للخبراء في “إسرائيل” دور لا ينكر في إعداد وصنع القرار السّياسي الإستراتيجي بالذّات، وعليه يمكن تلمّس المشاريع المستقبلية “الإسرائيلية” من خلال متابعة أدبيات هؤلاء الخبراء، لا سيما أنّ أغلبهم من العاملين في مراكز الدّراسات “الإسرائيلية” كانوا ضبّاطًا كبارًا في الأجهزة الأمنية أو الجيش أو الإدارات السّياسية أو الدّبلوماسية أو في الجامعات، فهم يجمعون بين الخبرة العلمية والخبرة الميدانية، كما أنّ الحرية في التّفكير متاحة لهم بالقدر الكافي لطرح آراء مخالفة لما تتبنّاه السّلطة، كما أنّهم بحكم علاقاتهم ومكانتهم يُطلّون على خبايا الأمور بل وكثيرًا ما كانوا من جلساء الغرف المغلقة.
بناء على ما سبق، تتبّعت التّقرير الذي أعدّه فريق من الباحثين في معهد الأمن القومي “الإسرائيلي” من المتخصّصين في ميادين مختلفة، وموضوعه حول اليوم التّالي لمعركة “طوفان الأقصى”، وسأعرض ملخّص التّقرير دون أيّ تعليق، ثم سأحاول عرض أهم استنتاجاتي من التّقرير.
التقرير يبحث في الآتي:
أوّلًا: ماذا حقّقت “إسرائيل” حتّى الآن في معركتها بعد أكثر من نصف عام: لم يتم الإفراج عن الرّهائن/ لم تتم هزيمة حماس الهزيمة المأمولة/ تراجع نزعة اجتياح رفح بخاصّة أنّ الاجتياح لن يقود لنتائج أفضل، وهذا التّراجع في الحرب يمكن أن يؤدّي إلى الإرهاق المصحوب بالإحباط وخيبة الأمل، ولكن هذا الوضع ينطوي على فرص يمكن البحث في كيفية استثمارها.
ويقوم الاستشراف “الإسرائيلي” على تصوّر “المدى الطّويل” للشّرق الأوسط، وهو استشراف ينطوي على ضرورات الحصول على تنازلات لـ”إسرائيل” تتوازى مع ما تحمّلته في هذه الحرب مع ضرورة التّنبيه للقيادة “الإسرائيلية” أنّ عليها أن تخطّط لتحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد لا مكاسب تكتيكية “قصير الأمد”. وينطوي تقييم الخبراء على التّنبيه إلى أنّ “إسرائيل” تواجه حاليًا واحدة من أصعب فتراتها، سواء من حيث مكانتها الدّولية أو وضعها الدّاخلي. ومن الصّعب تصوّر تحسّن في هذا الواقع دون اتّخاذ قرارات عملية، استجابة لجملة التّحدّيات التي تواجهها..
ثانيًا: الظّروف الميدانية للمعركة: يرى التّقرير أنّ “إسرائيل” تواجه:
أ- انزلاق “إسرائيل” في حرب استنزاف طويلة، وهو ما يجعل احتمال إعادة الرّهائن تتراجع، ويتراجع مع ذلك احتمال إحلال سلطة بدلًا من حماس في غزّة، ولكن هذه السّلطة – أي سلطة حماس – لها بدائل مستقبلية من ناحية، ولكلّ بديل تحدّيات عدّة مثل ما يلي:
1- حكومة عسكرية في غزّة تديرها “إسرائيل”: وهو أمر له تبعات سياسية واقتصادية وعسكرية كثيرة.
2- نقل مسؤولية قطاع غزّة إلى مصر (لكن مصر ترفض ذلك تمامًا).
3- توكيل السّلطة للقبائل والعشائر، لكن الفشل في مثل هذا المشروع سيقود إلى فوضى.
4- إنشاء حكومة بمشاركة عربية ودولية، لكن غياب الدّور الفلسطيني يخلق مشاكل لهذا الحل.
5- إنشاء حكومة فلسطينية مؤقّتة ومنفصلة عن السّلطة في رام الله.
6- إعادة السّلطة الفلسطينية بعد تجديدها للسّيطرة على غزّة بمساعدة عربية ودولية.
والحلّ الأمثل بين هذه البدائل هو الحل رقم 6، مع ضرورة مراعاة ما يلي:
– ضمان مساندة عربية ودولية.
– تسريع إدخال المساعدات الإنسانية على أن تتولّى حركة فتح الإشراف على ذلك بمساعدة عربية ودولية.
– وقف إطلاق النّار مع حزب الله شريطة انسحاب قوّات الرّضوان من الحدود وضمان تفعيل الرّقابة الدّولية لمنع المتسلّلين ومنع وصول الصّواريخ المضادّة للدّروع لحزب الله في هذه المنطقة.
