في مارس 2023، أقيمت ندوة تاريخيّة بالجزائر العاصمة، تناولت قضيّة لا تزال تمثّل جرحا داميا في الذّاكرة الجزائرية. الندوة الموسومة بـ “شهداء رموز الثّورة بلا قبور”، شهدت مشاركة مجموعة مميّزة من الأكاديميّين والباحثين وشخصيات من الأسرة الثورية دَعوا ـ جميعهم ـ إلى “ضرورة إحصاء ووضع سجّلات خاصة بالشّهداء المفقودين إبّان الثّورة الجزائريّة المجيدة”، كما تبادل الحاضرون قصصا لشهداء لا تزال قبورهم مجهولة، ومن بين هؤلاء الشّهيد البطل عبد الرحمان ميرة الذي شارك ابنه إسماعيل ميرة في الندوة.
إسماعيل، قال إن والده ارتقى “شهيدا إثر كمين نصبته له قوات المستعمر الغاشم، بأعالي مدينة أقبو شمالي ولاية بجاية، وتم نقل جثمانه إلى ثكنة أقبو المركزية، ومنها إلى مكان مجهول لا يعرف إلى اليوم”، وأشار إلى أنه تلقى العديد من شهادات المجاهدين الذين عايشوا والده الشّهيد تفيد بأنه دفن داخل ثكنة عسكرية بمنطقة “بوقاعة” بولاية سطيف، وهي الرواية التي يراها إسماعيل ـ قريبة إلى الحقيقة، حسب المعطيات التاريخية.
وفي شهادة سابقة له روى إسماعيل عام 2019، يقول: “يومها، لم أكن موجودا في المكان الذي كان والدي يبيت فيه. كنت برفقة والدتي نسمع طلقات الرصاص. بعد ذلك، اقتحم أحد الضباط البيت في الدشرة (القرية) ليخبرنا بأن والدي قد تم إعدامه ومن معه من المجاهدين”.
وأضاف “حُمل الشّهيد عبد الرحمان ميرة على ظهر حمار إلى ثكنة عسكرية ليست بعيدة عن موقع استشهاده. ومن هناك، تم نقل جثته إلى ثكنة عسكرية أكبر في أقبو. وقد خرج المساجين لرؤيته، وعرفه عمه الذي كان محتجزًا في السجن العسكري ذاته”.
واسترسل ابن الشّهيد يقول: “اغتنم الجنود الفرنسيين الفرصة لالتقاط صور معه وهو مسجّى، شهّروا بقتله من خلال عرض جثته على مستوى كل المداشر والمدن كما علقوا صوره في كل مكان وأعلنوا خبر استشهاده في كبريات الجرائد الفرنسية، أما عن مكان دفنه فلم نتمكن من تحديده إلى حد اليوم”.
اسم شاهق وقامة باسقة
يوم الإثنين المنقضي الموافق لـ 6 نوفمبر 2023، تجمّع المئات من الأشخاص بمنطقة آث حياني بأقبو، جنوب غربيّ ولاية بجاية، بالمكان الذي شهد قبل 64 سنة خلت استشهاد العقيد عبد الرحمان ميرة، قائد الولاية التاريخية السادسة (1956-1957) ثم الولاية الثالثة (بداية 1959 إلى 6 نوفمبر 1959)، لإحياء ذكرى ارتقاء هذا البطل خلال حرب التحرير المجيدة في ميدان الشّرف، لكن الحاضرين ـ في هذه المناسبة ـ لم يحملوا أي جديد حول قبر الشّهيد بما يعني أنه لا يزال مجهولا.
لكن الاستعمار الفرنسي الذي أعدم الشّهيد عبد الرحمان ميرة وتكتّم على مكان دفنه لم يستطع إزاحة ذكراه من قلوب وعقول الجزائريين، فاسمه لا يزال يتردد يوميا خاصة في أوساط الجيل الجديد، ذلك أن جامعة بجاية التي أُنشأت عام 1983 كمعهد وطني للتعليم العالي ثم تمت ترقيتها إلى مركزٍ جامعيٍّ عام 1992 لتتحوّل إلى جامعة عام 1998، تحمل اسم هذا الرمز الشاهق، عبد الرحمن ميرة.
