يُعتبَر البحر الأبيض المتوسِّطُ مَركز العالم، ومُلتقى الثقافات الحضارات لشعوب قارَّات: آسيا وإفريقيا وأوروبا. وكانت السِّيادة على هذا البحر تعني السِّيادة على كل العالم، كما كان الأمرُ مع الجزائر التي بَسطَت سيطرَتها وهيمنتَها على العالم في عصرها الذَّهبي.
أطلق عليه العرب تسمِيَة: بحر الرُّوم أو البحر الشّامي، وجاء في موقع الأمم المتَّحدة “كان حوض البحر الأبيض المتوسط مَهد الحضارة العالمية منذ المستوطنات الأولى التي أقِيمت في عام 9000 قبل الميلاد في أريحا. والبحر الأبيض المتوسط مَعروف في اللغة الإنكليزية واللغات ذات الأصل اللاَّتيني بأنَّه البحر الذي “يتوَّسط الأراضي”، وأطلِقت عليه العديد من التَّسميات: بَحرُنا بالنسبة للرومان، والبحر الأبيض بالنسبة للأتراك، والبحر الكبير بالنسبة لليهود، والبحر المتوسط بالنسبة للألمان، وثمَّة احتمالٌ مَشكوك فيه كثيرًا في أنَّ قدماء المصريين أسموه الأخضرَ الكبير”.
شهِد البحر الأبيض المتوسِّط صراعات كبرى – وما زال يشهدها – بين الشَّرق والغرب، بين ضفَّته الجنوبية التي تُمثِّل العالم العربي، وضفَّته الشمالية التي تُمثِّل الدُّول الأوروبية، بين المسيحيَّة والإسلام.. لذلك ظهرت دعواتٌ للحوار بين ضفَّتي المُتوسِّط، قادَها مُفكِّرون وعلماء اجتماع ومُؤرِّخون، مثل المُفكِّر الفرنسي “جاك بيرك” (1910- 1995) الذي كان باحثًا في الدِّراسات الإسلامية، وأصدرَ كتابه “مُذكِّرات الضِّفتين” باعتباره ينتمي إلى الضفة الشمالية للمتوسط، وهو من مواليد مدينة “فرندة” في “تيارت”، وعاش لسنوات طويلة مُتنقِّلاً بين بلدان عربية في الضِّفة الجنوبية للمتوسِّط.
إضافة إلى دعوات الحوار “العلميَّة” التي نتَج عنها إصدار أعمالٍ أكاديميَّة مثل “قاموس البحر الأبيض المتوسط” الذي قام بإعداده 177 باحثًا، واستغرق إنجازه قُرابة 10 سنوات (2006 إلى 2016).. ظهرت مُؤسَّساتٌ وهيئات ومراكز بحوث ودراسات، لها أبعادٌ سياسية واقتصادية مثل: الاتحاد المتوسطي، الحوار المتوسِّطي، مُنتدى البحر الأبيض المتوسط..
وعلى امتداد عُقودٍ طويلة من القرن العشرين، أقِيمت العديدُ من الفعاليات التي ناقشت قضيَّةَ الحوار بين حضارات وثقافات البحر المتوسط، منها “ملتقى الثقافة العربية وثقافة البحر الأبيض المتوسط” الذي نظَّمه معهد “إيبالو” في مدينة “فلورنسا” بإيطاليا في شهر ديسمبر 1972، وشارك فيه المُفكِّر الجزائري “عبد الله شريط” بمُحاضرةٍ نُشِرَت تحت عنوان “حوار جديد” في مجلة “الأصالة” الجزائرية، وفي مجلة “الآداب” البيروتية، في التَّاريخ نفسه وهو الأول جانفي 1973. ونترك القارئَ مع نصِّ هذه المُحاضرة..
حوارُ أبناء العالم المُتخلِّف والمُتقدِّم
المُثقَّفون من أبناء العالم المُتخلِّف عندما يُدعون إلى حوار كهذا مع المثقفين من أبناء العالم المتقدم، لا يشعرون بحَرج لأنَّهم ينتمون إلى عالم متخلِّف، بل يشعرون بتعقُّدٍ جديدٍ ومصاعب إضافية تنضمُّ إلى ما يعانون في بلادهم من صعوبات في الحوار مع مجتمعهم، بل مع أنفسهم، كل واحد منهم في هذا الحوار يتساءل ماذا يفعل مع لغته المُحنَّطة، وثقافته التي فقدت حيوِيَّتها، ومُجتمعه المتخلِّف، هل يُحطَّم أو يُرمَّم؟ هل يُبنَى على فراغ أم على جدار قد انحنى تحت وطأة القرون؟ يبدأ من الصِّفر أم من اللاَّنهاية؟ يعود إلى الماضي أم يبدأ من الحاضر؟ يلتفت إلى الوراء أم يقفز إلى الأمام في المجهول وحده؟
مُثقَّفون يعيشون في المُتناقضات
إنَّنا نعيش في متناقضات مع أنفسنا ومع مجتمعنا، متناقضات بين ماضينا ومستقبلنا، بين حياتنا المادية المُصطنعة وحياتنا الفكرية المُذبذبة.. نعيش في مجتمعٍ ثَقُل علينا عِبءُ حَملِه من القرون البدائية إلى عصر التكنولوجية.