– إنّ الإعلان عن وقف إطلاق النّار في غزّة لا يعني امتناع “إسرائيل” عن استمرار التّخطيط للعمل على تفكيك حماس ونزع سلاحها.
وهذا الأمر يتطلّب تولّي سلطة التّنسيق الأمني السّلطة في غزّة، مع احتفاظ “إسرائيل” بإدارة الشّأن الأمني في القطاع.
ثالثًا: يجب القبول – وبسرعة – بصفقة لإطلاق سراح الرّهائن حتّى لو تطلّب عقد هذه الصفقة وقف الحرب، وعلى “إسرائيل” أن تعمل في هذا الجانب أنّ من حقّها في مرحلة لاحقة أن تتراجع عن أيّ شروط تقتضيها الصفقة (الانسحاب مثلًا وبعد الصّفقة تعود للحرب)، وعلى “إسرائيل” من جانب آخر في هذا الموضوع أن تعطي الأولوية للرّهائن المدنيين وتفصلهم عن العسكريين.
أمّا بخصوص المعتقلين الفلسطينيين العاديين الذين يمكن أن يفرج عنهم في التّبادل فمن حقّ “إسرائيل” إعادتهم للاعتقال إذا استشعرت أيّ خطر منهم. أمّا المعتقلين من الخطرين (القيادات وذوي الأحكام العالية.. إلخ) فيجب ربط إطلاق سراحهم بتنازلات إقليمية مثل توسيع دائرة التّطبيع العربي – “الإسرائيلي” وهو ما يزيد شعور الأمن لدى “الإسرائيلي”.
رابعًا: لا بدّ من تجنّب وقوع كارثة إنسانية في قطاع غزّة، ولابد من دمج تنظيم المساعدات الإنسانية مع عملية إنشاء كيان مدني بديل لحماس، مع منع وقوع المساعدات في أيدي هذه المنظّمة، ومن الأفضل أن تأتي المساعدات إلى ميناء أسدود ثمّ يتمّ نقلها لغزّة، لأنّ إعادة تأهيل ميناء غزّة سيعطي حماس ميزة ومشهدًا من مشاهد السّيادة.
خامسًا: إنّ التّوصية بوقف الحملة الحالية والانتقال إلى نمط عملياتي مختلف لا يمنع من استئناف الحرب في رفح، شريطة اعتماد “إسرائيل” مسار عمل وتوقيت مختلف يخدم الهدف الإستراتيجي المطلوب. وعليه لا بدّ من مراعاة ما يلي:
1- ترتيب الحدود المصرية مع غزّة وبالتّعاون مع أمريكا وإعلام “إسرائيل” بكلّ خطوة، لضمان عدم التّهريب وبخاصّة للأسلحة.
2- إذا لم تهاجم “إسرائيل” رفح يجب أن تبقى مطالبها هي: استسلام السّنوار والضّيف واستسلام كتائب القسّام، وفي حالة الرّفض يتمّ الاستمرار في عمليات اغتيال القيادات وتدمير البنية التّحتية المدنية والعسكرية وإغلاق ممر فيلادلفيا تمامًا.
3- يمكن تحقيق الأهداف السّابقة بالتّنسيق مع مصر والولايات المتّحدة من خلال الضّربات البرية والجوية والعمليات الخاصّة.
4- يتمّ القيام بهذه العمليات بعد الإفراج عن الرّهائن.
سادسًا: إنّ تعزيز القدرة الوطنية على الصّمود في “إسرائيل” من خلال رأب الصّدع الدّاخلي في “إسرائيل” سيمكّن من القدرة على الاستمرار والتّعافي السّريع من الصّدمة الجماعية نحو الرّخاء والنّمو، وهو ما يتطلّب استعادة الرّهائن، وضمان إعادة المهجّرين من المستوطنات شمالًا وجنوبًا، وضمان إعادة التّماسك بين الحكومة والمجتمع.
سابعًا: إنّ تشكيل وتماسك جبهة المقاومة المكوّنة من إيران ومنظّمات المقاومة الفلسطينية أدّى إلى تآكل الرّدع “الإسرائيلي” وزيادة خطيرة في الشّعور بالثّقة بالنّفس لدى أعداء “إسرائيل” في هذا المحور، لذلك يجب التّعاون مع أمريكا ودفع الحكومة اللّبنانية لترتيبات تعزّز دور القوّات الدّولية وتبعد عناصر حزب الله عن الجنوب.
