المُفكِّر الجزائري “عبد الله شريط”.. كيف قرأَ المُجتَمعَ العربي؟ (الجزء الرابع)

حقَّقتْ الصّينُ نهضةً تكنولوجيةً مُذهِلةً، جعلتْ منها قوَّةً عالميَّةً عملاقةً، وخلال مسيرتها النهضويَّة احتفظتْ بتقاليدها العريقة وأوجدت تكامُلاً بين موروثها الحضاري وبين التِّقنيَّة التي أبْدَعتْها. بينما عالمنا العربي فإنَّه ما زال يعاني من حالةِ الانبهار بكلِّ ما هو غربيٍّ، ولم يصل إلى “إبداع” المعادلة الحضاريَّة التي تجعلُه فاعِلاً في العالم، ومُشاركًا مُنْتِجًا في مجاليْ الأفكار والتِّقنيَّة، وليس مُجرَّد مُستوْردٍ ومُستهلكٍ.. يُواصِل أستاذُنا الدكتور “عبد الله شريط” تتبُّع قضيَّةَ “الحقيقة والزَّيْف في مُجتمعنا العربي”، ونُواصلُ الإبحارَ معه في مقالِه المنشور في مجلَّة “الأصالة” الجزائريَّة سنة 1972..

الصِّين.. تكامُلُ التِّقنيَّة والتَّقاليد العَريقة

في الصين، التي تطمحُ أنْ تصبح قوةً عالميَّةً عملاقةً، فإنَّنا نعرف سلسلةَ الثورات الثقافية التي تكاد تحدث عندهم في كل عشر سنوات، وهم يطمحون اليومَ إلى تقديم طرازٍ جديدٍ من الدِّراسات الإنسانية لم تعرفه أوروبا وأمريكا.. إذْ يحاولون أنْ يجعلوا قِيمةَ التقدم الآلي فيما يقدِّمه من تكامل للتقاليد الحضاريَّة العرِيقة، وقد اعتبرتْ الصحافةُ الأوروبيَّة، هذه المحاولة في أول الأمر، ضرْبًا من الجنون، ولكنهم عادوا فعدَّلوا عن هذا الحكم..

يُمكن تلخيص الموقف الحديث عندهم من قضية العلاقة بين الإنسان والتقنية فيما يلي: إنَّ معيار الإنسان المُنتج ليس فيما يظهره من مهارة تقنيَّة أو علمية، بل فيما يُقدِّمه للشعب من خدمة. إنَّ هناك مراجعة كاملة في سُلَّم القَيَم، تتمثَّل في السؤال الآتي مثلاً: هل قيمة السلاح تفُوق قيمة الجندي، أم العكس؟ والجواب عندهم واضحٌ، وبناءً عليه فإنَّ قيمة الإنسان تفُوق قيمة التِّقنية.. ويُعَدُّ هذا الجوابُ أساسًا من الأسُس الكبرى في الثورة الثقافية الجارية الآن في الصين، ولكن هذا الحكم عندهم لا يقِف هنا، إذْ هو قد يوحي بتفضيل الثقافة النظرية الأدبية على الثقافة العلمية التقنية. لذلك يضيفون إليه أساسًا آخر، وهو الإلحاح على الثقافة العلمية وأفضليتها على الثقافة النظرية. بل يعتبرون أنَّه من الخطَر الاهتمامُ بالثقافة النظرية لذاتها، والتي لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمصلحة الاجتماعية، وهو موقفٌ يتعارض تعارُضًا مُطلقًا مع موقف “أرسطو” وما أوْرَثه في ثقافات البحر الأبيض المتوسط من وُلُوعٍ بالنظري على حساب العملي. ولكنه ـ أي الموقف الصيني – يلتقي مع الموقف العملي في البراغماتية الأمريكية..

الفكر الصيني.. العُمَّالُ هُم العلماء

ويبدو أن الصينيين قد بالغوا، كما تبالُغ كل نزْعة جديدة، في تفضيل الثقافة العمليَّة على الثقافة النظرية إلى درجة تفضيل ثقافة العامل المُحتكِّ بالتجربة الماديَّة على ثقافة المهندس الذي استمدَّ ثقافته التقنية من الكتب. وهُم، أخيرًا، يتَّهمون فنِّيِيهم، الذين نعتمد نحن على أمثالهم في رُقيِّنا الصناعي، بأنَّهم استمدُّوا تِقنيَتهم من المكاتب الأجنبية، وكانوا مُقلِّدين وعالة، في حين يستمدُّ العامِل معرفتَه من التجربة المحلية المباشرة، وما يُخشى على هذا الفكر الصيني الحديث هو أنْ يُؤدِّي، إذا نزَل إلى الطَّبقات الشعبيَّة، إلى نزعة مُعاديةٍ لثقافة الكتاب. ولكن المُهمَّ في الأمر هو أنَّه إذا كان موقف المنطق الغربي المتوارث عن “أرسطو” كما يقول الكاتب الياباني هو منطقُ المعرفةِ، فإنَّ المنطق الصيني الحديث هو منطق العمل. وإذا كان الاتجاه الغربي اتجاهًا علميًّا، فإنَّ الاتجاه الصيني هو اتجاهٌ تقنيٌّ في النهاية. وإذا كان الفكر الغربي يُحلِّل ويبحث في الأسباب والعِلل، فإنَّ الفكرَ الصيني هو فكر النَّشاط العملي. وإذًا فالعمَّال هُم العلماء.

