اندلعت “ثورة” الطلاب والعمال والفلاسفة والأناركيين واليساريين والفلاحين ووو.. كما شِيءَ لها من ألقاب وأوصاف، شهر ماي ثمان وستين تسعمائة وألف، ولم تتوقف أحداثها إلا بعدما تمّ فرض الأمر الواقع أمام الرئيس “شارل ديغول”، وهو الخروج من الرئاسة مهزوما منكسا، والرحيل عن فرنسا كلها ذليلا منكسرا.. فقد كان لا بد عليه من دفع الثمن، ثمن موقفه من حرب النكسة العربية التي اعتبرها عدوانا “صهيونيا” ظالما، فيما اعتبرها الكيان الصهيوني انتصارا سماويا مقدّسا.
فلا أحد في فرنسا، وقد اشتدّ عود اليهود، يمكنه الوقوف ضدّ الإرادة الصهيونية المتمكّنة، ولا أحد بإمكانه النجاة من “عقاب” اللوبيهات اليهودية المتخندقة في دواليب السلطة والدولة والنظام، باسم الإدارة والسياسة والمال والأعمال.. وحتى باسم الدين والإنسان والأخلاق، في تغلغل شامل مهيمن عميق داخل المنظومة الاجتماعية الفرنسية المتداخلة المتلونة، حتى صار اليهودي مواطنا فرنسيا بدرجة امتياز، أعظم شأنا حتى من المواطن الفرنسي نفسه. ويظهر ذلك جليا من خلال التهمة الأسطورية “معاداة السامية”، والتي أضحت تفوق تهمة “معاداة الكنيسة” جرما وإثما وعقابا، حيث أنّ العدالة الفرنسية قد تتجاوز للفرنسي انتقاده للكنيسة تحت غطاء العلمانية، لكنها أبدا لا يمكن أن تتجاوز لكائن من كان انتقاد اليهود أو المساس بكيانهم.
كانت البداية في بعض مراحلها، من الجزائر المحتلة بمرسوم “كريميو” العام 1870م، الذي منح اليهود الجنسية الفرنسية الأوروبية كاملة، ومكّنهم من إدارة الشأن العام تمكينا فاعلا، فصاروا في بضع سنين أهل السطوة والحظوة والجاه والسلطان. هؤلاء هم الذين هاجروا غداة استقلال الجزائر واستقروا بكثافة في الجنوب الفرنسي، وشكّلوا جاليات جديدة على الشاطئ اللازوردي، والبروفنس ومنطقة اللانغدوك – روسيون.. وشيئا فشيئا وصلوا باريس واخترقوا علية قومها واندمجوا في الوظائف العمومية السامية، وفي المناصب الحساسة ذات السلطة النافذة، ناهيك عن التجارة النفيسة وحركة رؤوس الأموال التي كانت كلها تحت هيمنتهم.
إذًا، عملت الإدارة الاستعمارية الفرنسية على فرنسة اليهود الجزائريين بهدف سحق الأهالي، فلما اشتد ساعدهم واستقوت شوكتهم، انقلب السحر على الساحر، وصارت فرنسا برمتها فريسة للتهويد المخطط وللصهينة الممنهجة. وفي هذا السياق، ذهب الكثير من المفكرين الفرنسيين إلى تحميل السلطة الفرنسية نفسها وحكوماتها المتعاقبة، مسؤولية ما آل إليه الوضع الاجتماعي الفرنسي الداخلي، وما تعرض له من انقلاب ديمغرافي وإيديولوجي لا يخدم بالضرورة المصلحة المقدّسة لفرنسا الفرنسية، كما تصوّرها ثوار لامارسييز.
لقد بلغ الأمر بالقضاء الفرنسي المتصهين المنحرف، أن صار يأمر باعتقال أي فرنسي يجرؤ على انتقاد “إسرائيل” على الشبهة ومن دون إدانة فعلية، ولم يعد يكتفي بالتهمة الكلاسيكية “معاداة السامية”، والتي ظلت متعلقة حصرا بالقدح في يهود فرنسا وليس بـ”إسرائيل”، فيما لا يتم حجز أو توقيف أي متّهم بسبّ فرنسا أو شتم الكنيسة المسيحية، إلا إذا تمت إدانته فعلا بالقرائن الثابتة، في حالات جدّ استثنائية.. بمعنى؛ تراجع كرامة فرنسا خطوة خلف “القداسة” الصهيونية النافذة المهيمنة.
في مقابلة مع إحدى الإذاعات التابعة للجالية اليهودية، في فرنسا، صرّح رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق “مانويل فالس”، أنّ بلاده كانت قد شاركت في الضربات العسكرية التي أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين في مدينة الموصل العراقية، خلال هجمات التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة ضد ما سُمِّي حينذاك بــ”تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق”، في ابتذال صارخ وانبطاح فاضح للكيان الصهيوني.