أمّا بخصوص إيران، لا بدّ من زيادة العقوبات عليها، وزيادة أعداد المراقبين من وكالة الطّاقة النّووية على مشروعاتها النّووية، وربط تخفيف العقوبات بخطوات تراجعية من إيران في مشروعها النّووي، وعدم استبعاد القيام بضربات عسكرية ضدّ المشاريع النّووية الإيرانية.
ثامنًا: العمل على الحفاظ على متانة وتطوّر العلاقات الأمريكية – “الإسرائيلية” بخاصّة أنّ الدّعم الأمريكي في هذه الحرب يتوازى مع الدّعم لـ”إسرائيل” خلال حرب 1973، ولن يكون هناك أزمة كبيرة بين أمريكا و”إسرائيل” إلّا بعد الانتخابات الرّئاسية في نوفمبر 2024، وهناك مشاعر كامنة لدى ترامب ضدّ نيتنياهو، كما أنّ حزب بايدن الدّيمقراطي تتزايد فيه نزعات الموقف السّلبي من “إسرائيل”، وهي أمور يمكن أن تزداد بين الطّرفين على المدى الطّويل، لذا على “إسرائيل” أن تعمل على استعادة الولايات المتّحدة إلى الشّرق الأوسط وأن تكون أكثر حذرًا في خطاباتها السّياسية تجاه الولايات المتّحدة.
ما الذي نخلص منه من هذا التّقرير “الإسرائيلي”:
1- أنّ المعركة مع المقاومة لم ولن تنتهي في المدى المنظور، فقد تعرف هدوءا مؤقّتًا، ثمّ لا تلبث أن تنفجر.
2- أنّ موضوع الرّهائن -وهو ما يتّضح من التّقرير- يشكّل عاملًا ضاغطًا بشكل كبير على الموقف “الإسرائيلي”، وهو ما يستوجب من المقاومة تبنّي “استراتيجية الابتزاز” للحصول على أفضل النّتائج، ولعلّ الإعلان بين الحين والآخر عن مقتل بعض الرّهائن “بسبب القصف الإسرائيلي” هو عامل مهمّ في تأجيج الجبهة الدّاخلية وإحراج صانع القرار الصّهيوني.
3- أنّ الرّهان الاستراتيجي من “إسرائيل” على دور سلطة التّنسيق الأمني كبير للغاية، ممّا يؤكّد أنّ ما خفي من علاقات بين الطّرفين أعمق ممّا يبدو على السّطح، ويستوجب على المقاومة خنق أيّ دور مقترح لسلطة التّنسيق الأمني.
4- أنّ جوهر التّفاوض “الإسرائيلي” يقوم على عدم الالتزام بأيّ التزام مهما كان، ويمكن التحلّل منه في أيّ لحظة مواتية، وهو ما يتّضح في التّوصية باستئناف العلميات العسكرية بعد الانتهاء من صفقة الرّهائن، وهو ما يستوجب على المقاومة أن تجعل موضوع الرّهائن هو آخر موضوع للتّفاوض مهما كانت الظّروف، وعليها أن تماطل في الموضوع إلى أبعد الحدود، وأن توزّع من الرّهائن على تنظيمات المقاومة الأخرى للهروب من الضّغط القطري والمصري لأنّ التّنظيمات الأخرى أكثر تحرّرًا من سياج قطر ومصر.
5- أنّ “إسرائيل تثق بتوجّهات السّلطة المصرية من حيث عداء هذه السّلطة لحركة التحرّر الفلسطيني دينية أو علمانية، وأنّ مصر لا تريد العودة لميدان الصّراع العربي-“الإسرائيلي” مهما كانت الظّروف.
6- على المقاومة أن تسعى لتوسيع أطراف التّفاوض بإشراك دول أخرى لها علاقات مع الجميع، ونعتقد أنّ تركيا يمكن أن تكون أفضل كثيرًا من قطر لأنّ درجة استقلالية القرار التّركي أعلى كثيرًا من درجة استقلالية القرار القطري أو المصري (رغم النّهج الأردوغاني المثير للجدل)، أو يمكن مشاركة إسبانيا أو إيرلندا أو إحياء دور اللّجنة الرّباعية، أمّا الاستمرار في التّفاوض مع الرّباعي الحالي فتكرار “للأيتام على موائد اللّئام”.
7- تعتقد “إسرائيل” أنّ أمنها يمكن أن يبقى في حالة خطر مع استمرار وجود “محور المقاومة”، لذا فإنّها ترى ضرورة شدّ الولايات المتّحدة للتّواجد الأعمق في الشّرق الأوسط ليكون رافعة الضّغط الأهم لشلّ الدّور الإيراني واستعادة “إسرائيل” مكانتها في أولويات السّياسة الأمريكية وتعزيز دورها الوظيفي في الاستراتيجية الأمريكية.