كأنَّما لا تُوجد منطقةٌ وُسطى بين الفخر بالماضي والاستغراق فيه إلى حَدِّ الانسلاخ عن الحاضر والجُنوح إلى التَّطرُّف تعصُّبًا إلى ذلك الماضي، وبين النَّقد الذَّاتي الذي يجنحُ إلى جلْد الذّات فلا يُبصر إلاَّ العيوب ويعجزُ عن إبْصار الجمال فيما تحقّق من إنجازات وما حدَث من تطوُّرٍ في الحياة.
يغلبُ على الشعوب العربية طابع الاستعجال، والميْل إلى البكائيات، وافتقاد التفكير الإيجابي.. ويبدو أنَّ الأمرَ هو “ثقافة مجتمعيَّة” لها جذورها، وهي موجودةٌ اليومَ مثلما كانت موجودةً قبل عقودٍ ماضيةٍ، فقد رَصَدها الفيلسوف والمُفكِّر الجزائري الدكتور “عبد الله شريط” قبل خمسين سنةً، وكتَب عنها مقالةً بعنوان “الحقيقة والزَّيْف في مُجتمعنا العربي”، في مجلَّة “الأصالة” الجزائريَّة سنة 1972، وتُعيد “الأيام نيوز” نشْر المقالة لأنَّها تقرأُ المجتمعات العربية، كما لو أنها كُتِبتْ قبْل أيَّام. وقيمة هذه المقالة أنَّ كاتبَها هو واحدٌ من أكبر المفكّرين والفلاسفة العرب، بل يتجاوزهم بتاريخه النِّضالي والثَّوريِّ في مُناهضة الاستعمار وقِوى الظُّلم التي بثَّتْ وما زالتْ تبُثُّ الانهزاميَّة والسلبيَّة في نفسيَّة المُجتمع وأفكاره.
مَنْهَجان.. سيِّءٌ وأكثر سُوءًا
مِنْ أحْرَج مشاكلنا الفكرية والنفسية التي نجتازُها في مرحلتنا الحضارية الراهنة، هي حيرةُ الكاتبِ عند بحثه أيَّ موضوع بأيّ طريقةٍ يتناوله: هل ينْساق مع منهج الفخر الذي توارثناه عن أجدادنا في الجاهلية، ونقلناه من الميدان القَبَلي إلى الميدان القومي والديني والحضاري؟ وهو منهج ترتاح إليه نفوسنا، ولكنه لا يُعطينا نتيجةً إيجابية، ولا يُقدِّمُ عجَلة تطوُّرنا إلى الأمام؟ أم هي طريقة النَّقد الذَّاتي التي تُساعدنا على كشْف نقائصنا ومعالجتها بفكر مسؤول؟ ولكنه منهجٌ قد يحطِّم طموحَنا إلى المعالي، ويُشعِرنا بأنَّنا أصْغر ممَّا نتصوَّرُ حقيقتَنا. ومن ثم فلا يصبح هذا النقدُ الذاتي مثل الفخر تماما من حيث النتيجة المعطلة التي تؤدِّي إليها.
ذلك أنَّ هذيْن المنهجيْن هُما الموجودان في مجتمعنا العربي على اختلافٍ بين بعض مناطقه والبعض الآخر. فمثلاً عندنا في منطقة المغرب العربي، وفي الجزائر على وجه الخصوص، نجد الاتجاهَ يُلحُّ أكثر وبدون قصد في أغلب الأحيان، على ما يمكن أن نُسمّيه بمنهج النقد الذاتي، وهو اتجاهٌ تلقائي مُفرِط في هذا النقد، حتى أنَّ المستمعَ إلى أحاديث الناس عندنا، سواء كانوا مثقفين أو من أوساط الشعب، يلاحظ بسهولة أنَّ هذه الأحاديث لا تتناول إلاَّ النقائص، وحتى عندما لا تكون هذه النقائص صارخةً، فإننا نلْتَذُّ بإخراجها من حُفَرِها وإبرازها والتَّشنيع بها فيما بيننا ، وحتى أمام الأجانب أحيانًا.
