الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.
وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم“، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز“، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.
الخبز الفرنسي أم الخبز السوري؟
مضت الأیام على إقامتنا في الجزائر، حيث واجهتنا مشكلة جديدة تتعلق بإيجاد خبزٍ كالذي تعوّدنا أن نأكله عندنا في إيران، حيث لم نكن معتادين على أكل الخبز الجزائري (الباغيت)، أو ما نسمّيه في إيران بـ “الخبز الفرنسي“. وكنّا نسأل عن المخابز التي تصنع الخبز القريب من خُبزنا!
سرعان ما اكتشفنا أنّ المخابز في الجزائر، تصنع أنواعًا مختلفة من الخبز وليس نوعًا واحدًا فقط، إضافة إلى أنها أيضًا محلّات لصنع الحلويات في الوقت نفسه. ولكننا لم نجد ما يناسبنا رغم تنوّع منتوجات المخابز الجزائرية، وتعدّد أنواعها وأشكالها وروائحها الشهيّة.. ثم أدركنا بأنّ أقرب أنواع الخبز إلى الخبز الإيراني هو الخبز السوري أو اللبناني. وقد دلّنا أحدُهم على أنّ طلبنا يُباع في “السوبيرات“، ولكن مشكلتنا بقِيَت قائمة: وهي إيجاد مخبزة تبيع الخبز السوري أو الإيراني، فشراء الخبز من “السوبيرات” على الطريقة الأوروبية لم تكن فكرة مُستساغة!
المخابز في إيران تصنع الخبز فحسب، وهي مختلفة عن محلّات الحلويات، ونُسمّيها “نانوايي” أي محلّ صنع الخبز. والمخابز الإيرانية لا تقدّم إلاّ الخبز بأنواعه المختلفة، ومن أشهره: خبز “سنكك” الذي يُخبز على المجمرة، وخبز “تافتون” وهو دائري سميك، وخبز “بربري” وهو سميك طويل، وخبز “لواش” وهو رقيقٌ جدًّا. وفي السنوات الأخيرة، انتشرت ظاهرة صنع الخبز الأوروبي، ويُسمّونه الخبز “الفانتازي” في المدن الكبيرة. أمّا في المدن الصغيرة والقرى والأرياف، فما زال الناس يصنعون الخبز المحلّي الذي يحضّرونه في بيوتهم أحيانًا، وهو أيضًا أنواعٌ مختلفة بحسب كل منطقة.
وأخيرًا، وجدنا مخبزة تصنع الخبز السوري! وكنت فرحًا بالحصول عليه بعد مغامرة طويلة! غير أنّني عندما هممتُ بأن أدفع ثمنه إلى صاحب المخبزة، ظهرَت مشكلة أخرى، فهو يتحدّث بالعربيّة ولكنه يذكر سعر الخبز الذي اقتنيته بالفرنسية. وأشدّ ما أثار استغرابي عندما ذكر السعر بالعربية، فكان يتحدّث بالألف، فالمائة دينار يقول عنها عشرة آلاف.. ولم أستطع فهمه ولا إدراك السّعر الذي يطلبه، فأشار إلى السعر على جهاز الحاسوب، فازدادَت حيرتي أمام الأصفار التي قفزَت بسعر الخبز من العشرات إلى الآلاف.. والمليون!
ولم أجد من حلٍّ أمامي سوى أن أفرغ ما معي من نقود على الطاولة، ليأخذ صاحب المخبزة السِّعرَ الذي يطلبه. ومنذ ذلك اليوم وإلى غاية الآن، ما زلتُ أخلط بين الأرقام، ولا أفهم كيف أميّز بين المبالغ الماليّة. وغالبًا ما كنت أطلب من البائع أن يتحدّث باللغة العربية الفصحى أو يُسجّل السعر المطلوب على الحاسوب، ويذكره لي بالدينار خاليًّا من حديث الآلاف!
ويجب أن أذكر بأنّ إحدى ميزات هذا الشعب المؤمن الطيّب أنه يتعامل مع الأجنبي في البيع والشراء مثلما يتعامل مع أبناء البلد، فلا يعتبره غريبًا ويغالي في الثمن ويظلمه فيه، وليس لديه سعرٌ لابن البلد وسعرٌ آخر للغريب الأجنبي.. ولم يحدث، خلال الشهور التي قضيتها حتى الآن بين أبناء الجزائر، أن أخذ مني بائعٌ أكثر من ثمن البضاعة التي اشتريتها، بل إنني تعمّدتُ لمرتين أو ثلاثة وقدّمتُ للبائع زيادة في المبلغ لأرى إن كان سيغالطني في “الصّرف” أم أنه منتبهٌ ويُعيد لي حقّي غير منقوص!
سرعان ما تعمّقَت ثقتي في الباعة الجزائريين الذين اقتني منهم حاجياتي، فأمانتهم لا يرقى إليها الشكّ، وصرت لا أحصي “الصّرف” بعد استلامه منهم، لأنّ يقيني أنهم لن يأخذوا أكثر من حقّهم.. وفي هذا المقام، أذكر مثالا عن أمانة الجزائري، في الخبر الذي قرأته عن عامل النّظافة الذي وجد مبلغًا كبيرًا يقارب العشرين ألف أورو، فبحث عن صاحبه وأعاده إليه، رغم أن المبلغ مُغرٍ ويحقّق بعض آمال العامل البسيط، ولكن إيمانه وأمانته وعفّته أكبر وأسمى من كل مالٍ مهما كان طائلًا.
وأعود إلى بداية الحديث عن تجربتي مع الخبز، فقد أدركتُ أنّ محلّات المخابز والحلويات في الجزائر لا تشبه تلك التي عندنا في إيران، فنحن نُسمِّي محلّات بيع الحلويات وإعدادها: “قنادي” أي محلّ بيع السُّكرِيَّات، وهذه السُّكرِيَّات والحلويات عندنا متنوّعة ومختلفة ومنها التقليدية ومنها العصرية.. أمّا السُّكريات والحلويات في الجزائر، فماذا أقول عنها؟ يستحقّ الأمر أن نتحدّث عنها في موضوع آخر، وحسبنا أننا أشرنا إليه ها هنا!