الآن وقد سقطت كل الأقنعة التي كانت تخفي بشاعة العالم من حولنا في تقمص لإنسانية زائفة، أنهت صلاحية استعمالها مقاصف العزل في غزة، وليس في أوكرانيا، حيث موت “قطٍ” في “كييف”، جريمة أممية لا تغتفر، فيما مقتل ألف في غزة مسألة فيها نظر.
الآن، وقد تناثرت مساحيق الزينة التي كانت الحضارة الغربية تتزين بها لإخفاء بشاعة العالم ووحشيته حين يتعلق الأمر بالإنسان العربي، وليس بأي حيوان أليف في ثقافة الرأفة الغربية، فإنه لا مناص من الاعتراف، بأن “هَوَاننا” ليس إلا بضاعتنا وصناعتنا المبتذلة الخنوع والاستكانة والرضوخ، كما أن ذات الهوان، ليس إلا حضارة غرب، رسخت في تبعيتنا واستلابنا أن من يربي قطة أو كانيش في فراشه، صورة من صور الحضارة، أما من يرعى الأغنام والإبل ويؤاخي الجياد، فإنه بمنطق حضارة الرفق بالحيوان وليس بنا، متخلف وجاهل وإضافة غير لازمة
في حديقة العالم الأليف..
الحقيقة المتعرية اليوم، والتي تحاول الأنظمة العربية وكذا بعض من شعوب النكسة العربية، القفز على بشاعتها، أن الغرب ـ ممثلا في أمريكا وباريس ولندن ـ لم يعد لديه ما يخفيه تجاه، ليس فقط، قطاع غزة أو فلسطين كقضية احتلال وعربدة صهيونية، ولكن تجاه العرب كجنس كان مشروع استعباد على مدار سنوات من النهب والسلب، لينتهي في ساحة غزة إلى مشروع استئصال من على وجه البسيطة، ففي نظر عجوز البيت الأبيض جون بايدن، فإن خوفه على “كانيش” زوجته، أهم لديه من سماع صراخ أطفال المقصفة، حيث عجوز البيت الأبيض، الذي استعاد صحته على حساب “زهايمر” كان سيوقف عهدته الرئاسية، قبيل عملية طوفان الأقصى، وفي رده على سؤال: متى ستوقفون الحرب على غزة؟
أجاب على السائل ببرودة: عفوا لم أسمعك؟
وحين كرر السائل سؤاله بصوت سمعه العالم كله، كانت إجابة بايدن صفعة وصدمة لكل الواهمين والمتوهمين أن قيمة العربي يمكنها أن تضاهي أو تصل يوما، حتى لقيمة “كانيشه” في حديقة البيت الأبيض، حيث الإجابة من فم بايدن عن سؤال: متى ستوقفون محرقة غزة؟ لم تكن إلا: “لن أسمعك حتى ولو صرخت بكل أصوات العالم”، ومنه فإن الهوان ليس بايدن ولا نتنياهو ولا ماكرون ولكنه نحن، ونحن هنا، تعني أنظمة البوار العربي وكذا شعوب عربية هائمة لا زالت تتوهم أن الحل في وقف مذبحتها القادمة بعد غزة، بيد أمريكا وحضارة غربها المتوحشة الاستئصال والقصف الذي رأيناه في سابق بغداد ودمشق وليبيا واليمن، ورغم ذلك لم نعتبر ولم نحفظ الدرس.
السؤال العالق هنا، كيف انتهينا إلى هكذا قاع من الهوان؟ وهل سقوطنا اليوم، يتعلق بأنظمة جثمت على صدور شعوبها فكتمت فيها حتى حشرجة صوتها حين الذبح؟ أم أن جينات الشعوب في حد ذاتها تم التلاعب بها لتصبح صورة عن خنوع واستسلام ولا مبالاة، تجاوزت كل تعليل أو تفسير أو محاولة فهم؟
الشعوب العربية، أهي الإقالة أم الاستقالة؟
إذا لم يكن هنالك اختلاف على أن الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج، ليست إلا صورة للقهر والترويض والحكم بالوكالة عن المصالح الأمريكية والغربية، فزمن الشعوب تُقرر وتختار قادتها وَلىّ إلى غير رجعة وغير رجولة وتاريخ و”معتصم” كان، فإن الثابت اليوم على هامش المحرقة الفلسطينية، وخاصة بعد مذبحة مستشفى غزة التي راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد، أن همجية الغرب، التي كانت، على الأقل، في أوقات سابقة تضع في اعتباراتها ردات فعل الشعوب العربية، خوفا من أي انزلاقات قد تهدد مصالحها ومصالح عروشها وخدمها هناك، لم تعد تراعي في مواقفها ورعونتها وتموقعها مع الجلاد الصهيوني، أي قيمة لصوت وزحف الشارع العربي، سواء داخل بلدانها ممثلا في الجاليات، أو في مجتمعات الدول العربية، والسؤال المعلق هنا، أي ثقة اكتسبها الغرب لكي يصطف مع الكيان الصهيوني بهكذا التحام دون خوف أو حساب لأي تداعيات شعبية عربية محتملة؟
الإجابة في طي السؤال، ومختزلها، أين الشعب العربي أصلا؟ وهل الأمر بالنسبة إلى الغرب يتعلق بثقته في قدرة الأنظمة والعروش الموالية والمتحكمة في مصالحه، على الوقوف في وجه أي ردة فعل شعبية غير محسوبة؟ أم أن الإشكالية الحقّة والمتغاضى عنها، أن الغرب لم يعجن له فقط أنظمة عميلة ولكن شعوبا على مقاس الخنوع، شعوبا تمت إقالتها، ومصادرة وعيها لتصبح حتى أمهات القضايا لديها، كقضية فلسطين، مجرد “ماتش كورة”، يتابعه ويتأثر به الجمهور للحظات وبمجرد نهايته يواصل الشعب، والأصح الجمهور، حياته وتناسله البهيمي والمطعمي، وكأنا شيء لم يكن..
المؤكد أن الكيان الصهيوني ومن وراءه الغرب المتآمر كله، ما كان له أن يمدد أقدامه ومقاصفه بتلك الوحشية والثقة والهمجية، لولا يقينه المسبق، أن صدى الشعوب العربية اليوم، لن يتجاوز في أقصى حد، مسيرات من دعاء وصراخ صلاة جمعة، ليتفرق القطيع بعدها ويواصل عجنه لرغيف معاشه خلال بقية أيام الأسبوع وذلك في انتظار جمعة وصلاة أخرى، والنتيجة أن الشعوب العربية التي لم تزحف على سفارات التطبيع في ممالك ودول التطبيع والخنوع، أو الشعوب التي لم تصل احتجاجاتها إلى سفارات الدول المتآمرة منددة ورافضة لانحيازها، لا يمكن اعتبارها شعوبا مقهورة ولكنها شعوب تم توقع ردات فعلها وعجن مواقفها على مقاس عطلة نهاية الأسبوع، التي يصرخ فيها الجمهور في صلاة جمعته منددا ومستنكرا ومتعاطفا ثم يختفي بحثا عن ماتش أو تسوق أو موضوع آخر..
الأصل في إجابة العجوز الأمريكي جون بايدن، عن سؤال متى تتوقف المحرقة بغزة؟ بأنه لن يسمعنا مهما صرخنا، والمفصول فيه، في ثنائية الغرب وآل السبت، أن سادة المذبحة وبعد أن ضمنوا ولاء العروش والقصور والأنظمة العربية، فإنهم ضمنوا استقالة الشارع العربي، بفعل ترويض طويل النهج والمنهج.. ترويض أخرج فلسطين من وعي شعبي، إذ كانت قضية القدس بالنسبة إليه قضية عقائدية وروحية، وصارت مجرد قضية إنسانية، تحتاج إلى تعاطف لا يختلف عن تعاطف الغرب مع قط دهسته سيارة خطأ في شارع مظلم، لتتعالى أصوات الرفق الإنساني به من مشارق الأرض إلى مغاربها..
للأسف، الشعوب العربية تم تحويلها إلى “جماهير” متفرجة، ومواقفها لم تعد تخرج من ردة فعل أسبوعية كنوع من الاحتجاج والتململ، بدلا من الفعل الذي يمكنه أن يلزم الآخر على حساب أي خطوة اعتداء وتحرش قبل أن يفكر فيها، والمهم وبغض النظر عن خيانة أنظمة التطبيع وحكام الخنوع والحسابات السياسية الضيقة، إذا كانت تلك هي وظيفتهم ولأجلها وُجدوا وصُنـعوا وتم تثبيت عروشهم، فإن غزة والقدس وفلسطين كقضية أمة، هي قضية شعوب وليست قضية أنظمة، وما لم يخف بايدن أمريكا ومن وراءه حضارة العطف والرفق بالقطط والكانيشات، من سماع صوت الشارع العربي، إذا ما استعاد شعوبه المؤمنة بفلسطين كحق شرعي وليست فلسطين كمستشفى يجب ألا يقصف أو كأطفال يجب ألا يموتوا تحت مبررات إنسانية، ما لم يحدث ذلك، فإن بايدن وآل السبت لن يسمعوا ولن يتراجعوا قيد أنملة عن مخططات التهجير والتصفية والعرقنة وإنهاء كل وجود فلسطيني..
