بَعْد سنتيْن ونصف من اندلاع ثورة نوفمبر، جنَّد الاستعمار الفرنسي أكثر من 600 ألف جندي مُدجَّجين بأعْتى أسلحة ذلك الزَّمن وأكثرها تطوُّرًا وجهنَّميَّة، إضافةً إلى الوسائل والأساليب الأكثر توحُّشًا للتَّعذيب في المعتقلات والسُّجون.. غيْر أنَّ كل ذلك لم يؤثِّر في العزيمة الثَّوريَّة للشَّعب الجزائري، ولم يُضعِف إيمانَ ثورة التَّحرير ويَقِينَها بأنَّ النَّصر آتٍ لا ريب فيه، رغم قلَّة الإمكانيات العسكرية وعدم التكافؤ في “التكنولوجيا الحربيَّة”.. حيث جاء في مُقرَّرات مؤتمر “الصُّومام”: “يجبُ العملُ بدِقَّةٍ وإتقانٍ على تَحْويل الجزائر إلى مُعَسْكرٍ مُحَصَّنٍ مَنِيعٍ، ولهذا فإنَّ الشِّعارَ الصَّحيح هو: دائمًا كلُّ شيءٍ لجبهةِ حقيقةٍ واقِعَةٍ.. جبهة الكفاحٍ المُسَلَّح. إنَّ استقلالَ الجزائر لم يَعُد حُلمًا بعيدًا، بل هو غايةٌ تَدْنو بسرعةٍ لتصبح حقيقةً واقعةً..”.
كان الاستعمار الفرنسي، المَدعوم عسكريًّا وديبلوماسيًّا من طرف الدُّول الكبرى وقوى الشَّرِّ العالميَّة، يرى أنَّ استقلالَ الجزائر أمرٌ مُستحيلٌ، بينما ثورة التَّحرير كانت ترى “إنَّ استقلالَ الجزائر لم يَعُد حُلمًا بعيدًا، بل هو غايةٌ تَدْنو بسرعةٍ لتصبح حقيقةً واقعةً..”. بل إنَّ ثورة التَّحرير الوطني عملتْ على “تكوينَ إدارةٍ جزائريةٍ وطنِيَّةٍ تُشرف على إدارة المَناطق المُحرَّرَة، وتمتدُّ حتى إلى المُدن الكبرى والمناطق التي لا زالتْ تحت الاحتلال الفرنسي”، وشكَّلتْ “مجالس الشَّعب” التي كانت تُشرف على كثيرٍ من شؤون الجزائريين في مجالات كثيرةٍ منها: التَّعليم والإعلام والقضاءُ والزِّراعة.. واستطاعتْ بناءَ “الإدارة الجزائرية التي هي أساسُ الدولة الجزائرية”.
جنَّدتْ ثورة التَّحرير الوطني كل القوى الشَّعبية من أجل هدْمِ الاستعمار، وفي الآن ذاته بناء النِّظام الجزائري الخالص، فاعتمدتْ على مُنظَّمات: العُمّال والتُّجار والنِّساء.. إضافةً إلى المُثقَّفين الذين خاضوا معارك الإعلام والتَّعليم والفنون والكتابة الإبداعيَّة الدَّاعمة للثورة في الجزائر وفي الخارج.. فقد قام المثقَّفون الجزائريُّون بأدوارٍ كبيرةٍ في استثمار التَّاريخ الجزائري لتأصيل الهويَّة الوطنيَّة ودحْض الأكاذيب الاستعماريَّة ومواجهة حمَلات التَّزييف والتَّضليل والإغواء والإغراء التي انتهجها الاستعمارُ لضرب الوحدة الوطنية والْتِفاف الشعب حول ثورته التَّحريريَّة.
وفي هذا السِّياق، يجبُ على المثقَّفين الجزائريين اليوم أنْ يستعيدوا الدَّور التاريخي للمثقف خلال ثورة التَّحرير الوطني، ويستلهِموا منه الرُّوح الثورية في مواجهة قوى الشِّر، وفي تحصين أبناء الجزائر روحيًّا وفكريًّا ضدَّ كل الحملات والهجمات التي تستهدف الوحدة الوطنيَّةَ، لا سيما في هذه الظُّروف الدوليَّة الحَرِجة التي تستدعي اليقظَةَ الدَّائمة والاستعدادَ الكاملَ لخوضِ الحروب الإلكترونية، المُعلنة وغير المُعلنة، التي تستهدفُ الجزائر العظيمة.
على الأجيال الجزائريَّة الحالية أنْ تؤمن بما آمنتْ به أجيالُ ثورة التَّحرير الوطني بأنَّ الجزائر لا تؤمن بالمُستحيل، ومثلما واجهتْ الاستعمار الفرنسي المدعوم بقوى الشَّر العالمية وانتصرتْ عليه، فإنَّه على أجيال اليوم أن تُجدِّد العهد والعزْم ولا تُؤمن بالمُستحيل في مواجهة كلِّ من يستهدف الجزائر، لا سيما من خلال الإنترنت وشبكات التَّواصل.. ونواصل مع مقال المُفكِّر “عبد الحميد مهري” الذي نَشَره بمجلةَّ “الآداب” البيروتيَّة في الأول جوان 1957.
مَجالِسُ الشَّعب لإدارة المَناطِق المُحرَّرَة
وضَعتْ ثورة التَّحرير الوطني في مُقدِّمةِ المَهام الإنشائيةِ تكوينَ إدارةٍ جزائريةٍ وطنِيَّةٍ تُشرف على إدارة المَناطق المُحرَّرَة، وتمتدُّ حتى إلى المُدن الكبرى والمناطق التي لا زالتْ تحت الاحتلال الفرنسي (عام 1957). والوحدة الإدارية الأساسية في هذا التنظيم الإداري هي “مجلس الشعب”، ويتركَّب من خمسة أعضاء يُنتَخبون كلهم مِن طرَف الشعب انتخابًا مُباشرًا. ويتولَّى مجلسُ الشعبِ الأشرافَ على الشؤون الآنِيَة والأحوال المَدنِيَّة والشؤون المالية والاكتتابات والتعليم والتَّموين والأمن العام. وعلى عاتِق المجالس الشعبِيَّة تقعُ مسؤوليةَ إدارة المناطق المُحرَّرة من الاستعمار، ومسؤولية قيادة الجماهير وتنظيمها في المناطق التي لا زالت مُحْتلَّة.
التَّعليمُ العربِيُّ إجبارِيٌّ للبَنِين والبَناتِ
وقد بدأت مجالس الشعب عملَها بإعلان التَّعليم العربي إجبارِيَّا للبَنِين والبنات، وفتْح المدارس في جميع الجهات التي يسيطِر عليها جيشُ التحرير الوطني.. وقامتْ بِمَجهودٍ جبَّاٍر لتنظيم تموين جيش التحرير الوطني وتَمْوين المناطق المحاصرة من طرَف القوات الاستعمارية. وقد رُوعِيَ في إنشاء الوحدة الإدارية، وهي مجلس الشعب، أنْ تكون في تركيبها وطبيعتها قريبةً من مجالس الجماعة التي عرفْتها الجزائر منذ عصور قديمة. و”الجماعة” في القُرى والبَوادي الجزائرية هي كِنايَةٍ عن فُضَلاء القرية أو البادية الذين يَسهرون على مصالح الجهة.
الجهازُ الإدارِيُّ والعسكرِيُّ قَبْل الحُكومةِ
وهنا أحِبُّ أنْ أتعرَّضَ إلى قضيَّةٍ طالما سُئِلتُ عنها وهي: هل تنوي جبهة التحرير الوطني تشكيلَ حكومةٍ جزائريةٍ تُواصل معركةَ التَّحرير؟ (للتَّذكير: المقالةُ كُتِبتْ سنة 1957). والجوابُ هو أنَّ جبهة التحرير الوطني لا تعلِّق أهمِيَّةً كبيرةً على الناحية الشَّكْلِيَّة لهذه القضية. وإنَّما تهتَمُّ بجوهرها، أيْ أنَّها تهتمُّ بِوَضْع الجهاز الإداري والعسكري الذي يحُلُّ بالفعل مَحَلَّ السُّلطة الاستعمارية الفرنسية، ومتى تمَّ وَضْع هذا الجهاز كان مِن السَّهل – إذا لَزِم الأمر – إعلانُ حكومةٍ جزائريةٍ. وهكذا نرى أنَّ جبهة التحرير، في هذه القضية، تريد أنْ تبتدئ من حيث ينتهي البعض!
الثورةُ الجزائريةُ.. واستغلال الأراضي الزِّراعِيَّة
ومِن النَّواحي الإنشائية الهامَّة في الثورة الجزائرية قضيَّةُ الإصلاحِ الزِّراعي، فقد عمَدتْ الثورةُ الجزائريةُ في المناطق المُحرَّرة إلى استغلال الأراضي الزِّراعِيَّة على أساس توزيع عادل بين الفلاحين.
وقد قرَّر مُؤتمر 20 أوت 1956 أنَّه “يجب أنْ تندفع جبهة التحرير الوطني في هذه السياسة الاجتماعية العادلة المَشروعة، لأنَّها تُذْكِي الحِقدَ الشَّديد على الاستعمار الفرنسي وإدارته وجيشه وشرطته، وتُوفِّر قوات احتياطية لا تَنْفذ لجيش التحرير والمقاومة، وتخلق الظروفَ الصالحة لتَوْطيد المناطق المُحرَّرة، وتنظيم مناطق جديدة أخرى على مِنوالها “.
وتسْتَوحِي جبهة التحرير الوطني، في السياسة التي خطَّتْها لتوزيع الأراضي، طريقةً خاصةً نابعة من صمِيم الشعب، فقدْ كانتْ الجزائرُ قَبْل قُدوم الجيوش الفرنسية تجهل نظامَ المِلكِيَةِ الفردِيَةِ فيما يتعلَّق بأراضي الزراعة، إذْ كانتْ الأرضُ مِلْكًا للعُروش، والعَرْشُ عبارةٌ عن عِدَّة قبائل تملكُ الأرضَ فتزرعُها وتُقسِّم الغَلَّةَ بين جميع أفرادها.
وقد أصِيَب المُستعِمرون بالهَلَع الشديد عندما بدأتْ جبهة التحرير تُطبِّق هذه السياسة في المناطق المُحَرَّرة. وقامتْ الحكومةُ الفرنسيةُ بدراساتٍ كثيرة لهذه القضية، وقدَّمتْ مشاريعَ عديدة لتوزيع الأراضي على الفلاَّحين الجزائريِّين، ولكن هذه المشاريع باءتْ كلها بفشل ذريعٍ، لأنَّه لم يوجدْ مِن الجزائريين مَن يُعِير هذه القضية اهتمامًا بالمَرَّةِ.
هذان هُمَا المَظْهران الكبِيران للجانب الإنشائي في الثورة الجزائرية، بناءُ الإدارة الجزائرية التي هي أساسُ الدولة الجزائرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بالنسبة للطبقة الكبرى الغالبة في الجزائر وهي طبقة الفلاحين.