“مانويل فالس” كان حينها يتولى منصب رئيس الوزراء، خلال فترة حكم الرئيس الاشتراكي السابق “فرانسوا هولاند”، وهو الأمر الذي مكّنه من إجراء مقارنة بين الموصل وغزّة، بقوله: “سقط مئات، بل آلاف القتلى من المدنيين الذين استخدمهم تنظيم “داعش” كدروع بشرية في الموصل بسبب قصف الجيش العراقي والتحالف الدولي الذي شاركت فيه فرنسا..”.
المتصهين الفرنسي، وفي ردّه على سؤال صحفي: “إذًا، فقد قتلت فرنسا المدنيين العزّل..”؟، قال: “نعم، لسوء الحظ، كان هناك وفيات لأنها الحرب”. الصحافي: “إذًا، ما يحدث في غزة يشبه ما حدث في الموصل..؟”، ردّ “فالس”: “أهداف حماس التي استخدمت نفس الأساليب، بل ربما أسوأ من تنظيم الدولة في مهاجمة الإسرائيليين، لا علاقة لها بالدفاع عن النفس”.
كلام “فالس” رئيس وزراء فرنسا الأسبق، أثار حفيظة بعض بقايا فرنسيي فرنسا، لكن أغلبهم جبناء لا يجرؤون على انتقاد الصهاينة، إلا ما كان قد صدر عن الجيوستراتيجي “باسكال بونيفاس” الذي غرّد قائلا: “لتبرير جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، فالس يؤكد أنّ فرنسا ارتكبت مثلها في الموصل…؟ خبز مبارك لأعداء فرنسا”. بمعنى، أنّ “فالس” قد فتح ثغرة لأعداء فرنسا ومنحهم الحجة لإدانتها بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.
“مانويل فالس” لم يكترث لأي من هذه الانتقادات ولا لأي من التهجمات التي استهدفته، بل ظهر أكثر ثقة بنفسه وهو يؤيد صراحة جرائم الاحتلال الصهيوني بغزّة، حيث قام بزيارة الكيان الصهيوني، والتقى بعائلات المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، ومن هناك وجّه سهام حقده ضد الفلسطينيين، معتبرا بأنّ الكيان الصهيوني من “حقه الدفاع عن نفسه”، مصرّحا مرة أخرى أمام صحافة الكيان: “إنّ الإسرائيليين يواجهون هجوما من منظمة “إرهابية إسلامية” معادية للسامية، وبالتالي لهم الحق في استعمال كل الوسائل والإمكانات للدفاع عن كيانهم”.. في تبرير خبيث للجرائم الفظيعة المرتكبة بحق المدنيين العزل في قطاع غزّة.
أمثال هذا المتصهين الحاقد، هم الذين حكموا فرنسا طوال عقود من الزمان، وهم الذين قاموا بارتكاب المجازر الفظيعة باسم الحرية والانسان والديمقراطية، بحق المدنيين العزل في الجزائر، وما شهدته الحقبة الاستعمارية من مذابح ومجازر يندى لها جبين البشرية، حيث سقط خلالها ملايين الضحايا.
إلى إفريقيا وحروب الإبادة الجماعية لقبائل وشعوب برمتها، كان آخرها الحرب الإبادية في رواندا، والتي كان لفرنسا اليد الطولي في تأجيج نيرانها التي أودت بما يقرب من مليون ضحية، في مائة يوم لا أكثر، كان معظم القتلى من قبائل “التوتسي”، ومعظم القتلة من قبائل “الهوتو”، وأعظم الممولين كانت فرنسا.
ويكفي شهادة على ذلك، التقرير الذي أعده مكتب المحاماة العالمي، لصاحبه الأمريكي “ليفي فايرستون ميوز” والذي قال في ختامه: خلصنا إلى أنّ الحكومة الفرنسية تتحمل مسؤولية كبيرة في دعم إبادة جماعية كانت متوقعة ومنتظرة.”.. وقد جاء تقرير المحامي المشار إليه، بتكليف من حكومة “كيغالي” للتحقيق في دور فرنسا في هذه الإبادة الجماعية، التي ارتكبها نظام “الهوتو” الحاكم، والذي كانت تربطه علاقات وثيقة بباريس وبحكومة الرئيس “فرانسوا متيران”، الذي كان بدوره على علاقات وطيدة باللوبي الصهيوني الفرنسي من تجار الموت والسلاح، وبالكيان الصهيوني ونظام العنصرية والاحتلال.