واستشهد ميرة، المعروف في زمن الثورة بـ”نمر الصومام”، بعد إصابته خلال كمين نصبه جيش الاحتلال الفرنسي قوامه فوج المشاة البحري الثاني المحمول جوا، خلال عملية المنظار (jumelles) بوادي آث حياني، وكان ميرة – آنذاك – في طريق عودته من مهمة خاصة بتحسيس وتعبئة السكان بمنطقتي أقبو وإيفري أوزلاقن، بحسب شهادة ابنه طارق ميرة، الذي أشار إلى أن استشهاد والده قد “بعث فرحة استثنائية لدى القوات الفرنسية التي كانت تلقبه بـ (المراوغ)، لأنه تسبب لها في كثير من المتاعب”.
وذكر طارق أن من ضمن هذه الاحتفالات البائسة بقتل أبيه، قام المستعمر بعرض جثة الشّهيد ميرة لمدة أربعة أيام بمسقط رأسه “تاغالات”، لإثارة الذعر في نفوس الأهالي وإيهامهم بنهاية الثورة، مشيرا إلى نقل الجثة بعدها بطائرة هليكوبتر إلى وجهة مجهولة، “ولم يتم العثور عليها إلى غاية يومنا هذا” حسب ما أضافه نجل الشّهيد.
رجل ميدان سياسيا وعسكريا
ولد عبد الرحمان ميرة عام 1922 بتاغالت بمنطقة تازمالت، والتحق بالحركة الوطنية سنة 1947، حين انضم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية بفرنسا، حيث تميّز بنشاطه الحثيث باوبرفيلييه (ضاحية باريس الفرنسية) وبتازمالت ببجاية.
وكان من الطبيعي أن يلتحق، بعدها، بجبهة التحرير الوطني وثورة نوفمبر 1954، ليؤسس ـ تحت قيادته هيكل جبهة التحرير الوطني ـ جيش التحرير الوطني بوادي الصومام والسّاحل (أمشدالة بولاية البويرة).
ولم يدّخر الشّهيد أيّ جهد لدعم الثورة عسكريا وسياسيا في الولاية التاريخية الثالثة، إذ أشرف على إنشاء أفواج نقل السّلاح من تونس، وقام شخصيا برحلات لهذا الغرض عدة مرات، فضلا عن تأمين مؤتمر الصومام، الذي نُظم – آنذاك – رغم الانتشار الكبير للجيش الفرنسي بالمنطقة.
وتحصّل “نمر الصومام” على وسام المقاومة في 15 مارس 1956، بعد نجاحه بمنطقة بوسعادة (ولاية المسيلة) حيث كان على رأس 350 جنديا، في توحيد صفوف قوات المناطق الثالثة والرابعة والخامسة، ليتمّ تشكيل الولاية الثالثة بعد مؤتمر الصومام، ما أهّله أيضا بعد المؤتمر ذاته للحصول على رتبة رائد بداية سنة 1957، ثم تعيينه قائدا للولاية السّادسة (الصحراء) خلفا للعقيد سي شريف الذي تم اغتياله.
والتحق ميرة بمنطقة القبائل في جويلية 1957 قبل الانتقال إلى تونس شهر أكتوبر، ليعود بعدها إلى مقر قيادة الولاية الثّالثة في مارس 1959، حيث واجه ابتداء من شهر جويلية عملية المنظار الرهيبة التي قادها – آنذاك – الجنرال “شال” الذي كان موجودا غير بعيد من فج شلاطة، بمرتفعات أقبو.
واستشهد العقيد عبد الرحمان ميرة يوم 6 نوفمبر 1959 بهذه المنطقة وهو يحمل سلاحه بيده، مخلّفا وراءه مسيرة ملحمية ألهمت مواطنيه ومكّنتهم من تحقيق النّصر النهائي. وشكّلت ذكرى استشهاده – يوم الإثنين 6 نوفمبر – مناسبة للمجاهدين الحاضرين للتّذكير بسيرته الفريدة والتزامه وحبّه للوطن.
هذا، وأدلى العديد من رفقائه في السّلاح بشهاداتهم بهذه المناسبة يوم الإثنين، قبل اختتام الحفل بوضع إكليل من الزهور أمام النّصب التذكاري الذي يخلّد ذكراه بالوادي وقراءة الفاتحة ترحما على روحه الطاهرة وأرواح كلّ الذين ضحوا بأنفسهم من أجل استقلال الجزائر.