الغَزْوُ التِّقْني الغربي للواقع العربي

أمَّا ما يهمُّنا نحن من هذا الموقف الصيني، مثله مِثْل المنهج الأمريكي والماركسي، فهو المجهود الفكري الذي بُذِل ويُبذَل باستمرار وتزايد في المجال الإنساني، والذي لم تستطع التِّقنيات المُتقدِّمة في هذه البلدان معًا، أنْ تُغطِّي عليه مهما نعتوا اعتباطًا وزيفًا، بأنَّهم أممٌ صناعية. ومهْما بهرتْنا، نحن بالخصوص، نتائج العلوم التقنية وحدها لأنَّها تُصدَّر إلينا وتغزونا في عُقْر دارنا، ونغفل عن الرقي الإنساني الذي عليه هؤلاء القوم جميعًا في بلادهم والذي لا يسترعي انتباهنا في الغالب، والذي هو نتيجة عنايتهم التي لا تقِلُّ – كما رأينا – عن عنايتهم بالرقي الآلي والتكنولوجي.

الانبهارُ باللغة التي صعدتْ إلى القمر

إنَّ انبهارنا بعنايتهم بالعلوم التقنية، وغفلتنا عن عنايتهم بتقدُّمهم الاجتماعي والإنساني، بلَغ من الزَّيف بل من السَّذاجة أن أصبح لا يقِلُّ عن سذاجة الأطفال: حدَّثني والدي أنَّه كان يسير يومًا في بعض الطريق وأمامه طفلان صغيران خرجَا من المدرسة الى بيتهما، وكانَا، وهما يسيران أمامه، يتحدَّثان بالفرنسية، فقال لهما: لماذا لا تتكلَّمان بالعربية؟ قال الوالد فسكَت أحدُهما وأجابني الثاني بقوله: “رُوح (اذهب) يا شيخ في حالك. إنَّنا نتكلم باللغة التي نصعدُ بها إلى القمر! أعتقدُ أنَّ جوابَ هذا الطفل يُعبِّر ببراءةٍ عن سذاجتنا نحن الكبار في كل أنحاء الوطن العربي فيما يتعلق بوسائل الرقي التي يجب أن نستعملها، إنَّه انصرافٌ كليٌّ ومطلقٌ إلى العناية بالتقنية وحدها، وإهمال للوسائل المعنوية في تكوين الإنسان سياسيًّا واجتماعيًّا وأدبيًّا.

الاكتفاءُ الذَّاتي في التَّكوين الديني

ولكن في مقابل هذا الزيف عندنا يُوجد زيفٌ آخر، وهو أنَّ ما عندنا من عناية بوسائل التكوين الاجتماعي للإنسان العربي ما تزال فاقدة لعنصر العلم والثقافة العلمية والمروح العلمية. وأبرزُ ميدانٍ يظهر فيه هذا النوع الآخر من الزيف، بل الخطأ والسطحية، يظهر أكثر ما يظهر في التكوين الديني، إذْ ما يزال رجال الدين عندنا يعتبرون ثقافتهم تتمتع باكتفاء ذاتي ليسوا في حاجة معه إلى التَّزوُّد بالثقافة العلمية والاجتماعية الحديثة.

وتحضُرني في هذا الصَّدد قصةٌ للمرحوم الشيخ “محمد عبده” مفادها أنه كان يومًا يتجوَّل في حديقة بالقاهرة مع صديق له، وهما يتحدَّثان، وإذَا بالشيخ “عبده” يتخلَّف عن صديقه برهة من الوقت ثم يلحق به وعيناه مبتلَّتان بالدموع. فسأله صديقه عمَّا إذا كان قد أذاه شخصٌ؟ فقال “عبده” كنت استمع لامرأةٍ إنكليزيةٍ تنْتَهِر طفلَها الصغيرَ عن قطْف الأزهار من الحديقة، وتحدِّثه بمعاني لا تخطر ببال أجلِّ شيوخنا عِلْمًا وفضْلاً! ويلتحق بهذا الصِّنف من مُثقَّفِينا الاجتماعيين الجمهورَ الأكبر من الأدباء الذين يكتفون بثقافة لغويَّة في الغالب.

