باريس تتخبّط.. ما وراء ازدواجية الموقف الفرنسي تجاه الجزائر؟

وكالة الأنباء: "كفى نفاقًا.. فرنسا هي المستفيد الأكبر من علاقاتها مع الجزائر"

في ظل الأزمة المستمرة بين الجزائر وفرنسا، تتوالى الخطوات المتشنجة من الجانب الفرنسي، ما يعكس حالة من التردد والتخبط في باريس، فقد برز خلاف علني داخل الإدارة الفرنسية بين الرئيس إيمانويل ماكرون وأعضاء حكومته بشأن اتفاقية 1968، التي تنظم إقامة الجزائريين في فرنسا، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على العلاقات الثنائية، خصوصًا مع التهديدات التي أطلقها وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو ضد الخطوط الجوية الجزائرية، فضلًا عن تحركات بعض الأوساط الفرنسية التي تسعى إلى توظيف قضية الكاتب بوعلام صنصال كورقة ضغط سياسي.

يأتي هذا النهج التصعيدي الفرنسي رغم ما يبدو من محاولات ماكرون للتهدئة، حيث أكد خلال مقابلة حصرية مع صحيفة “لوفيغارو” رفضه القاطع لأي تعديل على اتفاقية 1968، مشددًا على أن هذا الملف يقع ضمن صلاحياته الرئاسية، وأن أي معالجة له يجب أن تتم عبر الحوار البناء مع الجزائر. غير أن الموقف الرسمي الفرنسي بدا متناقضًا، إذ تبنى وزير الداخلية خطابًا أكثر حدة، مهددًا بفرض عقوبات على “الجوية الجزائرية” بحجة عرقلة عمليات الترحيل، وهو ما يعكس انقسامًا داخل الحكومة الفرنسية بين مساعي التهدئة ونزعة التصعيد.

على الصعيد الدبلوماسي، تتضح معالم الاستراتيجية الفرنسية من خلال محاولات بعض الجهات في باريس الدفع بتعيين بوعلام صنصال سفيرًا للفرنكوفونية، ومنحه حماية قنصلية أوروبية، في خطوة اعتبرتها الأوساط الجزائرية استمرارًا لمساعي فرنسا لفرض وصايتها الثقافية، رغم التراجع الملحوظ لنفوذها اللغوي عالميًا.

في المقابل، أكدت الجزائر أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي مساس بسيادتها الوطنية أو محاولات فرض شروط غير متكافئة على علاقاتها الثنائية مع باريس، محذرة من أن أي إجراء أحادي الجانب من قبل السلطات الفرنسية سيقابل برد صارم يعيد التوازن للعلاقة بين البلدين.

وفي سياق آخر، أعاد الرئيس الفرنسي تأكيد موقفه الرافض لإلغاء اتفاقية 1968، مشددًا على أن “حماية الفرنسيين” تظل أولوية قصوى بالنسبة له، لكنه رفض في الوقت ذاته المطالب الداعية إلى إلغائها، معتبرًا أن الحل يكمن في نهج براغماتي يراعي المصالح المشتركة. وقد جاء هذا التصريح ليكشف عن عمق الخلاف داخل الحكومة الفرنسية، إذ يُعدّ الأول من نوعه منذ تعيين فرانسوا بايرو رئيسًا للوزراء.

وكان بايرو قد وجه تحذيرًا صريحًا للجزائر، خلال حوار مع صحيفة “لوفيغارو”، حيث منحها مهلة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع لإبداء تعاون أكبر في استعادة مواطنيها المقيمين بصفة غير شرعية في فرنسا، مشيرًا إلى أن أحد الجزائريين المقيمين بصفة غير نظامية والخاضعين لأمر ترحيل كان قد نفذ هجومًا في مدينة ميلوز، وهو ما دفع السلطات الفرنسية إلى التشدد في موقفها.