نهاية الكلام..كنا أمة، أصبحنا شعوبا ثم جماهير!
أحدهم ممن يُذيل اسمه بلقب الشيخ، ويصفه غلمانه بالعلامة الرباني، كتب معللا ومبررا خنوعه وتخلفه يوم الزحف، بقوله: “أتيت على كلب عظيم وهو نائم، فنخسته فقام وهجم عليك وقام بتقطيع جلدك ولحمك.. ماذا فعلت؟ لا أنت بالذي تركه نائما ومضيت، ولا أنت بالذي ضربته على رأسه فقضيت عليه، ما فعلت إلا أن هيجته عليك وضاع المساكين”.
ما قفز عليه الشيخ المدعو “رسلان”، والمعروف في سيرك أهله بلقب “أسد” السنة، أن موقعته “الكلبية” تلك، ليست إلا عينة عجنها الغرب من شعوب عربية يريدها نظام العولمة، ألا تكتفي بالجبن والاستقالة واعتبار واقع بني “كلبون” في صورة الشيخ تلك، قدرا مسطرا، ولكن في النبح وحتى عضّ كل من يقترب من “كانيش” بايدن، كمحاولة للاحتجاج والمقاومة والرفض، والمؤسف، أن نوعية ذلك “الطيف” الذي يسمي خنوع علّامته وشيخه، استئسادا، والذي استشهد بكلب ضخم نائم، في فتواه، نسي أن ذلك “البولدوغ” الضخم والمهجن، يصحو وينام على حساب أجساد أطفال الشيخ الهمام هذا.
وسواء قطع عليه الأسد رسلان، كما يُسمى، قيلولته بضربه على رأسه أو مضى في طريقه، فإنه حين يستيقظ لن يقتات إلا من أرواح عياله، لذلك فإن هذا الصنف من مشايخ الشعوب هو من رسخ في عقيدة الأمة، خنوعا، غلفوه بالأقدار المسلطة التي يجب ألا تُدْفع حتى تُرفع وحدها، متناسين أن القدر الحقيقي أن تمتلك القدرة على رسم قدرك بعيدا عن منطق شعوب على مقاس منظومة الخذلان والاستكانة والرضا الممنهجة..
التهجين الذي نعيشه الآن، من ترويض لعقل الأمة، لتكون على طينة رسلان هذا، هو من أفرغ الشعوب العربية من ماهية وجودها، لتصبح أمهات القضايا عندها، مجرد محطات في رحلة رغيف هي الأصل والفصل كله..
ذات دمار وعراق منتهك، قيل لكلب ضخم وهائج، أن العالم كله غاضب منك وأن الرأي العام الأمريكي بدأ يشك في رواية غزوك للعراق، ونخاف أن تنقلب عليك الأمور، فتجد نفسك وحدك، حينها قال بوش الابن وعلى طريقة “لن اسمع” الجديدة مع بايدن: “لن أنسحب من العراق حتى وإن لم يبق معي سوى زوجتي لورا وكلبي بارني.. سأقول لكم شيئا ولورا ستغضب مني، إن كلبي بارني هو الابن الذي لم أنجبه”.
للأسف، “بارني”هو الكلب أو الكانيش الذي لم ينجبه بوش كما أن فصيلته في السياسة الأمريكية أكثر قيمة من كل العرب بالعراق ودمشق وليبيا ولبنان واليمن وأخرها في محرقة غزة، حيث العنوان الأخير للجريمة الإنسانية التي ارتكبها الكيان الصهيوني بمستشفى الأهلي المعمداني، حسب الكائن المزهمر صهيونيا، جون بايدن، أنه ليس الكلب الضخم من قضم أجساد الضحايا ولكنها المقاومة من أطلقت النار على مصابيها ولكم واسع النظر في حقيقة، لن أسمع التي انتهت إلى “لن نرى” كذلك، ولتشربوا من البحر يا أمة ضحكت من خنوعها الأمم..!