منذ لحظة زرعه في جسد فلسطين، تسبّب فيروس الكيان الصهيوني في أكبر تشويه لمفهوم الدولة عبر العالم، إذ جرى التلاعب بجميع القيم التي تتأسس عليها الأوطان، وكل ذلك برعاية من القوى الاستعمارية التي توارثت تاريخا طويلا من الجريمة والطغيان وأرادت تجسيد خلاصته البشعة في شكل هذا النظام الصهيوني المفروض على الإنسانية جمعاء ـ وعلى الشعب الفلسطيني خاصة ـ ككيان إرهابي يجب التخلّص منه وإلا فإن فيروساته ستواصل الانتشار في باقي الخريطة العربية.
لقد حاول العالم الغربي منح هذا “الكيان” فرصة التعايش منذ أكثر من سبعين عاما، وذلك من خلال محاولات تصحيح الوضع المقلوب القائم على فكرة تكريس الباطل من خلال الاعتراف الجزئي بالحق تحت جملة عناوين قانونية، منطقية وأخلاقية؛ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة دون قيد ولا شرط، الوقف الفوري لعمليات الاستيطان وعمليات الطرد بحق الفلسطينيين، لكن، تبين في النهاية أنه يستحيل تقويم الظل والعود أعوج، فالكيان الذي بُني على سفك الدماء وتمزيق الأشلاء وتهجير الآمنين وطرد الساكنين واعتقال الأبرياء… لا يمكن أن يؤتمن لمجرد تغيير جلده.
ذهب «باراك» فجاء «نتنياهو»، ذهب القاتل المخادع فجاء القاتل الوقح، على ظهر «الليكود»، ذلك الحزب المتطرف الذي زاده عنصرية حزب «القوة اليهودية» أو اليمين الذي تحالف معه للاستيلاء على مصادر صنع القرار الصهيوني، إلا أن الحسابات باءت بالفشل بعدما اتسعت دائرة الجدال والمشاحنات داخل المؤسسات الدستورية للكيان الصهيوني، قبل نزولها إلى الشارع، وذلك بسبب التداعيات المتضاربة والمعارضة المتصاعدة من هنا ومن هناك ضد النهج الجديد المتبع في إعادة بناء المجتمع “الصهيوني”، وإعادة صياغة القوانين التنظيمية لمؤسسات الكيان.
جوهر المشكلة
الصراع ليس جديدا، وإنما هو متجذر في عمق المجتمع الصهيوني، إلا أن أولويات الصراع التي تفرض توحيد الصف لمواجهة العرب، ظلت تخفي تجليات المواجهات وخروجها إلى العلن، فهذا المؤرخ الصهيوني «ي. تلمون» كان قد طالب بوضع صيغة جديدة لسلطة الكيان، تتماشى مع المتغيرات الدولية الجديدة، فالصراع المشتعل داخل الكيان الإسرائيلي، كما يقول، قد كشف على نفسه في شكل تناقض بين أنصار الاتجاهات التي تميل إلى صياغة مستقبل “الكيان”، باعتباره مجرد “غيتو” أو معزل كبير ـ بالمعنى المادي والروحي ـ ويقصد هنا الصراع الكامن بين التيار الأصولي الديني، وبين أولئك الذين يكافحون من أجل إقامة مجتمع منفتح وهم العلمانيون.
كما أضاف ذات المحلل؛ بأن الخلافات في أصلها، تدور بين أنصار التكامل مع الحضارة الإنسانية المعاصرة، وبين أنصار الانعزال والابتعاد عن هذه الحضارة ورموزها ومتطلباتها، ليخلص بالنهاية إلى القول بأن هذه الأمور تشكل جوهر المشكلة “الإسرائيلية” في أبعادها الجوهرية الاجتماعية والسياسية، في الوقت الحاضر وفي المستقبل.
منظرو الصهيونية كانوا قد أعلنوا أن هدفهم هو إقامة وطن قومي لليهود، تكون له حدوده وسيادته القومية وثقافته اليهودية، مع إقامة مجتمع يقوم على تحقيق العدل والمساواة بين الجميع، إلا أن الكاتب الصهيوني «حسداي» يرى أنه مع مرور الوقت، تأكَّد بأن ما أقيم على الأرض، هو مجرد كيان يشكل بقايا هوية قديمة، تنتمي إلى ماضٍ حالك السواد.
رغم شعورهم العميق باستحالة استمرار هذا الكيان بالوجود، إلا أنهم يعاندون ويلعبون على تغيير المصطلحات والعبث بالمفاهيم للإبقاء على الوضع الراهن، فإن كان بعضهم يجدد الدعوة لإعادة بناء كيان “إسرائيلي” جديد، مختلف عما هو قائم الآن، فإن البعض الآخر من “نخبة” المجتمع الصهيوني، ترى بأن الواقع الراهن سيؤدي حتماً إلى انهيار هذا الكيان الذي تحول إلى مجرد سلطة استعمارية تفقد تدريجياً غالبية الأهداف التي حددتها لها الحركة الصهيونية، الأمر الذي أدى إلى اختفاء البعد القومي للكيان ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد.
