إنّ عودة ذكرى النكبة الفلسطينية (1948) بقدر ما تحمل من مرارة وألم وثقل تضحية وجسارة مصابرة، فإنّها فرصة سانحة لاستعادة صلابة المواقف ووضوح الرؤية الذي تبنّاه الروّاد من قادة الثورة التحريرية الجزائرية المباركة، الذين أعادوا ذكرى موقف الشيخ الإمام “ابن باديس”، الذي أسس جمعية العلماء عام 1931، في ذكرى النّشوة الاستعمارية بعد قرن من اقترافها الجريمة التاريخية في احتلال الجزائر عام 1830.. والأكثر أهمية هو كيفية الانتقال من مرحلة الهياكل إلى المؤسسات في منظومتنا الإعلامية التي جاءتها المناسبة سانحة للقيام بواجباتها التاريخية في أن تكون الرائدة في مواجهة الخرافات والأساطير الثقافية والتضليل الإعلامي الوقح، وهو في الوقت نفسه مساهمة في إنقاذ البشرية وخدمة الإنسانية.
إن حلول ذكرى النكبة في هذه السنة يحمل في طياته مجموعة من المؤشرات ذات أبعاد إستراتيجية تستحق الوقوف عندها بعمق، كون الأمر يتطلب اقتناص الفرصة والانتباه للأهمية البالغة التي يجب الاستثمار فيها، فالنكبة هي استغفال البشرية في ظروف غامضة، من طرف نخبة احترفت صناعة وترويج والاستثمار في (خرافة تاريخية وأساطير واهية ووهمية)، استغلت انشغال البشرية بالحروب العالمية وذهبت نحو اغتصاب أرض وتشريد شعب، وهي الجريمة الإنسانية الكبرى التي راوغت لأكثر من سبعين سنة ضمائر وعقول الإنسانية.
ولعل الاستيقاظ النوعي والجماعي للضمير الإنساني اليوم في كل دول العالم، والذي عبّرت عنه مختلف الفئات والشرائح البشرية التي يتزايد استقذارها للجرائم الصهيونية في أرض فلسطين، (وإن كان ما يزال ضعيفًا) يُعتبر مؤشرًا مهمًّا على صحوة إنسانية شاملة، تنبَّهت بعد سنوات طويلة لتلك الحملات التضليليّة الوقحة وموجات الكذب المستقوي على الناس والمتلاعب بعقولهم ومشاعرهم، وهو ما يعني تجريم إنساني وبشري من مختلف الديانات والثقافات لنخبة احترفت الكذب والتدليل وتضليل الإنسانية، وأيضًا هو يعني تجريم الكيان الصهيوني ومن يدعمه ويحاول منحه “الشّرعيّة” لأعماله الإجرامية التي فاقت قدرة العقل البشري على التخيّل.
كما أنّ البطولة الاستثنائية التي أظهرها الشعب الفلسطيني تؤكد بأنّ مواقف المساندة والدعم الذي ينطلق من بواطن الشعب الجزائري من أبعد قرية إلى أعلى مواقع صناعة القرار، الرافض للاحتلال والمستقذر للعدوان والمتشبث بالحق والعدل، والاعتراف بحق الشعوب في الحرية والكرامة والاستقلال، هو ذلك الشعور الطبيعي للإنسان الذي خلقه الله “مُزوّدًا” بالقناعة أنَّ الإنسان حرٌّ ومسؤولٌ رافضٌ لكل احتلال وعدوان ينتهك الحقيقة الإنسانيّة ويُحرّف رسالة الإنسان في الأرض.
وهو الأمر الذي يفترض أن يتمّ الاستفادة منه والاستثمار فيه، ليس من منطلق الانتقام أو التَّجريم، وإنّما من كونه دافعًا لإنقاذ البشرية من (مخاطر الصهيونية العالمية)، وإقامة العدل الذي تنشده الإنسانية مهما كانت دياناتها وثقافاتها ومصالحها، التي تعرضت إلى الاستخفاف والإهانة من طرف المنظومة الصهيونية.
وإن كانت الثورة التحريرية الجزائرية المباركة تحتفل بذكراها السبعين فإنَّ ذلك إشارة واضحة وكبيرة على تلازم الموعدين، فالثورة الجزائرية ألهمت الكثير من شعوب العالم لتتحرّر، والتّاريخ يشهد أنّ الشعب الجزائر سارع إلى الدفاع عن فلسطين قبل شروعهم في تحرير الجزائر، وهي الإشارة التي جاءت في صباح السابع من أكتوبر في رد مزلزل على أسطورة القوّة التي لا تقهر، وهي التي تشابه صبيحة الفاتح من نوفمبر الذي دمّر “الإمبراطورية” الاستعمارية التي كذِبت على العالم وضلّلته على مدى أزمنة طويلة.. بأنّها قوة لا تُقهر، ووجودها على أرض الجزائر له “شرعيّته” وفق منطق الهيمنة والتّضليل.
إنّ هذه المناسبة المؤلمة (النكبة) يُفترض أن تتحوّل إلى موعد تاريخي لاستعادة الوعي الحقيقي بمفهوم الحياة والعيش في ظل العدل والمساواة بين الشعوب، والتوازن بين الحضارات والثقافات، وهو الرهان الذي يواجه النُّخب في عالمنا العربي والإسلامي اليوم، وقد سبقت المقاومة الفلسطينية إلى التخفيف من وطأته والتسهيل في السَّير فيه، لمواجهة الظلم والعدوان وإزالة الخرافة الصهيونية التي كبّدت البشرية الكثير من التكاليف الباهظة.
ولعل حناجر طلبة جامعات الغرب اليوم هو خير دليل على صحوة جادة وجنينية في ضمير البشرية ولن تتوقف مهما كانت عنجهية القوى الكبرى ومهما تمّ التلاعب بالقانون الدولي ومهما ارتفع الضغط على المنظمات الكونيّة التي يُفترض فيها الانتصار للقضايا العادلة ولإنسانية الإنسان.. ونحن نرى اليوم الضعف الرهيب الذي يعاني منه الكيان الصهيوني ومناشداته اليومية للقوى والدول الغربية لإنقاذه من صلابة مقاومةٍ شريفة تطلب بدمائها العدلَ والإنصاف والحرية، وصمود شعبٍ يُصرّ على الحياة بكرامة في أرضه ووطنه، بالرغم من تضحياته الكبرى وخسائره المؤلمة.