عيونٌ لا تُبصرُ إلاَّ العُيوب
وكثيرًا مَا ينعكس هذا الاتجاه عندنا على كِتابتِنا وأبحاثنا في الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وكل ما يمسُّ حياة المجتمع من قريب أو من بعيد. وكثيرًا ما يأخذ هذا النقدُ طابع ضمير الغائب: فإذا كنَّا نسِيرُ في طريقٍ غير مُعبَّدٍ كما ينبغي، ننهالُ بالنَّقد على عُمَّال الطُّرقات ومصالح الأشغال العامَّة. وإذا ذهبْنا إلى المستشفى ولم نجد مكانًا أو طبيبًا أو مُمرِّضًا على الفور، وإذا دخلْنا إدارةَ بريدٍ أو بلدية، نتضايق من الازدحام ويشتكي كل واحد منَّا من كثرة الناس، وننسى أنَّنا بعضُ هؤلاء الناس، ولكن المسؤول دائما في تنظرنا هي السلطة!
حتى الأكاديميُّون لا يُبصِرون الإنجازات!
وقد اتَّخذ هذا النُّقد المَرير، الذي لا ينقطع، طابعًا مأساويًّا عندنا وشعورًا بعدم الرضى في كل الأحوال. وأذْكُر أنَّ أحَدَ الأساتذة الشَّرقيِّين، وهو رجَلٌ فاضِل وصريح، كان يعمل معنا في الجامعة، وكنَّا يومًا نُحدِّثه عن كثرة مشاكلنا من قِلَّة الإمكانيات المادية والبشرية لمجابهة كل الطَّلبات المُلِحَّة، وعن تأخُّرنا وعدم جِدِّية إطاراتنا، فكان يُنصتُ إلينا بانتباهٍ وتعجُّب، ثم قال: يا إخواني، بكل صراحة، أنا لا أفهمُ معنى لقلقكم واستعجالكم، لقد قطعْتم، في ثماني سنوات من الاستقلال، مراحلَ في نشْر التَّعليم وتعْبيد الطُّرق وبناء المساجد والمُستشفيات وتكوين الإطارات وإقامة المصانع والجُسور والسُّدود.. ما لم تحققه لكم فرنسا في ظرف قرن وثلث قرن، فماذا تريدون أكثر من هذه الغاية؟ إنَّ كل شيء عندكم على أحسن ما يتمنى المرْءُ لبلاده، إلاٌّ شيء واحد: وهو هذا القلق والاستعجال الذي أصابَكم بالعُبوس وقُنوط النفس. إنكم في حاجة إلى شيء واحد، إلى انفساح الأمل في القلب، وابتسامة مشرقة في الوجه، وفي بعض أقطارنا في المشرق نلاحظ عكس هذه الظاهرة: فمهما كانت المشاكل من الحِدَّة وعِظَم الخَطْب، يقابلها الإنسان العربي كما لو كانت شيئًا طبيعيا لا يستدعي الانزعاج ولا يتطلَّب الإسراع في تغيير الأوضاع.
مظاهرُ التَّمدُّن الغربي.. قِشرةٌ تُخفي بِدائيَّتَنا
وأذْكر أنِّي زرتُ بلدًا عربيًّا، يُعتَبر في طليعة أقطارنا الناهضة، وكُتِب لي أنْ حظِيتُ بمقابلة رئيس هذه الدولة، في مُهمَّة تتعلق بالثورة في الجزائر، وكنت إذَّاك مديرًا لمجلة “المجاهد”، وكان يصْحبُني في هذه المقابلة مديرُ جريدة من كبْريات صحف المشرق العربي، وانطلقتُ بكل بساطة أتحدثُّ عن المستوى الاجتماعي المتدهور الذي يلاحظه الزائر إلى هذا البلد، شارحًا رأيي بأنَّنا ما لم نهتم في وطننا العربي بالتكوين الحزبي والثقافي والاجتماعي والسياسي في شعبنا العربي، فإنَّ مظاهر التَّمدُّن الغربي ستبقى قشرةً مُصطنعة تخفي تحتها بِدائيتنا الحقيقية. وإنَّ الأجانب لن يقيسوا رُقيَّنا بما استوْردناه من عندهم من الآلات والمصانع والسيارات.. بل يقيسونه بما نحن عليه من المستوى الذهني والمهارة الحضارية التي هي روح تلك المادة الآلية المتحركة.
