“مرحلةُ التَّحَجُّرِ والاستعمار” هي المرحلة الثالثة التي توصَّل إليها أستاذُنا المُفكِّر “عبد الله شريط” في تقْيِيمه لموْقِف الأديبِ العربي من مُجتمعه، وهو يرى بأنَّ الأديبَ العربي لم ينْتمِ إلى مجتمعه وشعبه بالقدْر الذي يُحوِّل تُراثَنا الحضاريَّ إلى “كيمياءٍ” دائمةِ التَّفاعل في نفسيَّة وشخصيَّة الأجيال، وهو أمرٌ أوْجدَ ثغرةً “لعبتْ دوْرًا كبيرًا في الشعور بالاستخفاف الذي يُقابل به شبابُنا تُراثَنا الحضاري، بل هو يشعرُ أنَّ تاريخَنا نفسُه فارغٌ من التَّجارب الإنسانيَّة ومن البطولات القِيَم” كما قال أستاذُنا “عبد الله شريط”.
كانتْ هذه هي نظرةُ أستاذنا قبل خمسين عامًا عندما كان الأديبُ أكثر ارتباطًا بمجتمعه وقضايا أمَّته، فكيف هو الحالُ اليومَ، والأديبُ ينتمي إلى عزلتِه أو إلى العالم الخارجي أكثر مِمَّا ينتمي إلى بيئته وتراثه.. فكثيرًا ما نقرأ أعمالاً روائيَّة -مثلاً – ليس فيها ما يُفيد بانتمائها “الجغرافي” سوى اسم كاتِبها، ويُبَرَّر ذلك بأنَّ الأدبَ إنسانيٌّ وعالميٌّ.. ونواصلُ متابعةَ مقالةِ أستاذنا التي نشَرها في عدد شهر مارس عام 1973 من مجلة “الأصالة” الجزائريَّة، بعنوان “على هامش مؤتمراتنا الأدبيَّة: الأديب العربي والشعب”..
أديبٌ يُعاني من الأميَّة الثَّقافيَّة
في عصْرِ التَّحجُّر، أو ما يُسمَّى بعصر الانحطاط، لا حاجة بنا إلى الإضافة فيه أكثر من اختصاره في كلمةٍ واحدةٍ وهي أنَّ الأديب أو الكاتب أو الشاعر أصبحَ أميًّا ليس له حتى البضاعة الثقافيَّة التي كانت لزميله في العصر الذي اصطُلِح على تسميَّته بالعصر العبَّاسي. كل ما بقَى له من الثقافة، في مغربنا العربي على الخُصوص، هو قواعد اللغة لا اللغة نفسها كما يقول “ابن خلدون”، يعْرِفُ النَّحوَ ولكنه لا يعرف ماذا يصنع بالنَّحوِ، حتى يشبِّهُه “ابن خلدون” بمن يُعلِّمُك قواعدَ النِّجارة والخِياطة ولكنه لا يعرف شيئًا من الخياطة والنجارة نفسها.
النُّخْبةُ المُفكِّرَةُ في دولةِ “الأمير عبد القادر”
ولكن الفترةَ التي يُحْسُنُ أنْ نتوسَّع فيها بعض الشيء هي فترةُ الاستعمار التي شاهدنا فيها الأديبَ مثل غيره من المواطنين يتململ ويحاول الخروجَ من منطقة الاخْتناق، فنجِدُ المُثقَّفِين عندنا في الجزائر – فيما يرى الأستاذ مصطفى الأشرف – منذ أوائل الغزو الفرنسي يشكِّلون روحَ المقاومة وفي بعض الأحيان أُطُرها السياسيَّة والعسكريَّة. وأنَّ “الأمير عبد القادر”، وهو الشَّاعرُ المُفكِّر، جمَعَ حوله النُّخبةَ المُمتازةَ من المُفكِّرين في زمنه، مُوكِلاً إليهم المسؤوليات الجِسام ضمْن الدولةِ الجزائريَّةِ التي كانت يومئذ في حالة حربٍ. وكان تكوين هذه النُّخبة الديني والفِقهي مُستمَدًّا من ثقافة ذلك الزمن، ومن التُّراث العربي القديم.
