمبراطوريةً واسعةَ الأرجاء، بلَغ من رُقيِّها أنَّ الغرب نفسه، الذي كان مُعادِيًا آنذاك للثقافة الإسلامية، اهتمَّ في سرٍّ بالتَّعاليم التي حَمَلتها وكان لها الفضل في شَحذ هِمَّته”.

ما يُلفِتُ الانتباه أنَّ “زيغريد” تحدَّثت “ضِمنِيًّا” عن الغرب باعتباره كتلةً واحدةً رغم تنوٌّع بلدانه واختلاف ثقافته، ولعل العنصر الوحيد الجامع لهذه الكُتلة هو الدّين المسيحي أو المَوقف منه. كما تحدَّثت عن الشَّرق باعتباره كتلة واحدةً و”إمبراطوريةً واسعةَ الأرجاء”، والدين الإسلامي هو العنصر الجامع لهذه الكُتلة أيضًا. وإذًا، وفق “زيغريد هونكه”، لا يُمكن الحديث عن حضارة أمريكيَّة وأخرى إنجليزية وثالثة فرنسية.. فجميعها حضارةٌ واحدةٌ بلغات مُتعدِّدة، بينما الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة اللغة الواحدة والدين الواحد. ومن هنا يُمكننا أن نتساءل: هل يُمكن لبلدٍ عربي أن يُقيم حضارةً بمفرده أو يُحقِّق نهضةً متكاملة بمعزل عن باقي البلدان العربية الأخرى؟

توصَّلت الدكتورة “زيغريد هونكه”، أنَّ قَوام الحضارة العربية هو الدين الإسلامي، وانحطاط هذه الحضارة راجعٌ إلى عنصر “التَّعصُّب والعقائدية” الذي ألغى دور الإسلام في البناء الحضاري، وفتَح الأبواب أمام رياح التَّفرقة وتفكُّك الوحدة بين البلدان العربية.

كما توصَّلت “زيغريد” إلى أنَّ العالم العربي يواجه مشكلة الاغتراب وفقدان الهويَّة الشَّخصية من خلال الانفتاح الأعمى على الغرب، أو من خلال الانعزال والفردانية الذي يؤدّي إلى التَّخلُّف والضُّعف. وقالت: “إنَّ كلَّ نظرةٍ انفرادِيَّة خاصة تعود بالضَّرر، وكل انفرادية هي معاداة للحياة بشكل ما”.

وفيما يلي، نتركُ القارئَ مع مقال “من الاستلاب إلى استرجاع الإنِّيَّة” للمُستشرقة الألمانية الدكتورة “زيغريد هونكه”..

شمسُ اللِه تشرق على الغرب

إنَّ العرب شعروا بقدراتهم الإبداعية وبأهليتهم في تصوُّر حضارة جديدةٍ ذات بُعد تاريخي عالمي، باستثمار التراث اليوناني والهندي، تبعًا لمقدراتهم الخاصة، وبرعاية هذا التُّراث الثَّمين على طريقتهم. ولقد درستُ بكل تفصيلٍ هذا التطوُّر في كتابي المُعُنون: “شمس الله تشرق على الغرب”.. وهكذا وُلِدت ثقافةٌ عالمية ذات أصالةٍ لا جدال فيها، تحمِل طابعَ العقلية العربية الإسلامية. وهذه الحضارة التي ختَمَت بطابعها المُوحِّد إمبراطوريةً واسعةَ الأرجاء، بلَغ من رُقيِّها أنَّ الغرب نفسه، الذي كان مُعادِيًا آنذاك للثقافة الإسلامية، اهتمَّ في سرٍّ بالتعاليم التي حَمَلتها وكان لها الفضل في شَحذ هِمَّته. وليس هناك شكَّ في أنَّ الثقافة الغربية قد ازدادت ثراءً في جميع الميادين بفضل ما توصَّل إليه العالم العربي.

ورثةُ الحضارة العربيَّة

أَعجَب به مِن مَصدرٍ للتَّعرف على الشخصية الأصلية والثقة بالنفس وفهم قدرات العقل ومهامه.. وأَعظِم به مِن مصدرٍ للتفاؤل والافتخار والالتزام أيضا أمام الورثة الحاليين لهذه الحضارة. ويا له من مصدرٍ للزَّفزَف (صوتٍ متواصل) بكلِّ تقديرٍ أمام هذه الأعمال التي هي بمثابة معايير للحضارة، فضلاً عن كونه مصدرًا لتوضيح مهمة العقل العربي في المستقبل.

خطَرُ الاغتراب وفقدان الهويَّة الحضارية

إنَّ استعراض الماضي المجيد غير كافٍ.. إنَّ بُعد الحضارة العربية لا يجب أن يساعد على التنصُّل ونِسيان الحقائق الحاضرة، ولا يجب أن يكون حُجَّة للرضَّى عن النفس، والاكتفاء الذي يستحِثُّ على الغرور دون ضرورة مِنَّا أن نكون جديرين بهذا الماضي التَّليد، واستخلاص العِبرة منه. ولا يجب أيضًا الاقتصار على تحليل الأسباب التي عرفت الحضارةُ العربية بفضلها مثل هذا الازدهار، بل يجب دراسةَ أسبابِ تدهور هذه الحضارة وجمودها وانحطاطها للحلول دون بروز مثل هذا الخطر من جديد. أي خطرُ التَّعصبِ والعقائدية اللذين يستبعدان الاحتفالَ، وخطَر الانعزال والانغلاق، فضلاً عن الاغتراب وفقدان الشخصية.

الانفرادِيَّةُ مُعاداةٌ للحياة..

إنَّنا نصِل من خلال كل ذلك إلى نقطة جوهرية. ألاَ وهي أنَّ الخطرَ – مثلما أشرتُ إليه منذ قليل – لا يكمن في الانعزال فحسب، بل في التفتُّح المفرط أيضًا على العالم إلى حدِّ الاغتراب. وإنَّه لَعِبرة تركها لنا تاريخ إشراق الثقافة العربية وتدهورها. إنَّ كلَّ نظرةٍ انفرادِيَّة خاصة تعود بالضَّرر، وكل انفرادية هي معاداة للحياة بشكل ما…

إنَّ مشكلة النهضة إذًا لا تكمن – مثلما سبَق أن أكدَّته – في الأصالة أو التَّفتح أي في استعادة الماضي أو التَّفتح على العالم الحديث وتقنياته. فعلاً إنَّ استعادةَ الشخصية الأصلية بإحياء اللغة العربية والدين الإسلامي وبعث الماضي، كلُّ ذلك غير كافٍ للاندراج في العالم المعاصر.

الأصالة والتطوُّر لا يتناقضان. فالحياة في حاجة إلى الإثنين كِليهما، والنهضة الأصيلة في حاجة إليهما معا: إنَّها لا تكتفي بـ “فقط” بل تريدُ “أيضًا”. أي أنَّها لا تكتفي بالأصالة، بل تريد التقدُّم أيضًا، ولا تريد الماضي بل تريد التفتُّح على تطوُّرات العالم الحديث.

بابٌ على الأصالة وآخر على العلوم الكونِيَّة

ثم إنَّ السؤال التالي لا يجب أن يُطرَح على بساط البحث: هل نتكلَّم العربيةَ أو الفرنسية؟ فها هنا أيضًا ستكون النَّظرةُ الانفرادية خاطئةً، لأنَّ اللغةَ العربية تفتح الطريق الجوهري نحو استعادة الشخصية الجزائرية وتفتح الباب من جديد على الأصالة، والإسلام والتراث العربي، وتفتح بابَ العقل أمام علمائها الكبار وفلاسفتها وشعرائها، وتبقى دائمًا وأبدًا أساس الثقافة الوطنية الأصلية. أمَّا اللغة الفرنسية فهي تفتح الباب على الحضارة والعلوم الكونِيَّة، ولا ينبغي تَحقِير مُساهمة الحضارة الفرنسية بل يجب الاعتراف بها.

استعارةُ مَساحيق الحضارة المُعاصرة

ثم إنَّه من الخطأ الفادحِ الخلطُ بين القديم والمعاصر، والوَصل بين الحضارة العربية والحضارة الأجنبية، والماضي والتقدُّم، دون إحداثِ اتِّفاقٍ ونقلٍ مزدوج. ثم إنَّه لا ينبغي شراء الآلات التقنية المعاصرة ووضعها في عالم تقليدي، أو الاهتمام بالرومانطيقية والانهماك في العالم المعاصر دون حصيلة في النفس سوى أمجاد الماضي الكبيرة. إنَّ مِثل هذه الثقافة التي تَستعِير المساحيق من الحضارة المعاصرة، سوف تبقى عقِيمةً مُناقضة للواقع، وتقليدًا لا حياة له ولا قيمة.

عظَمةُ الثقافة العربِيَّة

ذلكم هو ما يستطيع التاريخ العربي الإسلامي أن يُعلِّمه للعرب في أيامنا هذه. لقد كانت للإنسان العربي في بدء تاريخه وحضارته الزاهرة، القدرةَ على إدراج التراث الأجنبي في ثقافته الخاصة، وتَمثُّل الرَّوافد الأجنبية وتحويل الأفكار، والإنجازات العلمية والتقنية والفنية والقوالب الجديدة، وذلك بطريقته في التفكير وقُوَّته الخلاَّقة اللذين جعلاه يحوِّل كل ذلك إلى تعبير أصيل عن شخصيته.

إنَّ عظَمَة هذه الثقافة وأسباب خُصوبتها تَكمُن في أنَّها لم تقتصر على تقليد الأجنبي تقليدًا أعمى، بل في نَفيِ روحها الخاصة في هذا الأجنبي وبعث الحياة فيه من جديد من تلقاء ذاتها.

حرِّيةُ العقل والروح

إنَّ لي اعتقادًا راسخًا بأنَّ العالم العربي الإسلامي يسير في الطريق الصَّواب نحو نهضته الأصلية الواعية – مثلما هو الأمر في الجزائر – بأنَّ الانتصار على الاستعمار يكتمل ويتكامل بالحرية الداخلية أي حرية العقل والروح. إنَّ العالم الإسلامي إذ ينأى عن أن يُسلِّم نفسَه إلى تبعِيَّة جديدة ناتجة عن المؤثرات الأجنبية، وإلى اغترابٍ جديدٍ، والسقوط من جديد تحت رحمة الاستعمار الجديد القادم من الشرق أو الغرب.. إنَّ هذا العالم سوف يجاهد، بالدرجة الأولى وبثباتٍ، في البحث الجادِّ عن أصالته، بالغوص من جديد في منابعه، وبالبحث عن “إنِّيَّتِه”، واغتراف قواه وطاقاته الإبداعية التي ستمكِّنه من القيام بنهضة كاملة، واستعادة المكانة التي يستحقُّها في العالم.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا