في قصيدته “هوامش على دفتر النَّكسة”، قال الشاعر “نزار قباني”: “خُلاصَةُ القضيَّة.. تُوجَز في عبارة.. لقد لبِسْنا قِشْرةَ الحضارة.. والروح جاهلية”. فالإنسان العربيُّ، برغم مظاهر تحضُّرِه في اللِّباس والعطور والعِمران والطَّعام..، ما زال يحتفظُ في أعماقه بالبدويِّ الذي لا يقبلُ في بيْتِه بالأمور التي يدعو إليها في الخارج، أو يتشدَّق بإيمانه بها في الأماكن والفضاءات المفتوحة، لا سيما فيما يتعلَّق بشؤون المرأة وقضايا التَّحرُّر، والطِّب التقليدي والطِّب الحديث..
أستاذُنا الكبير المُفكِّر الجزائري “عبد الله شريط” ناقَش هذه الفكرة أيْضًا، ولكن بفِكر الفيلسوف العميق، وأدوات العالِم “المنهجيِّ”، وراح يبحثُ عن “الحقيقة” في فوضى الزَّيف، ويُفكِّكُ الواقعَ العربيَّ بأدواته المعرفيَّة الرَّصينة، ويُعيد قراءةَ “اجتماع البداوة الفكريَّة والحضارة المادية” على ضوء الفكر الغربي، والفكر “الخلدوني”، والتَّاريخ الحضاري لأمَمٍ حافظتْ على عاداتها وتقاليدها وكيَّفتْها مع الحضارة “العصرية” كالأمَّة الصينيَّة مثلاً. ونواصلُ مع القارئ متابعةَ مقال أستاذنا “الحقيقة والزَّيْف في مُجتمعنا العربي”، الذي نشَره في مجلَّة “الأصالة” الجزائريَّة سنة 1972..
المجتمعُ العربي يفتقِدُ إلى الواقِعيَّة الفكريَّة
إنَّ الفيلسوف الألماني “هيغل” (1770 – 1831) يعتبر الوجودَ الفكري هو الوجودُ الحقيقي، فهل كان على خطأ؟ إنَّ السِّكة الحديديَّة قد وُجِدتْ في ذهن المهندسين قبْل أن ينجزها العاملُ، وهو يعنى أنَّ كل وجودٍ عمليٍّ لم يسبقه درسٌ فكري، فهو صائِرٌ إلى زوالٍ، ولا يدخل بابَ الحضارةِ الخالدة. ووجودُ المجتمع عنده – هيغل – لا يُقاس بوجود أفراده، بل هو يدخل التاريخَ منذ اليوم الذي تُشَكَّل فيه لذلك المجتمعِ دولةٌ.. فالمجتمع لا يدخل الوجودَ الإنساني قبل أنْ يمتلك العقلَ أيْ الدولة.
وإذًا، فالمجتمع الذي لم يقم على أسُسٍ عقلية فهو لا يُعَدُّ مجتمعًا حقيقيا. و”ابن خلدون”، من ناحيته، يعتبر الوجودَ العملي هو آخر مرحلة في الوجود النظري، بحيث يكون الوجود الاجتماعي الذي لم يرْكب مَطِيَّةَ الفكر إلى الوجود العملي فلا أمل له في الوجود الحقيقي. ومن ثم كرَّس -ابن خلدون- كل جهده إلى فهْم المجتمع العربي ذهنيًّا، لأنَّه لاحظ أنَّ هذا المجتمع بقِيَ محرومًا قبْلَه من هذا الوجود الذهني الذي هو الوجود الحقيقي. ولعل ما يُسمِّيه الأستاذ “ناصيف نصار” بـ “واقعيَّة ابن خلدون” هو هذه الواقعية الفكرية التي افْتقدَها المجتمع العربي قبْل ابن خلدون، أيْ افتقدَ وُجودًا مدروسًا ومُحَلَّلاً، ينتقل به أو يرتفع من الوجود العملي إلى الوجود العلمي المُعَقْلَن. لقد ألحَّ الأستاذ “ناصيف نصار” على عنصر الفكر في واقعية ابن خلدون، وهذا الإلحاح يأخذ، في نظري، أهميَّته الكبرى من إدخال عنصر الفكر هذا في الوجود الخام لكي يصبح وجودًا حقيقيًّا. وابن خلدون، في هذا الصدد، يلتقي مع هيجل في غاية واحدة ذهب إليها كل منهما عن طريق خاص به. وهذا ما نريد من ناحيتنا أن نبني عليه مشكلة الحقيقة والزيف في مجتمعنا العربي. وليسهل علينا توضيح الطريق إلى هذا الغرض، سنُقسِّمه إلى ثلاثة ميادين رئيسية هي: الميدان الحضاري، الميدان السياسي، الميدان الثقافي. مُحاولِين أنْ ندعِّمها بأمثلةٍ مأخوذةٍ من وقائع حياتنا الاجتماعية.