انتخب بعده الرئيس “جاك شيراك” على رأس فرنسا، العام 1995م، والذي عرفت فترة حكمه فتورا واضحا في العلاقات مع نظام الإرهابي المجرم “ارييل شارون”، الحاكم حينها في الكيان الصهيوني، وذلك بعدما جعا هذا الأخير يهود فرنسا إلى هجرة جماعية “فورية” إلى “إسرائيل”، متهما فرنسا بتأجيج مشاعر معاداة السامية.. وهو الموقف الذي دفع بالرئيس “شيراك” نفسه إلى التصريح بأن “شارون” شخص “غير مرحب به” في فرنسا، مؤكدا على أن زيارته المحتملة إلى باريس باتت “مستحيلة”.
كان لموقف “شيراك” هذا، صدى واسعا لدى عامة الشعب الفرنسي، والذي رحّب بهذا التوجه الجديد الذي رأى فيه شيئا من الانتفاضة الشريفة، لحفظ ماء الوجه والوقوف عند الحدّ الأدنى للكرامة والكبرياء.. فما كان على اللوبي الصهيوني الفرنسي المتخندق في كل مكان، إلا التحرك العاجل والطارئ لقلب الموازين مرة أخرى.
فكان أن تم استدعاء الرئيس “شيراك” من طرف القضاء، في سابقة كانت الأولى من نوعها بإحالة رئيس جمهورية إلى محكمة الجنح، حيث تمّ اتهامه باختلاس أموال عامة في قضية وظائف وهمية تعود إلى مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما كان عمدة للعاصمة الفرنسية باريس.
كانت التهمة في حدّ ذاتها وهمية ومن دون دليل مقنع ولا حجة دامغة، ولذلك لم تلق فكرة إحالة الرئيس “شيراك” إلى محكمة الجنح أي تأييد في الأوساط السياسية الفرنسية، سواء في اليمين أو اليسار.. فقد أعرب حينها مساعد المتحدث باسم حزب “التجمع من أجل حركة شعبية” عن “الأسف لهذه النهاية”، معتبرا إياها “اختبارا مؤلما” للرئيس السابق. كما سارعت من جهتها، زعيمة الاشتراكيين “سيغولين روايال” إلى التصريح بأن إحالة “شيراك” إلى المحكمة ليست جيدة لصورة فرنسا، وهي سابقة خطيرة.
كانت الرسالة واضحة من قبل اللوبي الصهيوني، ولذلك جاءت الردود محتشمة من هنا وهناك، رغم الامتعاض الغامر الذي ساد الطبقة السياسية الفرنسية برمتها.. فكان الرئيس “جاك شيراك” بحق آخر شرفاء فرنسا، لأن المشهد سوف يعرف صعود وجوه صهيونية بامتياز كبير، من “ساركوزي” إلى “هولاند” إلى “ماكرون”.. جيل من الخدم الجديد للقضية الصهيونية.
إلى أن وقعت الواقعة وحدثت الطامة الكبرى، بان أعلن “أليكسي كولر” الأمين العام لقصر الإليزيه، عن تسمية الشاذ المسمى “ستيفان سيجورني” وزيرا للخارجية الفرنسية، وذلك ضمن تشكيل الحكومة الجديدة التي يقودها الشاذ الآخر اليهودي المسمى “غابرييل عطال”، المثليين الذين تربطها علاقة “زواج” بعقد مدني منذ العام 2017م، لتنتقل العلاقة من فراش الزوجية المثلية الشاذة، إلى طاولة مجلس الوزراء.
رئيس وزراء شاذ، يعيّن زوجه الشاذ وزيرا للخارجية..؟ في سابقة قذرة مقرفة عفنة لم تشهد البشرية مثلها أبدا.. فالمثليون ما وجدوا في المجتمعات البشرية سابقا إلا ليقتلوا.. ثم رأفة بحالهم سُجنوا.. ثم رحمة بشأنهم نُفوا.. ثم شفقة بأمرهم عُزلوا.. ثم تعاطفا مع وضعهم تُركوا.. ثم دعما لهم صاروا يجوبون الشوارع تحت ألوية الألوان وشعارات الحب والسلام.. ثم توقيرا لهم وتبجيلا أصبحوا سادة في فرنسا وأصحاب الحظوة والسلطان..؟
ورغم كل هذا الخضوع والانبطاح للشذوذ والشيطان، يبقى الفعل المقرف هذا فعلا مخلا بالطبيعة والحياء، لا يأتيه إلا مسوخ الأرض وخنازير البشر الذين هم بالنهاية، جنس بشري ضد الاستقامة والعقل والأديان، ما وجدوا إلا لممارسة الفواحش والرذائل والعهر والاباحية والخلاعة والفجور.. تماما على ملة الصهاينة الذين لا يرون في العالم سوى مرتعا لممارسة كل ألوان العبث وأنواع الصلف والغطرسة.. فإن كان الشذوذ هو طاعون العلاقات الاجتماعية السوية، فإن الصهيونية هي كوليرا العلاقات السياسية الدولية.