الأخُوَّة الحقيقيَّةُ.. صراحةٌ لا مُجاملةٌ
وعند خروجنا من المقابلة، صارحني رفيقي الذي كان يصحبني بأنني كنت قاسيًّا جدا، مُبيِّنًا تعجُّبَه ممَّا كاد أنْ يُسمِّيه وقاحةً، ومُعرِبًا عن رضاه الكامل بالأوضاع السائدة في بلاده. وفي جوابي إليه، لم أخْف، عنه تَعجُّبي من تعجُّبه. ثم سألته: أيُّ فائدةٍ في أنْ أعتبر نفسي عربيًّا في بلد عربي أزل فيه وأتحدَّث مع أبنائه، مسؤولين أو غير مسؤولين، كما أتحدَّث مع أبناء بلدي؟ كما أعْربتُ له عن دهشتي من عدم تنبيهه هو للمسؤولين إلى هذا النقص في أوضاع المجتمع، ثم استدعيته إلى زيارة من يشاء من مسؤولينا، ويتحدَّث إليهم عن النقائص الصارخة التي تتخبَّط فيها الثورة الجزائرية، فإنَّ آراءَه سنتقبلها لا بصدر رحب فقط بل إنَّنا عندئذ فقط سنُحِسُّ بأخُوَّتِه الحقيقية.
سجناءٌ بين القلقُ المُثبِّطُ والرِّضى الأبْلَه
إذن فهناك حالة مَرضِيَّة في كلتا الظَّاهرتين: النَّقد المُفرط الذي يخلق جوًّا مأساويًّا قَلِقًا مُثبِّطًا، والرِّضى الأبله الذي يخلق حالةً من الاطمئنان القَدَري العاجز. إنَّنا في كلا الحالتيْن لم نهْتد إلى الموْقف المُوَفَّق، كأنَّ أحْكامنا عن أنْفسنا ما تزال سجينةَ التَّشاؤم الأبكم أو التَّفاؤل المُجنَّح، وكلٌّ منهما يرتكز على عاطفة طفوليُّةٍ غير ناضجةٍ ومزاج نفسي مُتهافت، وفي كلا الحالتيْن ما زِلنا مَحرومين من الحكم العقلي الهادئ المُحلِّل.
تراثٌ عربيٌّ يفتقدُ إلى تقاليد للتَّحليل الفكري
وإذا التفتْنا إلى تقاليدنا الفكريَّة القديمة في هذا الصَّدد فإنَّنا نعثُر بسهولة على أصل هذا الموقف المَزاجي، وهو أصْل المدح والهجاء في تراثنا الشِّعري القديم، بحيث إذا استثنينا: الجاحظ وابن خلدون، ذاك في مجاله الأدبي المُسلَّح بالثقافة العلمية. وهذا في مجاله الاجتماعي المسلح بالتجربة، فإنَّنا لا تكاد نعثر في هذا التراث على تقاليد للتَّحليل الفكري الخالص من ضباب المزاج وغيوم العاطفة والحُكْم المُرتَجل.
تَصادُمٌ مع الحياة العصريّةِ
أما إذا رَجَعنا إلى وضْعنا الراهن لتبحث فيه عمَّا يمكن أنْ يُزوِّدنا به في هذا المجال من سلاحٍ، فإنَّنا نجد الضَّبابَ قد تضاعف بدلاً من أنْ ينقشع، والغيوم تراكمتْ حتى غَشِيتْ أمامنا كل رؤيةٍ صحيحةٍ، وذلك بفعل تصادُمنا مع الحياة العصرية تصادُمًا اختلطتْ فيه الحقيقة بالزَّيْف، لاختلاط المَّادة عندنا بالفكر، فلم نعد نُميِّزُ بينهُما، ولا نعرفُ حقيقتهما في هذا الاصطدام.