قام الاستعمارُ الاستيطانيُّ الفرنسي بتدمير ومحْوِ نُظُم الحياة التي كانتْ قائمةً في الجزائر وتُدير شؤون الشعب الجزائري في مختلف المجالات، واستبدلها بنُظُمه الخاصَّة التي تخدمُ مصالِحَه ومُخطَّطاته للاستيلاء على خيْرات البلاد وفرْض الفقْر والتَّجْهيل والعزل على الجزائريين، وذلك عكْس الاستعمار في شكْل الحماية والانتداب الذي أبْقى على نُظُم الحياة المَوجودة، فلم تتأثُّر مَنظومات التَّعليم والإعلام والقضاء والعادات الشعبية وغيرها من المجالات.
وعبقريَّةُ الثورة الجزائريَّة تجلَّتْ في إدْراكها لخطُورة النُّظم الاستعمارية الفرنسيَّة، فحَمَلتْ على عاتِقها مسؤوليَّةَ بناءِ نظامٍ جزائريٍّ مُتكاملٍ وأصيلٍ في الوقت نفسه الذي كانت تَخوضُ معاركَ التَّحرير على كل الجبهات: العسكريَّة والسياسيَّة.. وهو أمرٌ يكشفُ بأنَّ الثَّورةَ الجزائريَّة كانت مُؤمِنةً بانتصارها وتطهير أرض الجزائر من الاستعمار، لذلك كانت تُجاهدُ وتناضِل لِهدم الاستعمار، وفي الوقت نفسه كانتْ تعمل لبناءِ الدَّولة الجزائريَّة.
إنَّ الاهتمامَ البالغ والعميق لثورة التَّحرير بالبناء، أو ما سمَّاه المُفكِّر المُناضل “عبد الحميد مهري” بـ “الجانب الإنشائي من الثورة الجزائرية”، وذلك في خِضَمِّ معارك هدْم الاستعمار، بقدْر ما يكشفُ عن اليَقِين الثَّوري بالاستقلال، بِقدْر ما يكشفُ عن عبقريَّة ثورة التَّحرير في ربْط البناء وإبداع النِّظام الجزائري الأصيل بمعنى السِّيادة ومفهومها الكامل والحقيقي. ويُمكننا القوْلُ، استنادًا إلى بلدانٍ أخرى حقَّقتْ استقلالها من استعمار الحماية أو الانتداب ولم تُحقِّق سيادَتها كاملةً، أنَّ الثَّورةَ الجزائريَّة حقَّقتْ السِّيادةَ الوطنيَّةَ منذ مؤتمر “الصومام” عام 1956 قبْل أنْ تُحقِّقَ الاستقلالَ سنة 1962.
حوْل الهَدم والبناءِ في الوقت نفسه، نَشَر المُفكِّر المناضلُ “عبد الحميد مهري” (1926 – 2012) مقالاً بمجلَّة “الآداب” البَيْروتِيَّة في الأول من شهر جوان 1957، بعنوان: “الجانب الإنْشائي من الثورة الجزائرية”، وتُعيد جريدة “الأيام نيوز” نَشْره ليرصُدَ القارئُ جانِبًا من عبْقريَّة الثورة الجزائريَّة وفلسفتها وقُدرتِها على استشراف المُستقبل برؤيةٍ جَلِيَّةٍ ودقيقةٍ وعميقةٍ.
الثَّورةُ الواعِيَةُ..
قد يتساءلُ القارئُ، إذْ يقَعُ نظرُه على هذا العنوان: “كيف يكون للثورة، وهي في الأساس عملية هدْمٍ، جانب إنْشائيٌّ؟”، ألمْ يكنْ الأصحُّ هو أنْ نقول: “المرحلة الإنشائية” للثورة الجزائرية، باعتبار أنَّ عملية البناء لا تبدأ إلاَّ بعْدَ إتمام عملية الهدم؟ والجواب هو أنَّ الثَّورة الواعِيَة هي عملية هدْمٍ وبناء في وقتٍ واحد. والثورة التي لا تستطيع البناءَ في مراحلها الأولى، لا تستطيع البناءَ في مراحلها الأخيرة. والثورةُ التي لا تستطيع الجمْعَ بين عملية الهدم والبناء، تكون ثوْرةً مُرتَجلةً وثمرةَ غير ناضِجة، وبالتالي تكون ثورةً مَحدودة الأبعاد، قصيرة المدى.
وإذًا، فموضوع المقال ليس هو ما تنوي الثورةُ الجزائرية بناءَه في المستقبل وبعد انتهاء المعركة، ولكن هو ما تَبْنِيه الثورةُ الجزائرية الآن (عام 1957) وفى صميم المعركة. إنَّ الثورة الجزائرية ترْمِي إلى تحطيم النِّظام الاستعماري الفرنسي، وبناء نظام جديدٍ بدلاً منه، ولكنها لا تنتظرُ انهيارَ النظامِ الاستعماري نهائِيًّا لتبدأ في بناءِ النظام الجديد، بل إنَّها شرعتْ في البناء من الآن (عام 1957).
