عندما غزا العثمانيون شبه جزيرة القرم، كان للمقاتلين الجزائريين دورهم الفعّال ضمن كتائب الدعم والإسناد، فلما وضعت الحرب أوزارها لفائدة سلطان الباب العالي، ساح الجنود في أنحاء الجزيرة، فانبهروا بجمال البلاد الأخّاذ وطبيعتها الساحرة الغناء، إلا أن أكثر ما شدّ قلوبهم ذلك الحسن الخرافي والبهاء الأسطوري للنساء القرميات.
لقد عادوا إلى الديار، محمّلين بنفحات النصر المؤزّر وذكريات الفتح الأكبر، وبذكريات تتخلّلها ملامح الأوجه الساحرة والنواصي الغامرة، والأعين الزرقاء والضفائر الشقراء، والقدود الفارعة والخدود الناصعة، لقد اكتشفوا عوالم الجمال الأنثوي المختلف عما اعتادوا عليه، فكان كل من رزقه الله بأنثى أطلق عليها اسم «قرمية»، تيمنا بالسحر الفاتن لنساء القرم.
وأما أنا فلن أسمي ابنتي القادمة «مغربية»، ليس لأنني أمقت النظام المغربي فقط، ولكن لأن هذا الاسم صار مبتذلا مدنّسا، وذلك لما أسبغ عليه المخزن البائس من بشاعة وشناعة، وما ألحق به من خزي وعار، وهو يجرّه إلى مستنقعات الرذائل الدبلوماسية والفواحش السياسية، دون أدنى رادع من دين ولا وازع من أخلاق.
لكن، إذا عرف التاريخ انتفت الغرابة وبطل العجب، ففعلا، للخيانة جذور وللكرامة أصول، فهذا مولاهم عبد الرحمان بن هشام، أو السلطان الذي كان قد باع ذمته للأعداء، وأدار ظهره، بل وحمل السلاح ضد الأمير عبد القادر الجزائري في عزّ جهاده ضد الغزاة الفرنسيس، رغم روابط الدم والدين، ودبّر له المكائد ونسج له المؤامرات، بكل الوسائل وفي كل حين.
كان الأمير ذات ليلة، كما دأب، يقرأ القرآن ويتدبّر الآيات في خيمته داخل معسكر جيشه، الذي كان يومها محاصرا من قبل جيش السلطان بدعم فرنسي، عند سفوح جبال الريف المغربية على سواحل المتوسط، بالمكان المسمى «عين زورة»، عندما تسلّل شخص من دون أن ينتبه الحراس إلى وجوده، حتى انتهى به الوقوف بين يدي «الأمير» المنتبه، والذي بمجرّد سماعه وقع الأقدام استدار خلفه فإذا بعبد أسود طويل القامة قوي البنية، واقفا داخل خيمته وفي يده خنجرا.
رمقه الأمير بنظرة حادة في عينيه، فارتبك العبد الأسود وألقى خنجره من يده، ثم ارتمى أرضا عند قدمي الأمير مقبلا باكيا، قائلا: “لقد كلفوني بقتلك سيدي، وأرسلوني إليك بهذا الخنجر المسموم، لكن رهبة منظرك وحدّة بصرك قد جردتني من كل شيء، من شجاعتي ومن رباطة جأشي وحتى من سلاحي، فقد بدا لي وكأنني أنظر إلى نور وهالة النبي (ص) فوق رأسك..”.
طأطأ الأمير رأسه ببطء، من دون أن يظهر عليه أدنى شعور بالخوف أو التأثر، ثم وضع يده الشريفة على رأس العبد الأسود قائلا له: “لقد دخلت خيمتي قاتلا، وإنَّ اللّه الذي ساقك إلى التوبة عن عملك القبيح، قد حكم أن تخرج منها بريئا تائبا، فاذهب إذن وتذكّر بأن خادم اللّه وعبده قد عفا عنك..”، خرج بعدها الأمير من حصاره منتصرا، فلما استجمع قواه، كتب إلى علماء المسلمين بمصر وغيرها، عمّا لقي ويلاقي من سلطان المغرب.
وإذ أثنى في رسالته على الشعب المغربي الشقيق وبعض مواقفه المشرفة تجاه إخوانه المسلمين الجزائريين، فإنه لم يجد مبرّرا لما فعله به سلطان المغرب من المنكرات المخزية، عقد اتفاقا مع الجيش الفرنسي، ثم وقع خيانته بحصار جيوش الجهاد المقدس ضد الغزاة الصليبيين، التآمر المستمر على اغتيال الأمير، حثّ أئمة المساجد على التنكر لجهاد الأمير حتى يجرّده من واجب النصرة لدى عموم الشعب المغربي.
بذات الخسة تنازل السلطان مولاهم عبد الحفيظ عن “سيادة” المغرب للفرنسيين، في مقابل حماية عرشه من الشعب المغربي، وليس من الاعتداءات الأجنبية كما سوقوا لذلك. بدليل، أنه مباشرة وبعد توقيع اتفاق الحماية الذي جاء فيه: “إن دولة الجمهورية الفرنسية وجلالة السلطان قد اتفقا على تأسيس نظام جديد بالمغرب، مشتمل على الإصلاحات الإدارية والعدلية والتعليمية والاقتصادية والمالية والعسكرية، التي ترى الدولة الفرنسية إدخالها نافعا بالإيالة المغربية ـ لا دولة ولا مملكة ـ وهذا النظام يكون يحترم حرمة جلالة السلطان وشرفه العارم وكذلك الحالة الدينية وتأسيساتها والشعائر الإسلامية وخصوصا تأسيسات الأحباس”.
وجاء في الاتفاق أيضا: “كما يكون هذا النظام محتويا على تنظيم مخزن شريف مضبوط، دولة الجمهورية الفرنسية تتفاوض مع الدولة الإسبانية في شأن المصالح الناشئة لهذه الدولة من حالتها الجغرافية ومستعمراتها الأرضية الكائنة بالساحل المغربي كذلك مدينة طنجة تبقى على حالتها الخصوصية المعترف لها بها والتي من مقتضاها يتأسس نظامها البلدي..”.
فكما هو موضّح في النص، يكون السلطان المغربي قد باع سيادة بلده وشرف مملكته وكرامة شعبه للفرنسيس، وهو الوضع الذي دفع بالوطنيين المغاربة الذين رأوا في توقيع المعاهدة خيانة لله وللوطن، إلى تفجير ثورة وطنية سميت بـ”حرب الريف” ـ 1919/1926 ـ بين الجيش الإسباني من جهة، وقبائل الريف من جهة ثانية، بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي أسّس جمهورية الريف، التي وجدت نفسها مرة واحدة، في مواجهة الاستعمارين الإسباني والفرنسي، وفي مواجهة المخزن التعيس المتآمر على المغرب سيادة وشعبا.
بذات السلوك وعلى ذات النهج، لا يزال المخزن المغربي ـ في زمن محمد السادس وإخوان الحديقة الخلفية لقصر السلطان ـ يتعاطى مع الحقائق والمستجدات، كنظام وظيفي محدود السيادة والسلطات، مجرّدٍ من كل أسباب العزة والكرامة، باهت الشرف مقضوض المضجع واهن العرين، والصهاينة قد حولوا مملكة المولى إلى ملهى لممارسة العبث والخبث والعهر المبين، نظام فقد كل أسباب الحرمة والاحترام، لا يهابه إلا شعبه المسكين، المقهور المغلوب على أمره منذ أمد وسنين.