نعيش في خُصومةٍ بين المؤمن بالقوانين الطبيعية في نزول المطر، وبين المؤمن بإرادة الله التي تفعل وحدها كل شيء. خصومة بين قوانين المرور التي نستمدُّها من عندكم، ونسوق بها السيارة في الشارع، وبين طبيعة البَدويِّ الذي لا يعترف لأحدٍ بالمرور قَبله. خصومةٌ عندنا بين من يقول: تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية غيرك، ومن يقول: الشيء الذي أبصرتَه فهو لك، وما لم تبصره فلَك فيه النصف. بين طبيعة رجلٍ يشتري لزوجته آخر مُودة من اللباس، ويمنعها من مصاحبته إلى حفلة ساهرة. خصومة بين ما أخذناه عنكم من “أشیاء” نكدِّسها لأنَّ أخذَها سهلٌ، نشتريها فقط ونستعملها، ولكنها ليست من إنتاج حضارتنا، وبين ما يشكِّل حقيقة الحضارة، وهو الإنسان الذي يعيش بعقله لا بالأشياء المكَدَّسة.
اللِّقاءُ على جِسر الموت
هذه الخصومة نشأت في عصرنا هذا من إنَّ طبيعة الاتصال بين تخلُّفنا وتقدُّمكم، مرَّت عن طريق علاقة بين تُجَّارنا وتُجَّاركم، كان فيها العقل مُتغيِّبًا، وبين سياسيينا وسياسييكم لم يحضر فيها من الفكر إلاَّ عنصر الحِيلة، وبين عسكريِّينا وعسكريِّيكم الذين كان الجسر الوحيد الذي أقاموه بينهم للقاء، هو جسر الموت، وبين رجال الدين الذين كان كلُّ فريق منهم يعتقد إنَّه وحده المؤمن، وإنَّ الآخر كافرٌ. لقد ثار عليهم أبو بكر الرَّازي منذ القرن العاشر الميلادي (وهو ذلك الفيلسوف الذي ترجِمت أكثر كُتُبه إلى اللاَّتينية هنا في إيطاليا – البندقية وصِقِلِّيَة – ثار على الاتجاهات الاستغلالية للأديان كلهــــا، لأنَّها عنده “أخَّرت الناسَ في سلوكهم وعاداتهم السيئة، وزادت من ضيق عقولهم، بالإضافة إلى ما سبَّبته بينهم من حروب وعداوات، وما سبَّبته من عداوة رجال الدين للفلسفة والفلاسفة، في حين إنَّ الفلاسفة أفادوا الإنسانية أكثر من الأنبياء” (أحمد أمين، كتاب: ظهر الإسلام. جزء: 2. ص: 186).
وبعد “الرَّازي”، أضيف إلى العداوات الدينية، عداوات الاقتصاد والحربية، والسياسية والتي جُعِلت لخدمتهما. كان الاتِّصال الوحيد الذي لم يقع إلاَّ نادرًا في علاقاتنا الحديثة، هو الاتصال بين المثقفين، هؤلاء ليست بينهم، على الأقل من حيث المبدأ، عداوة تسيِّرُهـــــــا الأطماع التجارية أو الحِيلة السياسِيَّة، أو التَّدمير العسكري، أو الحقد الديني. إنَّهم يؤمنون بقيمةٍ وحيدةٍ فوق كل القِيَم المالية والسياسية والعسكرية والدينية، وهي كرامة الإنسان ورُقِيَّه.
سلحفاةُ “زينون”..
واليوم، وفي هذا الحوار الجديد بيننا وبينكم، ماذا نُمثِّل كلُّنا، نحن وأنتم؟ هل نمثِّل مجتمعاتَنا؟ هل نمثِّل أنفسنا فقط؟ هل نمثل حضارةً؟ أمَّا فيما يخصُّ حضارتنا، نحن فقد خرجنا منها، وحضارتكم لم ندخلها بعد. لأنَّ السباق بيننا وبينكم كالسِّباق بين “أخيل والسلحفاة” عند “زينون” (فيلسوف يوناني (490 ق.م – 430 ق.م)) في أبطاء الحركة.
لا نمثل مجتمعنا لأنَّنا أقلِّيَة فيه، نحن وحدات ضائعة في خِضَّمٍ لا يكاد يشعر بنا، نحاول أن نعيش معكم، ولكننا لا نريد أيضًا أن ننقطع عن مجمتعنا، ومجتمعنا ما يزال يعيش مع أجداده وهو يجهلهم وهو دون مستواهم، بما تركوا له من مَسكنٍ وعادات وفكرٍ. هم يؤثِّرون فيه لأنَّهم يعيشون معه حياته اليومِيَّة، ولا يستمع إلى أقوالنا لأنَّنا نرمي بها إليه ونحن مارُّون في سيارتنا أمام كوخه. إنَّنا لم نستطع أن نَلحقكم أنتم، ولا أن نبقى مع مجتمعنا، حيث هو يقعـــد بــه الجوع. فيشعر بعضنا بالحاجة إلى الثورة، ونحن مُختنِقون في ملابسكم لأنَّها لم تخلق لحرارة الشمس في صحرائنا.