المُنظَّمات الشَّعبِيَّة في ثورة التَّحرير الوطني
وغيْرَ هذا، تُوجَد ميادين أخرى يَبْرُز فيها العمل الإنشائي الضخم الذي قامت به الثورة الجزائرية، فقدْ وجَّهتْ كلَّ قِسْمٍ مِن السُّكان إلى مُهِمَّةٍ خاصة، ونظَّمتْه تنظيمًا يتَّفق مع طبيعة عَملِه. وأنا أذْكرُ هنا باختصار بعض المُنظَّمات الشَّعبِيَّة التي تُساند جبهة التحرير في عملها الإنشائي الضَّخم، وبَيان المُهِمَّة التي كُلِّفتْ بها حسب مُقرَّرات مؤتمر 20 أوت 1956.
- الاتِّحاد العام للعُمَّال الجزائريين: وهو يُشرِف على كفاح الاستعمار في النَّواحي الاقتصادية، وينظم حركات الإضراب، وتخريب الاقتصاد الاستعماري.
- الاتِّحاد العام للتجار الجزائريين: ومُهِمَّته مكافحة الضرائب التي تفرضها السلطة الاستعمارية، ومقاطعة التجار المستعمِرين.
– الحركة النِّسائِيَّة: ومُهِمَّتُها إذْكاء رُوح الحماس في صُفوف الجيش، وأعمال الاتصال والمخابرات، وتهيئة الملاجئ، وإسعاف عائلات الشهداء والمعتقلين.
- المُثقَّفون: ويُشرفون على تنظيم الدِّعاية العامة، ويُصدِر قِسْمُ الدِّعاية الآن (عام 1957) عِدَّةَ جرائد وله مَحطَّة إذاعةٍ تُذيع ثلاث مرَّات كل مساء بَلاغات جيش التحرير، وتوجيهات القيادة العليا للثُّوار، والتَّعليق على الأنْباء، يُضاف إلى هذا بعض المدارس التابعة إلى جيش التحرير الوطني والتي تُعْنى بتخريج الأخصائيين مِن بعض النواحي الفَنِّيَة.
وهناك عملٌ جبَّارٌ قامتْ به الثورة الجزائرية، وهو إنشاءُ جيشٍ مُنظَّمٍ يقاوم منذ سنتيْن ونصف 600 ألف جندي فرنسي، ولكني لا أقْطَع بالحُكم على هذا العمل بأنَّه إنشائي، بل أتْرك إلى القُرَّاءِ الحكمَ في الموضوع.
أهدافُ التَّنظيمات الشَّعبيَّة..
والآن، وقد استعرضتُ اسْتعراضًا مُجمَلاً الجانبَ الإنشائي للثورة الجزائرية، يحقُّ لنا أنْ نَتساءلّ: ما هو الهدف الذي ترمي إليه الثورة الجزائرية من وراء كل هذه التَّنظيمات؟ والجواب نجده في مُقرَّرات مؤتمر 20 أوت 1956: “يجبُ العملُ بدِقَّةٍ وإتقانٍ على تَحْويل الجزائر إلى مُعَسْكرٍ مُحَصَّنٍ مَنِيعٍ، ولهذا فإنَّ الشِّعارَ الصَّحيح هو: دائمًا كلُّ شيءٍ لجبهةِ حقيقةٍ واقِعَةٍ.. جبهة الكفاحٍ المُسَلَّح. إنَّ استقلالَ الجزائر لم يَعُد حُلمًا بعيدًا، بل هو غايةٌ تَدْنو بسرعةٍ لتصبح حقيقةً واقعةً. وأنَّ جبهة التحرير تتقدَّم بِخُطى واسِعةٍ لتُهَيْمِن على الحالة في الميدان العسكري والسياسي والدبلوماسي. ولهذا يجب العناية من الآن بتحْضِير الثورة العامة التي لا يمكن بدونها تحريرٌ وطنيٌّ سليمٌ”.
إنَّ الجزائرَ تُحضِّرُ اليومَ الثورةَ العامة التي ستُحطِّمُ النِّظامَ الاستعماري الفرنسي إلى غير رَجْعَةٍ. (كُتِب المقال في العاصمة السُّوريَّة دمشق عام 1957).