الميدان الحضاري.. التَّصادم بين التقليدي والعَصْري
إنَّ وضْعنا الراهن في مجتمعنا العربي يتميَّزُ بالتصادم الذي اختلطتْ فيه حياتنا التقليدية في كل الميادين بالحياة العصرية. وهذا الاختلاط طبيعي ولم يكن لنا منه مفرٌّ، وليس لنا أنْ نأسَف له في حدِّ ذاته. ولكن ما نأسف له في هذا التصادم هو أنَّنا تقبَّلناه عمليًّا وتعوَّدناه كما لو كان شيئًا طبيعيًّا، ودخَل حياتَنا اليومية قبْل أنْ نتلقَّاه فكريًّا وندرسه ونفهمه، فكان الجانب الحضاري في حياتنا موجودًا وجودًا عمليًّا أيْ وُجودًا مُستعارًا، ولكنه غير موجود فكريًّا، أيْ هو غير موجود وجودًا حقيقيًّا. إنَّ وجودَنا الحضاري خليطٌ من الحقيقة والزَّيْف، ولكن إلى أيّ حَدٍّ يمكن أنْ نُميِّز بين الحقيقة والزيف بوضوح في هذا المجال؟
إنَّنا في محاولة التَّمييز نفسِها نوشكُ أنْ نقعَ في الزَّيْف إذا رُحْنا نستعِير القوالبَ الذهنيَّةَ الأوروبية ونصُبُّ فيها وقائِعَنا الحضارية. لذلك سنلجأ إلى تراثنا الفكري الوحيد في هذا المجال، لأنَّه هو الذي ما تزال قوالبُه صالحةً لأنْ نصبَّ فيها وقائِعَنا الرَّاهنة، وهو تراث ابن خلدون. والمشكل الحضاري في المجتمع العربي، في هذا الصدد من جهة التحليل الخلدوني، يتمثَّل في مُشكِل البداوة والحضارة، فهل.. ما يزال هذا التَّقسيمُ صالحًا لنا اليوم؟ وأيُّ نصيبٍ من البداوة في حياتنا العربية المعاصرة، وأيُّ نصيبٍ من الرُّوح الحَضَرية فيها؟
شهادةُ مُمرِّضةٍ في مَصحَّةِ للتَّوليد
منذ حوالي أسبوعين فقط، كان لي حديثٌ مع مُمرِّضةٍ في مَصحَّةِ للتَّوليد في مدينة الجزائر العاصمة، فقالتْ لي: إنَّ أكثر ما يُضايِقُنا في عملنا هو مُجابهة الزَّوج، الذي ينتظرُ في قاعة الاستقبال، أنْ نخبره بما ولدْته زوجتُه، فإذا كان ولدًا ذكَرًا فإنَّ البِشْر والانشراح يصل به إلى أنْ يغمرنا بالهدايا والعطايا وبالشُّكْر والامتنان كما لو كُنَّا نحن الذين رزقناه بهذا الطفل المولود. وإذا كانت بنْتًا، فهو المُتَجهِّم والعَبوس، وأحيانا يصِلُ إلى درجة شَتْمِنا والتَّهجُّم علينا كما لو كُنَّا نحن الذين تسبَّبْنا له بصورة مباشرة في حصول هذه “الكارثة”.