ما هو الجانب الإنشائي للثورة؟
ولكي نتصوَّرَ أهمِّيَةَ الجانب الإنشائي للثورة الجزائرية تصوُّرًا كاملاً، يجبُ أنْ نرسم خطوطًا عرِيضةً للنظام الاستعماري الذي كان قائمًا في البلاد حتى قِيام الثورة. ولا أريدُ أنْ أذكرَ أرقامًا وإحصاءات لتصْوِير وطْأة هذا النظام، فالأرقامُ مُمِلَّة ولا تُعْطي صورةً حيَّةً عن الموضوع، بل أريد أنْ نتخيَّل أيَّ بلدٍ عربي (لِنَتخيَّل العراق أو مصر أو سورية مثلاً) جميعُ وزرائِه فرنسِيُّون، وجميعُ مُوظَّفِيه الكبار والصغار فرنسِيُّون، وجميعُ إداراته الكبيرة والصغيرة فرنسِيَّةٌ، والجيش والدرك والشرطة فيه فرنسيَّة، البنوك فيه فرنسية، والشركات والصناعات والمرافق الهامَّة كلها فرنسية، والتجارة الخارجية كلها بِيَد الفرنسيِّين، والتجارة الداخلية الكبرى أيضًا بِيَد الفرنسيين، ونِصْف الأراضي الصالحة للزراعة بِيَد الفرنسيِّين، والقوانين يُصدرِها فرنسيون وتُطبِّقُها مَحاكم فرنسية، ولِنَتصوَّر جميع المدارس في هذا البلد لا تُعلِّم إلاَّ الفرنسية، والصُّحُف والكُتب والمَجلاَّت التي تَصْدُر فيه أو تَصِل إليه فرنسية، وحتى رجال الدين الإسلامي يُعَيِّنُهم الفرنسيون، إذا رَضوا عنه، ويُقِيلونهم إذا لم يكونوا مَوْضِع الرِّضى!
ولَنا أنْ نتَصوَّر ما كابَدَه الشعبُ الجزائري من آلامٍ وتضحِيَاتٍ للحيْلولة دون قيام هذا النظام، ولنا أنْ نتصوَّر ما يجب أنْ يقدِّمَه الشعبُ الجزائري من تضحياتٍ في ثورته الحالِيَة (عام 1957) لتحطيم هذا الجهاز الجَهَنَّمي الضَّخم.
الاستعمارُ يُحطِّمُ نُظُمَ الحياة الشعبِيَّة
لقد اقْتضى وضْعُ هذا الجهاز الاستعماري الضَّخم تَحطِيمَ كل تنظيم جزائري سابق له في جميع ميادين الحياة. ولكن هذا النظام الاستعماري الدَّخِيل لم يستطعْ أنْ يقوم مَقامَ الأنظمةِ السابقة في سياسة الهيئة الاجتماعية وتهيِئتها للتَّطوُّر والرُّقي والحضارة، لأنَّه كان غريبًا عن طِيَنة البلدِ، بعِيدًا عن رُوح الشَّعب. كان هذا النظام سيِّئًا في آثاره الظَّاهرة المَلْموسَة، وكان أيْضًا سيِّئًا في آثاره الخَفِيَّة العَميقة. وأعْظَمُ سَيِّئات هذا النظام أنَّه لم يستطع أنْ يَملأ الفراغَ الذي أحْدَثه بتحطيمه للأنظمة القومِيَّة السابقة. لقد كان الشعب راضِخًا لهذا النظام، ولكنه لم يكن مُنْسجِمًا معه. كان الشعب يعيش في الواقع بدون نظامٍ، كان يعيش في حِيرةٍ وفوضى تَحُول دون تَفتُّق عبقرِيَّته الخَلاَّقة.
واقْتضتْ طبيعةُ هذا النِّظام الاستغلالِيَّة أيضًا أنَّ القوة المُسلَّحة هي حافِظةٌ لكيانِه وحامِيَتُه من الشَّعبِ الذي يريد أنْ يتخلَّص منه، فكانت الثورات العديدة التي قام بها الشعب تنتهي إلى الفشل، وكان النظامُ الاستعماري يُغرِقها دائمًا في بَحْرٍ من الدِّماء ويخرج سالِمًا المِحْنَة، بسبب أنَّه يملك من السِّلاح ما لا يملكُ الشَّعبُ الأعْزلُ.
مُرَكَّب السِّلاح
وهُنَا نَشأ عند الشعب، خاصَّة بعْد ثورة 1871، ما يُمكِن أنْ نُسمِيِّه بـ “مُرَكَّب السِّلاح”، لقد كانتْ كلُّ مُحاولاتِه للتَّخلُّص من هذا النظام الجائر تنتهي إلى الفشل، لأنَّه أعْزلٌ ولأنَّ عَدُوَّه مُسلَّح. وإذًا فمِفْتاح القضِيَّة أصبحَ مَحصُورًا في شيءٍ عزيزٍ بَعيد المَنال، أصبح مَحصورًا في السلاح الذي يَحتكِرُه المُستعمِر، ولهذا كان الشعبُ طِوال فترة الكفاح السِّياسي ونشأة الحركات الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية يُقابِل بنوعٍ من الاستخفاف هذه الحركات، ولا يَنْصاع لها إلاَّ إذا لَمَس فيها اتِّجاهًا إلى الثورةِ أو ما يعتقد أنَّه ثورةٌ.