“عربٌ وباعوا رُوحَهم”..
أمَّا السعداء مِنَّا فيخلقون جنةً لأنفسهم من أوراق البلاستيك، يُقيمونها في الرمال ليشعروا أنَّهم معكم في أوروبا. ويلذُّ لهــــم أن يُضيفوا إلى لهيب الصحراء، لهيب الخمر، لأنَّكم تشربونها في البرد، ويرقصون في الخرائب والغبار لأنَّكم ترقصون في القصور وعلى ضفاف الأنهار. أنتم إذًا حذفتم من وجودنا كل ما هو أنتم، لا يبقى شيء تتحاورون معه. ولكن أنتم، ماذا تمثِّلون في مجتمعكم؟ هل تمثِّلون إنسانَ ما بعد الحرب، كما صورته لنا الوجودية؟ يعيش في حلقة الخوف واليأس وكما يصفه “مونییه” بأنَّه إنسانٌ مُتهافتٌ غير مَتين، لأنَّ معتقداته مغامرة، ومؤسَّساته العقلية غير ثابتة، والعالم من حوله صامتٌ لا يقول شيئًا، والموجودات غارفة في الوحدة، والعدم يصاحب كل شيء، ينظر إلى الناس من حوله على أنَّهم أشياء، ويتوهَّم أنَّهم ينظرون إليه على أنَّه شيء، لأنَّهم سرقوا حريته فرفض معهم كل تواصل. أم تُمثِّلون في مجتمعكم ذلك الإنسان البورجوازي صاحب الشراسة المبتسمة (للكاتب نفسه: مونییه). ذلك الذي يعتبر أنَّ الفضائل الأخلاقية تنحصر في كُثرة المطالب والجشع وعدم الاهتمام بالغير، لأنَّ محبَّة المال قد التهمت عنده كل الفضائل الأخرى، وحلَّت عنده قِيَمُ الرَّخاء والبذخ رأسَ درجات السلَّم. لا يسمع نداءات الآخرين لأنَّه لا يرى من التعاسة إلاَّ تعاسة الشخصية. ذلك الإنسان الذي نشأ في رجُل المال ثم امتدَّ إلى التاجر والفلاح والعامل والصانع وساكن القرية، وترك أثره في كل الطَّبقات ظاهرًا كالسُّيول المُدمِّرة؟
العبيد لا يشعرون بشقائهم..
لا تنزعجوا، هذا هو الإنسان نفسه الذي وصفَه “ابن خلدون” عندنا قبل أن يحكم علينا الاستعمارُ الحديث بالفقر العام. كلاَّ إنَّكم لا تمثِّلون هذه القِيَم الناقصة ولا هذا المجتمع الكافر بالإنسان، لأنَّكم أنتم الذين تصيحون فيه ليستيقظ. وتتعرَّضون للتَّيار فلا يجرفكم، ولكنكم لا تستطيعون إيقافه. كما لا نستطيع نحن أن نشعل النارَ في الرَّماد.
لقد استولى على مجتمعنا العربي الأمواتُ، كما يقول “أوغست كونت” واستولت على مجتمعكم فرديَّة الآلة. وإنَّنا لو نستمع وإيَّاكم لما تقوله لنا روح الاستسلام، لوجدنا أنفسَنا في “جمهورية أفلاطون”، جُموع العبيد فيها أكثر من الأحرار، وعبيد اليوم هم الجماهير التي لا تشعر بشقائها. والأحرارُ فيها هم من يملكون الأساطيل والبنوك والمراقص، وينفقون في ليلة على شهواتهم ما يُعيل أُسرًا بأكملها طيلة عام عندنا، ولكنهم هـم أيضًا ليسوا أحرارًا لأنَّهم مملوكون لما يملكون. إنَّ أغلال عبودية العالم اليوم أصبحت مرةً أخرى أغلالاً نفسيَّةً، لأنَّ الجشع الذي تَحكَّم في كل الطبقات أصبح هو مركز الرحى في العالم المعاصر.
هذا هو الاله العنيد الذي ثار عليه سقراط، المسيح، ومحمد، وثار عليه نیتشه، ومارکس، وغاندي، وروسكين، وكروتشي، ومونييه.. إنَّنا نقرأ وَصفًا لمجتمعكم (رايخ) فنجدكم مجتمعًا يعمل على نشر أخلاق المتعة، والهدف عنده هو استفزاز شهوة الاستهلاك من أجل الازدهار الاقتصادي. أمَّا العمل في حدِّ ذاته، فليس إلاَّ حلقةَ فراغٍ بين سلسلة الملذَّات، هو وقتٌ تغيب عنه الحياة. مجتمع مُدلَّلٌ لا يعجبه شيء، ولا شيء في نظره جميلٌ، همُّه أن يشكو باستمرار وهو جالس في حلقة دائرة تُحيط به ألقابُه البرَّاقة التي خيَّبت آماله.