ولكن كان من نتائج تلك الحرب الاستعمارية التي دامت أربعين سنة أنْ قضتْ على عددٍ كبيرٍ من رِجالات هذه النُّخبة المُفكِّرة، التي كانت من جهة ثانية بحُكْم منشئِها الرِّيفي، قد ألِفَتْ الحياةَ العمليَّة والجهد الجسدي القاسي، بل ألِفَتْ النِّضالَ المُسلَّح لمقاومة الغزو الأجنبي، أقول أنَّ عددًا كبيرًا من هذه النخبة ذهَبَ ضحيَّةَ المعارك والفوضى والتَّهديم المُنظَّم للمدارس والمكتبات، وقد ظلَّ “الأمير عبد القادر” ولفِيفًا من مُساعدِيه أنموذجًا لثقافةٍ مُوغِلةٍ في المُحافظة إلاَّ أنَّها تحتفظ بِمَزِيَّة تكوين رجالٍ مُتكاملين مُتجاوبين مع مَثَلهم الأعْلى في الحريَّة والمنازع الإنسانية.
المُثقَّف الجزائري يُجدِّد مِيراثه
ويُمكنِنا القوْل أيضًا أنَّ هذه المآثر النضاليَّة في المثقف العربي بالجزائر قد ظلَّتْ إرْثًا استطاع ليلُ الاستعمارِ الطويلِ أنْ يُخفِيه ويخنُقه ويَشلَّه زمنًا طويلاً، ولكنه لم يستطع أنْ يقضى عليه تمامًا. فلم تكد النَّهضةُ السياسيَّةُ تسترجع كلمتَها بعد الحرب العالمية الأولى حتى وجدتْ المثقَّفَ الجزائريَّ إلى جانبها، يُواكِبها في المَسِيرة يدفعها أحيانًا وتدفعه أحيانًا أخرى، وتحوَّلَ وعيْهُ السِّيَاسي في هذه المرحلة الجديدة إلى شيءٍ من الوعي القوْمي أيضًا.
العقليَّةُ الخُرافِيَّة تهزمُ سلاحَ الأدبِ
نعم إنَّ التَّكوينَ العلميَّ لهذه النُّخْبة ظلَّ إلى هذا العهد تكوِينًا دينيًّا تقليديًّا في مصر أو تونس أو المغرب، وهم بالإضافة إلى ذلك قلِيلُو العدد جدًّا كما ظلَّ المثقفُون عندنا – وأعْنِي بهم دائمًا المثقفين بالعربية – مَفصولِين عن الثقافة الحديثة. وعندما استأنفوا المعركةَ القوميَّة، إلى جانب النِّضال السياسي، لم يستخدموا الأدبَ في صُورَته الحديثة سلاحًا في هذه المعركة، بل استخدموا التَّوْعيَة الدينيَّة السلفيَّة التي كانت تجدُ صدى بعيدًا في الأوساط الشعبيَّة، كما يعتمدون أيضًا إلى حدٍّ ما على الشِّعر الذي كان تأثيره أقلّ فعاليَّة لانتشار الأميَّة في الرِّيف والمدينة معًا، والذي كان ثمرة من ثمار سياسة التَّجهيل المُنظَّم الذي حقَّقه الغزْوُ الفرنسي طِيلةَ قرنٍ من الزمن، والذي يُعَدُّ المسؤول الأول عمَّا بلغَتْه اللغةُ والثقافةُ بصورةٍ عامةٍ من تدهور يكاد يتَّخذ في الجزائر طابعًا من القساوة والحِدَّة لا يوجد في غيرها من أنحاء الوطن العربي، يُضاف إلى التَّجهيل الثقافي واللُّغوي المُنظَّم، التَّجهيل الفكري، وتشجيع الأباطيل والعقليَّة الخرافيَّة في الأوساط الشعبيَّة.
أدبٌ بعيدٌ عن التَّقاليد الشَّعبيَّة
وفى أوائل الحرب العالمية الثانية، ظهَرَ كُتَّابٌ جزائريون باللغة الفرنسية تنبَّهوا إلى بعض القِيَم الوطنية، ولم يكن عملُهم ناتِجًا عن ثقافتهم الفرنسية بقدْر ما كان ناتجًا عن الانقلابات التي سبَّبتها هذه الحرب، والتكوين العقائدي عند بعضهم، ومشاركة بعضهم الآخر في حوادث 1945 الدَّامِيَّة، فأخذ هذا الأدبُ يعكس، ولو بصورةٍ ناقصةٍ، حقيقةً جزائريةً.