هذه المَصحَّة لا يقصدها الرجلُ المتوِّسط عندنا، ولا رجلَ الرِّيف أو البادية، وإنَّما تقصدها الإطارات العليا في البلاد من كبار الموظفين والعائلات المُوسَرة ذات التقاليد الحَضرِيَّة العريقة.
ولنفحص هذه الظاهرة عن قُرْبٍ: هذا الرجل يرتدي لِباسًا أوروبيًّا من آخر طراز، وزوجته كذلك، وقد أتى إلى المَصحَّة في سيارة أنيقة وليس على ظهْر بعيرٍ. والآلاتُ التي اسْتعمِلتْ في عملية التَّوليد من أحدث الآلات وأدقِّها، والطبيب المُوَلِّد نالَ درجةَ الاختصاص في هذا الفن من المعاهد الأوروبية. والمصحَّة التي يجري فيها التَّوليد ليس فيها ما يُذكِّر بالخيْمة، أو الاعتماد على الأولياء الصالحين في تسهيل عملية الولادة. والمحيط المادي الذي يغْمرُ هذه العملية كلها هو محيطٌ حضاريٌّ تستطيع أن تنافس به أرْقى المَصحَّات في العالم المُتحضِّر، ولكن الرُّوحَ التي تختبئ خلْف هذه المظاهر هي كلها تلك الرُّوح التي وصفها القرآن في الإنسان الجاهلي منذ أربعة عشر قرنًا، وهي أنَّ أحدهم إذا بُشِّر بالأنثى ظلَّ وجهُه مُسْوَدًا من سوء ما بُشِّر به، أَيُمْسكه على هونٍ أم يدسُّه في التُّراب.
تحريرُ المرأة.. للأخْرَيات وليس للأخوات
هذا، ولا حاجة بنا إلى التوسُّع في ظاهرة الدَّعوة إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقها الكاملة في المساواة مع الرجل، ولكننا نقصدُ دائمًا نساء الآخرين وأخواتهم وزوجاتهم. أمَّا الروحُ التي نتصرَّف بها مع نسائنا من عشيرتنا فهي لا تحمل من المساواة قليلاً ولا كثيرًا، ولا حتى من الاحترام العادي الذي حاول الإسلامُ أنْ يغرسه في نفوسنا، منذ عشرات القرون، نحو المرأة ولكن بدون جدوى.
إنَّ التوسُّع في هذه الوقائع من حياتنا الاجتماعية سهلٌ جدًّا ويستطيع كل واحدٍ أنْ يحْشد منه عشرات الأمثلة في اليوم الواحد، لأنَّه هو الطَّابع العام في حياتنا كلها. وإذًا، فأين هي الحقيقة الحَضَريَّة في هذه الوقائع، وأين هو الزيف؟ إنَّ أكثر ما يُبرِز الجوابَ على هذا السؤال هو اندفاعنا الشَّديد وحدةُ تحمُّسنا في تقبُّل النقائص حتى قِيل عن مَعِدتنا الحضاريَّة أنَّها اقوى مَعِدَةٍ حَمَلتْها الشُّعوبُ في التاريخ: تتحمُّل الحارَّ والباردَ والمُنبِّهَ والمُخدِّر في آنٍ واحدٍ.