الثورةُ تُغذِّي نفسَها بنفسِها
ويعودُ الفَضْلُ في نجاح الثورة الحاضرة (ثورة أول نوفمبر) إلى أنَّها عَرفتْ مُنْذ البدءِ كيف تعالج هذه الآثار العميقة التي ترَكَها النظامُ الاستعماري في نَفسِيَّة الشعبِ، فقَدْ سبَقَ اندلاع الثورةِ عملٌ تنظيمِيٌّ استمَرَّ سنوات عديدة، وتغلغَلَ في جميع أوْساط الشعب في المُدُن والقُرى، أخْرج الشَّعبَ من الحِيرة والفوضى التي كان يتخبَّط فيها، ورَبَّاه من جديدٍ على التَّقيُّد بالنظام والانْصياع وراءَ قادَةٍ خرجوا مِن صُفوفه، وجابهوا الاستعمارَ بمقاومةٍ لا تَعرِف الهَوادَة. كما تَغلَّبتْ طلائعُ الثورة الأولى على “مُركَّب السلاح” الذي كان يُعانِيه الشعبُ، فأثبتتْ به بِصِفَةٍ عِمليَّةٍ مَلموسةٍ أنَّ السِّلاحَ يُمكن أنْ يُنتَزَع من يَدِ العدُوِّ انْتزاعًا، وأنَّ السِّلاح يُمكِن أنْ يأتي بالسِّلاح، وأنَّ الثورةَ يمكن أنْ تُغذِّي نفسَها بنفسِها، فعادتْ إلى الشعبِ الثِّقةُ بنفسه وانفجرتْ طاقته الكامنة وتفتَّحتْ عبقرِيَّته وانْدفع مِثل السَّيْل الجارف الذي لا يُغلب.
وهُنا نَصِل إلى نقطةِ البَدْء فِيما سمَّيْناه بالجانب الإيجابي للثورة الجزائرية، فقد كان مِن العَبث تَوْجِيهُ الشَّعبِ إلى العمل الإنشائي قبْل أنْ يسترجع الثِّقةَ بنفسه، وقبْلَ أنْ تنفجرَ طاقتُه الكامِنة الهائلة. ولكن ما العمل الآنَ، وقد أصبحَ الشَّعبُ مُتدفِّقًا كالسَّيْل الجارف في ثَورته ضِدَّ النِّظام الاستعماري؟
مؤتمرُ “الصُّومام” يُنَظِّمُ حياةَ الشَّعب
لقد دَرَس المُؤتمر الذي انْعقد في 20 أوت 1956 في “وادي الصومام” وضَمَّ قادَةَ الجيش والمَنْدوبِين السِّياسيين للثورة هذه القضية فيما دَرَس مِن شُؤونٍ وقضايا، واتَّخذ في موضوعها القرارَ الآتي: “يجبُ أنْ تكون جبهة التحرير الوطني قادرةً على تصريف الأمواجِ الجبَّارة التي تهزُّ الحَماس الوطني، ويجبُ أنْ لا تضيع الغَضْبةُ الشعبِيَّة الهائلة كما تَضيع قُوَّةُ السَّيْل الجارف في الرِّمال. ولِتَحْوِيل هذه القوة الهائلة إلى طاقةٍ إنشائِيَّةٍ مُنْتجة، يجبُ الشُّروع في عملٍ ضخْمٍ يَنْتظِم مَلايينَ الرِّجالَ. يجب أنْ تكون جبهة التحرير الوطني حاضرةً في كل مكانٍ، ويجبُ أنْ تُنظَّم في أشْكالٍ عديدةٍ كثيرًا ما تكون مُرَكِّبة ومُعقِّدةً جميعَ فُروعَ النَّشاط البشري”.
كيف طُبِّقَ هذا القرار في الواقع؟ وماذا كان تأثِيره على الكفاح المُسلَّح؟ لِنَستَمِع أولاًّ إلى الفَقْرة مِن التَّعْلِيمات التي أرْسَلها “روبير لاكوست” إلى السُّلطة العسكرية والمدنِيَّة في الجزائر “إنَّ جبهة التحرير الوطني تبذلُ جُهودًا جبَّارة لتكوين إدارةٍ سياسِيَّة وعسكرية في جميع التراب الجزائري، وتقصدُ بذلك إنشاءَ إطارٍ من الجزائريين يُراقبون السُّكانَ بِصِفةٍ دقيقةٍ… إنَّ هذا الإطار السياسي والعسكري سيكون له نفوذٌ كبيرٌ لدى الجماهير التي أصبحتْ تُطبِّق تعليمات الوَطنيِّين”.