وقد كان في إمكان هذين الصِّنفيْن من المثقفين في الوطن العربي، وهُم الصقُ الناس بجمهور الشعب العربي، أنْ يساهموا في رفْع مستواه الثقافي المتدهور، لو تزوَّدوا بثقافة علميَّة واجتماعية حديثة، وحاولوا أنْ يحتَكُّوا فكريًّا بواقع أمَّتهم الاجتماعي الخام!

قِمَمٌ فكريَّةٌ أمْ حَشْوٌ ثقافي؟

وقد رأينا في المؤتمرات العديدة التي تجري في أنحاء الوطن العربي شرقًا وغربًا، لقاءات التعرُّف على الفكر الإسلامي عندنا في الجزائر، وكمؤتمرات رجال الفكر والأدباء العرب هنا وهناك من المشرق، فلا ترتقي في أغلبها إلى قِمَم فكريَّة تفحص منها فحصًا علميًّا ما يتخبط فيه المجتمع العربي من ضبابِيَات فكريَّة وحشو ثقافي وتأخر في أسلوب التعامل يدعو إلى الرِّثاء، ومن خلْط في مفاهيمه الحياتيَّة، وتصادُمٍ فيي أذواقه المتنافرة، وفُقدان لكل هدف أو طموح، وذبذبة في القِيَم الأخلاقية والتربية المدنيَّة، وعُقْم في التكوين السياسي والنُّضج الاجتماعي.

ولكن المثقف العربي نفسه إذا كانت تتوفر فيه صفة الثقافة على نحو من الأنحاء، فإنَّ صفة العروبة في ثقافته التي تعزُّ فيه وتنْدر، إنَّنا إذا توجَّهنا إليهم في مختلف أنحاء الوطن العربي، فإنَّنا سنجدُ أحدَهم يحْمِل مفاهيم أمريكية للثقافة الاجتماعية، والآخر يحمل طابعًا فرنسيًّا، والثالث ماركسيًّا سوفياتيًّا، والرابع ماوِيًّا، والخامس سَلفِيًّا دينيًّا، والسادس خُرافِيًّا مُشعْوِذًا، والثامن لفظِيًّا سفسطائيا.. يتكلمون كلّهم بلغةِ الضَّادِ، ولكن هذا كل ما يجمعهم من عناصر الثقافة. وكلٌّ منهم قد يكون له عذره في اتجاهه ومحتوى ثقافته لأنَّه تلقَّاها تلقِّيًّا ولم يخلقها خلْقًا.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
التجارة الإلكترونية في الجزائر.. تجربة التسوّق بنقرة واحدة صواريخه أفقدت "إسرائيل" صوابها.. حزب الله يجرّ العدو إلى الجحيم الجبلي نداء من المكتبة الوطنيّة الفلسطينية.. من يحمي الذاكرة من الإبادة الثّقافية في غزّة؟ وفق هندسة معمارية تضمن الاستدامة.. معايير جديدة للإسكان في الجزائر أعطوه ناقوس الخطر ليدقّ عليه.. رواية "الملف المطوي" تصدم الملك المغربي السفير الصحراوي: قرار المحكمة الأوروبية كشف حقيقة الاحتلال المغربي بوغالي يدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم ضد الانتهاكات الصهيونية استرجاع ما يقارب 90 مليار سنتيم.. شرطة المغير تطيح بشبكة إجرامية عابرة للحدود يسبب نوبة صرع أو غيبوبة أو حتى الوفاة.. طبيب يحذر من الإفراط في شرب المياه مجلس الأمن قلق بشأن استهداف بعثة “يونيفيل” في لبنان ندوة دولية في نيويورك.. البرلمان الجزائري يدعو العالم إلى نصرة الشعب الصحراوي وزارة العدل تفتح باب التوظيف بتكليف من قوجيل.. الجزائر تستضيف ندوة حول قضية الصحراء الغربية بسبب خسارة مالية كبيرة.. "بوينغ" تُخطط لتسريح 17 ألف موظف شبيهة بالبشر وتحتفل مع الضيوف.. تسلا تكشف عن روبوتات “أوبتيموس” هذا برنامج سير رحلات القطار على خط الجزائر – زرالدة هل تنضم دول أخرى إلى المقاطعة؟.. نيكاراغوا تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع “إسرائيل” العدوان الصهيوني على غزة.. ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 42 ألف و175 شهيد مايعادل 1.2 مليار دولار سنويا.. صندوق النقد الدولي يخفض تكاليف اقتراض أعضائه تساقط أمطار رعدية على بعض الولايات الجنوبية