كيان بخلفية أسطورية
ويرى بعض المنظرين، أن ما يحدث الآن يشبه ما حدث في أواخر عهد الهيكل الثاني، حين اقتتل “الإسرائيليون” فيما بينهم بينما كانت فيالق القرية العالمية تقترب منهم وتهددهم بالخراب، ذلك أن الوقوع في أسر الأساطير والأفكار القديمة، هو الذي يقف وراء النظر إلى الحركة الصهيونية، ليس باعتبارهما وسيلة للانخراط في التاريخ والسعي إلى المشاركة في النشاط العالمي كطرفٍ متساوٍ، بل النظر إليهما باعتبارهما وسيلةً للانتقام التاريخي.
إن الكيان الصهيوني الذي لم ينشأ بمقتضى الطبيعة التلقائية للتطور البشري، أو في أطار ما يسمى القانون الطبيعي العالمي، ولا حتى في إطار ما يعرف بالعقد الاجتماعي المتعارف عليه، وإنما نشأ واستمر بدعوى خرافة “الوعد الإلهي” ونتيجة لما سمي بالقوة القاهرة، وهي الآن، حسبما أرادها غلاة القتل والدمار، مجرد كيان يهودي عنصري، يستجيب لمشروع ثقافي سياسي له خلفيته الأسطورية وادعاءاته الدينية وقوته العسكرية، وبالتالي فهو مثل الورم المزروع خارج نطاق الأوضاع الطبيعية للحكومات والدول والشعوب العادية الأخرى، إلى حد أن بعض “المفكرين” الصهاينة كان قد شبهه بالقرى التاريخية البائدة، ذلك أنه سلطة فساد وإفساد وإرهاب، بشهادة الكثير من “المفكرين” اليهود أنفسهم، حول أحوال وخصائص المجتمع الصهيوني الراهن، تحت ولاية «نتنياهو» وغلاة التطرف والأحقاد، والتي لخصتها النقاط الآتية:
– الفشل في إيجاد قوانين وقيم تمنع وصول العناصر الإجرامية الموصوفة إلى عالم السياسة والحكم.
– انتهاج المحاكم مواقف متساهلة ومتسامحة في تعاملها مع الشخصيات العامة المتهمة بالفساد والرشوة والمحسوبيات.
– إبراز أجهزة الإعلام، الشخصيات الضالعة في عالم الإجرام على أنها من رموز الحياة الثقافية والسياسية في السلطة.
– تراجع سلطة القانون وتزايد معدلات الجريمة المنظمة.
– تطبيق أساليب عنصرية بحق الطبقات المستضعفة والفقيرة لا سيما العرب الفلسطينيين.
– التساهل مع رجال الدين المتعصبين الذين يحرّضون باستمرار على أعمال العنف وانتهاك سلطة القانون.
– انتشار العنف والفساد الأخلاقي داخل الأسرة الإسرائيلية وداخل ألوية جيش الاحتلال الصهيوني.
– تصدُّع اللُّحمة الوطنية والقدرة المعنوية على الصمود، وظهور التجمعات القطاعية الانعزالية.
– تزايد أعداد المتهربين من الخدمة العسكرية والفارين من الخدمة.
– تفاقم الفشل المتكرر في علاج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بسبب إخضاعها إلى جماعات الضغط النفعية ومصالحها الخاصة.
– الفشل في حل أزمات الصراع مع الفلسطينيين وثبوت العجز عن الاحتفاظ بالمستعمرات في الأراضي المحتلة.
– الإحساس باليأس من جراء إحباط مسيرة السلام وانعدام الأمن والطمأنينة النفسية والاستقرار الاجتماعي.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
اليوم وقد نزل الإسرائيليون إلى الشارع، وأظهروا التمرد والعصيان في وجه حكومة «نتنياهو» وحلفائه، في سابقة لم يعرفها الشارع “الصهيوني”، فإن زلزلة مُفزعة قد حرّكت أركان “الكيان”، وزرعت الرعب في الأوصال حتى جعلت من حلفاء هذا “المسخ” يتحركون لرأب الصدع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل الانهيار التام لهيكل الكذب والبهتان، وقد لخّص الوضع بيان البيت الأبيض الأمريكي الذي جاء فيه، لقد كانت القيم الديمقراطية دائماً، ويجب أن تظل، السمة المميزة للعلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وأضاف: إن التغييرات الجوهرية في النظام الديمقراطي يجب “متابعتها بأوسع قاعدة ممكنة من الدعم الشعبي”، كما طالب البيان قادة حكومة الكيان الصهيوني بـ”إيجاد حل وسط في أسرع وقت”.