جمْعُ النَّقيضيْن تحت سقْفٍ واحدٍ
والنَّقائص التي نتحمَّلها هنا هي اجتماع البداوة الفكرية والحضارة المادية، والإفراط فيهما معًا: لا نرضى من مستوردات الحضارة الحديثة إلاَّ بما كان من آخر المُنجزات التقنية الآلية. وفى الوقت نفسه، لا نتمسَّك من تقاليدنا الموروثة إلاَّ بما كان مُوغِلاً في التأخُّر الفكري، ولكننا بدون أيّ حرَج أو شعور بالإثم، نجمعُ النَّقيضيْن تحت سقفٍ واحدٍ، ونشْمله في الشخص الواحد، البدلةُ نفْسُ البَدْلة ونفس الجسم والفكر. ولنحاول الآن أنْ نقلب الوضع قلْبًا فَرَضِيًّا طبعًا لكي نتصوَّر وجودَنا الحضاري وجودًا حقيقيا لا مُزَّيفًا.
العربُ والصِّينيون.. هل الفرْق بينهما في الإنسانية؟
ولِنستعين على توضيح هذا القلب سنلجأ إلى مَثَلٍ من الصين، بقطْع النظر هنا عن الأيدولوجية، مُفترِضِين أن هذا القلبَ فيها كان يمكن أنْ يتم بدون نظام شيوعي. في الصين يتمتَّعُ المجتمعُ بتراثٍ حضاري تقليدي في النُّظم الاجتماعية وفي الصناعات اليَدويَّة، والإنتاج الفكري يُعَدُّ أرْقى من التراث العربي قليلاً أو كثيرًا. ولكنهم في الأخذ من الحضارة المُستورَدة يكتفون بالضروري من الآلات الإنتاجية ووسائل الحياة العصرية، أو ما يشبه الضروري وما يُسمِّيه ابن خلدون بالحاجي من لوازم الوجود. وبذلك استطاعوا أن يُلائموا بسهولة بين تراثهم التقليدي الرفيع نسبيًّا ومستورداتهم المتواضعة نسبيَّا، وهم الآن لا يعانون ما نعانيه نحن من التناقض الصارخ بين الميراث الوطني والمستورد الأجنبي في حياتهم، لماذا؟ هل لأنَّ الفرْق بين العرب والصينيين هو فرْقٌ في الإنسانية كما يُسمِّيها ابن خلدون؟ كلا! الفرْقُ يكمُن في دور العقل في كل من الحالتيْن: في الصين بذْلُ مجهودٍ فكري على الجبهتيْن: جبهةُ التراث التقليدي بالتَّنْقِيَّة والتَّقيِيم ودرْس ما هو قابل للحياة وما هو غير قابل للحياة، وجبهة المستوردات الأجنبية بالدَّرْس والتقييم ما يصلح منها للإنتاج، وما هو للمُتعة المادية وحدها.
نعم لقد ارتكبتُ أخطاءَ في هذا المجهود الفكري، وربَّما ما تزال وستظلُّ الأخطاءُ تُرتَكب.. ولكن ما استوردوه من المستحدثات عن طريق التقييم الفكري وما أدخلت عليه الحياة من التراث التقليدي قد استطاع به الصينيون، ليس فقط أن يتخلَّصوا مِمَّا بينهما من تناقض معطل، بل وأيضًا أن يُوجِدوا بينهما تكامُلاً حركيًّا يزيد من سرعة التاريخ.
الطِّب التقليدي والطِّب الحديث.. تصادمٌ أم تكاملٌ؟
أبْرزُ مثَلٍ معروفٍ في العالم هو الجمْع بين الطِّب التقليدي والطب الحديث، هذا المجهودُ سواءٌ سمَّيْناه أيديولوجيةً متكاملةً يقوم بها رجال السياسة، أو ثمرةُ أبحاثٍ اجتماعية جادة يقوم بها رجال الفكر، هو ما لم يقمْ به أبناء المجتمع العربي في الصِّدام الذي حصل بين تراثهم التقليدي ومُستورداتهم الحديثة، فكانت نتيجةُ الصِّدام بينهما في مجتمعنا ليست فقط فقدان التكامل بينهما، بل كانت النتيجة هي تعطيل سيْر التاريخ بالمجتمع العربي المعاصر والشَّلل الحقيقي الذي لم يخْتف وراء كثرة الحركة الظاهرة.