في تصعيد جديد، أشار بايرو إلى أن باريس قد تجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في اتفاقية 1968، ملوحًا بإمكانية إلغائها في حال عدم احترام بنودها. غير أن الرئيس إيمانويل ماكرون تبنى موقفًا مغايرًا، مؤكدًا أهمية الحفاظ على التوازن في العلاقات مع الجزائر، ورافضًا اتخاذ أي قرارات متسرعة قد تؤدي إلى مزيد من التوتر بين البلدين.

وتجدر الإشارة إلى أن اتفاقية 1968، التي أُبرمت بعد ست سنوات من استقلال الجزائر، تنظم مسائل الهجرة بين البلدين، حيث تمنح الجزائريين تسهيلات خاصة في التنقل والإقامة داخل الأراضي الفرنسية، كما تتيح دخول 35 ألف عامل جزائري سنويًا لمدة ثلاث سنوات، فضلًا عن توفير امتيازات تفضيلية للمهاجرين الجزائريين مقارنة بنظرائهم من جنسيات أخرى.

من جهتها، شددت وزارة الخارجية الجزائرية على أن أي تعديل أو مساس بهذه الاتفاقية من الجانب الفرنسي سيقابله رد مماثل من الجزائر، يشمل مراجعة جميع الاتفاقيات والبروتوكولات الثنائية الأخرى. كما أعربت الجزائر عن استغرابها الشديد من القيود التي فرضتها السلطات الفرنسية مؤخرًا على تنقل بعض الشخصيات الجزائرية إلى فرنسا، مؤكدة أنها لم تتلقَّ أي إخطار رسمي بشأنها، وواصفة هذه الإجراءات بأنها “حلقة جديدة في سلسلة الاستفزازات والضغوط” التي تستهدف البلاد.

وبعيدا عن هذه الاتفاقية، واصل روتايو تصعيد خطابه العدائي ضد الجزائر، ملوّحًا بفرض عقوبات على شركة الخطوط الجوية الجزائرية، متهمًا إياها بعرقلة عمليات ترحيل الجزائريين الموجودين في وضعية غير نظامية في فرنسا. ويكشف هذا التصعيد أن الجزائر باتت في صلب أجندة الوزير الفرنسي، وليس مجرد ملف ظرفي عابر.

وفي تصريحات أدلى بها لقناتي “بي أف أم” و”أر أم سي”، ادعى روتايو أن “الجوية الجزائرية تبطئ عمليات ترحيل الجزائريين غير النظاميين من فرنسا”. وواصل تصريحاته الاستفزازية بقوله إنه “لا يستبعد أي خيار” في إطار الحملة التي يشنها ضد الجزائر ومصالحها المشتركة مع فرنسا، مضيفًا: “يمكننا التحقق من مدى احترام طواقم الطائرات لقوانيننا وإجراءاتنا الإدارية“.

وفي منتصف شهر فيفري الماضي، وجه روتايو اتهامًا للجوية الجزائرية بأنها “تشترط تصاريح قنصلية حتى عندما يكون الأفراد المقرر ترحيلهم يحملون وثائق سفر وهوية صالحة”. كما أشار إلى وجود خيارات أخرى مطروحة على الطاولة لاتخاذ إجراءات تصعيدية تدريجية، ملمحًا إلى قرارات وشيكة قد تكون مماثلة لتلك التي اتخذتها فرنسا في السابق.

يتناقض هذا النهج المتشدد مع سياسة الرئيس ماكرون، الذي يسعى إلى التهدئة وتجنب التصعيد. ومع ذلك، يواصل روتايو الدفع نحو خيار المواجهة، حتى إنه لمّح إلى احتمال فرض حظر على نشاط الخطوط الجوية الجزائرية في فرنسا.

ورغم أن قضية الهجرة تُعدّ تحديًا أوسع تواجهه فرنسا، إلا أن وزير الداخلية يبدو مركّزًا بشكل خاص على الجزائر، دون أن يشير إلى إجراءات مماثلة ضد دول أخرى أو شركات طيران مختلفة، ما يعكس بوضوح الطبيعة الانتقائية لهذا التصعيد الفرنسي.