ولكن هذا الأدب، مع ذلك، لم يكن انعكاسًا أصِيلاً للمجتمع الجزائري وبخاصة على مستوى الجماهير الشعبيَّة الكادِحة المُستغلَّة، ولا الشَّعب بصفةٍ عامَّةٍ بفضائله وإنسانيَّته ومقاومته الصامتة أو العلنيَّة للضغط الاستعماري. إنَّ هؤلاء الكُتَّاب، بِحُكم تكوينهم، كانوا بَعِيدِين عن التَّقاليد الشَّعبيَّة في المدن وخاصَّة في الرِّيف، فعبَّروا بصورةٍ تعليميَّةٍ جافَّةٍ عن واقعٍ مَحدودٍ مَحليٍّ، خُيِّلَ إليهم أنَّه واقع البلاد بجُمْلتها. إنَّهم عجزوا أيضًا – مثلهم في ذلك مِثل زملائهم المُثقَّفين بالفُصحى – عن استثمار ينابيع الأدب الشَّعبِي الحّيَّة.. ومأساةُ هذا الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية أنَّه يجِدُ قرَّاءَه خارج بلاده، وخاصة في فرنسا، حيث يقرأه أناسٌ يريدون تهدئةَ أصوات ضمائرهم. أمَّا الشَّعب الجزائري فهو وحده القادر على أنْ يحكم على أصالة هذه الآثار. ومع ذلك فإنَّ الرِّواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إذا لم تعكس بأمانةٍ صادقةٍ نضالَ الشَّعب، فقد طبَعتْ نُزوعَه نحو الحريَّة والحقيقة. (أنظرْ كتابَ “الجزائر أمَّةً ومُجتمعًا لمصطفى الأشرف).
لُغَتان للكتابة وثالثةٌ للتَّخاطُب
والحق أنَّنا هنا لا نستطيع أنْ نُلقِي التبعيَّة كلّها على المثقفين في هذه الفترة لأنَّهم كانوا ضحيَّةَ ظروفٍ سابقة لموجودهم، بل خارجة حتى عن ظروف مجتمعهم الراهنة. لقد كانوا في مجموعهم من أبناء الشَّعب، أبناء التُّجار الصِّغار وصِغار المَلاَّكين وأبناء العُمَّال والفلاَّحين، أو من الأيْتام العِصاميِّين الذين اقتلعوا أشواكَ الأميَّة والجهل عن أنفسهم بأظافرهم العارِيَة، فالذي وجَدَ أمامه العربية المُتجمِّدة طريقًا إلى الثقافة، أخذ بها والذي وجد السبيلَ مهيَّأةً بالفرنسية لم يتردَّد في التزوُّد منها. ولكن الذي تعلَّم الفرنسية لم يأخذ اللُّغةَ وحدَها، بل أخذ معها مفاهِيمَها الحياتيَّة وقوالبها الذِّهْنيَّة، وطمح إلى المستوى الحضاري الذي لأبنائها. والذي تثقَّف بالعربية، أخَذ أيضًا ما فيها من رواسب الانحطاط، ومن السَّلبيَّة والاكتفاء بما تيسَّر من أسباب الحياة الفكرية. وكان ما نتَج عن هذا الوضع عندنا في الجزائر كما يقول الأشرف هو أنْ “نجِدَ في بلدنا لغتيْن كِتابِيَتيْن، ولغة ثالثة هي لغة التَّخاطب، وكل من هذه المجالات وهذه الثقافات نَمتْ بمَعزلٍ عن الأخرى”.
فنحن بإزاء كُتلٍ مُبعثرةٍ لا رابط بينها، ولا تخضع لأي تطوُّر تبادُلي أنَّ الجزائر لم تُستعمَر طيلة قرنٍ وثلْث القرن دون أنْ تدفع الثَّمنَ، وهي اليوم تواجه تأثرات أجنبيَّةٍ، ولكنها لن تتمكَّن من هذه المواجهة بصورةٍ فعَّالة إلاَّ إذا عزمتْ على القيام بعمليَّةِ تحويلٍ صعبةٍ متسلسلة تبدأ بالتعليم وتنتهي إلى البحث المُنظَّم والإبداع في كل المجالات، مارَّةً حتمًا بتلك الكتلة الرئيسيَّة التي هي في آنٍ واحدٍ الخصم والحَكَم، وهي الجمهور المُتشدِّد الفَطِن.
مُثقَّفون غرباءُ عن حاضرهم وآخرون ينتمون إلى الماضي
وفي هذا الموضوع أيضًا يقول الأستاذ محمد سعیدي: “إنَّنا إذا أردنا أنْ نأخذ الجزائرَ كمثالٍ للمُشكل الثقافي الذي تواجهه الشعوب الناميَّة، نجِدُ الجزائرَ المُستقلِّة ورثتْ ترِكَةً ثقيلةً مُتكوِّنةً من ثقافة الإقطاع وما يتْبعها من تعصُّبٍ ديني وقبَلي، ومن أنانيَّةٍ وتسلُّطٍ، ومن ثقافة الكولون الفرنسيين الذين كانوا يُمثِّلون قمَّةَ الإقطاع الأوروبي، ومن خليط من الثقافة الفرنسية المُشوَّهة. ويُمثِّل “المأساة” الثقافيَّة في بلادنا، فقدانُ لغةٍ جامعةٍ يمكن لكل المواطنين التَّفاهمَ بها في شؤونهم. عندنا قطاعٌ من المثقَّفين بالفرنسية وهم في غالبهم غرباء عن الجماهير الشعبيَّة الواسعة وجماعة من المُثقفين بالعربية، ولكن تنقصُ الغالبيَّة منهم ديناميكيَّة الثقافة المعاصرة، فهم مَشدُودُون إلى الماضي أكثر مِمَّا هم منطلقون إلى المستقبل، وفي وسَط هذيْن التيَّارين، تقِفُ جماعةٌ قليلةٌ جدًّا من مُزدوجي الثقافة، وهم يشُقُّون طريقهم في جبال من الصِّعاب والتَّناقضات”.
المُشعْوذُ أكبرُ سلطةً من المُثَقَّف
إنَّ الشَّعْوذة ما زالت مُنتشرةً عندنا، وفي الجزائر الثائرة استطاع مُشعوِذٌ أنْ يُحدِث ضجَّةً، وأنْ يستولي على عقول كثيرٍ من الجماهير ويسْلبها وعْيَها ونقودَها. وما زالتْ التَّعاويذُ تسيْطر على عقول الأغلبيَّة الواسعة من المُواطنِيَّة في الأرياف والقرى، وما زالتْ العقليَّة الطبقيَّة “مُجذَّرة” في الوطن العربي كله: فقراء وأغنياء، علماء وجُهَّال ، سعداء وأشقياء، وما شاكَل ذلك من القدرِيَّة العَمْياء، وهذه الوضعيَّة هي التي جعلتْ عددًا ضخْمًا من أطبائنا وحْشيِّين يحرصون على ملء جيوبهم أكثر مِمَّا يحرصون على رعاية صحَّةَ المواطنين وسلامتها، وكذلك مهندسين ومُحامين وأساتذة، وحشْدًا كبيرًا من المواطنين البيروقراطيِّين والمُحترفين السياسيِّين، ومن الأساتذة والكُتَّاب والصُحُفيين والفنَّانين الذين لا يعملون لإسعاد المواطنين وخدمتهم بما حصلوا عليه من عِلمٍ وثقافة، وإنَّما كل هَمِّهم السِّباقُ إلى تقاسُمِ ثورة الوطن. وتزخر اليوم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بأثْمَن الإطارات الثقافيَّة من الناحية الكيفيَّة من المواطنين العرب الذين يتركون شعوبهم التي تناضل من أجل التَّغير الاجتماعي، ويلتجؤون إلى البلدان الغربية الرجعيَّة التي تغْوِيهم بالمال والجاه.
القَطيعة بين الأديب والشَّعْب
لعلَّنا من هذا العرْض المُوجز يمكن أنْ نخرج بتقييمٍ موضوعيٍّ لموقف أدِيبِنا من مجتمعه على ضوء القِيَم الجديدة التي يأخذُ بها العالمُ الحديث اليوم، دون أنْ نضطرَّ إلى إثارةِ قضيَّة الالتزام أو عدمه. إذْ أنَّنا نتحدَّث عن الالتزام لا عن الإلزام، عن شعور الأديب بمسؤوليته كمواطن في مجتمعه شعورًا داخليًّا اختياريًّا أيْ شعورًا أخلاقيًّا على نحو ما يؤمن به الفيلسوف “كانط “.
ولقد استشهدتُ ببعض ما يُعالجه كُتَّابَنا اليوم في الجزائر عن مشكل القَطِيعة المُستحكَمة بين أديبنا وبين جماهير الشعب، لأبيَّن أنَّ هذه المشكلة نعيشها في الجزائر بشيءٍ كثيرٍ من الحِدَّة والتوتَّر، ونحن سائرون في طريقٍ صعْبٍ في هذا الميدان الثقافي، لأنَّه ليس طريق الاستسلام للأوضاع التاريخيَّة والاجتماعيَّة التي فُرِضتْ على جِيلنا. بل نحن نبحث عن أصْل الدَّاء، ونحن عازمون على اقتلاعه من طِباعِنا ومن وسَطِنا مهما كان هذا الاقتلاع مُؤلِمًا، لِنَصل إلى الحلِّ الذي نعتقد أنَّه لا مفرَّ منه، وهو أنْ يندمج الأديبُ في شعبه، لا بحياته اليوميَّة فقط بل بإنتاجه، فيتفاعلُ معه ويستطيع أنْ يتأثَّر به ويؤثِّر فيه. ويستطيع أن يُحرِّكه ويتحرَّك به، ويقضي على هذه الغربة التي قضتْ عليه بأنْ يعيش بها في صميم مُجتمعه.