المدعو صنصال.. سفيرا للفرنكفونية!

وفي خطوة تعكس إصرار فرنسا على توظيف مسائل فردية في إطار أجندتها الدبلوماسية، دعت رئيسة ما يسمى (لجنة دعم بوعلام صنصال) في فرنسا، نوال لونوار، إلى منحه الحماية القنصلية الأوروبية، مشيرة إلى أنه مواطن أوروبي يحق له الاستفادة من هذه الحماية.

وفي تصريحات نشرتها صحيفة “لا تريبيون” الفرنسية، أكدت لونوار أن اللجنة تعتبر إرسال بعثة طبية دولية إلى الجزائر لمعاينة وضعه الصحي من أولوياتها. كما أوضحت أن اللجنة تسعى إلى تأمين وضع قانوني خاص لصنصال من خلال اقتراح تعيينه سفيرًا للفرنكوفونية، مستندة إلى وجود نحو عشرين سفيرًا مواضيعيًا في فرنسا، ما يجعل من المنطقي – على حد تعبيرها – أن يكون صنصال ممثلًا للفرنكوفونية، خاصة بعد إصداره كتابه الأخير “الفرنسية، لنتحدث عنها!”.

وفي سياق متصل، كشفت لونوار أن اللجنة تمارس ضغوطًا على السلطات الفرنسية لحملها على التدخل في قضيته، رغم العقبات القانونية المتعلقة بجنسيته. فبحسب القانون الجزائري، يُعتبر صنصال مواطنًا جزائريًا ويُحاكم على هذا الأساس، رغم حصوله مؤخرًا على الجنسية الفرنسية.

تكثيف الضغوط والدفع باتجاه تدخل رسمي

على صعيد آخر، كثّفت اللجنة من تحركاتها عبر تنظيم لقاءات وندوات تسلط الضوء على قضيته، حيث وجه عشرة من أعضائها رسالة مفتوحة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون طالبوه فيها بإنهاء ما وصفوه بـ “التساهل المستمر” تجاه الجزائر.

كما كشفت لونوار أن اللجنة تستعد لممارسة ضغوط على لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية لحملها على المصادقة على قرار يدعو إلى إرسال بعثة طبية طارئة إلى الجزائر، والسماح لمحامٍ فرنسي بالانضمام إلى صنصال هناك. وإضافة إلى ذلك، تسعى اللجنة إلى تعليق تقدم مفاوضات اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر إلى حين الإفراج عنه. وترى لونوار أن تعيين صنصال سفيرًا للفرنكوفونية سيمنحه حماية دبلوماسية، ما يعكس رغبة فرنسا في تبني قضيته ضمن سياق أوسع يتعلق بتراجع نفوذها اللغوي والثقافي عالميًا.

في سياق حديثها، أوضحت لونوار أن اللجنة “أرجأت تحركاتها العلنية في البداية، اعتقادًا بأن الدبلوماسية الهادئة قد تؤتي ثمارها على المدى القصير”، غير أن استمرار احتجاز صنصال لأكثر من ثلاثة أشهر دفعها إلى إعادة تقييم موقفها، والانتقال إلى تبني موقف أكثر صراحة عبر ممارسة الضغط العلني والتصعيد السياسي. وتعكس هذه التحركات إصرار فرنسا على توظيف قضايا فردية كورقة ضغط في علاقاتها مع الجزائر، في نهج يثير المزيد من الشفقة على ما وصلت إليه باريس من تراجع في مستوى تعاطيها مع الملفات الدبلوماسية.

مها عزالدين - الجزائر

مها عزالدين - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
إحباط محاولة إدخال 30 قنطارًا من الكيف عبر الحدود مع المغرب الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس